samedi 30 janvier 2021

جمنة الخمسينيات تعطي درسا في الطب النفسي الحديث: "الساسي بِنِحْمِدْ". مواطن العالم، أصيل جمنة ولادة وتربية

 


 

المصدر: كتابي "جمنة وفخ العولمة"، طبعة حرة، 2016، 224 صفحة (ص.ص. 24-27).

ملاحظة: كتابٌ ألّفته تطوعًا لفائدة "جمعية حماية واحات جمنة" وهي التي دفعت مصارف الطباعة (3400 د). صدر في ألف نسخة: 900 نسخة أخذتْها الجمعية دون مقابل وَوَزّعتْها مجاناً على مساندي قضية جمنة في كامل أنحاء الجمهورية، و100 نسخة أخذتُها أنا وَوَزّعتُها بمعرفتي.

النص:

قرية جمنة سبقتْ دولة إيطاليا في احتضان "مُخْتَلِّيها العقليين" وتركتهم أحرارا خارج أسوار المستشفات النفسية (مثل مستشفى الرازي بتونس) وكذلك فعلت كل قرى الريف التونسي.

حَدَثَ في إيطاليا سنة 1970:    أغلِق المستشفى النفسي في ترياست (Trieste) في أوائل السبعينات من قِبل الدكتور فرانكو بازاڤليا (Franco Basaglia, 1924-1980) أين كان يقيم 1200 "مجنون"، ولم تنقرض المستشفات النفسية في إيطاليا إلا في أواسط التسعينات . ولِد بازاڤليا بطل الطب النفسي البديل بمدينة البندقية (Venise)، وجرّب الإقامة كـ"مريض" في هذه المستشفيات طيلة شهور بسبب قربه من مجموعة تناضل ضد الفاشية. تأثّرَ بـنقد ميشال فوكو وفرانز فانون للمؤسسات الاستعمارية. كانت المستشفات النفسية الإيطالية بعد الحرب العالمية الثانية تأوي أكثر من 100 ألف شخص.

 

حَدَثَ في جمنة الخمسينيات: مَن هو "الساسي بن أحمد" ؟ هو مواطن عادي يقطن قرية "جمنة"  بالجنوب الغربي التونسي وهو فنّان بالمعنى الحَرفي  للكلمة. تربّع على عرش الشهرة في قريتنا بلا منافس على مدى نصف قرن. يعشقه كل السكان، الصغار قبل الكبار. اتّحَدَتْ في حبه كل "العروش" (القبائل) وكل الأحياء السكنية من "الحمادة" إلى "الصور". كان يقوم بمفرده بما تقوم به بلدية جمنة الحالية بجيشها البيروقراطي وآلياتها المتواضعة. شخصٌ يساوي بمؤهلاته مؤسسة البلدية أو يفوقها في بعض المهمات لكنه لا يكلف المواطن سوى بعض القطع النقدية الزهيدة، يتبرع بها بعض سكان البلدة في بعض المناسبات. كان يفوق العمدة ورئيس البلدية في التعرف على جميع متساكني القرية، اسما ولقبا، شابا وكهلا. يتعرف عليهم بسرعة ولا تعيقه العتمة في تسميتهم. يُغَنِّي  بإتقان فريد الأطرش وعبد الوهاب وأسمهان وغيرهم. لا تفارق ثغره البسمة والضحكة المجلجلة في بعض الأحيان. مُعْدِي في سعادته. قمحي البشرة، جميل المحيَّ، ممشوق القوام، رياضي العضلات، خفيف اللباس صيفا شتاء. ينطق حِكما، لا يشتم ولا يسب ولا يظلم أبدا. لا يبيع ولا يشتري. مؤنِسٌ في صمته وفي هذيانه. أظن أنه لا يصلي. إيمانه سِرٌّ بينه وبين خالقه يعاقبه إن شاء أو يسامحه كما يتمنى كل جمني. يشتغل ليلا نهارا في تنظيف الطرقات والساحات.

من لا يعرف "الساسي" يظن أنني أبالغ في مدحه ومن عرفه وعاشره يتهمني بأنني مُقَصِّرٌ في حقه.

مَن سمع سِيرتَه ولم يَرَ أعمالَه، مِن حقه أن يتساءل ويقول: "مِن أي جامعة غربية تخرّج هذا المواطن المهذب والفنان يا ترى ؟ مَن عساه يكون ؟ عُمدة البلدة أو مدير المعهد أو عَيْنٌ من أعيان البلاد أو مُصلِح اجتماعي أو فلاح كبير".

إذا أخذنا بتعريفات العلوم الغربية الحديثة نستطيع أن نصنّف "الساسي بن احمد" كمختل عقليا. وإذا طبقنا نصائح الأطباء النفسانيين الأفاضل فسوف نعزله في مصحة الأمراض النفسية. هو "مهبول" أو "درويش" القرية بالمعنى الدارج للكلمة لكنه أيضا حكيم القرية: يروي الساسي حكاية طريفة مثل حكايات سليمان العليم بلغة الحيوان ويقول: "هاجم قِطٌّ يوما قطتي. دافعتْ عن نفسها بشراسة وكبرياء. وبين الجولة والجولة كانت تلتفت لي وتقول: "اعْجِبتكشِي يا خالْ". ويُروى عنه أنه ذات يوم رمَوه الصغار بحجر. تعرّف على أحدهم. وفي الغد قصد حوش أهله، توقف أمام الباب ثم نادى بأعلى صوته. خرج الجدّ مستفسرا. صفعه الساسي وقال له: "اضْرِبْ الكِبيرْ يِستِحِي الصْغير"، حكمة يتداولها الجمنين إلى يوم الناس هذا.

نحن أولاد بلده "جمنة" لم نصنّفه كمختل أو معتوه ولم نحاكمه ولم نحكم لصالحه ولا ضده ولم نعزله في أي مكان بل رحبنا به يعيش حرا طليقا بيننا. نكنّ له كل الاحترام  والمحبة والمعاملة بالمثل مثله مثل أي مواطن "جمني".

لو دخل مصحة نفسية لَسَمَّمَ الأطباء جسمه بالمهدئات ولَجعلوا منه جسمًا بلا روح، جسمٌ ينتظر الموت. نحن "الجمنين" أعطيناه أهلاً وأملاً. تحمل تطوُّعًا مسؤولية نظافة قريتنا. ملأْنا حياته حيوية ونشاطا فغمرنا هو بمزاياه ونظّف شوارعنا وجامعنا الوحيد. أسعدنا بإشعاعه وأعجبنا كبرياؤه. عاش ومات بيننا كالسمكة في الماء فأقمنا له جنازة لا تضاهيها جنازة في المهابة والحزن والحضور.

هذه سلوكاتنا وهذه تقاليدنا الوطنية الصادقة، لم نقرأها في كتاب ولم نستوردها من اليابان ولا من الغرب بل على العكس ندعوهم هم للتعلم من ثقافتنا والنهل من قِيمِنا الإنسانية. أخيرا تفطن علماؤهم النفسانيون لانعدام الفائدة الصحية من عزل المختلين عقليا في مصحة نفسية وشرعوا في إطلاق سراح جميع المعتقلين فيها مثل ما فعلنا نحن قبلهم مع "الساسي".

وددتُ لو قام باحثونا وعلماؤنا بدراسة وتعميق ثقافتنا الوطنية عِوض تقليد الغرب وإعادة إنتاج ما أبدعه بصورة مشوهة. لو فعلوها لأعطوا دروسا في الطب النفسي الحديث ولَفازوا بجائزة نوبل للطب النفسي.

تَعُجُّ رفوف مكتباتنا الجامعية بأطروحات في كل الميادين من علوم صحيحة إلى علوم إنسانية لكن لا يقرؤها أحد، والناس مُحقّون في عدم الاطلاع عليها. كلها للأسف نسخٌ باهتة لإبداعات علماء الغرب المنتجين للعلم والمعرفة.

لو أن أحدَ علمائنا قام ببحث حول "الساسي بن احمد" والبيئة الاجتماعية-الصحية التي عاش فيها لأنتج نظرية جديدة في العلاج النفسي ولَأسَّسَ علما قد يُدرّس في أرقى الجامعات الأمريكية ولَهاجَر علماؤهم وقدِموا إلى "جمنة" وأقاموا فيها مؤتمرات علمية، وقديمًا قِيل "يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر".

 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire