vendredi 26 avril 2024

ثلاثةُ شروخٍ تشقُّ المجتمعَ التونسيَّ منذ ظهورِ الإسلاميينَ في السبعينيات من القرنِ الماضي ؟

 

 

المقال مستوحَى فكرةً وأسلوبًا من كتاب:

François Burgat, L`islamisme en face, Ed. La Découverte, Paris, 1995.

 

1.    شرخٌ سياسيٌّ يتمثل في حرب التنازع على السلطة بين نظامٍ متشبثٍ بالكرسي (بورڤيبة 31 عام وبن علي 23)، نظامٍ يرفض رؤيةَ وجهِه في المرآة أي لا يعترفُ بأنه فقد قاعدته الشعبية، ومعارضة إسلامية تساندها أغلبية (انتخابات 89) ومن حقها أن تُعامَلَ بشكلٍ أفضلَ.

2.    شرخٌ اجتماعيٌّ-اقتصاديٌّ: القاعدة الاجتماعية للمعارضة اليسارية (الطلبة المهاجرون غير الدستوريين محرومون من منحة دراسية في عهد بورڤيبة، والطلبة المفروزون أمنيًّا في عهد بن علي)، والمعارضة الإسلامية (عشرات الآلاف من السجناء السياسيين والمنفيين والطلبة الإسلاميين المفروزين أمنيًّا أيضًا والعسكريين والأمنيين والموظفين العموميين المفصولين عن العمل)، هذه الشريحة  الاجتماعية المضطهدة لم تأخذ  نصيبها من الثروة الوطنية (نفط، فسفاط، سياحة، أراضي دولية، إلخ.)، ولم تستفد من المصعد الاجتماعي الذي وفّره التعليم العمومي والانفتاح الاقتصادي. كان الإسلاميون وأقاربهم يُمنعون من المشاركة في مناظرات وزارة الداخلية والجيش والقضاء ومَقصِيّين من فضاءات الاتحاد العام التونسي للشغل من قِبل الشريحة اليسارية المسيطِرة على بيروقراطية الاتحاد.

3.    شرخٌ ثقافيٌّ: النخبة السياسية، الماسكة بالسلطة أو المتواجدة في صفوف المعارضة اللائكية (الأحزاب اليسارية والليبرالية)، كانت وما زالت تتطور داخل أطُرِ الثقافة الغربية الفرنكوفونية، وفي نفس الوقت لا تُولِي أهمية كبيرة للثقافة العربية الإسلامية الناطقة بالعربية، لا بل لا تتورّع عن وصفها وعن جهل بأبشع النعوت: ظلامية، رجعية، متخلفة، لاهوتية، قروسطية، فاشيّة، غير علمية، عنصرية جندرية، إلى آخر القائمة التي لا تنتهي.

 


 

السلوك غير المتحضّر المتفشّي في بلادنا: هل هو نِتاجُ عقليتنا "المتخلفة" أمْ نِتاجُ عدم تطبيق القانون ؟

 

سؤالٌ معقدٌ والجواب عليه ليس بالهيّنِ ! سأحاول وأَجرِي على الله، محاولة شخصية انطباعية محدودة، غير معمّقة وغير أكاديمية.

لو سلّمنا جدلاً -كما يعتقد الكثيرون- أن المسألة مسألة عقلية عربية-إسلامية "متخلفة" لا غير، فإنني أرى نفسي عاجزًا على إيجاد أجوبة مقنِعة على  مجموعة من الأسئلة التي تؤرّقني فكريًّا:

-        لماذا تتغير عقلية العامل التونسي المهاجر بمجرّد تغيير مكان إقامته في عطلته السنوية بين فرنسا وتونس مثلاً ؟

العامل التونسي المهاجر يُقيم إحدَى عشرَ شهرًا في فرنسا وهو يحترم قانون الطرقات ويربط حزام الأمان (90 أورو أي 300 دينار لكل راكبٍ مخالفٍ) ويصل إلى مقر عمله في الوقت ويغادره أيضًا في الوقت ويدفع الضرائب كل عام... إلخ. شهرٌ واحدٌ يقضيه في تونس: هل يطبّق عُشر ما يطبّقه في فرنسا ؟

 

-        لماذا تتغير عقلية المستثمر الفرنسي بمجرّد تغيير مكان استثماره، من فرنسا إلى تونس مثلاً ؟

في بلاده فرنسا، بلاد القانون، يحترم قانون الشغل ويُشرّك النقابة الأساسية في تسيير شؤون العمّال ويحترم البيئة ويدفع الضرائب صاغِرًا... إلخ.

في تونس: أول ما يستقر، يحاول المستثمر الفرنسي التخلص من النقابيين القاعديين النزهاء الصادقين، ويحاول شراءَ ذِمَمَ متفقدي الشغل وذِمَمَ بعض الانتهازيين من المسؤولين السياسيين والنقابيين المحليين والجهويين، ويلوّثُ البيئة (خليج ڤابس مثالاً) دون رقيبٍ أو حسيبٍ ويربح من استثماره في تونس خارج القانون أكثر مما كان يربحه في فرنسا في إطار القانون ويدفع أجرًا لعماله التونسيين أقل بكثير ممّا كان يدفعه لعمّاله في فرنسا ويُعفَى من الضرائب في تونس بدعوى نقل التكنولوجيا وهو لم ينقل لنا شيئًا غير الاستغلال الفاحش والأمراض المستعصية (سرطان وأمراض صدرية)... إلخ.

-        المواطن العربي المسلم المقيم في الغرب بعقليته العربية-الإسلامية "المتخلفة"، لماذا نجح في الغرب في المشاركة الفعّالة في إنتاج المعرفة الحديثة وبناء الثقافة والعلم والتكنولوجيا ؟

-        لماذا نهضت ماليزيا وتركيا بعقلية إسلامية "متخلفة" ؟

من أسباب نهضة ماليزيا، أسوق لكم مثالاً واحدًا فقط: مَخاتير محمد، بانِي إقلاعَها، استعان بشركة أجنبية لمدة معينة من أجل تطهير حدود البلاد من التهريب والفساد ثم انطلق على أرضٍ صلبةٍ ولم يتهمه أحدٌ باللاوطنية.

-        لماذا نهضت الهند رغم تعدد الأديان والعقليات ؟

-        هل عقلية المسؤول الغربي أرقَى وأفضلَ من عقلية المسؤول العربي ؟

لو كانت كذلك لَما اغتُصِبت فلسطين وجُوِّع أطفال العراق وقُصِفت ليبيا وسوريا بالقنابل المحرَّمة دوليّا.

 

خاتمة: يبدو لي أن القانون هو نِتاجُ ذكاءٍ جمعيٍّ لذلك وجب تطبيقه حرفيّاً على الجميع ويجب التعويلُ عليه من أجل النهوض ببلداننا العربية عوض تضييع الوقت في جلدِ عقليتنا العربية-الإسلامية "المتخلفة"، جلدٍ ذاتيٍّ دون وجهِ حق، جلدٍ دون جدوى.

من حسن حظنا وحظ البشرية جمعاء أن تركيبة المخ البشري وقدرته المحتملة على الإبداع والابتكار، شيئان لا يختلفان عند الولادة سواء عند المواطن العربي أو المواطن الغربي ومع كل مولودٍ جديدٍ يولَدُ في ربوعِنا أملٌ جديدٌ.


jeudi 25 avril 2024

بطلُ قصتنا القصيرة لا يمكن أن يكون إلا مواطناً تونسيّاً ! مواطن العالَم

 

 

في مقهى الشيحي التعيسة التي لم تعد تعيسة، سمعتُ يوماً شابّاً فقيراً (أبٌ لطفل مريض) يحتجّ على فقدان الدواء في المستشفيات العمومية ثم يسترسل ويقول: "الله يهلك أصحاب الشر الليخدموا في السبيطارات ويسرقوا في دواء الفقراء أما أنا فالله يرحم والدين جاري، عساس في السبيطار (...) دبرلي باكو حرابش".

أظن أن ابنه شُفِيَ والحمد لله والفقرٌ كافرٌ !

 

اليوم فقط عرفتُ لماذا حكومةُ البورجوازيةُ لا تهتم بتنظيف عاصمَتَنَا تونس ؟

 

 

للأغنياء عاصمتهم ولنا عاصمتنا !

عاصمتهم تشمل المرسى الشاطئ وسيدي بوسعيد وقرطاج الرئاسة والبحيرة 1 و2.

عاصمتنا تشمل السوق المركزية وأنهج الجزيرة وبومنديل وجمال عبد الناصر وأسبانيا وبريطانيا وروما والمنجي سليم والبلاد العربي وغيرها.

عاصمتهم دوماً نظيفة فلماذا تريدهم أن ينظفوا عاصمتنا ؟ شارع بورقيبة استثنوه فبارك الله فيهم ويرحم والديهم.


 

دُعَاءُ تاعسٌ صادرٌ عن مواطنٍ يائسٍ بائسٍ !

 

 

اللهم زِدنا فسادًا على فسادٍ، فهو النبتُ الوحيدُ الذي ينمو في بلادِنا دون سِقايةٍ ولا رِعايةٍ.

طموحاتُنا للرذائلِ أكبرُ، زدنا مَثنى وثلاثي ورباعي لعل أمورَنا تتحسنُ !

نطلبُ المزيدَ، اللهم وزِّرْ فُسَّادَنا جميعًا حتى يشبعوا ونَجوعَ !

يا حنّانْ يا منّانْ، اِحْمِ مهرّبينا في بُرْط رادس ومعبر بنڤردانْ حتى يرخص عندنا "البِينْ" والبَنَانْ !

اللهم فَلّسْ قطاعَنا العام بسرعةٍ حتى يبركَ الجملْ بما حملْ. قُطّاع القِطاع الخاص مَلّوا الانتظار !

إعلامُنا ناقصٌ عارْ، اللهم زدهُ عارًا على عارْ ولا تُبقِي فيه صادقًا واحدا إلا وأدخلتَه النارْ !

اللهم زلزلْ الأرضَ تحت أقدامِ شرفائنا ونُزهائنا واقطع نسلَهم من هذه البلاد.

اللهم أكثِرْ من سُرّاقِنا وأرذالِنا، فالفسادُ يُنعِشنا ويُحيِينا، أما الشرفُ فقد أصبح عيبًا في بلادِنا وأصبحت النزاهةُ عندنا عاهةً !

اللهم انزعْ الصدقَ من قلوبِنا، وازرَعْ الكذبَ مكانه، فالصادقُ فينا منبوذٌ مكروهْ والكذّاب فينا محبوبٌ حتى ولو كان ساقِطًا معطوبْ !

اللهم اغفِرْ لنا حسناتَنا لأنها ضارةٌ بمجتمعاتِنا، وزيّنْ لنا سيئاتَنا فهي التي تُسهّلُ لنا قضاءَ حاجاتِنا !

يا سميعُ يا عليمُ، قِنا عذابَ الجنةِ ومَتِّعْنا بِالخلودِ في النارِ، فالأولى لم نسعَ إليها ولا نستحقها، والثانية دارُنا التي نستحق. لم نعمل من أجل الأولى مثقال ذرّة وعملنا من أجل الثانية وزنَ الجبال في حياتِنا وبإرادتِنا وسواعدِنا ولم يُجبِرْنا على فعلِ ذلك أحدْ !



الخلاصة:

« Malheureusement, ce sont les vrai-vices privés qui nous font miroiter la pseudo-vertu publique ».


 

أطالبُ بإنشاء مخابر للتفكير في تونس ؟

 

 

Description :

Un think tank, groupe de réflexion ou laboratoire d'idées est un regroupement d'experts  au sein d'une structure de droit privé, indépendante de l'État ou de toute autre puissance, et en principe à but non lucratif. Wikipédia

Moi,  Citoyen du Monde, je préfère un regroupement de penseurs libres de toutes les obédiences, je ne vote pas pour les experts.

 

مؤسسةُ تفكير تُعنَى بتقييم سياسة البلاد. مؤسسةٌ مستقلةٌ تمامًا عن الحكومة ووزاراتها وإداراتها وعن جميع الأحزاب والجمعيات. مؤسسةٌ تكتفي بالتفكيرِ فقط مثلما تفعل الإبستمولوجيا في العلوم، تراقبُ الإنجازَ عن بُعدٍ لا غير. مؤسسةٌ تقول للمخطئ أخطأتَ، أما المصيبُ فنجاحه يُغنِيه عن الشكرِ. مؤسسةٌ على شكل الهيئات الدستورية لكن لا يعيّنُ البرلمانُ أعضاءَها. مؤسسةٌ نثقُ فيها وتُنيرُ لنا الطريقَ.

 

كيف سنختارُ أعضاءَها ؟

لا يعيّنهم الحاكم (رئيس الدولة أو رئيس الحكومة أو البرلمان)، لا يُزَكّونَ أنفسَهم بل يعبّرون عن استعدادهم ويتطوّعون ويؤدِّون القَسَمِ على خدمة الوطن ولا شيء غير الوطن،  والشعبُ بأكمله هو الذي يزكّيهم عن طريق استفتاء.

 

أنا أقترحُ بعض الأسماء و"كل إناءٍ بما فيه يرشحُ". أنا مواطن تونسي أستاذ متقاعد، فقير راضٍ بقَدَرِيِ حلوه ومرّه، فرنكوفوني الدراسة والثقافة، مسلم مسالم غير متعصب لديني، عَلماني دارويني، يساري غير ماركسي غاندي الهوى، أممي السريرة متصالح مع هوية شعبي الأمازيغية-العربية-الإسلامية بعد طول اغترابٍ وانبِتاتٍ.

أقولها بصدقٍ لا بتواضعٍ تجميليٍّ سخيفٍ، وأنا أعلمُ بِنفسِي أكثرَ من أيِّ أحدٍ، أقول: "أنا لستُ من بين المؤهّلين للترشّحِ ولستُ أنا مَن يزكّي المترشحين بل الشعبُ وحده هو الذي ينفرد بهذه المهمة النبيلة. هو مجرّد اقتراحٍ لا أكثر ولا أقل فلا تُحمّلوه ما لا يتحمّلُ، أرجوكم كفاني مناكفات عقيمة ! اقتراحٌ صادرٌ عن مواطنٍ تونسي حرٍّ من بين ملايين التونسيين الأحرار".

 

أقترحُ ترشيحَ الشخصيات التي أعرفها مع الإشارة إلى أن دائرةَ معارفي دائرةٌ ضيقةٌ جدًّا: نزيهة رجيبة (أم زياد)، محمد الشريف الفرجاني، محمد حدّاد، عبد المجيد الشرفي، آمال ڤرامي، عياض بن عاشور، جوهر بن مبارك، ألفة يوسف، عبد الحميد الجلاصي، حمادي جابلله، حبيب بن حميدة فيلسوف حمام الشط، مصطفى العلوي، حمدي بشير حمدي، رضا بركاتي، محمد ضيفلله، عبد اللطيف الحناشي، الأمين بوعزيزي، ليلى بالحاج عمر، محمد المسلمي وسامي الطاهري ومحمد علي بوغديري بعد خروجهم من الاتحاد، محمد جمل، رياض خياري، منى نور الدين، لمين النهدي، آدم فتحي، لطفي بوشناق (لا أحب أغانيه لكنني أراه شخصًا يستحق الاحترام كفنان)، فاضل موسى، نضال السالمي،  فيصل حبيب، فيصل العش، النفطي حولة، من جمنة (بكار عزوز، حسين عزوز، عليه بن عبد السلام، طاهر الطاهري، محمد حداد، علي حمزة، توفيق بن خليفة)، عبد العزيز الكردي، لطفي بكوش، كل زملائي الديداكتيين وعلى رأسهم بلـﭬاسم عمامي، ، إلخ.

 

والقائمة مفتوحة لأصحاب الإيديولوجيات المختلفة عن إيديولوجيتي (ماركسيين، نهضاويين، سلفيين غير جهاديين، قوميين، ليبراليين، دساترة، إلخ). خَطَرَت ببالي الأسماءَ التاليةَ من بين المختلفين عني إيديولوجيًّا: سامي براهم، أبويعرب المرزوقي، صلاح الدين الجورشي، سالم لبيض، منصف المرزوقي، لطفي زيتون، عبد الفتاح مورو، سمير ديلو، حبيب بوعجيلة، رضا بالحاج، عبد اللطيف العلوي، إلخ.

 

خاتمة: لاتُؤْذُونَنِي، الله لا يُؤذيكم، لا أقبلُ الإساءةَ، لا صراحةً ولا تلميحًا، ولا تُؤذوا أيضًا مَن اقترحتُ أسماءَهم أعلاه لأنني أحترمهم جدًّا جدًّا، على الأقل لا تفعلوها على صفحتي، ومَن سيفعلها سوف أحذف إساءَته مباشرةً وأحذفه هو نهائيًّا من صفحتي.

 

إمضاء مواطن العالَم

"أنا عند الإسلاميين شيوعي وعند الشيوعيين إسلامي ! لأن المفكر الحر يستحيل تصنيفه.." (المفكر الإيراني الإسلامي الحر علي شريعتي، صديق الفيلسوف الفرنسي اليساري الملحد جان بول سارتر).

"النقدُ هدّامٌ أو لا يكونْ" (محمد كشكار).

"المثقّفُ هو هدّامُ القناعاتِ والبداهاتِ العموميةِ" (ميشال فوكو).

 و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إذنْ إلى فجرٍ آخَرَ" (جبران).

لا أقصدُ فرضَ رأيِي عليكم بالأمثلةِ والبراهينَ بل أدعوكم بكل تواضعٍ إلى تجريب مقاربةٍ أخرى، وعلى كل مقالٍ سيءٍ نردُّ بِمقالٍ جيّدٍ، لا بالعنفِ اللفظيِّ.

أنا اليومَ لا أرى خلاصًا للبشريةِ في الأنظمةِ القوميةِ ولا اليساريةِ ولا الليبراليةِ ولا الإسلاميةِ، أراهُ فقط في الاستقامةِ الأخلاقيةِ على المستوى الفردِيِّ وكُنْ كما شِئتَ (La spiritualité laïque ou religieuse à l`échelle individuelle).

 

 

 


 

mardi 23 avril 2024

قبل أن ننقد الدولة على ما لم تفعله، علينا أولا أن ننقد أنفسنا على ما في وسعنا أن نفعله ولم نفعله !

 

 

السلطة الكبيرة والسلطة الصغيرة (Le macro-pouvoir & Le micro-pouvoir)

 

أبدأ بتحديد المفهومَين أعلاه باختصار واختزال شديدين خوفاً من الوقوع في الخطأ الذي قد يجرني إليه تواضع اطلاعي:

أقصد بـ"السلطة الكبيرة"، سلطة الرئيس ومستشاريه والحكومة ووزرائها والبرلمان ونوابه والدولة وجميع كبار مسؤوليها من رئيس المركز ورئيس البلدية إلى الوالي والمندوبين وغيرهم من القائمين على تنفيذ سياسة الدولة حتى لو كانت سياستها ضد قناعاتهم الشخصية أو الإيديولوجية، إلخ.
أقصد بـ"السلطة الصغيرة"، سلطة المدرس في المدرسة والموظف في الإدارة والشرطي في المركز أو في الطريق العام والميكانيكي في الورشة والطبيب في المستشفى أو في العيادة الخاصة والتاجر في المغازة والعامل في المصنع أو في الحقل أو في مقاولة بناء، إلخ.

ملاحظة منهجية: التركيز في هذا المقال على نقد "السلطة الصغيرة" لا يعني البتة إغفال أو إهمال نقد "السلطة الكبيرة" فالاثنتان تربطهما علاقة جدلية ولكن لكل مقام مقال.

 

أوحَى إليّ بهذا المقال ما سمعته اليوم في مقهى الشيحي من أستاذ جامعي، قال: "على الدولة أن تغلق نهائياً جل المعاهد العليا التي توجد داخل الجمهورية وخارج العاصمة. لقد سبق لي ودرّستُ في واحد منها وشعرتُ بأن الإدارة والطلبة لا يتركوننا نتعمق في اختصاصنا ويجرّوننا جرّا إلى تضخيم الأعداد (gonflement des notes) حتى يحققوا أعلى نسبة نجاح، على عكس ما يقع في كلية العلوم بالعاصمة التي درّستُ فيها أيضاً".

تعليقي الذي لم أقله للأستاذ (يئست من زملائي لأن جل مَن خاطبتُ منهم لا يقبل النقد الذاتي): "لو درّستَ يا أستاذ في هذه المعاهد العليا بنفس الجدية التي درّستَ بها في كلية العلوم لَما أصبح التعليم العالي في الداخل على ما هو عليه اليوم من تسيّب يتحمل مسؤوليته الأستاذ قبل الطالب. أنا درّستُ 38 عاماً في الثانوي في تونس والجزائر ولم يفرض عليّ أحدٌ يوماً كيفية إسناد الأعداد أو كيفية التدريس. فكيف يُفرَض عليكم تضخيم الأعداد في الجامعة يا أستاذ ؟ أنا أعرف أن الأستاذ الجامعي هو "بَايْ زمانه" ويحكم بأحكامه لذلك أرجوك، فقبل أن تنقد وزارة التعليم العالي على التسيب الذي قد تكون ساهمت فيه في المعاهد العليا الداخلية بصورة غير مباشرة، عليك أولا أن تنقد نفسك على ما تسببتَ أنت فيه وبصورة مباشرة من عدم تعمق في اختصاصك ومن تضخيم إرادي ومقصود في الأعداد لم يجبرك عليه أحدٌ".

 

كل فئة قطاعية تتهم غيرها بالفساد وترى في نفسها الفرقة الوحيدة الناجية:

-  المدرّسون يحمّلون مسؤولية تردّي التعليم في تونس للوزارة والإدارة والميزانية والبنية التحتية والبنية الفوقية والأولياء والرأسمالية والليبرالية والإمبريالية، لكنهم عادة ما يستثنون أنفسهم. أنا لا أنكر أن كل هذه العناصر لها ضلع في ما وصلنا إليه اليوم من تخلف علمي لكن كلها تُعدُّ خارج عن نطاق نفوذ الأستاذ. ماذا يفعل المدرس إذن في مثل هذه الحالة ؟ حسب رأيي، يبدأ بإصلاح نفسه ولا ينتظر إصلاح المنظومة الرسمس وكذلك يفعل المواطن الواعي الناقد أو يستحي ويصمت، طبيبًا كان المتحدث أو تاجرًا أو مهندسًا أو ممرضًا أو موظفًا أوفلاحًا أو عاملاً ǃ

-  هل سمعتم يوماً بمؤتمرٍ نظمه التلامذة وأولياؤهم، ووجهوا خلاله النقدَ للمدرسين والقيمين والإداريين ؟

-  هل سمعتم يوماً بمؤتمرٍ نظمه المرضى وأولياؤهم، ووجهوا خلاله النقدَ للأطباء والممرضين وإداريي المستشفى ؟

-  هل سمعتم يوماً بمؤتمرٍ نظمه اليساريون المستقلون، ووجهوا خلاله النقدَ لأحزاب اليسار ؟

-  هل سمعتم يوماً بمؤتمرٍ نظمه الإسلاميون المستقلون، ووجهوا خلاله النقدَ للأحزاب الإسلامية ؟

-  هل سمعتم يوماً بمؤتمرٍ نظمه الليبراليون المستقلون، ووجهوا خلاله النقدَ للأحزاب الليبرالية ؟

-  هل سمعتم يوماً بمؤتمرٍ نظمه المسلمون المفكرون، ووجهوا خلاله النقدَ لبعض مظاهر التدين الشائع والسائد منذ 14 قرناً ؟

-  هل سمعتم يوماً بمؤتمرٍ نظمه الشيوعيون المفكرون، ووجهوا خلاله النقدَ لبعض تجارب الماركسية في القرن العشرين ؟

-  هل سمعتم يوماً بمؤتمرٍ نظمه النقابيون المفكرون، ووجهوا خلاله النقدَ للنظام الداخلي للاتحاد العام التونسي للشغل ؟

 - قتلنا التعصب الأعمى للوطن والإيديولوجيا والقطاعية السخيفة (Le  corporatisme) ؟

-  هل سمعتم يوماً صاحب مهنة ينقد في وسائل الإعلام أداءه أو أداء زملائه أو منتمياً لحزبٍ ينقد حزبه أو إيديولوجيته ؟

 

أنا من جانبي فعلتُها بما تيسر لي من معرفة، نقدتُ علنا سيرتي المهنية والنقابية والفكرية وكثيرا من المثقفين التونسيين فعلوها قبلي وأحسن مني.

 

ماركس نفسه وَعَدَ بممارسة النقد الذاتي عند كتابة "البيان الشيوعي" ويبدو لي أنه لو قام اليوم لأنكر على الماركسيين الأرتدوكسيين أرتودكسيتهم التي تقول أن رأيهم هو الصراط الوحيد المستقيم.

كان محمد صلى الله عليه وسلم مجددا ويبدو لي أنه لو قام اليوم لأنكر على المسلمين السلفيين سلفيتهم الشكلية.

سارتر تمنى وتنبأ بانقراض مهنته كمثقف يفكر للآخرين.

فوق وقبل هؤلاء جميعا بـ14 قرن، فعلها القرآن الكريم ونقل لنا حرفيا حجج الشيطان في عصيان أوامر ربه ونقل لنا أيضًا حجج غير المصدقين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

بعد حفظ مقام القرآن الكريم، تصور اليوم مثلا جريدة "الضمير" لحزب حركة النهضة تخصص صفحة حرة لنقاد الحركات الإسلامية أو جريدة "صوت الشعب" لحزب العمال تخصص صفحة حرة لنقاد الأحزاب الشيوعية أو جريدة حزب حركة الشعب تخصص صفحة حرة لنقاد عبد الناصر وصدامǃ  ما أحوجنا لمثل هذا في زماننا هذا ǃ