dimanche 31 janvier 2021

جمنة الخمسينيات تعطي درسا في التنمية المستدامة: النظام الغذائي البيولوجي الجمني نموذجا. مواطن العالم، أصيل جمنة ولادة وتربية

 


المصدر: كتابي "جمنة وفخ العولمة"، طبعة حرة، 2016، 224 صفحة (ص.ص. 28-31).

ملاحظة: كتابٌ ألّفته تطوعًا لفائدة "جمعية حماية واحات جمنة" وهي التي دفعت مصارف الطباعة (3400 د). صدر في ألف نسخة: 900 نسخة أخذتْها الجمعية دون مقابل وَوَزّعتْها مجاناً على مساندي قضية جمنة في كامل أنحاء الجمهورية، و100 نسخة أخذتُها أنا وَوَزّعتُها بمعرفتي.

النص:

في الخمسينيات وفي قريتنا، لا يوجد جزّار ولا بائع خضر ولا دكان مرطبات ولا طبيب ولا صيدلية ولا مركز حرس ولا بلدية ولا مغازات لبيع الآلات الكهربائية المنزلية. في قريتنا بشرٌ وفراشات وقطط وماعز وأزهار ونخل وزيتون ورمان وهواء نقي وشمس ساطعة وعمدة اسمه الشيخ ابراهيم، مهمة هذا الأخير تتمثل في  التوفيق بين الناس وسَتر عوراتهم والذَود عن أعراضهم، وليس الوشاية بهم لدى السلطة البعيدة في مركز معتمدية ﭬبلي (15كلم). في قريتنا بيوت آمنة مفتوحة على الدوام وقلوب صافية لا تعرف العنصرية ولا التكبر، ترحّب بالجار والضيف والبعيد والقريب.

نساؤنا نساء ورجالنا رجال، يعمل الاثنان جنبا إلى جنب في الحقل والبيت دون تفرقة في الجنس والحقوق والواجبات. يكفل الجار أيتام جاره، وقد يعوّض أباهم في الحنان والمسؤولية، والجارة تضاهي الأم في الرقة والحب مع أولاد وبنات جارتها. أطفالنا يحترمون الكبير وشيوخنا يربّون الصغير. بلادنا يا ناس من أجمل وأروع البلدان. كلمة جزار كلمة مكروهة في الأخلاقيات البيولوجية وكلمة حرس مكروهة في الأخلاقيات الريفية لاقتران الأولى بذبح الحيوانات والثانية بالسلطة المفروضة من الخارج. كل عائلة جمنية تُنتج تقريبا كل حاجتها الغذائية أو تأخذها من الجار، إعارة أو هِبة. لا نربّي خرفانا ولا أبقارا لأنها تأكل كثيرا وتشرب كثيرا )إنتاج كيلو لحم بقر يحتاج تقريبا إلى عشرة آلاف لتر من الماء وفي الصحراء يعز الماء ويندر الكلأ). نربّي ماعزا ودجاجا يرعى في حرية من الصباح إلى المساء ويُغذي نفسه بنفسه تقريبا مثل النباتات الخضراء. لا توجد حنفيات في منازلنا، فلا نُبذّر الماء ولا نستهلك منه إلا القليل الضروري. يعتمد نظامنا الغذائي على النباتات فنحن تقريبا نباتيون، لا نذبح العنزة إلا في عيد الأضحى للضرورة الدينية أو عندما تكون مريضة.

         نشرب حليب العنزة، و نأكل بَيض الدجاجة، ونستعمل فضلاتهم سمادا عضوياّ فلماذا نذبحهم يا ترى؟ لا نعتدي على حيواناتنا الأليفة بالعنف وإلا لماذا نسميها أليفة ؟ أليفة لأنها ألِفت من غدرنا وجشعنا ونَهَمِنا. نأكل الفرع ونحافظ على الأصل. لا نستهلك السكر الأبيض والحليب الأبيض إلا في الشاي. لا يبيع دكان العطار عندنا أي نوع من أنواع  الياغورط أو الشكلاطة أو البسكويت أو الجبن، أراحنا الله من الأغذية المصنّعة والملوّنة والمسرطنة. وِجبتنا بسيطة جدا وبيولوجية مائة بالمائة لأننا لا نستعمل في إنتاج مكوناتها سمادا كيميائيا ولا مبيدات أعشاب ولا مبيدات حشرات. نكتفي بما تنتجه الطبيعة ونقنع بالقليل لسد الرمق. لا نصنع حلويات في عيد الفطر لاقتناعنا التقليدي غير الواعي أنها ليست غذاءًا بل سُموما عسيرة الهضم تنهك "البنكرياس" والقلب والشرايين. نزرع الحبوب في السهول فيسقيها مفرّج الكروب، نحصدها بالسواعد والمناجل، نفصل حبات القمح عن سنابلها بطريقة تقليدية يدوية ونطحنها بِرَحَى  حجرية يدوية، ونغربلها ونصنفها برغلا وكسكسا وخبزا. مطبخنا فقيرٌ  لكنه صحّي جدا، لم نكن نستهلك لا مَرَق لوبيا ولا مرق جلبّان ولا مرق ملوخية ولا بطاطا مقلية ولا "طاجين" ولا أرز بالفواكه ولا سمك، لا مقلي ولا مشوي. وجبتنا مغذية لكنها ليست لذيذة مثل أطعمة المدينة.

اللذة في الطعام يا سادتي يا كرام تصحبها عادة الأمراض: خذ مثلا الأكل المقلي أو الدسم، يُعَدّ من أشهى الأطعمة لكنه يدمِّر القلب والشرايين، و قد تنخر أطباق الحلويات المتنوعة الأسنان وترهق "البنكرياس" وتمهّد لمرض السكر، أمّا المصبّرات المملّحة فقد ترفع  مؤشر ضغط الدم. نطبخ ونأكل في أوانٍ مصنّعة يدويا من الطين وخالية من النحاس والألومونيوم المسرطنَين . نغسل هذه الأواني بالطين الأخضر أو بالصابون الأخضر الطبيعي. لا نستهلك من الطاقة إلا القليل مما يطرحه نبات النخيل من خشب وجريد جاف. النخلة وما أدراك ما النخلة في تراثنا وفي وجداننا، مصدر رزقنا وسعادتنا، نسقيها ونمدها بالسماد العضوي فقط. لا نغشها ولا نسمّمها بالكيميائيات. نربيها سنوات بحب وحنان حتى تثمر على مهلها "رطبا جنيا"، نأكل منه القليل ونبيع الكثير وما بقي نخزنه في أوعية خزفية لنستل روحه في لطف وأدب على مدى الفصول الثلاثة الباقية. لا تمثل المعزة في غذائنا الشيء الكثير ومع ذلك نكرمها ونرحب بها تسكن معنا في نفس المنزل ونعاملها دون مبالغة كفرد من أفراد العائلة. كانت أمي تستيقظ في أنصاف الليالي عند صياح معزتها لتراقبها وتقدم لها الماء والغذاء. كان الغائب منا يسأل في رسائله عن العائلة وعن المعزات. عندما تلِد المعزة، نحتفل بولادتها ونقدم لها أكبر الرعاية ولا نسرق حليبها الأول المتدفق الغني بالمضادّات الحيوية بل نتركه لابنها. ابنها الجدي أو ابنتها العناﭬ، يعني الذكر أو الأنثى، الذي أو التي يملأ أو تملأ ساحة البيت فرحا وبهجة بقفزاته أو قفزاتها الرشيقة وهذه الصورة الرقيقة ما زالت عالقة بمخيلتي بعد خمسين سنة وكلما تذكرتها غمرتني سعادة منعِشة.

         في الثمانينات، جاءنا المحتل متنكرا في زي التمدن والتحضر  فأهلك الحرث والزرع، أصبحت بيوتنا من حجر أصم مثل قلوبنا. جاءنا الحرس الوطني فأصبح الأخ يشتكي أخاه، والجارُ جارَه، لأتفه الأسباب، فانقرض التسامح وسادت الوشاية. أغلقْنا بيوتنا بالمفاتيح فكَثُرَ السرّاق. تخلى الكبير عن مسؤولياته التربوية فلم يعد يحترمه الصغير. تفشت فينا العنصرية والقبلية وتهافتْنا على السلطة الزائفة.

في التسعينات، جاءنا الخير الكبير والنخل الكثير والفضائيات العشوائية وأصبح لنا مليونيرات وسيارات "ديماكس". أتمنى من كل قلبي أن لا يقتصر الغِنى على الجيوب فقط ويشمل هذا الخير القلوب والنفوس أيضا فنتمسك أكثر بعاداتنا التقليدية الجيدة ولا نأخذ من غول الحضارة إلا ما يفيدنا في نهضتنا ومأكلنا وتربيتنا وثقافتنا.

الهوامش:

v    جمنة: قرية جميلة في الجنوب الغربي التونسي على أبواب الصحراء الرملية.

v    ديماكس: نوع من السيارات اليابانية المستعملة في النقل الفلاحي والتجاري والصناعي.

v    طاجين: أكلة تونسية دسمة جدا وهي خليط  متماسك من البيض والجبن واللحم.

v    البنكرياس: غدة في الجسم تنتج الأنسولين وهو هرمون ينقل السكر إلى الخلايا لحرقه فتخفض نسبته في الدم إلى 1 غرام جليكوز في اللتر الواحد عند كل صباح.

 

samedi 30 janvier 2021

جمنة الخمسينيات تعطي درسا في الطب النفسي الحديث: "الساسي بِنِحْمِدْ". مواطن العالم، أصيل جمنة ولادة وتربية

 


 

المصدر: كتابي "جمنة وفخ العولمة"، طبعة حرة، 2016، 224 صفحة (ص.ص. 24-27).

ملاحظة: كتابٌ ألّفته تطوعًا لفائدة "جمعية حماية واحات جمنة" وهي التي دفعت مصارف الطباعة (3400 د). صدر في ألف نسخة: 900 نسخة أخذتْها الجمعية دون مقابل وَوَزّعتْها مجاناً على مساندي قضية جمنة في كامل أنحاء الجمهورية، و100 نسخة أخذتُها أنا وَوَزّعتُها بمعرفتي.

النص:

قرية جمنة سبقتْ دولة إيطاليا في احتضان "مُخْتَلِّيها العقليين" وتركتهم أحرارا خارج أسوار المستشفات النفسية (مثل مستشفى الرازي بتونس) وكذلك فعلت كل قرى الريف التونسي.

حَدَثَ في إيطاليا سنة 1970:    أغلِق المستشفى النفسي في ترياست (Trieste) في أوائل السبعينات من قِبل الدكتور فرانكو بازاڤليا (Franco Basaglia, 1924-1980) أين كان يقيم 1200 "مجنون"، ولم تنقرض المستشفات النفسية في إيطاليا إلا في أواسط التسعينات . ولِد بازاڤليا بطل الطب النفسي البديل بمدينة البندقية (Venise)، وجرّب الإقامة كـ"مريض" في هذه المستشفيات طيلة شهور بسبب قربه من مجموعة تناضل ضد الفاشية. تأثّرَ بـنقد ميشال فوكو وفرانز فانون للمؤسسات الاستعمارية. كانت المستشفات النفسية الإيطالية بعد الحرب العالمية الثانية تأوي أكثر من 100 ألف شخص.

 

حَدَثَ في جمنة الخمسينيات: مَن هو "الساسي بن أحمد" ؟ هو مواطن عادي يقطن قرية "جمنة"  بالجنوب الغربي التونسي وهو فنّان بالمعنى الحَرفي  للكلمة. تربّع على عرش الشهرة في قريتنا بلا منافس على مدى نصف قرن. يعشقه كل السكان، الصغار قبل الكبار. اتّحَدَتْ في حبه كل "العروش" (القبائل) وكل الأحياء السكنية من "الحمادة" إلى "الصور". كان يقوم بمفرده بما تقوم به بلدية جمنة الحالية بجيشها البيروقراطي وآلياتها المتواضعة. شخصٌ يساوي بمؤهلاته مؤسسة البلدية أو يفوقها في بعض المهمات لكنه لا يكلف المواطن سوى بعض القطع النقدية الزهيدة، يتبرع بها بعض سكان البلدة في بعض المناسبات. كان يفوق العمدة ورئيس البلدية في التعرف على جميع متساكني القرية، اسما ولقبا، شابا وكهلا. يتعرف عليهم بسرعة ولا تعيقه العتمة في تسميتهم. يُغَنِّي  بإتقان فريد الأطرش وعبد الوهاب وأسمهان وغيرهم. لا تفارق ثغره البسمة والضحكة المجلجلة في بعض الأحيان. مُعْدِي في سعادته. قمحي البشرة، جميل المحيَّ، ممشوق القوام، رياضي العضلات، خفيف اللباس صيفا شتاء. ينطق حِكما، لا يشتم ولا يسب ولا يظلم أبدا. لا يبيع ولا يشتري. مؤنِسٌ في صمته وفي هذيانه. أظن أنه لا يصلي. إيمانه سِرٌّ بينه وبين خالقه يعاقبه إن شاء أو يسامحه كما يتمنى كل جمني. يشتغل ليلا نهارا في تنظيف الطرقات والساحات.

من لا يعرف "الساسي" يظن أنني أبالغ في مدحه ومن عرفه وعاشره يتهمني بأنني مُقَصِّرٌ في حقه.

مَن سمع سِيرتَه ولم يَرَ أعمالَه، مِن حقه أن يتساءل ويقول: "مِن أي جامعة غربية تخرّج هذا المواطن المهذب والفنان يا ترى ؟ مَن عساه يكون ؟ عُمدة البلدة أو مدير المعهد أو عَيْنٌ من أعيان البلاد أو مُصلِح اجتماعي أو فلاح كبير".

إذا أخذنا بتعريفات العلوم الغربية الحديثة نستطيع أن نصنّف "الساسي بن احمد" كمختل عقليا. وإذا طبقنا نصائح الأطباء النفسانيين الأفاضل فسوف نعزله في مصحة الأمراض النفسية. هو "مهبول" أو "درويش" القرية بالمعنى الدارج للكلمة لكنه أيضا حكيم القرية: يروي الساسي حكاية طريفة مثل حكايات سليمان العليم بلغة الحيوان ويقول: "هاجم قِطٌّ يوما قطتي. دافعتْ عن نفسها بشراسة وكبرياء. وبين الجولة والجولة كانت تلتفت لي وتقول: "اعْجِبتكشِي يا خالْ". ويُروى عنه أنه ذات يوم رمَوه الصغار بحجر. تعرّف على أحدهم. وفي الغد قصد حوش أهله، توقف أمام الباب ثم نادى بأعلى صوته. خرج الجدّ مستفسرا. صفعه الساسي وقال له: "اضْرِبْ الكِبيرْ يِستِحِي الصْغير"، حكمة يتداولها الجمنين إلى يوم الناس هذا.

نحن أولاد بلده "جمنة" لم نصنّفه كمختل أو معتوه ولم نحاكمه ولم نحكم لصالحه ولا ضده ولم نعزله في أي مكان بل رحبنا به يعيش حرا طليقا بيننا. نكنّ له كل الاحترام  والمحبة والمعاملة بالمثل مثله مثل أي مواطن "جمني".

لو دخل مصحة نفسية لَسَمَّمَ الأطباء جسمه بالمهدئات ولَجعلوا منه جسمًا بلا روح، جسمٌ ينتظر الموت. نحن "الجمنين" أعطيناه أهلاً وأملاً. تحمل تطوُّعًا مسؤولية نظافة قريتنا. ملأْنا حياته حيوية ونشاطا فغمرنا هو بمزاياه ونظّف شوارعنا وجامعنا الوحيد. أسعدنا بإشعاعه وأعجبنا كبرياؤه. عاش ومات بيننا كالسمكة في الماء فأقمنا له جنازة لا تضاهيها جنازة في المهابة والحزن والحضور.

هذه سلوكاتنا وهذه تقاليدنا الوطنية الصادقة، لم نقرأها في كتاب ولم نستوردها من اليابان ولا من الغرب بل على العكس ندعوهم هم للتعلم من ثقافتنا والنهل من قِيمِنا الإنسانية. أخيرا تفطن علماؤهم النفسانيون لانعدام الفائدة الصحية من عزل المختلين عقليا في مصحة نفسية وشرعوا في إطلاق سراح جميع المعتقلين فيها مثل ما فعلنا نحن قبلهم مع "الساسي".

وددتُ لو قام باحثونا وعلماؤنا بدراسة وتعميق ثقافتنا الوطنية عِوض تقليد الغرب وإعادة إنتاج ما أبدعه بصورة مشوهة. لو فعلوها لأعطوا دروسا في الطب النفسي الحديث ولَفازوا بجائزة نوبل للطب النفسي.

تَعُجُّ رفوف مكتباتنا الجامعية بأطروحات في كل الميادين من علوم صحيحة إلى علوم إنسانية لكن لا يقرؤها أحد، والناس مُحقّون في عدم الاطلاع عليها. كلها للأسف نسخٌ باهتة لإبداعات علماء الغرب المنتجين للعلم والمعرفة.

لو أن أحدَ علمائنا قام ببحث حول "الساسي بن احمد" والبيئة الاجتماعية-الصحية التي عاش فيها لأنتج نظرية جديدة في العلاج النفسي ولَأسَّسَ علما قد يُدرّس في أرقى الجامعات الأمريكية ولَهاجَر علماؤهم وقدِموا إلى "جمنة" وأقاموا فيها مؤتمرات علمية، وقديمًا قِيل "يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر".

 

vendredi 29 janvier 2021

جمنة الخمسينيات تعطي درسا في التربية الحديثة. مواطن العالم، أصيل جمنة ولادة وتربية

 


المصدر: كتابي "جمنة وفخ العولمة"، طبعة حرة، 2016 (ص.ص. 17-23).

ملاحظة: كتابٌ ألّفته تطوعًا لفائدة "جمعية حماية واحات جمنة" وهي التي دفعت مصارف الطباعة (3400 د). صدر في ألف نسخة: 900 نسخة أخذتْها الجمعية دون مقابل وَوَزّعتْها مجاناً على مساندي قضية جمنة في كامل أنحاء الجمهورية، و100 نسخة أخذتُها أنا وَوَزّعتُها بمعرفتي.

 

لماذا نركِّز في تعليمنا على تنمية الذكاء الذهني فقط (رياضيات، آداب، هندسة، تاريخ، إلخ.) ونُهمل أنواع الذكاء الأخرى المرتبطة بباقي أعضاء الجسم (الحِرف اليدوية، الرسم، الرقص، الموسيقى، الفلاحة، التمريض، المسرح، الطبخ، التعلم من اللعب بكل حرية مع الأقران، إلخ.) وكأن ”الجسم لا يعدو أن يكون إلا مجرد وسيلة نقلٍ للمخ“.

في قرية جمنة تحديدا، علمتني بيئة الخمسينيات ما يلي:

-         تعلّمتُ نطق اللغة العربية الفصحى عن طريق حفظ جزء "عَمَّ" من القرآن الكريم في الكُتّاب الوحيد بالقرية.

-         تعلّمتُ عن طريق اللعب مع الأقران دون رقيب كهل. كنا نصنع لعبنا بأنفسنا. كنا نُمسرِح عاداتنا في عاشوراء (جمل عاشوراء). كنا نسهر ليلا وننصت لرواة حكايات التراث الخيالية، كنا نصدّقها وكانت تستهوينا. كنا ننوّع وسائل لهونا حسب الفصول (خُوطَة، غُمِّيضَة، بِيسْ، مَشَّاية عند نزول المطر، دِرْڤِيلة، كَرُّوسة، بالُّون ابرِيزُونييه، إلخ.).

-         تعلّمتُ فلاحة الأرض وأنا تلميذ في سن 14، قلبت الأرض وسقيت وزرعت وتسلقت النخيل  وقطعـت العراجين وجنيت التمور.

-         تعلّمتُ تربية الماعز من تشييع وحلب وتغذية.

-         تعلّمتُ الرقص دون خجل على نغمات الحضرة العيساوية.

-         تعلّمتُ صيد العصافير بواسطة مصيَدة من صنع أناملنا الصغيرة (أعترف أنني لم أكن بارعا في هذا المجال المعادي لحرية الحيوانات البرية).

-         تعلّمتُ الاعتماد على النفس وفي عمر 12 سنة سافرتُ إلى ڤابس للدراسة دون مرافقة الولي.

-         تعلّمتُ وتحمّلتُ مشقّة العمل اليدوي وعملتُ 12 ساعة "مرمّة" في اليوم وأنا تلميذ في سن 14 تحت شمس الجنوب التونسي الحارقة في عطلة الصيف.

-         تعلّمتُ التكفل بمصاريف عائلتي أثناء العطل المدرسية وأنا في سن 14 ولم أركن إلى الراحة واللهو مثل أترابي.

وفي المقابل ماذا تعلم بيئة اليوم في مدن وقرى تونس:

-         تُعلِّمُ الذهاب يوميا إلى الروضة أو المدرسة أو إلى حصص المراجعة الخاصة حيث يُستهان بالذكاء التجريبي والجسماني وتُقمع المبادرة الفردية ويُركّز على الذكاء الذهني وكأن لا وجود لذكاء غيره. لا يتعلم أطفالنا الأعمال اليدوية ولا الرقص ولا النحت ولا الرسم ولا المسرح ولا الموسيقى ولا الطبخ ولا الخياطة، باختصار لا توجد حياة طبيعية حرة في الروضة ولا في المدرسة.

-         تُعلِّمُ الكسل البدني: لا تسلية في الدار سوى تسلية المخ بالألعاب الافتراضية أما الجسم فلا عمل له سوى نقل سيده المخ من البيت إلى المدرسة أو في بعض الأحيان إلى مدينة ألعاب جامدة رغم حركتها الأوتوماتيكية المبرمجة سلفا لك ولغيرك.

يقول "بياجي"، عالِم معرفة نمو الطفل السويسري (Épistémologie génétique de l’enfant suisse)، في مقاربته "البنائية" (Le constructivisme) في اكتساب المعرفة لدى الطفل، أن الطفل يتملك المعرفة عندما يتفاعل مع محيطه المادي. ويقول "فيڤوتسكي" عالِم البيداغوجيا الروسي، حسب مقاربته "البنائية الاجتماعية" ( Le socioconstructivisme )، أن عامل التفاعل مع المحيط المادي غير كافٍ لاكتساب المعرفة، لذلك يضيف عاملا ثانيا يتمثل في التفاعل البشري مع الآخرين، أقرانًا وبالغين. أما العالِمة ِالإيطالية ماريا مونتيسوري فتقول: "يجب تهيئة وسط خاص يُوضع فيه الطفل مع السماح له بالتفاعل مع محيطه التربوي المجهّز بأدوات التعلم المونتيسورية وتحريره من وصاية المربي حتى يتمكن من التعلم الذاتي (Le maître doit observer et non juger).

سكان قرية "جمنة الخمسينات" لم يقرؤوا بيداغوجيا "مونتيسوري" ("ساعِدني على أن أفعل وأكتشف بنفسي") ولا بنائية "بياجي" ("اتركني أعرف وأكتشف بنفسي") ولا سوسيوبنائية "فيڤوتسكي" ("قدم لي معرفة أعلى قليلا من مستوايَ لكي أعرف وأكتشف بنفسي") ولا يعرفون شيئا عن نظريات علوم التربية الحديثة ورغم غياب معرفة النظريات طبق أهالي جمنة ما جاء فيها أحسن تطبيق دون الادعاء الواعي بتملك النظرية البيداغوجية العلمية: كنا أبناء حي واحد، أطفالا ذكورا صغارا لم نتجاوز سنّ السادسة. نغادر بيوتنا صباحا دون مرافق كهل. نتجمع بكل حرية في مكان فسيح غير بعيد عن أهالينا. بستان فيه نخل وظل دون زرع. نبقى فيه بالساعات، نلعب ونلهو كما يحلو لنا دون رقيب كهل. نتشاجر بعض الأحيان لكن سرعان ما نتصالح لكي يستمر اللعب. نصنع لعبنا بأنفسنا من معلبات "السردين" ومعلبات معجون الطماطم، نصنع سيارات وشاحنات مصغّرة تنقل الرمل وتفرغه آليا. نتقمص أدوارا متنوعة بالتداول، البائع والشاري، السارق والحرس، الأب والابن، إلخ. لباسُنا خفيف وأقدامنا حافية وأرضنا حنون ومناخنا حار. لُمجتنا تنزل دون سابق إعلام من السماء تَمْرًا أخضرَ أو أصفرَ أو "نرمي من كان عن الأحقاد مرتفعا فتساقط علينا رطبا جنيا" وعندما نجوع فعلا، نعود إلى ديارنا فنجد أمًّا حنونا في انتظارنا، أمٌّ لا تلومنا ولا تنهرنا بل تقدم لنا ما جَنَتْ وطَحَنَتْ وطبخت بأيديها الربانيتين، وجبة بيولوجية صحية خالية من الأغذية المصنعة المغشوشة باهظة الثمن. في المساء، نُعيد الكرّة مع تغيير "وضعيات التعلم" التي نختارها بأنفسنا مثل صيد الطيور أو الجري وراء إطار حديدي لعجلة دراجة أو القفز داخل مربعات أو الاحتفاء بسحابة أمطرت في غير موضعها.

بعد مرور أربعين عاما على هذا الزمن الطفولي الجمني الجميل،  درستُ علوم تربية في جامعة كلود برنار بفرنسا، فعرفتُ أن هذه الطريقة الجمنية (وفي جل قرى تونس) في اكتساب المعرفة والمهارات والكفاءات تُسمى بـ"الفِقْهِي" البنائية الاجتماعية.

في جمنة الخمسينيات، أخذونا صغارا للكتّاب أو "الخلوة" لنتعلم القرآن الكريم في الجامع الكبير. كان الفناء مظلماً في النهار والمؤدب جالساً وعصاه تتنقل فوق رؤوسنا برأفة وحنان. نردّد وراءه لساعات ما ينشد من كلام حلو وموزون. نحفظه عن ظهر قلب دون شرح أو تفسير ونستوعب حسن نطقه وبلاغته ونطرب لموسيقاه. بعد خمسين سنة عرفتُ أن هذا النوع من التلقين يسمى: "حمّاما لغويا" (Bain de langue)، هذا الحمّام يُطهّرك من الداخل ويَغمرك بالمفاهيم ويُكسبك في مرحلة الاستيعاب زادا لغويا ثمينا ونطقا سليما تَستثمره في مرحلة الفهم في شرح وتفسير أي أثر مكتوب، قرآنا كان أو نثرا أو شعرا.

في التسعينات هبّت علينا ريح التحضر والتمدن ويا ليتها ما هبّت ! تمدُّنٌ مشوهٌ، انبطحنا لها دون مقاومة وفتحنا دكاكين، تبيع تربية مشوّهة للملائكة، تربية ليست علمية وليست تقليدية، سميناها رياضا للأطفال وسجنَّا فيها فلذات أكبادنا داخل فضاء ضيق وحَرمناهم متعة حرية اللعب والتعلم مجانا في مساحات شاسعة. هل صادفتَ في حياتك مَن يغش أو يتاجر بالملائكة ؟ وهل مُغتصِب حرية طيور الجنة سوف يدخل يا تُرى الجنة ؟ تخلى الأولياء عن دورهم التربوي وأوكلوه لـمربين غير مختصين في التربية، منشِّطون  انقطعوا مبكّرا عن مواصلة تعليمهم العالي أو فيهم مَن ينتظر وظيفة عمومية، كلهم يتقاضون أجورا زهيدة، فهُم إذن ناقمون على أنفسهم وعلى ظروف عملهم، يصبّون جامَ نقمتهم على أبرياء رضّع أو أكبر قليلا. لا يعلّمونهم شيئا ولا يتركونهم يتعلمون بأنفسهم أو بمعية أترابهم. يفرضون عليهم نوعا من الانضباط المحبِط للإبداع ليتجنبوا حركيتهم التلقائية. قتلوا فيهم الخلق والتخيل وزرعوا في قلوبهم الخوف والجبن والامتثال للأوامر حتى ولو كانت نابعة من ظالم. يعلّمونهم لغة ركيكة فلا يستوعبها الأطفال في صغرهم ولن تنفعهم في كبرهم. يجهّزون روضاتهم بالرديء والرخيص والمضرّ صحّيا من اللعب والأدوات المدرسية ويطعمونهم وجبة غير متوازنة، مطهوّة على نار الربح الحرام. يدرّسون البرنامج الدراسي الرسمي للسنة الأولى أساسي وهم يظنون أنهم أحسنوا فعلا وقد صح عليهم قول "يفعل المربي غير المختص بتلامذته ما يفعل العدو بعدوه". في حمام الشط، أردتُ مرة مكرها (كانت زوجتي حينها تعمل 14 ساعة في اليوم، تقضيها بين المهنة وشؤون البيت)، أردتُ ترسيم ابني في روضة، سألتُ المروضة وما أوحش هذه الصفة التي توحي بترويض الوحوش في "السرك"، سألتها: "هل تلقنون قرآنا ؟ هل تتركون الأولاد يلعبون بحرية ؟". أجابتني بالنفي بكل فخر واعتزاز دون أن تدري أنها تتبرأ من تراثها وثقافتها ودينها. أبشّركم أنه من حسن حظنا ومن محاسن التخلف الاقتصادي في تونس أن الروضات لم تنجح ولم تتكاثر حتى الآن وهي لا تستوعب إلا القليل من أبنائنا.

ملاحظة بيداغوجية موجهة لأقراني مواليد الخمسينيات من سكان مسقط رأسي قرية جمنة بولاية ڤبلي وسكان جميع الأرياف التونسية:

تتلخص نظرية مونتيسوري في تربية الأطفال قبل الست سنوات في الشعار التالي على لسان الطفل: "ساعِدني على التعلم بنفسي" 

(“Aide-moi à faire seul”

 ونحن أطفال جمنة لم ننتظر اكتشاف النظريات التربوية الحديثة وطبقنا منذ أجيال بطريقة عفوية مكتسبة وموروثة ثقافيا. وهذا شعارٌ آخر قد يكون أفضل تربويا من شعار مونتيسوري وهو التالي: "اتركني أتعلم بنفسي".  بمفردنا ودون رقيب كهل مختص أو غير مختص، كنا نصنع لُعبنا بأيدينا ونتعلم منها ومن المحيط والأقران. عندما أقول "طبقنا شعارا قد يكون تربويا أفضل"، أنا أعي ما أقول، قلت "تربويا أفضل" ولم أقل "علميا أفضل"، ولهذا السبب الأخير انقرضت تقريبا طريقتنا التربوية التقليدية من جمنة وعوضتها رَوضات أطفال "حداثية". كادت تجربتنا أن تكون علمية صِرفة لو صاحبتها عينُ رقيبٍ عالِمٍ ميداني (La recherche-action)، عينٌ مسندة بعقل، عقلٌ  يلاحظ ويسجّل ويدوّن ويطوّر طريقتنا في التعلم الذاتي ويستنتج ويقارن وينشر، وربما كنّا سبقنا علماء الغرب من أمثال مونتيسوري وفيڤوتسكي وبياجي واكتشفنا "نظرية التعلم البنائي الذاتي" قبلهم جميعا.

خلاصة القول

أنا لا أدعو لرفض العلم الحديث بل أدعو إلى إحياء عاداتنا الجيدة وإعادة صقلها من جديد وغربلة تراثنا علّنا نجد فيه ما يتلاءم مع التطور الحقيقي لا المزيّف. عِلم الغرب لم يأتِ من فراغ أو نَزَلَ من السماء ولم يكتشفه العلماء صدفة بل صنعوه بعقولهم وتجاربهم حسب حاجتهم ووفق ثقافتهم وتراثهم ودينهم فأصابوا وأخطئوا، فتعلموا. توصّل "بياجي" إلى نظريته "البنائية" عبر دراسة نمو أبنائه البيولوجيين وتوصّل "فيڤوتسكي" إلى "البنائية الاجتماعية" بعد تجارب عديدة في المدرسة السوفياتية، أما الطبيبة ماريا مونتيسوري فقد أسست نظريتها البيداغوجية النشيطة للأطفال العاديين بعد دراسات ميدانية أجرتها على ومع الأطفال المعاقين ذهنيا.

هُبّوا أيها التونسيون وتعالوا نفعل مثلهم وننفض التراب عن تراثنا وتقاليدنا لنحيِّنها ونطوّرها ونستنبط منها نظريات في التربية السليمة تتناسب مع واقعنا الاقتصادي ومبادئنا وتتلاءم مع مناخنا الاجتماعي والطبيعي ولا تتناقض مع ديننا أو تراثنا. دومًا نتعلّم منك يا جمنة ونحن أصغر من أن نُعلّمك !

تنوع أسماء سورة الفاتحة في الفقه الإسلامي ! "قرآن المؤرخين"، ترجمة وتأثيث مواطن العالَم

 


يوجد ما لا يقل عن 25 اسمًا لسورة الفاتحة، نُذكّر ببعضها:

1.     الفاتحة (l’Ouvrante, l’ouverture, la liminaire)

2.     فاتحة الكتاب (l’Ouvrante de l’Écriture)

3.     فاتحة القرآن (l’Ouvrante du Coran)

4.     الحمد (la Louange)

5.     سبعًا من المثاني (les « sept que l’on répète », les sept versets à répéter dans l’Oraison  )

6.     أم الكتاب (Mère de l’Écriture )

7.     أم القرآن (Mère du Coran)

 

Source : Le Coran des historiens ? Sous la direction de Mohammad Ali Amir-Moezzi & Guillaume Dye, Les Éditions du Cerf, 2019, Paris.  Prix : 69 euros (environ 240 dinars). Formé de trois volumes (total=3400 pages). Volume 2a : Commentaire et analyse du texte coranique. Sourates 1 à 26, 966 pages (p. 17-23).

 

إمضائي: "إذا فهمتَ كل شيء، فهذا يعني أنهم لم يشرحوا لك جيّدًا !" (أمين معلوف)

 

تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 29 جانفي 2021.

 

 

 

 

 

سورة الفاتحة، سورة تلخص القرآن كله، سورة تحوي كل المبادئ الكبرى في القرآن ! "قرآن المؤرخين"، ترجمة وتأثيث مواطن العالَم

 


1.     حَمْدُ الله (la louange): [الْحَمْدُ لِلَّهِ]

2.     توحيد الله (l’unicité divine): [رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]

3.     علم الغيب (l’eschatologie): [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]

4.     عبادة الله (l’adoration): [إِيَّاكَ نَعْبُدُ]

5.     الدعاء لله (la supplication): [وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]

6.     الهداية لله (la guidance): [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]

7.     الهوّة العميقة جدا التي تفصل بين الناجين والمعذَّبين (le gouffre entre les élus et les damnés): [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ * غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ]

 

ملاحظة: كل ما وردَ بين معقفين ([...]) هو آيات قرآنية من سورة الفاتحة، آياتٌ لا توجد في النص الأصلي للمصدر المذكور أسفله، أضفتُها أنا اجتهاداً للتوضيح (illustration).

 

Source : Le Coran des historiens ? Sous la direction de Mohammad Ali Amir-Moezzi & Guillaume Dye, Les Éditions du Cerf, 2019, Paris.  Prix : 69 euros (environ 240 dinars). Formé de trois volumes (total=3400 pages). Volume 2a : Commentaire et analyse du texte coranique. Sourates 1 à 26, 966 pages (p. 22).

 

إمضائي: "إذا فهمتَ كل شيء، فهذا يعني أنهم لم يشرحوا لك جيّدًا !" (أمين معلوف)

 

تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 29 جانفي 2021.