jeudi 31 janvier 2019

رُبَّ عُذرٍ أقبَحُ من ذنبٍ: عندما تَصنِّفُ الدولةُ الصينية مواطنِيها إلى صينيٍّ متحضِّرٍ وصينيٍّ غير متحضِّرٍ. لوموند ديبلوماتيك، ترجمة مواطن العالَم دون إضافة




ماذا فعلتْ الدولة الصينية برعاياها؟ (دولة تدّعي أنها شيوعية وفي نفس الوقت تُطبقُ رأسمالية الدولة بكل إجراءاتها اللائنسانية).
تراقبُهم رقميًّا بواسطة كاميرات منصوبة متصلة (caméras connectées) في كل الفضاءات العامة (مقاهي، حدائق، طرقات، محطات نقل، إلخ) وتسند لهم أعدادًا في حسابهم الاجتماعي وليس البنكي (Crédit social)، وحسب مجموعهم ي يُعاقَبُ المخطئُ ويُجازَى الأقلُّ خطأ.

إليكم العناصر الستة التي سأتناولها في هذا المقال: 1. المعطيات الشخصية المجمّعة في "الحساب الاجتماعي" الخاص بكل مواطن (logiciel de surveillance des citoyens comme Google).
2. السلوكات المصنَّفَة حضارية. 3. السلوكات المصنَّفَة غير حضارية. 4. ما هي نوعية الجزرة وما هي نوعية  العصا؟ 5. النتائج الإيجابية للتجربة. 6. العيوب الكبيرة للتجربة.
1.     المعطيات الشخصية المجمّعة في "الحساب الاجتماعي" الخاص بكل مواطن: صورته البيورقمية للتعرف عليه عن بعد، الرقم المنجمي لسيارته، تنقلاته في تاكسي، مشترياته في المساحات الكبرى، فواتيره الطبية، مؤشرات تنبئ عن كرمه وسخائه، إلخ.
2.     السلوكات المصنَّفَة حضارية: احترام إشارات المرور مهمة، تَردده على شراء حفّاظات رُضّع دليل على أن الشاريـ(ـة) يحس بالمسؤولية، إصلاح مدخنة جاره "تطوّعًا"، تقليم أشجار في حديقة جاره "تطوّعًا"، مرافقة عجوز أو عجوزة إلى المستشفى أو إلى السوق، المساعدة على إخراج سيارة سقطت في حفرة على الطريق، مساعدة مراقب عدادات الماء، "تسليف بالة وبيوش" لجار، إلخ.
ولإثبات هذه السلوكات يجب توفير فيديو أو صورتان على الأقل لدى مَن يسند الأعداد (عمدة القرية أو رئيس شعبة في الحزب الشيوعي) ويتسلّم "المتطوّع المتحضِّر" شهادة رسمية بإمضاء المسؤول وطابعه. أكثر سكان القرى لا يملكون آلة تصوير "سمارتفون".
3.     السلوكات المصنَّفَة غير حضارية: استعمال النقل العمومي دون اقتطاع تذكرة سفر (resquilleur)، اختلاق حادث مرور خفيف داخل المدن بهدف ابتزاز سائق مرفّه ماليًّا، قضاء عشر ساعات في اليوم أمام الشاشة لممارسة الألعاب الرقمية بمقابل 
(jeux vidéo
 نشر غسيل ملابس داخلية على السور، أثاث قديمي أو بقايا بناء مرمية على رصيف المنزل، سائق لا يخفض السرعة عند ممر الراجلين، راجل يقطع الطريق خارج ممر الراجلين، ترك دجاجاتك تسرح في الشارع، عركة في الشارع، رمي الفضلات في النهر، تقديم عريضة شكوى دون احترام التراتبية الحزبية، شراء مجلات أو مشاهدة أفلام إباحية، زرعُ الخضراوات في الشارع، الكلام الزائد مع الجيران، التباهى بسيارتك الفاخرة في موكب عرس أو جنازة، إلخ.
4.     ما هي نوعية الجزرة وما هي نوعية  العصا؟: أ. الجزرة: أولوية الحصول على قرض استهلاك صغير، "بِيدونْ" زيت بمناسبة حلول العام الجديد، سلة ملآنة محّار، إلخ. ب. العصا: تُحرم من أولوية الحصول على قرض استهلاك صغير، تُحرم عامًا كاملاً من الركوب في الدرجة الأولى 
(première classe)،إلخ.
5.      النتائج الإيجابية للتجربة: ارتفاع في منسوب السلوكات المصنَّفَة حضارية، مثلاً بين عشية وضحاها أصبحت كل السيارات تقف احترامًا للراجلين الذين يقطعون الطريق، إلخ.
6.     العيوب الكبيرة للتجربة: أحد المسؤولين الذين يسندون الأعداد هو نفسه يرتشي، مواطن تأخر شهرًا واحدًا في دفع قسط من قرض فوجد نفسه في القائمة السوداء فسمع كل جيرانه، فضيحة قد تكون هي السبب في انفصاله عن زوجته في نفس الفترة، التشهير بالبوق بأسماء المخطئين يوم الجمعة مساءً، الدولة تحرم مريضة بالشلل الرباعي من منحة شهرية كانت تأخذها (386 أورو)لأن ابنها بلغ سن الرشد. فهل تعوضها بعض زيارات "المتطوعات" لها في منزلها لمكيجتها وتنظيف دارها والتصدق عليها بفطائر بالجبنة؟، إلخ.
محاولة تحقيق غاية نبيلة (تربية المواطنين على السلوك الحضاري) باستعمال وسائل غير نبيلة (التشهير بالمخطئين)، والغايةُ في هذه الحالة مهما كانت نبيلة لا تبرّرُ الوسيلةَ غير النبيلة، والمواطنون الصينيون لا يُقادَونَ إلى التحضّرِ بالسلاسِلِ!

خاتمة مواطن العالَم: ماذا ترك نظام المراقبة اللصيقة هذا، لِما رأيناه في المقالات السابقة حول تجسس "ڤوڤل" على مستعمليه؟ هذه التجربة الصينية 
(Crédit social)
 قد تتحوّل إلى كابوس يقضّ مضاجع المواطنين الصينيين عكس ما  وعدهم به رئيس دولتهم؟
مواطنون صينيون متصلون 
(Citoyens connectés
 وبإيعازٍ من الدولة لا من ضمائرهم، "يتطوّعون" لخدمة الصالح العام طمعًا في إضافة نقاطٍ إلى حسابهم الاجتماعي وليس من منطلق تضامني إنساني نبيل، فهم يُعتبرون في نظري "متطوعون" انتهازيون بامتياز، نوع قذر من أنواع التطوّع، وترذيلٌ للقِيم الإنسانية الراقية.

المصدر:
Le Monde diplomatique, janvier 2019, Extrait de l`article «Quand l`État organise la notation des citoyens. Bons et mauvais chinois», par René Raphael et Ling Xi, journalistes envoyés spéciaux, pp. 4 et 5

إمضاء مواطن العالَم
"النقدُ هدّامٌ أو لا يكونْ" محمد كشكار
"المثقّفُ هو هدّامُ القناعاتِ والبداهاتِ العموميةِ" فوكو
"وإذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إذنْ إلى فجرٍ آخَرَ" جبران

تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الجمعة 1 فيفري 2019.


mercredi 30 janvier 2019

إشكالية مطروحة منذ بداية التاريخ: هل نجحت الأخلاق الفلسفية والدينية في تغيير حياة البشر إلى الأفضل، أي من السلوك اللاحضاري إلى السلوك الحضاري؟ مواطن العالَم



عادة غير محبّذة من أكثرية المدمنين على شرب القهوة: النقاش الجدي صباحًا.
أمس الأربعاء 30 جانفي 2019، ذهبتُ إلى مقهى الشيحي كالعادة و"العوايد" على الساعة السادسة صباحًا. شرعتُ في قراءة مقال في "لوموندديبلوماتيك" حول الصين. بدأتُ في تسجيل الخطوط الكبرى للمقال الذي سأكتبه وأنشره في الغد. مرّت عليّ 120 دقيقة وأنا وحدي أقرأ، هي أسعد أوقات يومي. حوالَي الساعة الثامنة، بدأ الجلساء الاعتياديون في التقاطر ولالتحاق بطاولتي.
ما المشكل إذن؟ المشكل أن دماغي يغلي ومنشغلٌ بموضوع الصين. فما ذنبُ مَن جاء الأولُ (خميّس) يرتشف ببطءٍ أولَ قهوةٍ في اليوم، أشغله هو أيضًا بمشكل الصين؟ ذنبه أنه جلس في طاولة كشكار! وكلما قَدِمَ جليس آخرَ إلا وأعدتُ على مسامعه طرح نفس الموضوع (خمس مرات). وكل مَن سيفتح موقعي الفيسبوكي اليوم فجرًا على الساعة الرابعة صباحًا ويقرأني، أطلب منه المعذرة مسبقًا لأنني ربما أكون سبقتُ قهوته.

العاشرة، رجعتُ إلى الدار وحررتُ المقال في ست صفحاتٍ كاملةٍ. قررتُ أن لا أنشره حتى يمر بغربال الفلسفة الذي لا يتسرّب من ثقوبه الدقيقة إلا الجيد من الأفكار خاصة وأن موضوع الأخلاق موضوع فلسفي بامتيازٍ. جاء الموعد، السادسة مساءً، قابلتُ فيلسوف حمام الشط.
أتعرفون ماذا صنع بمقالي الذي تعبتُ في تحبيره ست ساعات، الصفحة بساعة؟
مقالٌ خلتُه منطقيًّا وبموافقة جلسائي الصباحيين غير الدارسين للفلسفة أكاديميًّا، يعني معرفة درجة 2 (درجة 1 هي الحس العام) ولا أستثني نفسي طبعًا. الفلسفة تأتي في القمة، أي درجة 3، يعني فوق كل الاختصاصات العلمية، الصحيحة منها والتجريبية والإنسانية أيضًا.
ألم أقل لكم أن طاولة مقهى الشيحي الصباحية ناقصة فيلسوف؟ أنا في الأمانة العلمية أو الأدبية لا أمزح وفي الفكر لا أجامل وأقرّ بجهلي للفلسفة، أقول صدقًا فيذهب في ظنكم أنه تواضع تجميلي.
بالفلسفة (معرفة درجة 3)، قَلَبَ الفيلسوف مقالي (معرفة درجة 2) رأسًا على عقب.

بعد التعديل والتحوير في مقهى الأمازونيا مساءً، أدفع إليكم بالنسخة الجديدة للحوار الذي دار في مقهى الشيحي صباحًا، دون تدقيق في صاحب الكلمة، أو قِيل الكلام فعلا أو لم يُقل، أو بهذا التسلسل أو غيره:
-         هل الأخلاق الفلسفية والدينية (والدين يدخل في مجال الفلسفة)، نجحت في تغيير حياة البشر إلى الأفضل، أي من السلوك اللاحضاري إلى السلوك الحضاري؟
-         ماذا تقصد بـ"السلوك اللاحضاري"؟
-         مثلاً في المقهى: ترمي أعقاب السجائر على أرضية المقهى المبلّطة، تضع منديل أنفك (papier mouchoir) على الطاولة أو في المرمدة (cendrier)، تنشغل عن مخاطبك بالإبحار في جوّالك، تحتكر الكلمة أكثر من خمس دقائق، أو تتكلم بصوتٍ عالٍ دون موجَب، هذا السلوك اللاحضاري الأخير آتيه أحيانًا دون أن أشعر ثم أتدارك أمري وأعتذرُ ثم أنسى وأكررها. من باب التحضّر لم أذكر سلوكات لاحضارية أخرى.
-         وخارج المقهى؟
-         لا تحترم إشارات المرور، لا توقف سيارتك احترامًا للمارة، تضع كيس مهملاتك أمام دار جارك، تغش في كيل السلعة وثمنها، لا تقوم بواجبك على أفضل وجه، إلخ.
-         لا.. الأخلاق الفلسفية والدينية لم تغيّر.
-         صحيح لم تغيّر (Un constat et non un jugement).

فاصل وأعود:
عرضتُ جوابَ جليسي وجوابي  المتماثلَين على الفيلسوف، فكان هذا ردُّه: يبدو لي أن الجزمَ في مثل هذه المواضيع الفلسفية الجدلية شيءٌ يتطلب تمحيصًا وأمرٌ فيه نظرٌ. الدين غيّرَ فعليًّا، لكن جزئيًّا فقط، الأخلاقَ إلى الأفضلِ وكذلك فعلت الفلسفة. ألا ترى معِي أن الوازع الديني ما زال حاضرًا وبقوة في "اللاوعي" الشعبي (la masse)، وإنما في "الوعي" يحضر ويغيب خاصة عند الحِرفيين ومتعاطي الكحول والعاصين عمومًا. صحيح أن الوازع الديني ذهب عند أولياء الأمور ومعه أخلاقهم ذهبت، وكذلك عند رجال الأعمال الجشعين. عند الصنف الأول غلبه حب السلطة السياسية، وعند الصنف الثاني غلبه حب السلطة المالية. أما الفلسفة  فكانت للصنفين الأخيرين بالمرصاد، تكشف نواياهم وتفضح وسائلهم وتنغص عليهم عيشتهم ولا تتركهم يتمتعون بما كسبوه من استغلال الشعب ظلمًا وبهتانًا.

أعود إلى حوار الشيحي:
-         جزئيًّا فقط.. الأخلاق الفلسفية والدينية غيّرت السلوك إلى الأقرب للإنسانية.. تفاهمنا.. والفضل، في تنبيهنا إلى اكتشاف هذا التغيير الجزئي، يرجع طبعًا للفيلسوف مشكورًا، ولكن في الجزء الذي لم يتغير، سألتُ جليسي: "هل المشكل يكمن في العقلية أو في القانون؟".
-         في العقلية، طبعًا.
-         ما قولك في الفرنسيين؟
-         متربّيين، طبعًا.
-         والتونسيين؟
-         موش متربّيين، طبعًا.
-         ما رأيك إذن في مستثمر فرنسي "متربّي" ويحترم النقابيين في فرنسا، وعندما يأتي إلى تونس يصبح "موش متربي"، يرفت النقابيين ويرشي متفقد الشغل؟ وما رأيك أيضًا في عامل تونسي مهاجر، في فرنسا "متربّي" ويحترم القانون ويقول لجاره الفرنسي بونجوغ، وعندما يأتي في عطلة إلى تونس يصبح "موش متربي"، لا يحترم إشارات المرور ولا يقول لجاره صباح الخير؟
-         المسألة تعقّدت أكثر؟
-         هي معقدة من أساسها فالبشرْ بشرْ في كل برْ، بشرٌ بجانبه الحيواني الغريزي (خوف، دفاع عن النفس من أجل البقاء، أنانية، شهوانية، إلخ) وجانبه الإنساني (كبح كل الغرائز لتهذيب النفس وجعلها تليق بإنسانية الإنسان، صراعٌ مرير لكنه جميلٌ ولذيذٌ، صراعٌ ضد الطبيعة الحيوانية فينا بهدف أنسنتها أو إعادة أنسنتها، ومع كل مولودٍ جديدٍ يبزغ فجرٌ جديدٌ، جهادٌ أكبرُ ضد الذات وتجديفٌ واعٍ ضد التيّار، مثَلنا كمثَل سيزيف في صراعه من أجل الوجود).
Le philosophe humaniste Edgar Morin a dit: il faut réhumaniser l`humanité. Et Rousseau a dit: La civilisation, c`est réussir à passer de l`homme de la nature à l`homme de l`homme
-         وهل السلوك الحضاري وراثي أو مكتسب؟
-         ألم تسمع آخر ما قلتُه؟ التحضّر هو شيئٌ لا يُورَّث في الجينات لذلك فهو مكتسبٌ 100%. أما "جيناتُنا، فما زالت أركَيِيكْ، تعتقدُ المسكينة أننا ما زلنا نعيش في الغابة".
-          AND = vieux logiciel biologique) Yuval Noah Harari  Sapiens. Une brève histoire de l`humanité, 2015   
-         والفلسفات والرسالات والإيديولوجيات، ألا تهذِّبُ الأخلاق؟
-         هذبتها في حياة المؤسسين الأوائل، بعدهم وللأسف خبا لهيبها وبَهِتَ بريقُها:
Les idéologies sont liberté quand elles se font, oppression quand elles sont faites, Sartre, 1948
-         حتى الرسُلِ؟
L`anthropologue Jacqueline Chabbi: La religion construit la société et la société construit sa religion
يبدو لي، والله أعلم، أن مكارمَ الأخلاقِ التي أسسها وأرساها رسولنا الأكرم، صلى الله عليه وسلم، ذهبت معه وصحابته، رضي الله عنهم، ولم يَبْقَ ذكرُها موجودًا إلا في الكتب أو في القرآن المحفوظِ نرتّلها بُكرة وأصيلا، فصحّ علينا قوله تعالى وأصبح مَثلنا "كمَثل الحمار يحمل أسفارًا..". أما أخلاق مسلمي اليوم تحديدًا - ودون تعميمٍ -  فلا علاقة لها بالأخلاق الإسلامية السمحة إلا بالاسم، "شوية من الحنة وشوية من رطابة اليدين"، أسباب خارجية خارجة عن نطاقنا وأخرى داخلية ونحن مسؤولون عنها، وبين السبببن جدليةُ مستمرة (dialectique et interaction) قد تُولِّدُ انبثاقات غير معروفة مسبقًا (émergences).
-         ما أقسَى حكمك؟
-         الواقع أقسَى! ألم أقل لك أن المجتمع يصنع دينَه؟
-         هل نترك القرآن إذن؟
-         حاشا أن أقول مثل هذا "الكلام المباح"!
-         صحيح أن التربية الإسلامية لم تحسّن سلوكنا،  لكن هذا مبرِّرٌ غير كافٍ لكي نلغيها أو نهجرها. نتركها تأخذ مجراها في تعليمنا، وعدم تطبيق الأخلاق الإسلامية في الواقع هو حجة على مسلمي اليوم وليس حجة على القرآن، وقد يكون هذا الواقع البائس في عيوننا يخفِي عن إدراكنا حكمة ربانية نجهلها. مَن لم يطبق الأخلاق الإسلامية، فحسابه عند الله وحده يوم القيامة، عدالةٌ ربانية بعيدة عن عقولنا البشرية. "إعيشكْ"، خلّينا في ما هو تحت إرادة البشر: الجزاء والعقاب بالقانون الوضعي (Le domaine du possible humain).
-         هنالك مَن ربّاهم القرآن.
-         صحيح 100%، لكنهم قلة قليلة جدًّا وإلا لَما دَنا واقعُنا من الدرك الأسفل، والاستثناءُ لا يلغي القاعدة. لِنرجع يا صديقي إلى موضوع الصين وكيف تراقب رعاياها رقميًّا بواسطة كاميرات منصوبة في كل الفضاءات العامة (مقاهي، حدائق، طرقات، محطات نقل، إلخ) وتسند لهم أعدادًا في حسابهم الاجتماعي وليس البنكي 
(Crédit social
 وحسب مجموعهم يُجازون أو يعاقبون.
-         تضعهم في السجن؟ قُلْ لي: بماذا يُكتسَب السلوك الحضاري؟ بالتربية أو بالقانون؟
-         سبق وأن قلت لك "ابعِدنا عن مجال الدين"، أضِفْ له مجال القضاء.
-         بماذا يُكتسَب إذن؟
-         رئيس الصين يقول: "بالجزاء والعقاب، بالجزرة والعصا نربّي شعبنا ونمنحه الأمن والأمان وبهما الاثنين يحيا الإنسان، نجحنا في تغيير بعض السلوكات اللاحضارية وحوّلناها إلى سلوكات حضارية، حصل هذا في ظرفٍ وجيزٍ من الزمن".
-         مثل ما فعل بافلوف مع كلب بافلوف؟
-         بالضبط، لكن لِنلطِّفها قليلا ونقول علم النفس السلوكي (La psychologie comportementale) أو المدرسة السلوكية (Le béhaviorisme) المرتكزة على مبدأ المكافأة والحرمان من المكافأة.
-         كيف سنطبق هذا المبدأ اللاأخلاقي؟
-         هو لاأخلاقي في وسائله لكنه ناجعٌ في نتائجه.
-         وهل الغاية تُبرِّرُ الوسيلة؟
-         هي في المُطلَق والمنطق.. لا تُبرِّرُ، لكن في الصين يقولون أنها تُبرِّرُ!
-         الخبر كما ورد في لوموند ديبلوماتيك: نُصِبتْ كاميرات متصلة (caméras connectées) في كل مكان لمراقبة رعاياها، ثم معاقبة المخطئ ومجازات الأقل خطأ.
-         وهل يحق للدولة مراقبة رعاياها في الفضاء العام دون علمهم والحد من حريتهم الشخصية؟
-         اعتراض هام يستحق التفكير، الجزء الأول لا جواب عندي عليه، أما الثاني فلي جوابٌ، وهو الآتي: حريتك الشخصية تقف عند حرية غيرك.
-          وهل المساس بالفضاء العام هو مساسٌ بحرية الغير؟
-         على اسمه فضاء عام، أي مِلك العموم، والعموم هم أنا وأنت: الطريق العام ملكنا والساحات ومحطات النقل والحدائق العمومية وغيرها من الفضاءات العامة.
-         وهل الشواطئ فضاءات عامة؟
-         طبعًا.
-         وهل يحق للدولة مراقبة العصافير من رعاياها، عصافير تتبادل القُبَلْ على شاطئٍ معزولٍ في بومْهَلْ، يتبادلونها على مَهَلْ لا على عَجَلْ؟ (لا وجود لشاطئٍ في بومْهَلْ، الضرورة الشعرية حَكَمَتْ).
-         "سي علاء سَكِّرْ البرنامج"!
-         كليمة واحدة و"انسكّر البرناج": بالتربية الدينية والفلسفية قد نحسّن سلوك البشر لا بالجزرة والعصا. لسنا كلاب بافلوف ولن نقبل أن نكون، والإنسان حر أو لا يكون، وفَشَلَ الصينيون ولو نجحوا! ويكفينا بلوغ الوسط، لذلك لا تعنينا الأطراف المتطرفة يمينًا أو شمالاً.
Aristote a dit: La vertu est le juste milieu
قال تعالى : "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا".

ملاحظة: قبل مقابلة الفيلسوف، كانت النسخة الأولى من هذا المقال (الملغاة) بمثابة مقدمة لنشر مقال يمجد نجاح الصين في مراقبة رعاياه وتربيتهم بالجزرة والعصا، ولو فعلتُها لَكنتُ متناقضًا مع روح وفلسفة مقالي السابق في ثلاثة أجزاء حول شمولية الرأسمالية الناعمة السائلة (مقال "ڤوڤل"). لا خابَ مَن استشارَ.

إمضاء مواطن العالَم
"النقدُ هدّامٌ أو لا يكونْ" محمد كشكار
"المثقّفُ هو هدّامُ القناعاتِ والبداهاتِ العموميةِ" فوكو
"وإذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إذنْ إلى فجرٍ آخَرَ" جبران

تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الخميس 31 جانفي 2019.