samedi 12 mars 2022

هل أن الأصولية الإسلامية التي تخيف الناس، هي في الواقع خائفة على مستقبلها ؟

 

المصدر:   كتاب "مخاضات الحداثة التنويرية. القطيعة الإبستمولوجية في الفكر والحياة."، هاشم صالح، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 2008، 391 صفحة.

نص هاشم صالح: صفحة 197: ولكن من الواضح أن العرب -والمسلمين بشكل عام- يُعانون من انسداد خطير لم يسبق له مثيل في التاريخ. لهذا السبب يبدو مصيرهم قلقا، مترددا، وكأنه على كف عفريت. وما اندلاع الحركات الأصولية بمثل هذه القوة والجبروت منذ عشرين سنة إلا أكبر دليل على عمق هذه الأزمة، واستفحالها وخطورتها. يمكن أن ننظر إلى الحركة الأصولية من زوايا مختلفة. ولكن نادرا ما ننظر إليها من الزاوية التالية: لماذا لا نقول بأنها تعبّر عن قلق عميق (أو خوف شديد) من الاقتراب من لحظة الحقيقة ؟ من المعروف أن المرء يرتجف رعبا عندما تقترب منه حقيقته، أو عندما يقترب من لحظة الحقيقة المطموسة منذ سنوات طويلة. بهذا المعنى فإن الأصولية ليست إلا تشنجا أو اختلاجا هائجا يسبق انكشاف الحقيقة.

بما أنني شخص "بدائي" لا يستطيع أن يفهم بدون مقارنة محسوسة، وبما أن حداثة الغرب تميل لأن تفرض نفسها على جميع الناس في عصر العولمة الكاسح، فإني مضطر لطرح هذا السؤال: ألا تعبّر الأصولية عن محاولة يائسة (وربما دونكيشوتية) لتحاشي العصر، لتحاشي الدخول في الحداثة ؟ فالأصولية التي تخيف الناس هي في الواقع خائفة. أليست هي آخر طلقة نارية نطلقها قبل الاستسلام لمنطق العصر في سلوك المنهج العلمي والتقدم والعقلانية ؟ أليست شهقة المحتضر -احتضار القرون الوسطى قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة ؟ بكلمة أخرى وأخيرة: أليست آخر عتمة، وأقوى عتمة، العتمة التي تسبق مباشرة انبلاج الفجر ؟

ولكن هذه العتمة قد تطول أكثر مما نتوقع. صحيح أن عصر الأصولية ابتدأ يلهث قليلا ويبدي بعض أمارات التعب والعناء. صحيح أن عصر "ما بعد الأصولية" ابتدأ يتراءى في الأفق المنظور. صحيح أيضا أن كل ظاهرة محتقنة بعد أن تشبع انفجارا تتراخى وتهدأ تماما كما يهدأ الإعصار أو الزلزال... فمتى سيشبع إخواننا الأصوليون من الانفجار والتفجير ؟ متى سيقذف الواقع بكل الحمم المخزونة في أحشائه، في أعماق أعماقه ؟ هذا هو السؤال. وبالتالي فإن الأصولية ليست استثناء على القاعدة. فقوّتها الانفجارية -أو العنيفة- سوف تخفّ تدريجيا بطبيعة الحال. وسوف تخفّ أيضا قدرتها على التعبئة والتجييش: تعبئة الشبيبة العربية والجماهير. ولكن الأسئلة التي طرحتْها بشكل مباشر أو غير مباشر، فج أو غير فج، سوف تبقى. وسوف تشغلنا لفترة طويلة مقبلة من السنين.

إن الأصولية ليست هي الحل كما توهّم بعض المتسرّعين السذّج، أو كما أمِلَ بعض المحافظين الماضويين. وإنما هي العلامة التي لا تخطئ على الأزمة، على حِدة الأزمة. الأصولية ليست العلاج أو الدواء وإنما هي أعراض المرض. بهذا المعنى يمكن القول إن الانفجار الأصولي كان أمرا محتوما لا نستطيع تحاشيه. كان لا بد من المرور من هذه المرحلة العصيبة والمؤلمة من تاريخنا. ولكن ليست كلها مؤلمة. فالأصولية فيها إيجابيات لا تنكر. وأول إيجابياتها التنبيه إلى مسألة الهوية والتعلق بالجذور. الأصولية كانت محاولة عطشى لمعانقة الجذور. في الأصولية جوع هائل للهوية ورفض للاستغراب بعد طول انفصام أو تهديم وضياع في الأديولوجيات الأجنبية المستوردة (وأحيانا بشكل رديء، إن لم يكن في أكثر الأحيان..). بهذا المعنى فإن الأصولية تمثل لحظة مشروعة أو شرعية. إنها لحظة الارتطام بالقعر، لحظة معانقة الذات التراثية التي انصرفنا عنها بحجة التخلف والرجعية، لحظة العودة إلى البيت القديم... ولكنها لحظة مؤقتة بالطبع، أو لحظة عبور، لأنها رد فعل وليست فعلا، الفعل يجيء لاحقا بعد مرور العاصفة...

الأصولية هي الرد المنطقي على فشل الحداثة العربية-الإسلامية. ولكن إذا ما نجحت هذه الحداثة يوما ما، فسوف تنحسر عنا أوهام الأصولية كما ينحسر الضباب عن بطن الوادي. سوف ينزاح كابوسها عن صدورنا كما تنزاح الصخرة عن كاهل سيزيف (ولكن لكي لا تعود هذه المرة، أو في كل مرة).

ليُسمح لي أن أخاطر هنا بالأطروحة التالية: إن ما يحصل الآن من مآس وانفجارات شيء محتوم وإجباري ما دام الاحتقان موجودا، وما دامت المشاكل الداخلية لم تُحل وما دامت لحظة المصارحة مع الذات لم تُحسم. ولا أقول ذلك فقط من باب الإيمان بمقولة هيغل "كل ما هو واقعي عقلاني"، أي له سببيّته أو ضرورته المسجَّلة في أحشاء الواقع. وإنما لأن التاريخ يتقدم من أبوابه الخلفية أحيانا، ولأن الكوارث والفواجع هي الثمن المدفوع لكي تنحل عقدة التاريخ. كنت أتمنى لو أننا نستطيع إحراز التقدم بدون دفع الثمن، بدون المرور بهذه المرحلة التراجيدية والعصيبة التي نمر بها. ولكن هذا مستحيل: فلا بدَّ دون الشهد من إِبَرِ النحل...

 

 


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire