vendredi 30 avril 2021

حكايتي مع وزير التربية السابق منصر الرويسي. المؤلف مواطن العالَم والديداكتيك

 


الله يسامح الدولة التونسية التي حولتني من باحث علم إلى "حكواتي حواديث". أغدقت عليّ الدولة مشكورة من أموال الشعب خلال اثني عشر عاما في التعليم العالي: خمسة للإجازة وعامان للماجستير وخمسة للدكتورا أما العام الثالث عشر فقد أنفقت على نفسي لدراسة عام فلسفة بالمراسلة في جامعة رينس بفرنسا. جلبت لي الأساتذة المشهورين من فرنسا ومكّنتني من السفر إلى ليون تقريبا عشر مرات بغرض التكوين العلمي في أحسن الجامعات الفرنسية, جامعة كلود برنار بليون 1. مع العلم أنه يكفي ثلث هذه المدة لتأدية وظيفتي الحالية كأستاذ تعليم ثانوي. لم ينتدبوني في الجامعة لتدريس اختصاصي في تعلمية البيولوجيا أو فلسفة تعليم البيولوجيا (La didactique de la biologie)  الذي أضعت من أجله ثماني سنوات بحث علمي. الأغرب أنني أرى متفقدي الثانوي يدرّسون التعلمية في المعاهد العليا دون أن يقضوا ولو شهرا واحدا في التكوين الأكاديمي في هذا الاختصاص والأدهى والأمرّ أنه يوجد  بالجامعة التونسية قرابة عشرة آلاف من الأساتذة الجامعيين لا يحملون شهادة الدكتورا التي أفنيت عمري للتحصل عليها. لذا سأحاول القيام بدوري الجديد على قدر المستطاع وسأروي لكم حكايتي مع وزير التربية التونسي السابق.

عام 1998 و في بداية المرحلة الثالثة من التعليم العالي درست نظرية [ما بعد أو ما فوق الوراثي المخي  (Epigenèse cérébrale). هذه النظرية التي تقول بتفاعل الموروث والمكتسب داخل خلايا المخ البشري. ينبثق من هذا التفاعل المستمر الذكاء, فالذكاء إذا هو   100 %  موروث بيولوجي و100 % مكتسب حضاري. لا نستطيع الفصل ولا القسمة بينهما لشدة تشابك عديد المتغيرات. لا يولد الإنسان ذكيا أو غبيا (إلا في بعض الحالات المرضية) لكن قد يصبح الإنسان ذكيا إن توفر له المحيط المناسب وإن كد و اجتهد وقد يبقى عاديا إن لم يتوفر له المحيط المناسب. تعلّقت بهذه النظرية التي تعارض تأليه الجينات أو المورّثات وتنسب لها خطأ كل القدرات الذهنية البشرية من ذكاء وموهبة وفن وتفوّق وغيرها. وللأسف لا تدرّس هذه النظرية في تونس، لا في الثانوي ولا في الجامعة، و قد بدأ تعليمها في فرنسا سنة 2001 في السنة ثالثة ثانوي علمي, عام قبل الباكلوريا.

ذهبت إلى مقر وزارة التربية التونسية واتصلت بمكتب الضبط وطلبت مقابلة الوزير. طلب منّي الكاتب ملء استمارة فيها الاسم واللقب ورقم بطاقة التعريف وسبب المقابلة. كتبت في خانة السبب ما يلي: سيدي الوزير أطلب مقابلتك شخصيا حتى أحاول إقناعك بإدراج نظرية "ما بعد أو ما فوق الوراثي المخي " في برنامج علوم الحياة والأرض سنة ثالثة ثانوي, عام قبل الباكلوريا.

بقيت أنتظر ما يقارب شهرين حتى رن جرس هاتفي القار بمنزلي بحمام الشط على الساعة الثانية عشرة, رفعت السماعة فقالت لي كاتبة الوزير: "أنت محمد كشكار", قلت: "نعم", قالت: "السيد الوزير ينتظرك في مكتبه حتى الساعة الثانية بعد الزوال". ركبت سيارتي فورا وبعد نصف ساعة كنت عند باب الوزير فوجدته مفتوحا على مصراعيه. طرقت الباب ثم دخلت وقبل أن أسلّم عليه قلت له: "قال عنك صديقايَ من طلبتك, أستاذ التربية المدنية وأستاذ العربية (رئيس فرع الرابطة التونسية لحقوق الإنسان بالزهراء ورادس وحمام الأنف), إنك يساري ومثقف جدا وقد كانت قاعة محاضراتك في الجامعة تغصّ بطلبتك وغير طلبتك. أما أنا فعلميّ التكوين, مسلم النشأة، يساري الأهداف, ديمقراطي الوسيلة, علماني الهوى ونقابي قاعدي لا يحب جل المحترفين والمحترفات في النقابة والدين والسياسة والرياضة والغناء وحتى في حقوق الإنسان وخاصة الخبراء المقاولين والمحللين السياسويّين نجوم الفضائيات العربية. أجاب السيد الوزير: "ظننتك كندي" (Canadien). لا أعرف لماذا حشرني في زمرة الكنديين, المتعلمين المدنيين المتحضرين واللطفاء الكرماء الطيبين وأنا أصْلِي من الكنعانيين لا أحمل أي صفة من صفات الكنديين ولا أشبهم إلا في عدد الكروموزومات الـستة وأربعين وحتى هذه الحقيقة العلمية كان  في نفسي منها بعض الشك حتى درست اكتشاف العالم الألماني الذي أعجز عن كتابة اسمه بالعربية (Wilhelm von Waldeyer-Hartz, 1891).

دخلت وجلست قبالته وهو يدخّن "المارس ليجير" وبدأت في الحديث: "سيدي الوزير هل تعرف نظرية [ما بعد الوراثي المخي ]؟ قال بكل تواضع العالم وصراحته: "لا". قلت: "سأشرحها لك" وتوسّعت في الشرح وقدّمت له نسخة من البرنامج الرسمي الفرنسي الذي ينصّ على تدريس هذه النظرية في الثانوي وطلبت منه ما جئت من أجله ألا وهو إدراج هذه النظرية في برنامج العلوم. أخذ مني الوثائق بكل لطف وانبهار ثم قال لي: "أول مرّة يأتيني نقابي بِمِثل هذا الطلب العلمي المجرّد من كل أغراض مادية في الزيادة في الشهرية". حين لمست تجاوبه وإعجابه بطرحي وفكري تماديت وأطلقت العنان لجنوني وهمومي البيداغوجية والتعلّمية وبدأت أحدّثه في مواضيع لا علاقة لها بغرض الزيارة لا من بعيد ولا من قريب. حكيت له عن آخر تكوين في الإعلامية وعلوم الحاسوب تلقيته في مدينة نانسي بفرنسا ووصفت له قاعات الدرس الفرنسية المجهّزة بالحواسيب لتدريس العلوم. نقلت له تطبيق "بيداغوجيا المشروع" في فرنسا على تلامذة الثالثة ثانوي وكيف رأيتهم بأم عيني يعرضون مشروعهم المتمثل في "دراسة تأثير الأمطار الحامضة على النباتات" ويدافعون عنه حتى خِلتهم طلبة المرحلة الثالثة عندنا يعرضون أطروحتهم أمام لجنة الامتحان. عرضت عليه أيضا ودون مقدمات وجهة نظري في عملية الغش في الامتحانات وقلت له أن للغش حلول علمية ونحن نطبق الحلول التأديبية فقط وأضفت: "سأتجرأ سيدي الوزير وأقول رأيي في الموضوع بصراحة". أجابني باحترام وفضول: "قل". قلت له: " سيدي الوزير, لو ضبطنا تلميذا يغش في الامتحان فالمفروض أنك أنت أوّل من يَمْثُلُ أمام مجلس التربية في المعهد لأنك أنت المسؤول الأول عن الأسباب التي دفعت التلميذ إلى الغش ومن بين هذه الأسباب: اكتظاظ الأقسام وكثافة البرنامج وطوله وعدم تسليح المدرس  بالعلوم الضرورية لأداء مهمته مثل إدراك عملية الإدراك والابستومولوجيا وعلم التقييم وعلم نفس الطفل وتاريخ العلوم والبيداغوجيا والتعلمية". ابتسم وقال لي: "هذا رأيي, أردّده دائما". بقيت ساعتين تقريبا وأنا أهذي بكل ما يخطر على بالي من نظريات تعلّمية تعلمتها حديثا. أنْصَتَ إلي بكل احترام وتعاطف ولم يقاطعني حتى هدأت عاصفتي وخَفَتَ حماسي فودعني بعد ما وعدني بالنظر في طلبي. خرجت من عنده وأنا مزهو ومعتد بقدرتي على الإقناع. ألم أقنع وزيرا؟

رجعت إلى حمام الشط وانتظرت على الجمر موعد جلسة المقهى حتى أروي لأصدقائي ما دار بيني وبين الوزير وانفش ريشي كالطاووس طربا وأتباهى عليهم وأقول كما قال عبد المنعم مدبولي في مسرحية [ريّة و سكينة]: "ناسبنا الحكومة".

وبعد شهر تقريبا من المقابلة وأنا داخلٌ صباحا إلى معهد برج السدرية بالضاحية الجنوبية لتونس العاصمة حيث أدرّس علوم الحياة والأرض, اعترضني المدير مبتسما وقال لي: "تعال وشاهد ما أرسله لك الوزير". دخلت مكتب المدير فوجدت عشرة حواسيب. لم أصدّق في الوهلة الأولى حتى أكّد لي المدير أن الهدية تخصني شخصيا. كتبت رسالة شكر بسيطة باسمي الشخصي وبعثتها إلى الوزير عن طريق التسلسل الإداري. استدعاني المدير الجهوي السابق ببنعروس وطلب مني إعادة كتابة رسالة الشكر وقال لي : "تُكتب الرسائل إلى الوزراء بالقلم الأخضر؟". أملَى عليّ نصّا فيه تنويه كبير بالتسهيلات الكبيرة التي قدمتها لي الإدارة الجهوية لتأسيس أول مخبر تدريس علوم الحياة والأرض بالحاسوب في الجمهورية التونسية. امتثلت لأوامره مجاملة وإنصافا لأن هذا المدير الجهوي رحّب بي ترحابا مبالغا فيه بعد ما علم بعلاقتي مع الوزير وقد سبق وأن طلبتُ كتابيا مقابلته ولكنه تجاهلني تماما. استدعاني بعد ما أصبحت حسب تقديره من حاشية الوزير وكنت واعيا بهذا الضعف فيه فدخلت عليه مكتبه وتصرفت وكأنني رئيسه في العمل وعاتبته بشدة على رفضه السابق فقام من كرسيه واستقبلني بالأحضان واستدعى كل رؤساء الأقسام السابقين في الإدارة الجهوية وأوصاهم  باستشارتي في كل ما يخص الإعلامية وعلوم الحاسوب وكأنني خبير في الميدان وأنا في الواقع لا أعرف إلا استعمال الحاسوب للكتابة والإبحار مثل أي مبتدئ.

بسرعة غريبة وغير معهودة في وزارتنا, تجنّد كل أعوان الإدارة الجهوية وكل فنّيي المعهد الوطني للمكتبية والإعلامية وجهّزوا لي قاعة وركّبوا حواسيب العشرة و"أصبح للعُرْبِ قمر" وكان أول مخبر حواسيب لتدريس علوم الحياة والأرض في إفريقيا والشرق الأوسط وممكن قبل الباكستان وبنغلاديش أيضا.

أثناء أشغال تجهيز المخبر الوحيد من نوعه كان الوزير يتصل بي شخصيا في المعهد للاطمئنان بنفسه على سير الأشغال وكان يرفض التحدث إلى المدير ليسمع مني مباشرة دون وساطات.

علا شأني وصعد طالعي وسطع نجمي عند موظفي وزارة التربية وكانت مديرة التعليم الثانوي تتصل بي هاتفيا في منزلي لتطلب مني مدها بقائمة متفقدي علوم الحياة والأرض الذين سيتم استدعاؤهم في الندوة التي ستقام في مركز التكوين  المستمر بأريانة وطلبت منّي إعداد محاضرة ألقيها في الندوة حول تجربتي الجديدة. كنت مغتاظا من متفقد العلوم بقفصه لأنه أسقطني في امتحان ترقية عام 86 لخطأ علمي تافه فطلبت استدعاءه ليحضر تدخلي ويعرف أن الخطأ ليس عائقا في سبيل التعلم وقد سبق وأخطأ كبار العلماء ومن أخطائهم استفادت البشرية وتقدم العلم.

أعددت نفسي جيدا كعادتي و قلت في نفسي: "اليوم يومك يا كشكار مع بعض المتفقدين الذين أهانوك واستنقصوا من قيمتك العلمية". كان الوزيرا حاضرا. وكان جمهور المفقدين صامتا وأنا أكيل لهم النقد والوصف الدقيق وقلت فيهم ما قال مالك في الخمر, لم أخشَ في الحق لومة لائم، ومن كان الوزير سنده فمن سيتجرأ ويعانده: "جلهم لا يحمل أي شهادة في الاختصاص أعلى من شهادة الأستاذ وأغلبيتهم لم يحصلوا على تكوين أكاديمي، لا في البيداغوجيا ولا في التعلمية ولا في الابستومولوجيا ولا في علم نفس الطفل ولا في علم التقييم. فكيف سيدي الوزير سيستفيد الأستاذ من حلقات التكوين التي يشرفون عليها؟ كان أجدر بهم استدعاء أهل الاختصاص وليس انتحال صفتهم" وانتحال الصفة كما تعلمون جريمة يعاقب عليها القانون. كنت استرسل في الحديث وعينا الوزير المليئتان بالإعجاب تقولان لي زدهم وسمّعهم ما لم يسمعوه طوال حياتهم المهنية واثأر لمئات الزملاء من بعض المتفقدين الذين أذلّوهم وأحبطوهم ولخبطوهم بوصفاتهم البيداغوجية الجاهزة وأرهبوهم بتفقدهم اللاعلمي وبزياراتهم الفجائية  المخابراتية و الانتقامية.

بعد المحاضرة, صافحني الوزير وشكرني. لامني متفقدي المباشر على ما قلت في حق زملائه فأجبته: "هل تستطيع وتتجرأ أنت أو أحد زملائك وتقول للوزير ما قلته أنا: "إذا غشّ تلميذ في الامتحان, نحيلك أنت على مجلس التربية قبل التلميذ" قال: "لا". قلت: "احترم نفسك إذن والزم حدودك ولا تناقشني". مع العلم أن متفقدي هذا لا يشمله نقدي بل على عكس زملائه تتوفر فيه الشروط التي أطالب بها لأنه، في عام 2001، الوحيد "حسب علمي" من بين مفقدي علوم الحياة والأرض في الجمهورية التونسية الحائز على شهادة الدراسات المعمقة في علم الوراثة وعلى ديبلوم الدراسات المعمقة في التعلّميّة. صدقوني هذه ليست مجاملة لمتفقدي الذي سبق وإن اختلفت معه كثيرا وتصالحت معه أكثر وعملت معه مكونا وسوف يأتي وقت أحكي حكايتي معه ولست في حاجة لمجاملته أو مجاملة غيره وأنا في أعلى درجة وظيفية وعلى قاب قوسين من التقاعد ولا مجاملة في نسبة الشهائد العلمية إلى أصحابها.  

رجعت إلى مدينتي حمام الشط وإلى أصحاب المقهى وأنا مزهو بانتصاري الأدبي على بعض المفقدين المتنفذين والمسيطرين على التدرج المهني للأساتذة. احتفاء بي, نظّم أصدقائي على شرفي جلسة أنس وضحك وفرح ومرح (وفي مثل هذه المناسبات  فقط يستقيم ويجوز جمع هذين المفهومين معا)  وأثناء السهرة كان صديقي, الناشط الحقوقي المعروف على المستوى الوطني, مثقف المجموعة وأثقف من الوزير نفسه, يتحرك كثيرا فنهرته ساخرا منتحلا صفة الوزير شخصيا: "إلزم مكانك وإلا نقلتك نقلة عقاب إلى بن ڤردان."

بعد هذه العلاقة العلمية مع الوزير، أصبحتُ ضيفَ شرفٍ في كل الاجتماعات الهامة حول مشروع "مدرسة الغد" الرائع في نصه والواعد في شعاراته مثل شعار تطبيق المدرسة البنائية لبياجي وفيقوتسكي حيث يبني التلميذ معرفته بنفسه بمساعدة المدرس والأقران. لكن شتّان ما بين النظري والتطبيقي, رفعت الدولة شعارات تقدّمية ولم توفّر لها البني التحتية اللازمة لتنفيذها في المدارس والإعداديات والمعاهد فبقي القرار حبرا على ورق وبقيت دار لقمان على حالها لا بل ازدادت سوءً.

حضرت مرة اجتماعا هاما حول التنشيط الثقافي في المعاهد, تدخل أحد المسؤولين الكبار في وزارة التربية وبالغ في تثمين مجهودات الوزارة في هذا الميدان وبدأ يعطي الإحصاءات المضخّمة ويعدّ النوادي المدرسية الثقافية بالآلاف في كل نواحي الجمهورية التونسية. أخذت الكلمة وقلت: "سيدي المسؤول, كل ما ذكرتموه صحيح, لكن مع الأسف على الورق فقط, كل النوادي تقريبا موجودة افتراضيا في تقارير المديرين حتى يوهموكم بكثرة نشاطهم وينالوا رضاكم بالتزييف والتملق أما أنا فرجل ميدان وأمارس هذا النشاط فعليا في معهدي فلا تركنوا سيدي إلى تقارير بيروقراطيتكم ولا تصدقوا الأوراق وانزلوا إلى الميدان حتى تراقبوا بأنفسكم أو عبر من يمثلكم". التفت كاتب الدولة يمينا وشمالا سائلا مساعديه: "مع من أتى هذا المتحدث بلسان غير خشبي وإلى أي جهة ينتمي ومن استدعاه أصلا إلى الاجتماع؟". تنصل كل الحاضرين من تبعيتي لهم حتى دخل في هذه الآونة صديقي، ومشجعي على التنطّع والنقد والهجوم على الرداءة، السيد الوزير فحيّاني من بعيد فبهت كاتب الدولة. عندما يدخل الوزير المنتدى تنشرح الأسارير لا لطلعته البهية وهي بهية بالفعل لكن لسبب آخر. كان الوزير لا يصبر على التدخين حتى أثناء الاجتماع وعندما يشعل سيجارة يقلده كل المدمنين فتعج القاعة دخانا.

دُعيت إلى اجتماع آخر في الحمامات حول تدريس الإعلامية في الإعدادي والثانوي. أجلسونا، كل أستاذ على حاسوب لاستقبال الوزير. جاء الوزير وبدأ يتجول بيننا متحدثا لكل واحد منّا على حده حتى وصل إليّ وكنت عابسا فقال لي: "ما بك يا كشكار متجهما؟" أجبته: "أنا مستاء جدا من تصرف بعض مديري المدارس الإعدادية الذين يخبئون الحواسيب ويغلقون عليها الأبواب ولا يتركون التلامذة يستعملونها خوفا عليها من الإتلاف, فكيف سيتعلم هؤلاء التلاميذ الإعلامية إن لم نتركهم يستعملون الحاسوب". تعجّب من كلامي لكنه صدّقه وأمر على الفور مساعديه  أن يطلبوا من جميع المديرين فتح قاعات الإعلامية للتلامذة وتحرّرت منذ تلك اللحظة آلاف الحواسيب من الإقامة الجبرية بقرار وزاري طُبِّق بحذافيره بعد أسبوع.

دعاني الوزير مرة إلى العشاء معه في نزل "النهضة" (La Renaissance) بضواحي تونس العاصمة وأكلت لأول مرة و آخر مرة في حياتي ملعقة قهوة من "الكافيار"  (سَرْءُ السمك أي بيضه). كان العشاء مُقامًا على شرف رجل أعمال ومثقف كويتي. تجاذبنا الحديث, نحن العشرون مدعوٍّ, واقترحت على الوزير أثناء النقاش تدريس المنهجية (اختصاصه الذي كان يدرسه بالجامعة La Méthodologie), في الثانوي وقد كنت صادقا وجادّا في طلبي.

اشتهر مشروعي ومخبري الجديد وبلغ صيته الاتحاد الأوروبي وزارني فيه  نائب من البرلمان الأوروبي وقدمت له نبذة عن نشاطي التربوي.

استضافتني قناة 7 للتلفزة التونسية في حصة "نسمة الصباح" أنا وزميل في الرياضيات له نفس المشروع. قبل الدخول إلى مبنى التلفزة وجدنا في انتظارنا باكرا المدير العام للمعهد الوطني للمكتبية والإعلامية، حذرنا من مغبة الخروج عن النص وعدم  التقيد بموضوع الحصة (تدريس الرياضيات وعلوم الحياة والأرض باستعمال الحاسوب). وتمت الحصة الوحيدة بخير فأصبحتُ من نجوم التلفزة أو هكذا تراءى لي.

قدمتُ في الأثناء مطلبا للإدارة الجهوية للتعليم راجيا تعييني مديرا في معهد أو إعدادية وكتبتُ التماسا  للوزير طالبا مساندته الشخصية. أجابوني بالموافقة وعينوني مديرا بإعدادية حمام الشط. كنتُ حينئذ أمرّ بأزمة نفسية حادة نتيجة تردّدي في مواصلة دراسة دكتورا التعلمية. تتالت عليّ التعاليق, نصحني أصحابي النقابيون (مثل الكاتب العام السابق للاتحاد المحلي بحمام الأنف وعضو النقابة الجهوية للتعليم الثانوي السابق ببنعروس) بترك المسؤولية وتقديم استقالتي لِما قد تحمله الإدارة من تخلٍّ عن المبادئ النقابية وفي المقابل شجعني بعض الأصدقاء الحميمين على التشبث  بالإدارة لِما قد تحويه من منافع مادية مثل السكن المجاني والهاتف المجاني. قدمت استقالتي إلى رئيس مصلحة التعليم السابق في الإدارة الجهوية للتعليم ببنعروس فقال لي معاتبا حتى يثنيني عن قراري: "الوزير بنفسه وبقلمه الأخضر أشّر على اسمك". شكرته ورجوته تبليغ شكري للوزير وكتبت استقالتي ورجعت إلى منزلي خفيفا مرتاحا بعد ما نزعت هذا الحِمل الثقيل عن كتفي. اتصل بي في الدار صديقان وطلبا مني بكل لطف ومحبة أن أسحب استقالتي. فسحبتها ثم جاءني شقيقي الكاتب العام السابق للاتحاد المحلي للشغل بطبرقة ونصحني بالتمسك بالاستقالة للتعارض الواضح بين العمل الإداري والنشاط النقابي. قلت في نفسي "سأعقلها وأتوكل" كما يفعل المجاهدون في فيلم عمر المختار للمخرج الأمريكي السوري العقاد عندما يعقلون رُكبَهم بحبل متين وهم يواجهون العدو حتى يستحيل عليهم الفرار من ساحة المعركة. اتصلت بالأخ الكاتب العام السابق للاتحاد الجهوي للشغل ببنعروس وطلبت منه أن يتصل بالمدير الجهوي السابق للتعليم ببنعروس حتى يعفيني من هذا التعيين الثقيل على قلبي وضميري وفي الغد ذهبت إلى الإدارة الجهوية للتعليم ببنعروس وقدمت استقالتي الثانية والنهائية ورجعت إلى حمام الشط فرحا مسرورا وذهبت مباشرة إلى شط الجهمي بولاية نابل صحبة صديقي وزميلي  الكاتب العام الحالي للنقابة الأساسية المحلية المتنطعة بحمام الشط حتى أغسل هواجس الخوف والهروب والتأفف من المسؤولية التي يتسابق على نيلها الآلاف وتُقدّم من أجلها القرابين. قال لي مرافقي في الشط, المشهور بإخلاصه وصدقه ونضاليته النقابية الشفافة: "لعب بك الوزير" فأجبته: "غَنَمَ أولاد الشعب بمعهد برج السدرية بالجمهورية التونسية عشرة حواسيب سوف تساهم في محو الأميّة في الإعلامية وعلوم الحاسوب" وهذا ما تم فعلا.

"سَرْدَكْتُ" (فعل سَرْدَكَ مشتق من كلمة "سَرْدُوكْ" أي الديك بالعربية الفصحى) عاما كاملا على بعض المتفقدين وعلى بعض المسؤولين وقلت صراحة وعلنا ما أفكر فيه بمباركة وتشجيع أثقف وزير في الجمهورية التونسية.

بعد الاستقالة، بكت ابنتي البالغة من العمر ثماني عشرة سنة وحزنت عائلتي لفقدان المنصب المرموق في نظرهم. أحسست قليلا بالذنب حيالهم وقلت في نفسي, ما ذنبهم حتى أحمّلهم اعوجاج تفكيري ومثاليتي المبالغ فيها في هذا الزمن الرديء ؟

في آخر السنة الدراسية منحني الوزير "وسام الاستحقاق التربوي" جزاء على تنفيذ المشروع العلمي المتمثل في تدريس علوم الحياة والأرض باستعمال الحاسوب لكن بقي المشروع وحيدا ويتيما إلى يومنا هذا  2010 ورجعت إلى تلامذتي أستاذا نكرة في معهد برج السدرية ومنذ ذلك اليوم لم أدْعَ يومًا لأي اجتماع هام أو غير هام ولم أر الوزير  بعدها، لا مباشرة ولا حتى في التلفزة، لقد أعفِيَ من مهامه الوزارية وعُيّن سفيرا بباريس.

ملاحظة: رُبَّ صدفة منعشة, بعد مدة من نقدي اللاذع لتكوين المتفقدين تأسس معهد المتفقدين بقرطاج،  معهد استجاب لضرورة التكوين البيداغوجي والتعلمي وبقي التكوين العلمي في الاختصاص ناقصا. وأخيرا أقترح ألا يُقبل في هذا المعهد إلا "الأساتذة المبرّزون" في اختصاصهم وهذا رأيي بكل تواضع !...

 

المصدر: كتابي، الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي - سَفَرٌ في الديداكتيك وعِشْرَةٌ مع التدريس (1956-2016)، طبعة حمرة، 2017 ، 488 صفحة (ص.ص. 392-404).

 

إلى المنشغلين والمنشغلات بمضامين التعليم:

نسخة مجانية من كتابي "الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي" على شرط التسلم في مقهى الشيحي بحمام الشط (23139868)، أو نسخة رقمية لمَن يرغب فيها ويطلبها على شرط أن يرسل لي عنوانه الألكتروني (mail).

حلقة -10- من سلسلة حلقات مصوّرة تُعنَى بالشأن التربوي.

حلقة -10- وعنوانها: "الأمل"

سلسلة تُبث مرة واحدة كل يومَين على الساعة السادسة مساءً في الركن التربوي JDD Education على قناة في اليوتوب، اسمهاJDD-Tunisie .

سلسلة تربوية ناطقة بالفُصحَى وموجهة إلى جمهور المستمعين المبصرين والمستمعين غير المبصرين الناطقين باللغة العربية والمنتشرين في كل بلدان العالم باختلاف ثقافاتهم وجنسياتهم وأعراقهم ودياناتهم.

 


https://www.youtube.com/watch?v=31C02IYby8I&ab_channel=JDDTunisie 

"المدرسُ رسولٌ وليسَ موظفًا". مواطن العالَم والديداكتيك

 


عندما أقولُ أن المدرّسَ رسولٌ وليس موظفًا، مُناوِئيَّ يقولون عني أنني مثالي الأفكار.

وهل وُجد في تاريخ البشرية جمعاء رسولٌ غيرُ مثاليٍّ ؟

مهمة الرسول مهمة صعبة.

ألا يقول المدرسون أن مهنتَهم مهنةٌ شاقةٌ، وما دمت أنا، متوسط الثقافة والذكاء وقليل الحيلة وذات اليد، قد استطعتُ بمفردي القيامَ بهذه المهمة قدر المستطاع، فلماذا لا أعقد الأمل في زملائي ؟

خلال 38 سنة من مسيرتي المهنية المُضنية بين تونس والجزائر قمتُ بالأعمال التطوعية التربوية المجانية الآتية جنب مواصلة تعليمي العالي طيلة رحلة طويلة ومضنيةٌ دامت 13 سنة، أعددتُ خلالها إجازة في علوم الحياة والأرض وماجستير ودكتورا في ديداكتيك البيولوجيا ودرستُ عام فلسفة بالمراسلة.

ما هي هذه الأعمال التطوعية التربوية المجانية التي قمتُ بها ؟

قدمتُ ساعات زائدة للتلامذة + أسستُ نوادي ثقافية في المعاهد (حتى في الجزائر) + شاركتُ في تعريب اختصاصي SVT + وزعتُ نسخا ورقية وألكترنية من كتبي (بِعتُ بعضها طبعا) + ألفتُ كتابا تطوعا حول تجربة جمنة الثورية في الاقتصاد التضامني + قدمتُ عشرات المحاضرات (قبضت أجرا زهيدا مرتين فقط لا غير: 60د و100د) + قدمتُ 20 محاضرة في العاصمة حول تجربة جمنة + قمتُ بتأطير غير رسمي لبعض الطلبة + نظمتُ وأثثتُ عديد الندوات الثقافية بحمام الشط وبمقر الاتحاد الجهوي للشغل ببنعروس + نشرتُ آلاف المقالات في الفيسبوك + المشاركة في إعداد مشروع الإصلاح التربوي سنة 2016 بتكليف من نقابة التعليم الثانوي + وما أقومُ به اليومَ من تدخلات تربوية على قناة (JDD-Tunisie) هو أيضًا عملٌ تطوّعيٌّ ومَجانيٌّ 100%.

 

خاتمة: عدّدتُ ما فعلتُ، ليس من باب التبجح أو المَنّ على أحدٍ ولم يجبرني على فعل ذلك أحدٌ، بل عددتُه من باب الحِجاج وإقامة الدليل على أن أفكاري واقعية وليست مثالية كما يدّعي مُناوِئيَّ.

 

إمضائي:
- لقد سبق لي وأن قلت أن "التعليم رسالة وليس وظيفة"، والرسول لا يُضرب عن أداء رسالته مهما كلفه ذلك من عناء. الكف إراديّا عن إراديًّا وليس بقانون.
- المدرسُ ليس بروليتاريًّا يبيع قوّة عمله للعَرْف ويتفاوض على الأجر. المدرسُ أكبرُ من هذا، المدرسٌ رسولٌ، لا عَرْفَ له وهو عَرْفُ نفسِه وسيدُها.
- "نقصُ إيماننا سبب تخلفنا" الظاهر أنه ليس شعارا أجوفا كما كنت أظن! يبدو أن نقص إيمان المدرس برسالته التربوية هو أهمُّ سببٍ لتخلفِ تعليمِنا.

 

تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 30 أفريل 2021.

 

 

jeudi 29 avril 2021

عنوان الحلقة التربوية عدد 10 "الأمل" التي ستُبث اليوم الساعة السادسة مساءً على قناة اليوتوب ركن التربية. مواطن العالَم والديداكتيك

 

 JDD-Tunisie/JDD Éducation

رسالة الأمل: بالتجهيزات والبشر المتوفر حاليا في مؤسساتنا التربوية قد نحقق بعض المنشود في الإصلاح التربوي على شرط توظيفهم أفضل توظيف.

قبل أن أبدأ نقد المنظومة التربوية الحالي، أريد أن أُطمْئن التونسيات والتونسيين، تلامذة وأولياء ومدرّسين، وأقول أن وضعَ منظومتنا التربوية في أزمة لكنه ليس كارثيًّا رغم المئة ألف منقطع عن الدراسةسنويًّا.

وضعٌ قابلٌ للمبادرة بالإصلاح الفوري دون تكلفة مادية بل على العكس فهذه المبادرة ستخفّض من مصاريف الإنفاق العادي، سيتحقق كل هذا لو توفرت الإرادة السياسية الصادقة والنزيهة (عنوان ثانٍ لتدخلي اليوم: "بالموجود قد نبلغ بعض المنشود")

منظومتنا التربوية العمومية ليست كارثية كما يردد الكثير والدليل الذي يؤيد تقييمي هو أننا بعد الثورة صدّرنا للدول المتقدمة قرابة المئة ألف إطار عال من مهندسين وأطباء وهم الآن يشتغلون مع زملائهم الأوروبيين على نفس الدرجة من الكفاءة.

والمدرس المباشر الذي يقول أن وضعَ  منظومتنا التربوية العمومية كارثيٌّ،  هو مدرسٌ يتهم نفسه قبل غيره، والدليل أنه يمكن لنا بلوغ جزء من المنشود لو رشّدنا استغلال الموجود الآتي ذكره:

-         صِدْقُ أكثر تلامذتنا واستعدادهم للتطوّع من أجل صيانة مدرستهم لو أطّرناهم جيدًا (تنظيف، تبييض، تصليح الطاولات والكراسي المعطبة، إلخ.).

-         صِدْقُ أكثر المدرسين واستعدادهم للتضحية من أجل تحقيق تعليم أفضل بالموجود (تجهيزات موجودة ولم تُستغَل).

-         الاعتماد على التكوين الذاتي للمدرسين وانخراطهم طوعًا في مجال البحث الميداني.

-         زيارات متبادلة بين المدرسين في أقسامهم والباحثين في مخابرهم التربوية.

-         عندنا أساتذة ثانوي يختارهم المتفقد ويستعين بهم في تكوين زملائهم، المفروض أن يكونوا هم أنفسهم متكونين في المجال الذي سيكونون فيه زملاءهم ويكونوا حاصلين على التبريز أو الماجستير أو الدكتورا في اختصاصاتهم والحمد لله عندنا منهم الكثير في الابتدائي والإعدادي والثانوي أي عندنا الاكتفاء الذاتي في وزارة التربية فلا نحتاج إذن لنستدعي أساتذة جامعيين من تجار العلم باهظي الثمن.

-         تشغيل معاهد المهن التربوية الثلاثة التي لا تشتغل منذ سنوات وموظفوها يقبضون وهم نائمون.

-         تدريب التلامذة على الصمت والانضباط (l’absence d’autorité chez les enfants est une sorte de maltraitance): في أول كل حصة يقف التلامذة دقيقة صمت احترامًا لمدرّسهم ولعِلمه. وهل هنالك شيئان في الدنيا -بعد المقدس والوالدَين- أحق بالاحترام قبلهما ؟

-         مفتاح لكل قاعة.

-         تخصيص قاعات مختصة لكل مادة مثل مخابر العلوم.

-         هنالك تجهيزات بيداغوجية خاصة بالإعداديات راقدة في المعاهد بسبب بيرقراطية معطِّلة.

-         هنالك تجهيزات بيداغوجية راقدة في الابتدائي وغير مستعملة.

-         يجب ترشيد استهلاك في الطاقة وخاصة الكهرباء (لاحظت وجود فوانيس تبيت تضوي في المعاهد دون موجب).

-         يجب تعيين أحد عملة المؤسسات التربوية كعون صيانة متعدد الكفاءات حتى لا تتعطل الدروس بسبب زجاج نافذة مكسّر.

-         يجب وضعُ حد للصفقات المشبوهة في البناء والتجهيزات.

-         يجب التنقيص من عدد الموظفين في الوزارة وفي المندوبيات.

-         يجب وضعُ حد لإضاعة الوقت من قِبل الأساتذة في راحة العشرة والأربعة.

-         لماذا لا نجلب "كْلونْ" في وقت الراحة ليرفه على التلامذة ويعطيهم نفسًا جديدًا.

-         لماذا لا يقع استدعاء مقاوم في ساعة التاريخ أو طبيب في ساعة العلوم.

-         احترام التلميذ للمدرّس يستفيد منه التلميذ قبل المدرّس: تجربة البرازيل.

-         من الموجود الذي أهملناه ولم نطوره: عاداتنا الجيدة في التربية ما قبل المدرسة، موضوع حلقتنا القادمة إن شاء الله.

 

إمضائي: "الوطنية والعالمية، علينا اليوم الجمع بين هذين المفهومين المتناقضين في الفكر المعقّد: الجمع بينهما يخلق مواطن العالَم" (Edgar Morin )

 

تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 30 أفريل 2021.

 

لماذا لا نستلهم من تجارب البلدان الأجنبية الناجحة في الحقل التربوي ؟ المؤلف مواطن العالَم والديداكتيك

 


 أسوق لكم مقتطفات مقتضبة جدا من الاستنتاجات التربوية المفيدة المستوحاة من تجارب تربوية عالمية ناجحة ومتعددة:

1.    المكانة الأولى للصين في امتحان "بيزا" (PISA - البرنامج العالمي لمتابعة مكتسبات التلاميذ في فهم نص مكتوب في الرياضيات والعلوم):

يبدو أن ثلاث حجج كبيرة قد فقدت وزنها، حجج تفسر الفشل المدرسي في البلدان الغربية (Pays occidentaux): ضعف الميزانية المخصصة من الدولة، والفوارق بين الطبقات الاجتماعية، والثقافات المحلية التي لا تُولِي أهمية للتربية. ثلاثة عوامل مهمة لكن لا تكفي وحدها لتفسير النتائج المدرسية:

-         بين 1970 و1994، وفي عديد البلدان الغربية زادت ميزانية التعليم ضعفين أو ثلاثة أضعاف، ورغم هذا المجهود المادي الملحوظ لم تتحسسن النتائج إذا لم نقل أنها  في تراجع. في أمريكا مثلا حيث تصل تكلفة تعليم تلميذ واحد أعلى نِسَبِها، نجد هذا البلد في آخر ترتيب الدول المتقدمة في التعليم الثانوي. حسب تقدير أحد المختصين، لا تدخل اعتبارات الميزانية إلا بنسبة 10 بالمائة في تغيير النتائج المدرسية.

-         أكدت دراسات بريطانية أن خطر الفشل المدرسي يظل أكثر ارتفاعا عند التلاميذ الفقراء. وهذا ما أكدته أيضا الدراسات الأمريكية بقولها أن 60 بالمائة من النتائج المدرسية تتوقف على عوامل خارجية عن المدرسة مع العلم أن استراليا تحصلت على الرتبة التاسعة المشرفة في امتحان "بيزا" رغم الفوارق الكبيرة في الدخل بين أجرائها وأما الصين فقد فازت بالمرتبة الأولى رغم أنها تُعدّ من أكبر المجتمعات غير المتكافئة طبقيا.

-         يلعب المستوى الثقافي للأسرة -دون أدنى شك- دورا تربويا هاما. يتابع الأولياء الآسيويون نتائج أبنائهم أكثر من نظرائهم الأوروبيين ويساهمون بذلك في إنجاح مدارسهم. لذلك تتصدر منصة التتويج التربوي دول كسنغفورة وهونغ كونغ  وكوريا الجنوبية.

 

2.    ما هي إذن مفاتيح النجاح ؟

لا يوجد نموذج واحد، لكن تتراءى لنا أربع مسارات للخروج من المأزق: اللامركزية التي تتمثل في إعطاء أكثر استقلالية للمؤسسات التربوية، والاعتناء أكثر بالتلامذة المتعثرين في دراستهم، وتنويع المؤسسات التربوية وانتداب مدرسين من ذوي الكفاءات العالية:

-         يُعدُّ النظام التربوي البولوني من أكثر الأنظمة التربوية لامركزية في العالم. تتكفل البلديات بتمويل المدارس بعد أن تأخذ منحة نسبية من الدولة حسب عدد التلامذة المرسمين في ترابها. يتمتع رؤساء المؤسسات التربوية بكفاءة وحرية في انتداب المدرسين مباشرة وفي التصرف في الميزانية المخصصة لكل مدرسة. لذلك تجد  بولونيا مكانتها ومكانها في الترتيبات العالمية.

-         تراجعت أفضل المدارس الصينية عن هوسها و ولعها بـ"النوابغ" و"العباقرة" وشرعت في تدعيم التلامذة المتعثرين. وهذا ما لم تفعله بريطانيا مما أثر على نتائجها المدرسية العامة.

-         سمحت الحكومة البريطانية، منذ عهد "توني بلير"، بتأسيس "مدارس حرة" (ليس بالمعنى المتداول عندنا في تونس) ووضعتهم تحت تصرف الأولياء والمنظمات الخيرية والجمعيات لكن التمويل بقي من اختصاص الدولة. بدأ العدد بـ 203 مدرسة في ماي 2010 و بلغ اليوم 1635 "مدرسة حرة".

-         بعض البلدان، كفنلندا أو كوريا الجنوبية، لا تنتدب من الأساتذة إلا الأوائل وترفع أجورهم. بريطانيا توفر منحا في الاختصاصات التي تشكو من نقص. أمريكا تجرّب التمييز بين المدرّسين ودفع الأجر حسب الاستحقاق وكفاءة المدرّس وهذا ما تعارضه دوما نقابة المدرّسين.

 

3.    للتذكير: كيف نجح الفنلنديون ؟

-         إجبارية التعليم بداية من سن السابعة إلى سن السادسة عشرة.

-         يتردد التلميذ الفنلندي على المدرسة من الاثنين إلى الخميس، لكن ينهي يومه في أكثر الأحيان على الساعة الثانية بعد الزوال مما يترك له كثيرا من الوقت لممارسة الرياضة وأنشطة ترفيهية أخرى.

-         نصف التلامذة الذين هم في سن الخامسة عشرة، يختارون شعبة تقنية. لذلك لا يقبل المعهد الثانوي العام إلا التلامذة الذين هم في سن 16 - 19 والراغبين حقا في دراسة المواد النظرية.

-         يعدّ التلامذة بأنفسهم برنامج توقيت دراسة المواد الاختيارية.

-         يَنصبُّ تركيز المدرسة الفنلندية على تدريس اللغات والرياضيات لأن هذين المادتين الأساسيتين يكوّنان الأدوات الذهنية والفكرية الضرورية لفهم باقي المواد الأخرى.

-         التلامذة ليسوا مُجبرين على حضور الدروس لكي يُسمح لهم باجتياز الامتحان ويستطيعون أيضا اجتياز امتحان السنة الموالية قبل وقته المحدد من قِبل الإدارة.

-         يستطيع تلميذ المهني أو التقني الالتحاق بالتعليم العالي العام بعد اجتياز أربع امتحانات كتابية إجبارية.

-         لو يُوجد هناك شيء يجب أن يقال في تحليل نجاح التعليم الفنلندي، فهو الأهمية التي تُحضي بها المطالعة والقراءة لدى المدرسين والسلطات العليا.

 

4.    كيف نجح المَجَريّون ؟

-         يُخصص خُمس كل حصة تربوية لحل المشاكل العلمية جماعيا. يجب على التلامذة إذن، أن يتعاضدوا ويتناقشوا فيما بينهم بالحجة والدليل ويتواصلوا ويعينوا الآخرين من زملائهم "الضعفاء". وهذا النشاط الجماعي يُكسبهم مفردات لغوية ثرية ودُربة على المحاجّة، كفاءات مكتسبة تمنحهم بدورها ثقة بالنفس وتسمح لهم بأخذ الكلمة في أي وسط فكري، فيدركون أن فقرهم وأصلهم الاجتماعي ولون بشرتهم، صفات لا تعني أنهم ليسوا موهوبين. يقول المدرّسون المجريون أنهم يلقون دروسهم بطريقة تجعل التلميذ يتطلع باشتياق للتعلّم.

-         شهادة تلميذ: "عندما أعمل داخل مجموعة، لا أحس بالرهبة، لأنني أعرف أنني لا أعمل من أجل الحصول على عدد". "عندما يكون بجانبنا مَن نسأله العون، لا نحس أبدا بالخوف".

-         شهادة مديرة: "النتائج المدرسية تنطق بنفسها وعلى نفسها: لا يوجد غياب غير مبرّر ولا رسوب وتلامذتنا كلهم ينجحون في مناظرات المنطق (la logique)".

-         شهادة مدرّس: " الغريب أن التلامذة استغنوا عن خدماتي ولا يحتاجونني لأنهم أصبحوا قادرين على بناء معرفتهم بأنفسهم (c’est le socio-constructivisme de Piaget et Vigotsky). لقد تحسّن الحافز المعرفي لدى التلامذة بصفة ملحوظة، خاصة عند المشوّشين من التلامذة المتعثرين في دراستهم. لم أعد اليوم في حاجة للجري ومحاولة تجميع "وحوشي الصغيرة" بعد فترة الاستراحة، على العكس أجدهم ينتظرونني في القاعة بكل صمت واحترام. كل واحد منهم ينتظر دوره في أخذ الكلمة. أشعر أنني أعيش في كوكب آخر ! لقد أنتجَت هذه الطريقة تغييرات مثيرة للإعجاب في وقت قصير نسبيا". "هذه الطريقة تساعد أيضا على تطوير الثقة بالنفس لدى التلامذة وتعالج وتقلّل من ظاهرة العنف المدرسي لديهم. قديما وفي قسم تقليدي يجمع عدد كبير من التلامذة المحرومين، أربعة أو خمسة فقط يسمعونني بآذان صاغية: هم فقط مَن يفقه ما أقول أما 40 إلى 50 في المائة من تلامذة القسم فلا يستطيعون ولا يقدرون على متابعة الدرس. نفس التلامذة النجباء هم الذين يرفعون أصابعهم. والأستاذ يعتقد أنه حقق نجاحا باهرا ! وباتباع الطريقة البيداغوجية المبتكرة، أصبح على أكثر تقدير 1 أو 2 في المائة فقط من التلامذة ممّن  لا يتابعون الدرس وهذه نسبة قليلة جدا".

 

المصدر:

Journal français: Courrier international, n° 1118, du 5 au 11 avril 2012, page 14-21, ensemble d’articles, intitulé : Education, les recettes qui marchent ailleurs.

 

المصدر: كتابي، الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي - سَفَرٌ في الديداكتيك وعِشْرَةٌ مع التدريس (1956-2016)، طبعة حمرة، 2017 ، 488 صفحة (ص.ص. 383-389).

 

إلى المنشغلين والمنشغلات بمضامين التعليم:

نسخة مجانية من كتابي "الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي" على شرط التسلم في مقهى الشيحي بحمام الشط (23139868)، أو نسخة رقمية لمَن يرغب فيها ويطلبها على شرط أن يرسل لي عنوانه الألكتروني (mail).