أنا متأكدٌ أنه كان يمزحُ، وفي نفس الوقت متأكدٌ أيضًا، أنني، في الفكر، لا
أمزَحُ.
في أي سياقٍ قالها؟
السياقُ الأولُ: في "المرواحْ"، دائمًا كنتُ أنهضُ وأغادرُ
المقهى مرفوقًا بزميلي وصديقي عَلِي، أستاذُ البيولوجيا المتقاعدُ المتعاطفُ مع
النهضةِ لكنه غير منتمٍ.
السياقُ الثانِي: بعد ما قرأ عنوان مقالي الحديث "سيناريو مَحْضُ
خَيالٍ: لنفرِض جدلاً أن حزب الجبهة أخذ مكان حزب النهضة، قبل الثورة وبعدها.
فماذا عساهُ يا تُرى بِنا وفِينا فاعِلٌ؟"، وقَبل أن يواصل، التفت نحوي
مبتسمًا كعادتِه، و"أعطاني على الحسابْ قبل أن يُكمِلَ الكتابْ"، مَزْحًا
طبعًا، لا جِدًّا.
الجوابُ، كما أسمعتُه لطارقْ
في مقهى الشيحي، اليوم الخميس صباحًا، مع إضافة بعض التفاصيلِ في هذا المقال:
أتعْرِفُ مَن أثّرَ فيّ مع
احترامي لِـسِي عَلِي، الصديقُ الرفيقُ، المهذَّبُ الرقيقُ؟ أتعْرِفُ مَن
صالَحَني، مُصالَحَةً جدليةً - غير تماثليةً - مع هويتِي الحضاريةِ الإسلاميةِ (Indigénisation) ؟ أتعْرِفُ مَن طَمأن قلبي وشدّ
عاطفيًّا أزري وثبّتَ خُطاىَ في مسعايَ، أي في موقفي الذاتي غير المعادِي للإسلام
والمسلمين والنهضاويين والإسلاميين عمومًا؟ مع العِلم أنني أصنِّفُ نفسي كمعارِض
لسياسة حزب النهضة في الحُكم. أتعْرِفُ مَن ساندَني فكريًّا وفلسفيًّا في موقفي المنفتِح
والمتمثل في إلقاء محاضرات علمية في نوادي ثقافية إسلامية؟
ربما أفاجِئك يا طارق، يا عزيزي،
يا محرّك النقاشات (Moteur de discussion) في طاولتِنا الثقافية بمقهى
الشيحي غير الثقافية، طاولة تضم: عقيد أمني متقاعد، أستاذ جامعي، رئيس سابق لجامعة
التجمع بحمام الشط مجمَّدٌ قبل الثورة بعد أحداث سليمان، موظف سامٍ
بالجامعة العربية، مدير جهوي للتعليم، شيخٌ أكبرُنا سِنًّا وقَدرًا، عامل مختص
مطرود يساري، مهندس عاطل عن العمل قومي، مرشد بيداغوجي فرنسية متقاعد يساري، أستاذ
تقنية متقاعد، أستاذ عربية يساري اختصاص صحافة يأتي مع كل رؤية هلال، ينقصنا في
الجِلسة فيلسوفًا. وبعض الوافدين العَرَضِيين. فيهم مَن يجلسُ ثم ينهضُ ويغيّرُ
الطاولة، فيهم مَن يأتي باكرًا ومَن يأتي متأخرً، وأنا ثابِتٌ في مكاني لا أتزحزحُ
من السادسة إلى العاشرة صباحًا، وكأنني مشدودٌ إلى الكرسِيِّ بِمسمار "بوعشرة"، ولا ثابتَ إلا
الله، ثابتٌ من باب اللياقة والأدب، لا أكثر ولا أقل. أكيد سأفاجئكَ عندما أقول لكَ
أن مَن بعثَ فيَّ كل هذه الموجات الإيجابية هي الكتُب الفرنسية التي أطالعُها
يوميًّا في المقهى هذا بالذات، أضفْ إلي هذه الكُتُبِ، ما أسمعه في اليوتوب عن مواقف
وسلوكات بعض الفلاسفة الفرنسيين الذين ملؤوا وقتي الفارغ في الدار، وإليك بعض
الأمثلة، فليس اعتباطًا إذن أن أدعوهم أساتذتي، فهم فكريًّا أساتذتي ونِصْفْ:
1. أبدأ بأستاذي الأول الفاضل، الله يرحم والدَيه المتوفّيَين (بروليتاريا: عامل ومُعِينةُ منزليةٌ)، الفيلسوف ميشيل أونفري، الذي يُعرِّفُ نفسَه كالآتي: "يساري-تحرري-غير ماركسي-ملحد-مسيحي-معارِض فكري شرس لليبرالية الحداثية والمحافِظة" (Gauche libertaire non marxiste athée chrétien): أنا أيضًا أعرّفُ نفسي كـ"يساري-غير ماركسي-معارِض فكري غير شرس لليبرالية الحداثية والمحافِظة". قبل أن أكتشف أونفري، كان أصدقائي الماركسيون بحمام الشط يسخرون مني عندما كنتُ بهذا التعريف "يساري-غير ماركسي" أمضي مقالاتي الفيسبوكية. اكتشفتُ أونفري، وجدتُها وقلتُ في نفسي "فُزتَ يا كشكار، وربّ الكعبة، فُزْتَ، وها أنتَ - ودون أن تدري - تفعلُ ما يفعله الفلاسفة العِظامْ". إذا كان أونفري ملحدًا ولم يتنكِر لحضارته المسيحيَّة، فحرِىٌّ بي أنا اليساري المسلم أن لا أتنكّر لحضارتي الإسلاميَّة، أمه مسيحية، أمي مسلمة، وفي عُرْفِنا، مَن يعشقُ أمَّه فلا خيارَ أمامَه إلا أن يعشقَ دينَ أمِّهِ!
1. أبدأ بأستاذي الأول الفاضل، الله يرحم والدَيه المتوفّيَين (بروليتاريا: عامل ومُعِينةُ منزليةٌ)، الفيلسوف ميشيل أونفري، الذي يُعرِّفُ نفسَه كالآتي: "يساري-تحرري-غير ماركسي-ملحد-مسيحي-معارِض فكري شرس لليبرالية الحداثية والمحافِظة" (Gauche libertaire non marxiste athée chrétien): أنا أيضًا أعرّفُ نفسي كـ"يساري-غير ماركسي-معارِض فكري غير شرس لليبرالية الحداثية والمحافِظة". قبل أن أكتشف أونفري، كان أصدقائي الماركسيون بحمام الشط يسخرون مني عندما كنتُ بهذا التعريف "يساري-غير ماركسي" أمضي مقالاتي الفيسبوكية. اكتشفتُ أونفري، وجدتُها وقلتُ في نفسي "فُزتَ يا كشكار، وربّ الكعبة، فُزْتَ، وها أنتَ - ودون أن تدري - تفعلُ ما يفعله الفلاسفة العِظامْ". إذا كان أونفري ملحدًا ولم يتنكِر لحضارته المسيحيَّة، فحرِىٌّ بي أنا اليساري المسلم أن لا أتنكّر لحضارتي الإسلاميَّة، أمه مسيحية، أمي مسلمة، وفي عُرْفِنا، مَن يعشقُ أمَّه فلا خيارَ أمامَه إلا أن يعشقَ دينَ أمِّهِ!
ماذا قال أستاذي في حضارتي الإسلامية؟ قال الآتي: "الحضارةُ
اليهوديةُ-المسيحيةُ حضارةٌ في انحلالٍ لا مهربَ منه (En décadence, sans issue)، والحضارةُ الإسلاميةُ حضارةٌ فتيةٌ"، ثم
أضافَ مُفسِّرًا فكرتَه: "لن تجدَ مسيحيًّا واحدًا مستعدًّا للتضحيةِ بحياته
من أجل دينِه أو رسولِه، في المقابل يوجدُ ملايين المسلمين مستعدّين للتضحية
بالنفس والنفيس دفاعًا عن دينهم ورسولهم"، المعذرة يا أستاذي، أتمنى أن لا
يكونوا من الدواعِش! بعد عملية صحيفة "شارلي إبدو" الإرهابية، قال:
"أمةٌ قتلنا (L`occident) منها أربعة مليون مسلم منذ حرب الخليج الأولى، سنة
1991، ماذا تنتظرون من أبنائها، أن يرشقوكم بالورود؟". قال أيضًا أشياءًا
سلبية حول الدين عمامًا، ولكل مقامٍ مقال!
2. أستاذي الثاني، عضو الأكاديمية الفرنسية، المسيحي اللبناني الأصل، أفضل
روائي عندي باللغة الفرنسية، الرائع أمين معلوف، أعتبره جرجي زيدان الفرنكوفونية،
قال: "عاشت عائلتُنا المسيحية في لبنان 14 قرنًا تحت الحكم الإسلامي ولم
يمسسْنا سوءٌ في مالِنا ولا في عِرضِنا ولا في كنيستِنا". وقال أيضًا:
"في القرن 19م، كان ثُلثَا سكان اسطنبول، عاصمة الخلافة الإسلامية، مسيحيين
ويهود يعيشون مع المسلمين في سلام ووئام، والمسلمون هم أولُ مَن كتبَ برتوكول تعايش
وتسامح بين معتنقي ديانات مختلفة (Protocole de
tolérance)".
3. أستاذي الثالث، الفيلسوف المسيحي الإنساني، إدڤار موران، لم يرَ مانعًا في
إصدارِ كتابٍ شراكةً مع الإسلامي الفيلسوف السويسري طارق رمضان. موران هو صاحب المقولة الإنسانية الشهيرة: "يجبُ
إعادةَ أنسَنةَ الإنسانية" (Il faut réhumaniser
l`humanité).
4. أستاذي الرابع، الصحفي اليساري الأمريكي-اللاتيني، رئيس تحرير سابق بجريدة
"لوموند ديبلوماتيك"، إنياسيو راموني، لم يرَ أيضًا مانعًا في إصدارِ
كتابٍ شراكةً مع الإسلامي الفيلسوف السويسري طارق رمضان.
5.
أستاذي الخامس، عالِم الوراثة الملحد، ألبير جاكار، قدّمَ
محاضرةً علميةً بباريس بدعوةٍ من جمعية إسلاميةٍ فرنسيةٍ.
6.
أستاذي السادس، صديقي الماركسي حبيب بن حميدة، فيلسوف
حمام الشط، المفارقة الكُبرى أن هذا المفكر الماركسي هو الذي صالحني فلسفيًّا مع
أهمية دور الدين عمومًا في تاريخ الإنسانية قاطبةً. لماذا مفارقة كُبرى؟ لأن عمومَ الماركسيين غير
الدارسين يردّدون المُسلَّمَةَ (Cliché) التي تُصنّفُ الدين في خانة "البُنَى
الفوقية اللامادية"، بُنَى ستتغيّر أوتوماتيكيًّا حالَما نُغيّرُ "البُنَى
التحتية المادية"، ونسوا أو تناسوا المبدأ الماركسي الأساسي الذي يؤكِّدُ أن "الفوقيةَ
والتحتيةَ"، الاثنتَين، مربوطتانِ بعلاقةٍ جدليةٍ متينةٍ (La dialectique ou
l`interaction).
7.
أستاذي السابع، جريدة شهرية بالفرنسية (5,9d)، اسمها "لوموند
ديبلوماتيك"، مُدمِنٌ على تَصَفِّحِها منذ 45 عامًا، محتواها وتحليلاتها لم
أجدْها في أي جريدةٍ أخرى، محتوى منصِفٌ للعالَم العربي والقضية الفلسطينية.
8. أستاذي الثامن،
لُطفُ ومودةُ جل أصدقائي النهضاويين وخاصة سي عَلِي، مقارنة بغِلظة وفظاظة بعض
أصدقائي اليساريين، في الفيسبوك وجمنة وحمام الشط والملتقيات الثقافية بالعاصمة (مع الإشارة أنني أرسلتُ لهما نص هذا المقال قبل نشره
بسبع ساعات، ولم أتلقَّ من الاثنين أي رد).
ملاحظة ودية، أوجهها إلى
صديقَيَّ طارقْ وعَلِي:
أعتذر منكُما على ذكرِكما في المقال بالاسم دون استشارتكما.
إمضاء مواطن
العالَم
"النقدُ
هدّامٌ أو لا يكونْ"،
"المثقّفُ هو
هدّامُ القناعاتِ والبداهاتِ العموميةِ" فوكو،
و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران.
تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الجمعة 18 جانفي 2019.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire