mardi 20 avril 2021

التربية الصحية بين الممكن والمطلوب. المؤلف مواطن العالَم والديداكتيك

 


استوحيتُ هذا المقال من محاضرة حضرتها في الحمّامات بمناسبة الأيام الوطنيّة الثانية لتعلّميّة علوم الحياة والأرض في  28-31  مارس 2007، قدمتها الأستاذة ومقرّرة أطروحتي السيدة "دو كرفالو"   من جامعة  "دو منهو"  في البرتغال حول رفع المستوى الصحّي لدى المواطن.

إنّ التعريفات المقدّمة في هذا المجال لمفهوم "رفع المستوى الصحّي لدى المواطن" عديدة وسوف نكتفي بالتعريف  الموثّق في "ميثاق أوتاوا" لسنة 1986 : "يتمثّل رفع المستوى الصحّي لدى المواطن في منح الشعوب الوسائل التي تحقق للأفرادِ تحسين صحّتهم ومراقبتها والسماح لهم بتحقيق طموحاتهم وتلبية حاجياتهم والتطوّر والتكيّف مع محيطهم".

سوف نحاول في ما يلي إجراء مقارنة بين "النموذج الطبّي السّائد" (الطبّ الممارس من قِبل بعض الأطبّاء في بعض مستوصفاتنا وبعض مستشفياتنا وبعض مصحّاتنا الخاصّة) وبين مفهوم "رفع المستوى الصحّي لدى المواطن" وهذا الأخير هو النموذج المطلوب. 

1.    ما هو النموذج الطبّي السّائد في تونس؟

-         يقع التركيز على المرض لا على المريض وكأنّ الأمراض بمعزل عن ظروف حياة المريض وحالته النفسية ومحيطه الاجتماعي والسياسي والثقافي والعاطفي والبيئي والاقتصادي والتراثي والديني وغيره من العوامل المتداخلة والمتشابكة التي تنبثق منها الحالة الصحية للمريض.

-         يُصنّف المرضى من قِبل الطبيب حسب نوعيّة الأمراض فقط ويعالَجون على هذا الأساس.

-         المهنيّون من أطبّاء وممرّضين وبيولوجيّين يحتكرون كلّ السلطة على المريض وكلّ المعلومات حول المرض ولا يشرّكون المريض في معرفة مرضه بدعوى جهله ويبدو لي أن عذرهم أقبح من ذنبهم لأن الجاهل هو أولَى بالتحسيس والتثقيف الصحي.

-         يسأل الطبيبُ المريضَ عن تاريخه الوراثيّ فقط (مثلا: هل لك قريب مريض بالسكري ؟) ولا يهتم بحاضر المريض ومستقبله انطلاقا من نسق التفكير  السائد والخاطئ في علوم الحياة والذي يتلخص في أن الوراثة هي السبب الوحيد المحدّد للمرض ناسيا أو متناسيا أو جاهلا الأسباب الأخرى المكتسبة منذ أن خصّب الحيوان المنوي الذكري بويضة المرأة، عوامل داخل الرحم قبل الولادة لأن الجنين يتغذى من دم أمه وعوامل خارج الرحم بعد الولادة مثل النظام الغذائي والعناية الصحية والقدرة الشرائية وغيرها.

-         يبدو لي أنّ بعض المهنيّين في الصحة يعتبرون أنّ المريض ليس في حاجة لثقافة صحّيّة فلا يُعلمونه بالتفاصيل ويأخذ الطبيب القرار الطبي مكان المريض (مثلا: قرار إجراء عملية).

-         أحيانا لا يتطرّق الطبيب إلى التاريخ الصحّي للمريض وظروفه الاجتماعية وفي جل الحالات لا يوجد ملف صحي موثق للمرضَى.

-         في جل الحالات يذهب الطبيب مباشرة إلى تشخيص المرض كأنّ المرض ليس في المريض.

-         يتعامل مع العضو المريض في الجسم المريض كما يتعامل الميكانيكيّ مع قطع غيار السيارة، يُبدِّل أو يصلح القطعة الفاسدة دون الاهتمام بحالة القطع الأخرى.

 

2.    ما هو النموذج الطبّي المطلوب المسمى "رفع المستوى الصحّي لدى المواطن التونسي" ؟

-         يجب أن يقع التركيز على صحّة الأفراد والمجموعات وظروف حياتهم اليوميّة لا على الأمراض فقط.

-         يجب أن يُصنّف المرضى على أنّهم بشر يعيشون داخل مجموعة ثقافيّة معيّنة ولا تُختزل هويّتهم في نوع مرضهم.

-         يجب على الطبيب أن يحترم المريض ويثمِّن معرفة هذا الأخير بمرضه ويشرّكه في تشخيص الدّاء مهما كان مستوى المريض الثقافي.

-         يجب فتح موقع في الأنترنات لكل مواطن منذ ولادته على نفقة الدولة يحتوي على ملفّه الصحّي ويكون هذا الملف تحت مراقبة المريض أو السليم المهتم بالوقاية. بعد استشارة المريض, يطّلع الطبيب على الملف الطبي ويستفيد منه قبل مقابلة المريض.

-         يجب على الدولة أن توفر للمواطن ثقافة صحّيّة حتّى يشارك في اتّخاذ القرارات التي تهمّ صحّته ويطبّقها عن اقتناع.

-         يبدو لي أن اعتماد الأعشاب الطبيّة للتداوي قد يكون أقل ضررا للجسم لكن هذه الأعشاب تُباع في بلادنا بأغلى الأثمان في الصيدليات.

-         على المواطن التونسي تخصيص أكثر وقت للزوجة والأطفال والأصدقاء والفسحة والسياحة والمطالعة والثقافة والأنترنات.

-         على الدولة تحسين الظروف المعيشيّة للمواطن من تدفئة وتكييف في المسكن والعمل والنقل.

-         على المواطن التونسي محاولة المزيد من التحكّم في التوتّرات النفسيّة المهنيّة والعائليّة إذا أمكن ذلك وهو أمرٌ صعبٌ.

-         على المواطن التونسي ممارسة الرياضة بانتظام في قاعة رياضة أو خارجها والمقابل الذي سيدفعه للقاعة شهريا سوف يساعده على تحسين صحته دون اللجوء لشراء أدويةٍ باهظة الثمن.

-         على المواطن التونسي محاولة العمل بنظام غذائي متوازن مع العلم أن هذا الحلم ليس في متناول جل التونسيين.

-         على الدولة واجب تحسين القدرة الشّرائية لدى المواطن التونسي لعلاقتها الوثيقة بالصحّة.

-         على الجامعة التونسية إجراء بحوث أكاديميّة حول "الدواء العربي" التقليديّ بالأعشاب لعلّنا نكتشف علاجا رخيصا و"بيولوجيا" لأمراضنا.

 

يمكن لنا أن نستنتج من المقارنة السابقة أن النموذجين يتكاملان لتحسين صحّة المواطن. قد يتراءى لبعض القراء أنّنا غير مؤهّلين للخوض في المجال الصحّي الهام في حياة الإنسان لكن كلنا يعلم أنّ الصحّة اليوم هي مسؤوليّة مشتركة بين المريض والطبيب وقد يأتي يوم يشخّص فيه المريض مرضه بنفسه.

 

نرجع الآن إلى اختصاصنا التربوي وننقد المقاربة الصحّية الوقائيّة في المدرسة التي تتّسم بـ"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" وتفرض نماذج سلوكيّة عامّة وجاهزة، نماذج لا تترك مجالا للفروقات الاجتماعية لدى التلامذة والأمثلة عديدة: لا تشرب الخمر لأنّها حرام. لا تتعاطى المخدّرات لأنّها مضرّة. لا تدخّن. لا تمارس الجنس. كن دائما لطيفا ومهذّبا.

لذلك نرى أنّه من واجبنا تقديم مقاربة صحّية مدرسيّة بديلة تتمثل في النقاط التالية

-         تشجيع التلميذ على ضمان استقلاليته تجاه السلوكات غير الصحّية وبعض المنتوجات الطبيّة والابتعاد ما أمكن عن الغرائز والإنفعالات والأفكار المسبّقة وسلطة الإعلام والقوالب الجاهزة في الموضة والرياضة.

-         تعزيز الثقة بالنفس لدى التلميذ وتدريبه على التحكّم في التوتّر واتّقاء الأخطار المحدقة به وإنقاذ الآخرين إن لزم الأمر.

-         تنبيه التلميذ للدور السلبي للمصانع غير المجهزة بوحدات تنقية الهواء المنبعث من المداخن والتي تتسبب في تدهور المحيط الصحّي والنفسي للمواطن.

-         إبراز دور القدرة الشرائيّة والحبّ والضحك والأصدقاء والنظام الغذائي في رفع المستوى الصحّي للمواطن.

-         توفير التجهيزات الصحيّة الكافية والنظيفة والفضاءات الترفيهيّة والتدفئة والتكييف داخل المدرسة وداخل وسائل النقل.

-         حثّ العاملين بالمدرسة على ملاءمة سلوكاتهم الصحيّة اليوميّة مع ما يتلقّاه التلميذ من تربية صحّية.

-         دمج التلاميذ ذوي الاحتياجات الخاصّة في المدرسة وتوفير تسهيلات لوجستيكيّة لتنقّلهم وتعلّمهم.

-         تشريك التلامذة والأساتذة والقيّمين والأولياء ومِهنييّ الصحّة والسلطات المحليّة ورجال الأمن ورجال المطافئ في إعداد برنامج التربية الصحّية.

-         توفير إطار متخصّص قار لمعالجة المشاكل النفسيّة والعاطفيّة للتلميذ لأّنّها قد تعوق اكتسابه للمعرفة.

-         ربط تدريس التربية الصحّية بالاختصاصات الأخرى باعتبارها تربية على المواطنة لا تقتصر على الجانب الفيزيولوجي فقط.

 

خلاصة القول

لو أدخلنا التربية الصحّية كما نراها نحن ويراها غيرنا من المحبين لهذا الوطن في برامج الإبتدائي والثانوي والجامعي باعتبارها مادّة قارّة بضارب محترم ولو خصّصنا لها عيادة وقائية في كل مستوصف لتحسّنت صحّتنا واستغنينا جزئيا عن خدمات "الكنام" (الصندوق الوطني التونسي  للتغطية الصحية) الذي يوتّر أعصابنا كل يوم في فضاءاته الإدارية عند انتظار ساعة أو ساعتين لتقديم ورقة أو ورقتين من أجل استرجاع دينار أو دينارين.

 

المصدر: كتابي، الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي - سَفَرٌ في الديداكتيك وعِشْرَةٌ مع التدريس (1956-2016)، طبعة حمرة، 2017 ، 488 صفحة (ص.ص. 315-320).

 

إلى المنشغلين والمنشغلات بمضامين التعليم:

نسخة مجانية من كتابي "الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي" على شرط التسلم في مقهى الشيحي بحمام الشط (23139868)، أو نسخة رقمية لمَن يرغب فيها ويطلبها على شرط أن يرسل لي عنوانه الألكتروني (mail).

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire