mardi 22 janvier 2019

أدعو وبِشدّةٍ إلى الترشيدِ في المصاريف، أو بالأحرَى إلى التقشّفِ فيها، عند عقدِ ندواتِ "المجتمعْ المَدَنِي"، العلميةِ أو الثقافيةِ أو السياسيةِ أو النقابيةِ. مواطن العالَم



عندما تدعوني جمعية من "المجتمعْ المَدَنِي" للمشاركة في ندوةٍ، وتصرف عليّ مبلغ 1000د، مقابل إقامة يومانِ وليلة واحدة في نزل خمس نجوم، فهي بـ"كرمها المبالغ فيه هذا" تُفسِدُ عليَّ نكهةَ تطوّعي من أجل خدمة جمنة، مسقط رأسي وحبيبتي الغالية، ولو كتِبت في سِجِلِّي المقدَّسِ حسنةٌ، فسوف تمحوها الملائكةُ لو ضبطوني متلبِّسًا بخطيئةِ تبذيرِ المالِ العامْ.
بلدٌ فقيرٌ "كَحْيانْ"، وحكومةٌ أفقرُ، وضعٌ بائسٌ يقابله "بارادُوكْسالُّمُونْ" وَفرةٌ وتبذيرٌ في غير مَحَلَّه: تصرّفٌ أرعنٌ أحمقُ.
جُرْمٌ في حق دافِعِي الضرائب ترتكبُه جميع الأحزاب دون استثناء، وجل المنظمات الحكومية وغير الحكومية، ولم يسلَمْ من هذه الخطيئة الكبرى حتى الجبهة اليسارية وحزب النهضة الإسلامي ومنظمة العمال الفقراء، الاتحاد العام التونسي للشغل.

يشتدُّ التعجُّبُ، تكبرُ الغرابة، ويزيدُ الاستنكارُ عندما نعرف أن الحلَّ الأمثلَ ماثِلٌ أمامنا ويُمارَسُ في العاصمة تونس بالذات،، والأغرَب أن هذا الحل يُطبَّقُ من قِبلِ أقوى اقتصادٍ في العالَم: دولةٌ غنية تتقشف ونحن نُبَذِّرُ!
منظمة "روزا لوكسانبورڤ" (روزا الألمانية، مُنظِّرة وصحفية مناضلة، استشهدت تحت هراوات البوليس سنة 1919، دفاعًا عن الشيوعية. أكنّ لها عطفًا خاصًّا بغض النظر عن الرِّدّة عن دين الشيوعية. أحترمُها لشجاعتها في مواجهة الزعيم لينين ومعارضتها لمفهوم المركزية الديمقراطية، هذا المبدأ الخاطئ الذي تحوّل فيما بعد إلى ديكتاتورية شمولية مع ستالينْ اللَّعِينْ).
منظمةٌ ألمانية غير حكومية تَنْشَطُ في تونس وتعقد كل اجتماعاتها وندواتها وتظاهراتها في مقرّها الجميلِ الكائنِ بالحي الراقي "موتويالْ-فِيلْ": مهما صرفتْ هذه المنظمة إذن، فلن تبلغَ نصفَ ما ستصرفه لو أقامت أنشطتَها جميعًا في نُزُلِ الخمس نجوم (Le coût d`investissement sera surement amorti au fil des années). 

السؤال: لماذا لا تنسجُ على منوالِها الفريدِ، في الحوكمة الرشيدة، منظماتُنا العتيدة؟ لماذا لا يكون للاتحادِ مقرٌّ يقِيم فيه أنشِطتُه بأقل كُلفةٍ؟  ولماذا لا يكون لقيادة النهضة مقرٌّ مماثلٌ، تعقد فيه مجالسَ شورَتِها عوض عقدها كما دأبت اليوم في نُزُلِ الحمامات؟ لماذا ذكرتُ النهضة بالذات، لا غيرَها؟ ذكرتُها، لا لأنها تدّعي أنها تخافُ ربي في أموال التونسيين أكثر من الجبهةِ، بل لأنني سمعتُ هذا اللوم نفسه من قيادي نهضاوي بارز لكن غير رسمي، أي ليس عضوًا في مجلس الشورَى ولا في المكتب التنفيذي. لن أذكرَ اسمَه لأنني لم أستشرْه مسبقًا، رغم أنني واثِقٌ تمامَ الوُثوقِ أنه لو علِمَ فلن يمانعَ. للحميمين المشتركين فقط: هو صديقي الجمني، أحسن نهضاوي في الوجود، أستاذ القرآن والحديث بباريس.

يحق لِلائِمٍ أن يلومَني بشدة ويقول: ما دمتَ ضد تبذيرِ المالِ العام، فلمذا تذهب، تشارك، تتمتع، بل تتجرأُ وتصفُ لنا متعتَك بالتفصيل المُمِلِّ؟
أجيبُك، يا سائلي أجيبُك، وبصدرٍ رحبٍ أشْفِي غليلَك:
في أكثر الحالات أذهب متطوِّعًا تلبيةً للواجب: جنديٌّ متحمِّسٌ، تكلفني "جمعية حماية واحات جمنة" بتمثيلها والدفاع عن قضيتها العادلة عندما يتعذّرُ على أحدِ أعضائِها السفرُ (تَكَرَّرَ هذا الواجبُ ستة عشر مرة خلالَ ثمانِ سنواتٍ من عُمرِ التجربةِ الرائدةِ)، وذلك لطولِ المسافةِ بين جمنة والعاصمة (500كلم)، أو أذهبُ مدعوًّا محاضِرًا مجّانًا في صُلْبِ اختصاصي العلمي. واجبان لا يمكنني التنصُّلَ من تأديَتِهِما، سببانِ اثنانِ يشرِّفانِ، لا ثالث لهما.
لا أذهبُ طمعًا في طعامٍ أو شرابٍ أو رغبةً في ترفٍ لم أعتدْ عليه طيلة حياتي. تقولُ لي: أنتَ تكذبْ، أنتَ "جيعان"! وبكل ثقةٍ وهدوءٍ، أردُّ عليك وأقول: صحيحٌ، بيولوجيًّا أنا جَوعانْ، لكن روحيًّا أنا شبعانْ. لا أعرفُ من الأطباقِ في داري إلا البركوكش، العصيدة، الرفيسة بالدڤلة وخبز الطاجين، الفْتاةْ، المقرونة الجارية، المحمّصة، الملوخية بالعلّوش (مرة واحدة في الشهر هي والعلوش)،  الجلبانة بِصدر الدجاج، الروز باللوبيا، السردينة حُكّة وبحر، الورقة المربّية (السلعة الوحيدة غير المدعّمة في تونس التي لم يرتفع ثمنها بعد الثورة، 10-14د. دائمًا أسألُ جلسائي، في مقهى الشيحي ومقهى الأمازونيا، عن السببِ، ولم أعثرْ حتى اليوم على جوابٍ مقنِعٍ. اللهم سُترٌ خصّني به الله لأنه يعرف أنني لا أقدر على بنت البحر والقاروص!)، وحتى الأطباق الخمسة الأخيرة لم أعرفها إلا في ڤابس في المبيت المجاني وأنا في سن 13 عامًا في سنة 1965.
أطباقِي الشعبية، المعتادة في داري، كلها، لم أصادفها ولو مرة واحدة في نُزُلِ الخمسة كواكب.

الجوعُ الإراديُّ هو صديقي، وأتشرّفُ بصداقته. ألسنا قومٌ لا نأكلُ حتى نجوعُ وإذا أكلنا لا نشبعُ؟ خبِرتُه في الطفولة مكرَهًا، واخترتُه في الكهولةِ طواعيةً وفي الشيخوخةِ منهجًا: كنتُ وأنا أعدُّ دكتورا في تعلّميّة البيولوجيا في جامعة كلود برنار بليون 1 (2000-2007)، كنتُ في الغداء كل يوم، أكتفي بِتناوُلِ كأسٍ من البسيسة الدياري وبَسْ، جلبتُها معي من تونس للغرض. جلبتُها حتى أوفِّر من مبلغِ المنحةِ كثيرًا، أشتري به عند "المرواح" قليلاً من الشكلاطةِ الرفيعةِ وثيابًا "صُنِعَ بفرنسا" لأبنائي وزوجتي الذين ينتظرون عودتي كصغار الطيور.
الجوعُ البيولوجي يا سيدي، صفةٌ حيوانيةٌ طبيعيةٌ جينيةٌ وراثيةٌ، أما التعففُ والسموُّ، فهما صفتانِ إنسانيتانِ نبيلتانِ تُكتَسَبانِ بعد عَناءِ مجاهدةِ النفسِ الطمّاعةِ، وَكبحِ جِماحِ جوادِ الشهواتِ الغريزيةِ الضروريةِ في حدِّها الأدنَى فقط.

لو سألني منظمو الندواتِ يومًا وقالوا لي: "ماذا تريدُ أن نوفِّرَ لك يا سي محمد؟". لأجَبتُهم كالآتي: عبارةُ "سي محمد"، وحدُها، تُشبعُني لثلاثةِ أيامٍ متتاليةٍ!
أريدُ يا سِيدي بن سِيدي:
في فطور الصباح: أريدُ شاميةً ومعجونَ كرموسٍ. غذاءَان لذيذان حرّمتُهما على نفسي بسببِ داءِ السكرِي المزمنِ. أشتهيهما وأجيزُ لنفسي تناولهما في المناسبات، وخاصة عندما يكونا "بَلُّوشِي".
في الغداء: أريدُ وجبةً صحيةً متوازنةً موحدةً. تُتعبني حيرةُ الاختيارِ على موائدَ "الخِدمةِ-الذاتيةِ" الفاخرة الكافرة (self-service)، وإذا أمكن "كعيبة" بنانْ، ضيفٌ مبَجَّلٌ لا يزور بيتَنا إلا كل مطلعِ الهِلالٍ.
في العشاء: أريدُ طبقًا خفيفًا. التُّخْمَةُ تتسبّبُ لي في كوابيسَ ليليةٍ، وإذا أمكن "كعبة" تفاح بِلونِ خدودِ الصبايا الغجريةِ، افتقدتُه هذه الأيام عند خضّار الحومة بحمام الشط.
المبيت: أريدُ غرفةً فرديةً محترمةً + فرشًا وثيرًا (ظهري دومًا يؤلمني) + "مَلاحِفَ" نظيفةً.
والله لا أشتهي أكثرَ، وأظن أن جلَّ المشاركين في الندواتِ يشاطرونني الرأيَ. نجمة واحدة، اثنتان، ثلاث لا يهم، المهم في راحة البالْ والخاطرْ.

خاتمة: تبذيرٌ في غير موضعِه كمَن يتدفّأ على "العافية في الڤايلة". أين يوجدُ موضعَه الشرعي إذن؟ يوجدُ في الأعيادِ والأفراحِ التقليديةِ فقط.
نَمَطُ حياةٍ ملعونٌ، مستورَدٌ بِنيةٍ خبيثةٍ مُبَيتةٍ. نمطٌ لا يستفيدُ منه إلا مَن ولّده فينا قصدًا وأنسانا عاداتَنا التقشفيةَ، عاداتَنا التقليديةَ البربريةَ-الإسلاميةَ-العربيةَ السليمةَ. نَمَطٌ يستفيدُ منه فقط، أصحابُ النزُلِ وبعضُ الانتهازيين القائمين على مثلِ هذه الندواتِ "الفاخرةِ دون سببٍ منطقيٍّ مقبولٍ".

إمضاء مواطن العالَم
"النقدُ هدّامٌ أو لا يكونْ"،
"المثقّفُ هو هدّامُ القناعاتِ والبداهاتِ العموميةِ" فوكو،
و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران.

تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الأربعاء 23 جانفي 2019.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire