lundi 5 avril 2021

هل يوجد لدى الطفل مستويان من النموّ الذهنيّ ؟ المؤلف مواطن العالَم والديداكتيك

 

 

أعتمد في مقالي هذا علي كتاب بالفرنسيّة عنوانه (Vygotsky aujourd’hui)، نُشِر بباريس سنة 1985 تحت إشراف (B. Schneuwly  & J.P. Bronckar).

عندما نحدّد "العمر الذهنيّ" (l'âge mental)  لدى الطفل بواسطة اختبارات  الحاصل الذكائي (QI) نتكلّم دائما على نوع واحد فقط من النمو وهو "النموّ الذهنيّ الفعليّ الحيني"، لكن مثلما أثبتته التجارب, يعجز هذا "الحاصل الذكائي"  عن الإحاطة الكاملة بحالة النموّ الذهني لدى طفل في لحظة معيّنة.

لنفرض جدلا أن لدينا طفلين اجتازا اختبار الحاصل الذكائي وحدّدنا عمرهما الذهنيّ بسبع سنوات (لهما القدرة على حل المسائل المناسبة لأطفال في عمرهما)، فهل هذان الطفلان هما متساويان فعلا في النمو الذهني ؟ لو حاولنا إخضاعهما لإختبارات أخرى, فقد يظهر بينهما اختلاف مهمّ : قد يستطيع أحدهما وبسهولة حل اختبارات مناسبة لأطفال يكبرونه بعامين, أما الآخر فلا يحل الا الاختبارات التي تفوق سنه بستّة أشهر. نستنتج إذن أنهما ليس متساويَين في الذكاء  خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار القدرة الكامنة والممكنة والمحتملة لدى الطفلين التي قد تظهر وتتجسّم لو وفّرنا لها وضعيّة إجتماعيّة تعلّميّة يحتكّ فيها الطفل مع الغير، مدرّسين وأقران.

نصل هنا إلى تعريف النوع الثاني, غير المعروف لدى غير أهل العلم, من النموّ الذهني والمسمّى "المنطقة الوشيكة للنمو الذهني"  (ZPD : Zone proximale de Développement)، هذا المفهوم اكتشفه عالم النفس و البيداغوجيا السوفياتي الاشتراكي "فيـوتسكي" في أوائل القرن العشرين والذي عرّفه في النقاط التالية:

-         ما يقدر الطفل على إنجازه, بمساعدة المدرسين وبحضور أقرانه, يحدّد مستوى "المنطقة الوشيكة للنمو الذهني".

-         ما يقدر الطفل على إنجازه اليوم بمساعدة المدرّسين وبحضور أقرانه, يستطيع تحقيقه بمفرده غدا.

-         يختلف مستوى حل المشاكل الذهنيّة الذي يصل اليه الطفل بمفرده عن مستوى حل المشاكل الذي قد يصل اليه مع أقرانه وتحت إشراف ومساعدة المدرّسين.

-         نستطيع تحديد حالة النموّ الذهنيّ عند الطفل بالاعتماد على المستوين المذكورين أعلاه: "النموّ الذهنيّ الفعليّ الحينيّ" و "المنطقة الأقرب للنمو الذهني".

-         لو تركنا الطفل المتخلّف ذهنيّا وحده دون رعاية تربويّة لما وصل إلى أيّ شكل من أشكال التفكير المجرّد.

-         لو أخذنا مثلا طفلا سليما يعيش في عزلة مع والدين "صم- بكم"’ سيبقى هذا الطفل أصم-أبكم رغم تمتّعه بالملكات البيولوجية للنطق والسمع، ونتيجة لذلك لا تتطور في مخه الوظائف الذهنيّة العليا المرتبطة بالكلام واللغة.

-         لو أخذنا في الاعتبار في التعليم مستوى "النموّ الذهنيّ الفعليّ الحينيّ" فقط، لما اكتشف الطفل طاقاته الكامنة والممكنة مستقبلا.

-         لو سبقنا نموّ الطفل المستقبليّ وقدّمنا له أنشطة أعلى من مستواه الحاليّ لكنها تقع في "المنطقة الوشيكة لنموّه الذهني"، يعني غير مستحيلة الإنجاز، وبحضور أقرانه وتحت إشراف ومساعدة مدرّسين فقد يتحسّن مستواه الذهني.

-         كل وظيفة ذهنيّة عالية تظهر مرّتين خلال نمو الطفل: تظهر أولا في شكل نشاط جماعيّ واجتماعيّ كوظيفة ذهنيّة مشتركة، وهذا يقع في القسم وأثناء التطبيق, ثم تظهر ثانية على شكل ملكية فردية كوظيفة ذهنية داخلية، وهذا ما يحصل بعد الدرس عند إدراك عملية الإدراك من قِبل المتعلم.

-         نصل الي الاستنتاج التالي : من المفروض أن لا يتزامن التعليم الحديث مع النمو الذهني للطفل بل يسبقه وينشّطه ويوقظ فيه التطوّر التدريجيّ للنموّ الذهنيّ.

 

بعد هذا التقديم النظري المختصر والضروريّ, نحاول الآن توظيف هذه النظريات لتحليل واقعنا التعليميّ التونسي:

-         هل اطّلع  مدرّسونا, ابتدائي وثانوي, على هذه النظريّات البيداغوجيّة "الخلاّقة بالمعنى الحرفيّ للكلمة" ؟ يعني تَخْلُقُ الذّكاء. ترتكز المدرسة البنائيّة لـ"بياجي" على هذه النظريّات وترفع وزارة التربية التونسية شعارتها ولكنها لا تطبقها.

-         لنفرض أن مدرّسينا اطّلعوا عليها ونسأل: هل الدولة أوجدت الأرضيّة والمناخ الملائم لتطبيقها ؟ طبعا الجواب سيكون بالنفي والدليل الذي أستحضره الآن ويقظّ مضجعي هو حالة "الستة والثلاثون تلميذا" الذين ينتظرونني يومين في الأسبوع في المعهد الّذي أدرّس فيه.

-         لنحلم قليلا, لو اطّلع (أكاديميّا، يعني في الجامعة) مدرّسونا في الابتدائي والثانوىّ والجامعيّ على البيداغوجيا والتعلميّة وعلم نفس الطفل والإيبستومولوجيا وعلم التقييم   (L’évaluation) وإدراك عملية الإدراك (la métacognition)، ولو وفّرت لهم الوزارة قاعات واسعة لسبعة عشرة تلميذ في القسم كما يطالب الفرنسيّون، ولو جهّزت كل قاعات الدروس بالحواسيب وربطتها بالأنترنات، ولو ضربت أجرهم في خمسة، لصَنَعَ التلميذ التونسي المعجزات كما فعل زميله الكوري الجنوبي حيث يُخصّص في بلاده أكبر ميزانيّة للتعليم الابتدائي, يأتي بعده الثانوي ثم العالي عكس ما عندنا بالضبط. هرمنا التعليمي إذن هو هرم مقلوب وهرمهم ثابت على قاعدة عريضة وصلبة. نحن نبني على الرمل وهم يبنون على الاسمنت المسلح.

-         نحن في تونس ما زلنا نعتبر التلميذ  فأر تجارب, نرسم له مسبّقا متاهة ونعرف مسبقا من أين سيدخل ومن أين سيخرج، ولم نترك له حرّية التفكير والتفاعل مع الوضعيات التعلّميّة الجديدة،  ولم نلامس "منطقته الوشيكة للنمو"، ولم نعطِ له الفرصة للتعلّم الذاتيّ  البنّاء لتفجير طاقاته الكامنة. وشيئا فشيئا نقلنا إلى مخّه الفتي المرن فشلَنا وجهلَنا ومحدوديةَ تفكيرنا وبقينا نتباكى على مستوى أبنائنا ونسينا أننا نحن المربون والأولياء والمسؤولون المتسبب الأول والأخير في تدني المستوى. فمَن أولى بالنقد إذن ؟ ومَن الجلاد ومَن الضحية ؟

-         عِوض أن نوقظ فيه  التطوّر التدريجيّ للنموّ الذهنيّ كما يقول فيڤوتسكي, فعلنا عكس ذلك: يأتينا الطفل متعطّشا للمعرفة، وبفضل أساليبنا البالية -والحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه- وبفضل جهلنا بالعلوم التربويّة والاجتماعية والنفسيّة الحديثة، تراجعَ نموّ تلامذتنا الذهني تحت مستوى "النمو الذهنيّ الفعليّ الحينيّ" (QI)، فأصبح ابن الست سنوات عندنا يحمل عمرا ذهنيا متخلفا سنتين عن عمره البيولوجي.

 

خلاصة القول :

قال لي صديقي " أنت تحلم" فقلت أنا واعٍ بأنني أحلم وأدرك حالة الحلم التي أمر بها. أحلم, لكنني واعٍ أيضا بأن حلمي مشروع وممكن التّحقيق لو توفّرت الظروف الملائمة فالكوريّون الجنوبيّون ليسوا أفضل منا كبشر عندما أقلعوا  نحو التقدم  في عشرين سنة بالاعتماد أساسا على تحسين التعليم. أنهِي خطابي بقولة فرنسية مستعارة رائعة:

“L`utopie est la vérité de demain”.

 

"حصول تقدم في التعلّم ليس رهين الفرد وحده، مثلما يردد البنائيون (بياجي)، وليس رهين المحيط وحده، كما يقترح السلوكيون (واتسون وسكينر). التقدم ينبثق من تفاعل الاثنين مع بعضهما"  (أندري جيوردان، تعلَّمَ! نشر بولان، 1998، صفحة 197)

 

« Une avancé dans l`apprendre n`est pas seulement le fait de l`individu, comme le martèlent les constructivistes, ou dans l`environnement, comme le suggèrent les béhavioristes. Elle résulte d`une émergence née de l`interaction des deux » (André Giordan, Apprendre !, Ed. Belin, 1998, p. 197)

 

المصدر: كتابي، الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي - سَفَرٌ في الديداكتيك وعِشْرَةٌ مع التدريس (1956-2016)، طبعة حمرة، 2017 ، 488 صفحة (ص.ص. 246-250).

 

إلى المنشغلين والمنشغلات بمضامين التعليم:

نسخة مجانية من كتابي "الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي" على شرط التسلم في مقهى الشيحي أو نسخة رقمية لمَن يرغب فيها ويطلبها على شرط أن يرسل لي عنوانه الألكتروني (mail).

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire