حول السؤال
التقليدي "لماذا تثورُ الشعوبُ؟"، يقول عالِم السياسة الأمريكي برّنڤتون
موور: "لماذا لا تفعلها أكثر؟". وعندما يثير زملاؤه مسألة الفقر والتمييز
العنصري، يردّ موور قائلاً أن هذه المسائل ليست بجديدة، بل هي مسائل نراها -
مأساويًّا - ثابتةً، مستقرةً، ومُلازمةً لكل العصور ونجدها في كل الأمصار، دون أن
تُحرّكَ في الشعوب ثورات أو انتفاضات. وحتى لو كانت ضرورية في جميع التحركات،
فيبدو لي أنه من الصعب اعتبارها سببًا مباشرًا...
بالنسبة
لموور، إن القطيعة التي تحدث فجأة في "الميثاق الاجتماعي الضمني" (pacte social
implicite)، ونُسمّيها ثورةً أو انتفاضةً، هي عادةً ما
تأتي بعد تحولات تكنولوجية أو اقتصادية، تحولات تخلط الأوراق وتوفّر فرصًا ثمينةً
لمراجعةِ مكاسبَ قديمةٍ فقدها الشعبُ.
بعض النخَبِ
تعجز عن استشراف ما سيحدث لشعوبها، بل تعجز حتى عن إدراكه بعد وقوعه أو مجرد فهمه،
فظهرت بمظهر عناصر طفيلية (parasites)، وفقدت شرعيتها كنُخَبْ.
ولكي نقنع
أنفسَنا بواقعية تحليل موور وحينيته، يكفي أن نذكّرَ بالتحولات المعاصرة التي تحدث
في سوق الشغل: أصبح الشغلُ أكثر مَكْنَنَةَ (robotisation) ونقصت الحاجة لليد العاملة. تحولات "زعزعت
الثابت" حسب تعبير عالِم الاجتماع روبير كاستال، وكل مَن لم تَطله هذه
التحولات وحافظ على شغله اليدوي، فسيجد نفسه مضطرًّا لبذل تضحيةٍ أكبر حتى يصل إلى
آخر الشهر دون اقتراض، تضحية ومعاناة يتسابق في وصفهما أصحاب "السترات الصفراء"
كل يوم سبت في جل نقاط المرور الدائرية الفرنسية (rond-point)...
هذا التغييرُ
وَلَّدَ لدى ذوي الدخل الأدنَى شعورًا بالظلم الاقتصادي والتهميش الاجتماعي، كما
حلل موور، ويفسر جزئيًّا أبعادَ غضب السترات الصفراء ضد الزيادة في فرض الضرائب
على الفقراء وفي نفس الوقت تخفيفها على الأغنياء، مع الإشارة المهمة أنه، وفي عصر
العولمة الرأسمالية الليبرالية المتوحشة، فَقَدَ مسؤولو الدولة صفتهم كحكام بين
الطبقات (arbitres)، وانحازوا انتهازيًّا للنخب الاقتصادية البورجوازية لكنهم
بقوا في وضعية الطفيليات.
نُخبةُ، أصبح
غسيلُها منشورًا في جميع نقاط المرور الدائرية في كل مدن وقرى فرنسا، وأصبحت
فضائحها محل تندّرِ "السترات الصفراء" كل يوم سبت: وزراء وبرلمانيون متهرّبون من
العدالة والضرائب (scandales de prévarication et de fraude fiscale)، أو متواطئون مع
لوبيات المال الفاسد...
يبدو أن جميع
التنظيمات السياسية، أحزاب ونقابات، فقدت مصداقيتها لدى المحكومين الذين لم يعودوا
يصدّقونها فهجروها جميعًا واعتبروها كلها، ودون تمييز إيديولوجي، عجلات في دولاب
"النظام" (système)، حتى ولو كان بعضها يدافع عن بدائل لهذا
"النظام". وهذا هو ما يفسر لماذا لم ينجح إلى حد الآن أي حزبٍ في احتواء
أو تأطير حركة "السترات الصفراء" أو حتى توفير مخرج خلاف الدعوة إلى
انتخابات سابقة لأوانها.
هذا المأزق
يكشف لنا لماذا اضطرّت حركة "السترات الصفراء" إلى التنظم-الذاتي (l`auto-organisation) والفعل-المباشر (l`action directe). لذلك أصبح المحتجون لا
يبحثون عن وساطة المنظمات، سياسية كانت أو نقابية، ولا يلتجئون البتة إلى قنوات
الاحتجاج الروتينية، بل أصبحوا يفضلون التوجه مباشرة إلى ممثلي السلطة في قصر
الرئاسة في الإليزي وفي مقرات الولاة، بل يدعون صراحة لاقتحامها كلها، وتعطيل
مراكز الدولة الحساسة، ثم: نقاط المرور الدائرية الفرنسية، مخارج ومداخل الطرقات
السيارة
(péages)،
حدودْ، أو مستودعات
الوقودْ...
المصدر:
Le Monde diplomatique, janvier 2019, Extrait de
l`article «Pourquoi maintenant ?», par Laurent Bonelli, maître de conférences en science politique à l`Université Paris Nanterre, p. 13
إمضاء المترجم مواطن العالَم، دون إضافةٍ أو تعليقٍ
"النقدُ هدّامٌ أو لا يكونْ"،
"المثقّفُ هو هدّامُ
القناعاتِ والبداهاتِ العموميةِ" فوكو،
و"إذا كانت
كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران.
تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الثلاثاء 22 جانفي
2019.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire