قال أونفري: "تتلخص الفلسفة في التفلسف حول شهواتنا
وكيف نتصرف حيالها؟
جزءٌ
من أسباب أزمتنا الاقتصادية والاجتماعية في العالَم، يكمنُ في أننا أهملنا القيامَ
بواجباتنا وركّزنا على المطالبة بحقوقنا. علينا تأدية واجباتنا على أحسن وجهٍ
ممكنٍ، قبل أن نطالب بحقوقنا. وجب إذن ربط الحقوق بالواجبات.
يقول الأجيرُ:
عندي حقوق.. لا يمكن لك أن تمنعني من التَّوْقِ إلى تحقيقها لأن تَوقِي سياديٌّ.. يجب
تدريب الطفل على الشعور بألم الحرمان (La
souffrance).
الجواب: أنتَ
لا تستطيع فعل كل ما تريد.. أنتَ لستَ سُرّة الأرض.. غيرك موجود.. توجد بيننا
منطقة مفاوضات.. التربية.. البيداغوجيا.. لا أحد يقول: عليّ تأدية واجباتي قبل
المطالبة بحقوقي.. واجبات، نُو.. حقوق، ياسْ..".
نص مواطن
العالَم: للتعبير على تبني فكرة الفيلسوف، سأكتفي بعرض مثالين اثنين، لا أكثر:
1. إحياءًا لذكرى 12 جانفي
2011، تاريخ استرجاع أهالي جمنة لحقٍّ مغتصَب (ضيعة المعمر أو ضيعة ستيل، 10.000
دڤلاية، التي افتكها منا المستعمر الفرنسي أولا ثم المستثمرون التونسيون الجشعون
ثانيًا)، سأتحدث عن فلاحة الدڤلة بمسقط رأسي، جمنة (قال لي أحدُ القرّاء: "جمنة دومًا
حاضرة في مقالاتك". أجبته: وهل لي موطنٌ غيرها؟ وهل أعشق بلدةً أكثر من بلدة
جمنة؟ وهل أعرف جيدًا قريةً أكثر من قرية جمنة؟): زراعة نخلة الدڤلة تتطلب في
البداية صبر أيوب لكنها تعطي مال قارون. نزرعها، نسقيها، نرعاها، نحميها ضد البرد
والحر والريح والدواب، كل هذا الجهد لمدة خمس سنوات على الأقل، نعطيها دون أن
ننتظر منها جزاءًا، نقوم نحوها بواجباتنا دون مقابل ولو بسيط، واجبات.. واجبات دون استرجاع حقوق. في العام السادس، يعطي
ربي خيره، تُزهِر، نلقحها بأزهار نخلة ذكر (الذكّار)، تحبل، تثمر، فنجني تمرًا من
نور. ومن العام السادس من عمرها حتى نهايته (أمل الحياة: تقريبًا 60 سنة)، تبدأ النخلة تعطينا كل عام أكثر بكثير مما نعطيها، الحمد
لله أصبحت حقوقنا عندها تفوق واجباتنا نحوها، الله يدوّم عشرتنا.
2. الواجبات والحقوق في شركات القطاع العام (النقل العمومي، الستاڤ، السوناد، تونس
الجوية، ميناء رادس، الحوض المنجمي، إلخ): لنفرض جدلاً أن فكرتي صائبة، فكرتي
الداعية إلى دسترة مَنْعِ الإضراب عن العمل خاصة في شركات القطاع العام، فكرة
تستند للتعليل التالي: شركات القطاع العام أنشِئت بفضل مساهمات دافعي الضرائب وتشتغل
بأموالهم، فهي إذن مِلكًا لهم بما فيهم عمّالها وموظفيها. فهل يستقيم إذن أن يُضرب
المالك عن العمل في ملكه؟ وهل يُضرب الفلاح الجمني و"لا يُصوِّبُ باكرًا إلى
سانيتِه" (أي لا يلتحق بأرضه للعمل)؟ يقولون اليوم أن جميع شركات القطاع العام
شركات خاسرة.
لنأخذ مثال 1، شركة الفوسفاط بڤفصة، هي شركة خاسرة
بشهادة الجميع، ونحن نرى الإضراب وراء الإضراب. لماذا لا يصبر العمال وقتيًّا على
شركتهم، ملكهم ومصدر رزقهم؟ كما صبرنا نحن على نخلة الدڤلة ملكنا ومصدر رزقنا.
يقومون بواجباتهم، يزيدوا في الإنتاج، ثم بعد ذلك يطالبون بحقوقهم عن طريق
المفاوضات دون المس بالإنتاج والإنتاجية. نحن نرى أيضًا الشاحنة الخاصة وراء
والشاحنة الخاصة، تنقل طن الفوسفاط بـ25د
عوض نقله بـ5د في عربات قطار الشركة العمومية للسكك الحديدية، والمصيبة تبلغ
أقصاها وأقساها عندما نسمع أن صاحب الشاحنات الخاصة هو نائب في البرلمان، يعني،
نائب الشعب يتحايل ويسرق قُوتَ الشعب.
لنأخذ مثال 2، شركة السكك الحديدية، هي شركة خاسرة أيضًا
بشهادة الجميع، ونحن نرى يوميًّا مراقب التذاكر يتغافل عمدًا عن مراقبة التذاكر،
يفعل الجاهل بنفسه أكثر مما يفعل العدو بعدوه، مَثله كمثل حيوان يقطع الغصن الذي
يحمله. لا يقوم بواجباته ويطالب بحقوقه، وكأن الحقوق تنزل مع الغيث من السماء.
ملاحظة منهجية ضرورية: ما قد يبدو لأكثر الناس غريبًا، لا يبدو لي
كذلك، على شرط أن يفهموا قصدي: أولا، أستثني من هذا المنع عمال وموظفي القطاع
الخاص، يُضربون كما يشاءون وكيفما يريدون ضد رب العمل، ويخسّرونه في الملايين حتى
يرضخ لطلباتهم، هذا صراعُ البروليتاريا ضد رأس المال، صراعٌ مشروعٌ بل هو صراعٌ محمودٌ عندي ومطلوبٌ، لكي يكبح العمالُ توحشَ
الرأسمالية، وهذا تحليلٌ أراه سليمًا، تحليلٌ ورثته عن الماركسية وما زلتُ
متشبّثًا به، واليساريُّ - في نظري، ماركسيًّا كان مثل الأكثرية، أو غير ماركسي
مثل الأقلية من أمثالي - مناهضٌ سِلمِيٌّ للنيوليبرالية الرأسمالية المتوحشة أو لا
يكون؟ مع التوضيح أنني لستُ مناهضًا لصغار التجار (العَطّارَى) ولا لصغار الفلاحين
ولا لصغار المستثمرين، على شرط أن جميع هذه المؤسسات لا تكبر وتتوحش، أي تبقى دومًا صغرى (à la mesure de
l`homme)، لكنني أفضِّل عنها - وبكثير-
مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي-التضامني كتجربة جمنة النموذجية الرائدة. ثانيًا، أطالب
بمنع الإضراب في القطاع العمومي (شركات القطاع العام والوظيفة العمومية كالتعليم
والصحة)، وذلك لأنني، وفي تصوري المثالي لهذا القطاع، أعتبرُه ملكًا للشعب
المضطهَد من قِبل النيوليبرالية الرأسمالية المتوحشة، بل أعتبرُه صديقًا للطبقات الفقيرة والمتوسطة، وفي نفس
الوقت فريسةً سمينةً يترصّدُها المستثمرون الكواسر الكوالش. مكسبٌ ثمينٌ للشعب،
مكسبٌ يجب المحافظةَ عليه والصبرَ عليه حتى يتعافى من أزمته كما يصبر الفلاح
الجمني على نخلته (إيه الصبر، وليست سهوًا أو غلطة مطبعية)، بل يجبُ علينا تطويرَه
حتى ينافس القطاع الخاص ويحدّ من تغوّلِ هذا الأخير المفرِطِ.
المصدر: محاضرة
على اليوتوب للفيلسوف، عنوانها (La frustration dans la société de consommation).
إمضاء مواطن العالَم
"النقدُ
هدّامٌ أو لا يكونْ"،
"المثقّفُ هو هدّامُ
القناعاتِ والبداهاتِ العموميةِ" فوكو،
و"إذا كانت
كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران.
تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، السبت 12 جانفي
2019.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire