vendredi 29 janvier 2021

جمنة الخمسينيات تعطي درسا في التربية الحديثة. مواطن العالم، أصيل جمنة ولادة وتربية

 


المصدر: كتابي "جمنة وفخ العولمة"، طبعة حرة، 2016 (ص.ص. 17-23).

ملاحظة: كتابٌ ألّفته تطوعًا لفائدة "جمعية حماية واحات جمنة" وهي التي دفعت مصارف الطباعة (3400 د). صدر في ألف نسخة: 900 نسخة أخذتْها الجمعية دون مقابل وَوَزّعتْها مجاناً على مساندي قضية جمنة في كامل أنحاء الجمهورية، و100 نسخة أخذتُها أنا وَوَزّعتُها بمعرفتي.

 

لماذا نركِّز في تعليمنا على تنمية الذكاء الذهني فقط (رياضيات، آداب، هندسة، تاريخ، إلخ.) ونُهمل أنواع الذكاء الأخرى المرتبطة بباقي أعضاء الجسم (الحِرف اليدوية، الرسم، الرقص، الموسيقى، الفلاحة، التمريض، المسرح، الطبخ، التعلم من اللعب بكل حرية مع الأقران، إلخ.) وكأن ”الجسم لا يعدو أن يكون إلا مجرد وسيلة نقلٍ للمخ“.

في قرية جمنة تحديدا، علمتني بيئة الخمسينيات ما يلي:

-         تعلّمتُ نطق اللغة العربية الفصحى عن طريق حفظ جزء "عَمَّ" من القرآن الكريم في الكُتّاب الوحيد بالقرية.

-         تعلّمتُ عن طريق اللعب مع الأقران دون رقيب كهل. كنا نصنع لعبنا بأنفسنا. كنا نُمسرِح عاداتنا في عاشوراء (جمل عاشوراء). كنا نسهر ليلا وننصت لرواة حكايات التراث الخيالية، كنا نصدّقها وكانت تستهوينا. كنا ننوّع وسائل لهونا حسب الفصول (خُوطَة، غُمِّيضَة، بِيسْ، مَشَّاية عند نزول المطر، دِرْڤِيلة، كَرُّوسة، بالُّون ابرِيزُونييه، إلخ.).

-         تعلّمتُ فلاحة الأرض وأنا تلميذ في سن 14، قلبت الأرض وسقيت وزرعت وتسلقت النخيل  وقطعـت العراجين وجنيت التمور.

-         تعلّمتُ تربية الماعز من تشييع وحلب وتغذية.

-         تعلّمتُ الرقص دون خجل على نغمات الحضرة العيساوية.

-         تعلّمتُ صيد العصافير بواسطة مصيَدة من صنع أناملنا الصغيرة (أعترف أنني لم أكن بارعا في هذا المجال المعادي لحرية الحيوانات البرية).

-         تعلّمتُ الاعتماد على النفس وفي عمر 12 سنة سافرتُ إلى ڤابس للدراسة دون مرافقة الولي.

-         تعلّمتُ وتحمّلتُ مشقّة العمل اليدوي وعملتُ 12 ساعة "مرمّة" في اليوم وأنا تلميذ في سن 14 تحت شمس الجنوب التونسي الحارقة في عطلة الصيف.

-         تعلّمتُ التكفل بمصاريف عائلتي أثناء العطل المدرسية وأنا في سن 14 ولم أركن إلى الراحة واللهو مثل أترابي.

وفي المقابل ماذا تعلم بيئة اليوم في مدن وقرى تونس:

-         تُعلِّمُ الذهاب يوميا إلى الروضة أو المدرسة أو إلى حصص المراجعة الخاصة حيث يُستهان بالذكاء التجريبي والجسماني وتُقمع المبادرة الفردية ويُركّز على الذكاء الذهني وكأن لا وجود لذكاء غيره. لا يتعلم أطفالنا الأعمال اليدوية ولا الرقص ولا النحت ولا الرسم ولا المسرح ولا الموسيقى ولا الطبخ ولا الخياطة، باختصار لا توجد حياة طبيعية حرة في الروضة ولا في المدرسة.

-         تُعلِّمُ الكسل البدني: لا تسلية في الدار سوى تسلية المخ بالألعاب الافتراضية أما الجسم فلا عمل له سوى نقل سيده المخ من البيت إلى المدرسة أو في بعض الأحيان إلى مدينة ألعاب جامدة رغم حركتها الأوتوماتيكية المبرمجة سلفا لك ولغيرك.

يقول "بياجي"، عالِم معرفة نمو الطفل السويسري (Épistémologie génétique de l’enfant suisse)، في مقاربته "البنائية" (Le constructivisme) في اكتساب المعرفة لدى الطفل، أن الطفل يتملك المعرفة عندما يتفاعل مع محيطه المادي. ويقول "فيڤوتسكي" عالِم البيداغوجيا الروسي، حسب مقاربته "البنائية الاجتماعية" ( Le socioconstructivisme )، أن عامل التفاعل مع المحيط المادي غير كافٍ لاكتساب المعرفة، لذلك يضيف عاملا ثانيا يتمثل في التفاعل البشري مع الآخرين، أقرانًا وبالغين. أما العالِمة ِالإيطالية ماريا مونتيسوري فتقول: "يجب تهيئة وسط خاص يُوضع فيه الطفل مع السماح له بالتفاعل مع محيطه التربوي المجهّز بأدوات التعلم المونتيسورية وتحريره من وصاية المربي حتى يتمكن من التعلم الذاتي (Le maître doit observer et non juger).

سكان قرية "جمنة الخمسينات" لم يقرؤوا بيداغوجيا "مونتيسوري" ("ساعِدني على أن أفعل وأكتشف بنفسي") ولا بنائية "بياجي" ("اتركني أعرف وأكتشف بنفسي") ولا سوسيوبنائية "فيڤوتسكي" ("قدم لي معرفة أعلى قليلا من مستوايَ لكي أعرف وأكتشف بنفسي") ولا يعرفون شيئا عن نظريات علوم التربية الحديثة ورغم غياب معرفة النظريات طبق أهالي جمنة ما جاء فيها أحسن تطبيق دون الادعاء الواعي بتملك النظرية البيداغوجية العلمية: كنا أبناء حي واحد، أطفالا ذكورا صغارا لم نتجاوز سنّ السادسة. نغادر بيوتنا صباحا دون مرافق كهل. نتجمع بكل حرية في مكان فسيح غير بعيد عن أهالينا. بستان فيه نخل وظل دون زرع. نبقى فيه بالساعات، نلعب ونلهو كما يحلو لنا دون رقيب كهل. نتشاجر بعض الأحيان لكن سرعان ما نتصالح لكي يستمر اللعب. نصنع لعبنا بأنفسنا من معلبات "السردين" ومعلبات معجون الطماطم، نصنع سيارات وشاحنات مصغّرة تنقل الرمل وتفرغه آليا. نتقمص أدوارا متنوعة بالتداول، البائع والشاري، السارق والحرس، الأب والابن، إلخ. لباسُنا خفيف وأقدامنا حافية وأرضنا حنون ومناخنا حار. لُمجتنا تنزل دون سابق إعلام من السماء تَمْرًا أخضرَ أو أصفرَ أو "نرمي من كان عن الأحقاد مرتفعا فتساقط علينا رطبا جنيا" وعندما نجوع فعلا، نعود إلى ديارنا فنجد أمًّا حنونا في انتظارنا، أمٌّ لا تلومنا ولا تنهرنا بل تقدم لنا ما جَنَتْ وطَحَنَتْ وطبخت بأيديها الربانيتين، وجبة بيولوجية صحية خالية من الأغذية المصنعة المغشوشة باهظة الثمن. في المساء، نُعيد الكرّة مع تغيير "وضعيات التعلم" التي نختارها بأنفسنا مثل صيد الطيور أو الجري وراء إطار حديدي لعجلة دراجة أو القفز داخل مربعات أو الاحتفاء بسحابة أمطرت في غير موضعها.

بعد مرور أربعين عاما على هذا الزمن الطفولي الجمني الجميل،  درستُ علوم تربية في جامعة كلود برنار بفرنسا، فعرفتُ أن هذه الطريقة الجمنية (وفي جل قرى تونس) في اكتساب المعرفة والمهارات والكفاءات تُسمى بـ"الفِقْهِي" البنائية الاجتماعية.

في جمنة الخمسينيات، أخذونا صغارا للكتّاب أو "الخلوة" لنتعلم القرآن الكريم في الجامع الكبير. كان الفناء مظلماً في النهار والمؤدب جالساً وعصاه تتنقل فوق رؤوسنا برأفة وحنان. نردّد وراءه لساعات ما ينشد من كلام حلو وموزون. نحفظه عن ظهر قلب دون شرح أو تفسير ونستوعب حسن نطقه وبلاغته ونطرب لموسيقاه. بعد خمسين سنة عرفتُ أن هذا النوع من التلقين يسمى: "حمّاما لغويا" (Bain de langue)، هذا الحمّام يُطهّرك من الداخل ويَغمرك بالمفاهيم ويُكسبك في مرحلة الاستيعاب زادا لغويا ثمينا ونطقا سليما تَستثمره في مرحلة الفهم في شرح وتفسير أي أثر مكتوب، قرآنا كان أو نثرا أو شعرا.

في التسعينات هبّت علينا ريح التحضر والتمدن ويا ليتها ما هبّت ! تمدُّنٌ مشوهٌ، انبطحنا لها دون مقاومة وفتحنا دكاكين، تبيع تربية مشوّهة للملائكة، تربية ليست علمية وليست تقليدية، سميناها رياضا للأطفال وسجنَّا فيها فلذات أكبادنا داخل فضاء ضيق وحَرمناهم متعة حرية اللعب والتعلم مجانا في مساحات شاسعة. هل صادفتَ في حياتك مَن يغش أو يتاجر بالملائكة ؟ وهل مُغتصِب حرية طيور الجنة سوف يدخل يا تُرى الجنة ؟ تخلى الأولياء عن دورهم التربوي وأوكلوه لـمربين غير مختصين في التربية، منشِّطون  انقطعوا مبكّرا عن مواصلة تعليمهم العالي أو فيهم مَن ينتظر وظيفة عمومية، كلهم يتقاضون أجورا زهيدة، فهُم إذن ناقمون على أنفسهم وعلى ظروف عملهم، يصبّون جامَ نقمتهم على أبرياء رضّع أو أكبر قليلا. لا يعلّمونهم شيئا ولا يتركونهم يتعلمون بأنفسهم أو بمعية أترابهم. يفرضون عليهم نوعا من الانضباط المحبِط للإبداع ليتجنبوا حركيتهم التلقائية. قتلوا فيهم الخلق والتخيل وزرعوا في قلوبهم الخوف والجبن والامتثال للأوامر حتى ولو كانت نابعة من ظالم. يعلّمونهم لغة ركيكة فلا يستوعبها الأطفال في صغرهم ولن تنفعهم في كبرهم. يجهّزون روضاتهم بالرديء والرخيص والمضرّ صحّيا من اللعب والأدوات المدرسية ويطعمونهم وجبة غير متوازنة، مطهوّة على نار الربح الحرام. يدرّسون البرنامج الدراسي الرسمي للسنة الأولى أساسي وهم يظنون أنهم أحسنوا فعلا وقد صح عليهم قول "يفعل المربي غير المختص بتلامذته ما يفعل العدو بعدوه". في حمام الشط، أردتُ مرة مكرها (كانت زوجتي حينها تعمل 14 ساعة في اليوم، تقضيها بين المهنة وشؤون البيت)، أردتُ ترسيم ابني في روضة، سألتُ المروضة وما أوحش هذه الصفة التي توحي بترويض الوحوش في "السرك"، سألتها: "هل تلقنون قرآنا ؟ هل تتركون الأولاد يلعبون بحرية ؟". أجابتني بالنفي بكل فخر واعتزاز دون أن تدري أنها تتبرأ من تراثها وثقافتها ودينها. أبشّركم أنه من حسن حظنا ومن محاسن التخلف الاقتصادي في تونس أن الروضات لم تنجح ولم تتكاثر حتى الآن وهي لا تستوعب إلا القليل من أبنائنا.

ملاحظة بيداغوجية موجهة لأقراني مواليد الخمسينيات من سكان مسقط رأسي قرية جمنة بولاية ڤبلي وسكان جميع الأرياف التونسية:

تتلخص نظرية مونتيسوري في تربية الأطفال قبل الست سنوات في الشعار التالي على لسان الطفل: "ساعِدني على التعلم بنفسي" 

(“Aide-moi à faire seul”

 ونحن أطفال جمنة لم ننتظر اكتشاف النظريات التربوية الحديثة وطبقنا منذ أجيال بطريقة عفوية مكتسبة وموروثة ثقافيا. وهذا شعارٌ آخر قد يكون أفضل تربويا من شعار مونتيسوري وهو التالي: "اتركني أتعلم بنفسي".  بمفردنا ودون رقيب كهل مختص أو غير مختص، كنا نصنع لُعبنا بأيدينا ونتعلم منها ومن المحيط والأقران. عندما أقول "طبقنا شعارا قد يكون تربويا أفضل"، أنا أعي ما أقول، قلت "تربويا أفضل" ولم أقل "علميا أفضل"، ولهذا السبب الأخير انقرضت تقريبا طريقتنا التربوية التقليدية من جمنة وعوضتها رَوضات أطفال "حداثية". كادت تجربتنا أن تكون علمية صِرفة لو صاحبتها عينُ رقيبٍ عالِمٍ ميداني (La recherche-action)، عينٌ مسندة بعقل، عقلٌ  يلاحظ ويسجّل ويدوّن ويطوّر طريقتنا في التعلم الذاتي ويستنتج ويقارن وينشر، وربما كنّا سبقنا علماء الغرب من أمثال مونتيسوري وفيڤوتسكي وبياجي واكتشفنا "نظرية التعلم البنائي الذاتي" قبلهم جميعا.

خلاصة القول

أنا لا أدعو لرفض العلم الحديث بل أدعو إلى إحياء عاداتنا الجيدة وإعادة صقلها من جديد وغربلة تراثنا علّنا نجد فيه ما يتلاءم مع التطور الحقيقي لا المزيّف. عِلم الغرب لم يأتِ من فراغ أو نَزَلَ من السماء ولم يكتشفه العلماء صدفة بل صنعوه بعقولهم وتجاربهم حسب حاجتهم ووفق ثقافتهم وتراثهم ودينهم فأصابوا وأخطئوا، فتعلموا. توصّل "بياجي" إلى نظريته "البنائية" عبر دراسة نمو أبنائه البيولوجيين وتوصّل "فيڤوتسكي" إلى "البنائية الاجتماعية" بعد تجارب عديدة في المدرسة السوفياتية، أما الطبيبة ماريا مونتيسوري فقد أسست نظريتها البيداغوجية النشيطة للأطفال العاديين بعد دراسات ميدانية أجرتها على ومع الأطفال المعاقين ذهنيا.

هُبّوا أيها التونسيون وتعالوا نفعل مثلهم وننفض التراب عن تراثنا وتقاليدنا لنحيِّنها ونطوّرها ونستنبط منها نظريات في التربية السليمة تتناسب مع واقعنا الاقتصادي ومبادئنا وتتلاءم مع مناخنا الاجتماعي والطبيعي ولا تتناقض مع ديننا أو تراثنا. دومًا نتعلّم منك يا جمنة ونحن أصغر من أن نُعلّمك !

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire