vendredi 2 avril 2021

هل العلم موضوعي أو متحيّز ؟ المؤلف مواطن العالَم والديداكتيك

 


أنطلِق في هذا الموضوع من مقال نشره في الأنترنات سنة 2004  الأستاذ "بيار كليمان"، أستاذ بجامعة كلود برنار بفرنسا ومدير أطروحتي السابق, وعنوانه "العلم والأيديولوجية". اعتمدَ الأستاذ في هذا المقال على أبحاثي الشخصية  في تونس وأبحاث غيري في بلدان أخرى.

يقول الأستاذ: "أودّ هنا طرح ملائمة المقاربة التعلّميّة والإبستومولوجية (الإبستومولوجيا مبحث نقدي في مبادئ العلوم) للمشاركة في تحليل العلاقات التي تربط بين وسائل الإعلام من جهة والعلوم والمجتمع من جهة أخرى. يتبوأ التفاعل بين العلم والإيديولوجية مركزا هامّا في أعمال فلاسفة العلوم انطلاقا من كتابات العلماء. لكن ما يضيفه التعليم أ و تعميم التعليم لهذا التفاعل بين العلم والإيديولوجية نادرا ما كان محلّ بحث. أقصد بمفهوم " الأيديولوجية"، الأيديولوجية العلميّة السّائدة في تاريخ علوم الحياة، والأيديولوجية التي يحملها المدرّس أو الوسيط الثقافي للعلوم. ما يعنينا هنا هو التفاعل بين القِيم والمعارف العلميّة (Interaction entre valeurs et connaissances scientifiques). نحن نرى أنه من الضروري, في عهد التعليم وتعميم العلوم,  أن نوضّح حدودَ المعارف العلميّة وتحديد نوعيّة القِيم التي يحملها مَن سينشر هذه المعارف: لنضرب مثلا على ذلك: يظهر من نتائج البحوث المذكورة أعلاه أنّ أصحاب التصوّرات غير العلميّة  (Les conceptions non-scientifiques) الذين يدعون أنّ الذّكاء مرتبط بوزن و/أو حجم الجمجمة (يدّعون أن الرجل أذكى من المرأة لأنّ مخه أكبر من مخّها وزنا وحجما).  هذه التصوّرات غير العلميّة -للأسف- لا زالت حاضرة في بعض البلدان بصفة متفاوتة مع العلم أنّه ليس لها أيّ أساس علمي، فهي إذن "تصوّرات أيديولوجية  غير علمية". يدلّ هذا المثال السابق على أنّ الخطاب العلمي لا يخلو من أيديولوجية تُغذِّي -في بعض البلدان- التمييزَ العنصري بين الجنسين بتفضيل الذّكر على الأنثى. ففي تونس مثلا يعتقد ثلث الأساتذة المستجوَبين في البحث أن الرجل أذكى من المرأة وفي لبنان نصف الأساتذة المستجوَبين يعتقدون نفس الشيء. يفتقر تكوين الأساتذة إلى التأكيد في المناهج التعليمية على التفاعل الموجود بين العلم والأيديولوجية وينطبق هذا أيضا على تكوين الصحفيّين والوسطاء العلميّين الآخرين. نلاحظ في النهاية أنّ الأيديولوجية الحتميّة (Le déterminisme) التي ينتمي إليها هذا المثال تتواجد أيضا في عدّة ميادين أخرى يبثّها الإعلام منها العلمي وغير العلمي مثل مفهوم "المكتوب" في التدين (عكس ما ورد في القرآن: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم") والتنجيم وقراءة الكف وعلم الفراسة وعلم القزحيّة (العيون هي مرآة الروح)، وحديثا فكرة الحتميّة الجينيّة  (Le déterminisme génétique) التي تقول بحتميّة تحقق البرنامج الوراثي المكتوب في الجينات على شكل رموز في الهباء العضوي (La molécule d’ADN). يقول بعض معتنِقي إيديولوجية الحتمية الجينية:  يكون العنيفُ عنيفًا، لا لأنّه اكتسب هذا السلوك في حياته بل لأنّه ورثه عن والديه العنيفَين في جيناته أو مورّثاته الكروموزومية 

(Ses 25 mille gènes). 

تؤمن الحتميّة البيولوجيّة (Le déterminisme biologique)  بسيطرة البيولوجي على السيكولوجي, مثلا: المرأة لا تصلح لأن تكون قاضية في المحكمة لأنّها عاطفيّة ولأنّها متقلبة المزاج بسبب الحيض. قال عالم الوراثة "ريشار شارل لفونتان" : "مقاومة إيديولوجية الحتميّة البيولوجيّة تشبه مقاومة الحريق. كلّما أطفأت واحدا اشتعل غيره في موضع آخر". (انتهى الاستشهاد)

 

بعد هذا العرض النظري نمر إلى بعض الأمثلة التي تدل على تحيّز بعض العلوم:

-         كل العلوم المنتسبة لإيديولوجية الحتميّة الجينيّة التي تدّعي أن القدرات الذهنيّة العالية عند البشر (مثل الذكاء والإبداع الموسيقي والسينمائي والرياضي والغنائي) تحددها الجينات منذ الولادة لذلك يسمونها "موهبة". يحاول العلماء, أسرَي هذا الإطار في التفكير العلمي (Le paradigme), أن يبرهنوا على أفكارهم الإيديولوجية بالاكتشافات العلمية الحديثة ويوظفوا البراهين العلمية لخدمة أغراض أيديولوجية. مثلا: يُرجِع أصحاب هذه النظرية أسباب العنف في أحواز  باريس, حيث يسكن مهاجرو شمال إفريقيا, إلى أسباب وراثية متعلقة بالجينات التي ورثوها عن آبائهم العنيفين وليس لأسباب اجتماعية مثل الفقر والعنصرية والإقصاء. يفسرون الفشل الدراسي لأبناء هذه الجالية بالعامل الوراثي فقط دون الأخذ في الاعتبار العوامل الاجتماعية والسيكولوجية. ذهب بعض متطرّفي الحتميّة الجينيّة إلى إنشاء بنوك حيوانات منوية من خُصًى (Les testicules) الرجال الحاصلين على جائزة نوبل حتى يخلقوا -على هواهم وحسب اعتقاداتهم- عباقرة من صلب عباقرة ناسين أو متناسين دور القرين في الوراثة ودور المكتسب في تكوين القدرات الذهنية العالية.

-         كل العلوم الرأسمالية,  من اقتصاد سياسي وتجارة وغيرها, تتحيز للبرجوازية وتُمجِّد النظام الرأسمالي  وتبيح المحظور من الربح السهل على حساب عَرَقِ العمال بالفكر والساعد وعَرَقِ الفلاحين. أبدع الرأسماليون في "علمهم" المتحيز وأنشؤوا بيوتا سمّوها بنوكا حيث يُجبَر الموظفون الفقراء على ادخار ما تيسّر من أموالهم ليسرقها الأغنياء على شكل  قروض قد تُسترجع "يوم القيامة". 

-         كل العلوم الطبية التي تحدد على هواها مواصفات عالمية لنسبة السكر والكولسترول في الدم: يخضع تحديد هذه النسب لإملاءات شركات الأدوية الكبرى فتجعل السليم مريضا وتربطه بنموذج الطب الغربي السائد وتمتص دمه وعَرَقَه وترهق ميزانيته الضعيفة فيمرض حتى و لو كان معافى فيقضي جل وقته في قاعات الانتظار في العيادات الخاصة أو في المستشفيات.

-         كل العلوم العسكرية المنحازة للأقوياء التي لا تنتج إلا الدمار وتزرع الموت في شكل القنابل العنقودية التي نشرها الجيش الإسرائيلي في كل شبر من الأراضي اللبنانية خلال حرب جوان 2006. تتنافس "الدول العظمى" في صنع أسلحة الدمار الشامل ويا ليتها تنافست في صنع السلام الشامل. احلموا معي ولو للحظة, لو صُرفت كل هذه الأموال في تحسين الأجور والمسكن والصحة والغذاء، لأصبحنا كلنا أغنياء.

-         كل العلوم الفضائية التي اقتحمت القمر والمريخ ولم تأت بدواء للجوع والفقر والسيدا. ألم يكن أجدر بالإنسان أن يحل مشاكل أخيه الإنسان قبل السفر الاستكشافي أو السياحي إلى الكواكب الأخرى ؟

-         اكتشف العلماء الأمريكان القنبلة النووية واستعملها السياسيون الأمريكان فأبادت في يوم واحد في "هيروشيما" و"نڤازاكي" 150 ألف من المدنيين اليابانيين الأبرياء. والغريب أن دول العالم الثالث ما زالت تسعى لامتلاكها ظنّا منها أنها قد تحميها من العدوان الخارجي ولم تتّعظ بما جرى للباكستان عند احتلال جارتها أفغانستان وإسقاط حليفها نظام "طالبان" من قِبل حلفائها الأمريكان. حينئذ قالت باكستان مبررة عدم تدخلها لنجدة أبناء عمومتها: "لن أتدخل حفاظا على قنبلتي النووية من نقمة الأمريكان"، فأصبح هذا السلاح الفتّاك سببا في الانبطاح وفقدان الكرامة عوض حماية الشعب من الأعداء.

 

خلاصة القول

نعم، العلم متحيز للأغنياء الممولين للمخابر العلمية أما نحن المعذّبون في الأرض فلا تصلنا فوائد العلم إلاّ بعد استنفاذ طاقتنا الشرائية الضعيفة أصلا. يصرف الأغنياء على صنع العلم مالا وفيرا كتجارة مربحة ويكتب الأقوياء التاريخ لتسجيل بطولاتهم في قهر الضعفاء.

أظن أن الواجب يحتِّم علينا أن لا ننسى أن العلم صنعه العلماء فلا وجود إذن لعلم دون علماء والعلماء بشر وعلمهم ذاتي 100% وموضوعي 100% والعلماء صنفان:

-         صِنف من العلماء يُذكرون فيُشكرون ويُمجّدون ويُخلّدون لأنهم خلقوا نظريات علمية تحولت إلى تكنولوجيا لصنع الأدوية النافعة والأمصال الواقية والسيارات والطائرات والبواخر والحاسوب والأنترنات وغيرها.

-         وصِنف آخر منهم يُذكرون فيُذمون و يُلعنون لأنهم حوّلوا بعض النظريات علمية إلى تكنولوجيا لصنع أسلحة الدمار الشامل من الكلاشنكوف إلى القنابل العنقودية والكيمياوي المزدوج وأسسوا حيل الرأسمالية المتوحشة  للتحكم في مصائر الشعوب المستضعفة وصَنعوا وسائل التعذيب وأقاموا المصانع المربحة للأغنياء والملوثة لبيئة الفقراء واستنفذوا واستغلوا ولوّثوا مصادر الطاقة من نفط وأسماك وكأنها ملكهم الشخصي أو إرث ورثوه عن أجدادهم ناسين أو متناسين أن الثروات الطبيعية في الخليج العربي وأمريكا وروسيا وغيرها هي ملك لجميع البشر وليس لهم حق احتكارها أو تبديدها كما يشاؤون تاركين إرثا ثقيلا للأجيال القادمة يتمثل في غابات معرّضة للتصحر ومحيط ملوّث وألغام تحصد سنويا الآلاف من الأبرياء.

 

قد ينقل العالِم نفسه من الصنف الثاني المذموم إلى الصنف الأول المحمود، عندما يصبح مثقفا  مثلما فعل العالِم "أينشتاين": ساهم في صنع القنبلة النووية، ثم أصبح فيما بعد من أكبر منتقديها. العالِم "نوبل"، مكتشف الديناميت، ندم أيضًا على فعلته فأوصى قبل موته بتخصيص ثروته كاملة لمنجزي الاكتشافات العلمية النافعة في الطب والفيزياء ما عدى الرياضيات (يُحكَى أن "نوبل" حَرَمَ علماء الرياضيات من نيل جائزته لأسباب ذاتية بحتة: شك في وجود علاقة عاطفية بين زوجته وزميل لها يعمل أستاذ الرياضيات).

 

المصدر: كتابي، الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي - سَفَرٌ في الديداكتيك وعِشْرَةٌ مع التدريس (1956-2016)، طبعة حمرة، 2017 ، 488 صفحة (ص.ص. 232-237).

 

إلى المنشغلين والمنشغلات بمضامين التعليم:

نسخة مجانية من كتابي "الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي" على شرط التسلم في مقهى الشيحي أو نسخة رقمية لمَن يرغب فيها ويطلبها على شرط أن يرسل لي عنوانه الألكتروني (mail).

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire