jeudi 15 avril 2021

هل يستطيع التلميذ بناء معرفة علميّة جديدة فوق معرفته غير العلميّة القديمة ؟ المؤلف مواطن العالَم والديداكتيك

 


استوحيت هذه الفقرة من محاضرة حضرتُها في سوسة بمناسبة الأيام الوطنيّة الثالثة لتعلّميّة علوم الحياة والأرض في 22 و23 نوفمبر 2008 بسوسة.  قدّم هذه المحاضرة الأستاذ   (André Giordan مدير مخبر الفلسفة وتعلميّة العلوم بجامعة "جنيف" في سويسرا، حول تصوّرات التلميذ أو المكتسبات التي يأتي بها للقسم (Les conceptions de l’apprenant) وبدأ بطرح النماذج المختلفة التي نستعملها لمعالجة هذه التصورات غير العلمية:

- النموذج الأول: نتجاهل هذه التصورات غير العلمية لدى التلميذ ونعتبر  هذا الأخير  وعاءً فارغا، وعلى المدرس أن يملأه بالمعرفة، أو نعتبره صفحة بيضاء يكتب فيها المعلّم ما يشاء.  سادت هذه المقاربة في التعليم آلاف السنين حيث المعلم يعرِف كل شيء والتلميذ لا يعرف أي شيء.

- النموذج الثاني: نتجنّب هذه التصورات غير العلمية حتى لا ترسخ في ذهن التلميذ أو تعيق اكتسابه للمعرفة العلميّة الجديدة. هذه مقاربة "المدرسة السلوكيّة" (واتسون وسكينر) التي تسود الآن في التعليم التونسي وتَعتبر التلميذ علبة سوداء لا يعنينا ما بداخلها ولا نحاول فهم آلية تشغيلها. نلقّن التلميذ معارف متفرقة وفق مواد منفصلة عن بعضها البعض ونطلب منه حفظها واسترجاعها يوم الامتحان كما تلقاها دون اجتهاد ذاتي. لا يتساءل أصحاب هذه المقاربة عن "ميكانيزم" أو كيفية فهم التلميذ للدرس أو آلية اكتسابه للمعرفة. لقد توصل التلامذة بذكائهم الجمعي إلى كشف وفضح الخلل الأساسي في هذه المقاربة وعبّروا عنه في احتجاجاتهم عندما رفعوا شعارهم الواقعي والساخر مخاطبين مدرّسيهم "بضاعتكم رُدّت إليكم!" وهي في الحقيقة بضاعة المدرس وليست بضاعة التلميذ لأن هذا الأخير لم يشارك في صنعها وفي اكتسابها بل فُرضت عليه غصبا فحفظها وكررها كالببغاء وحملها دون فهم أو تملّك.

- النموذج الثالث: يجب أن نتعرّف علي هذه التصورات غير العلمية حتّى نحدّد الرسالة المعرفية التي نريد تمريرها في البرامج. هذه مقاربة "المدرسة البنائيّة" (بياجي) التي حررت التلميذ من التبعية للأستاذ ومنحته الثقة في قدراته الذهنية وأكدت أن المتلقي قادر عل بناء معرفته بنفسه لو وفرنا له الوسط المناسب والمدرس الكفء.

- النموذج الرابع: يجب أن نعالج هذه التصورات غير العلمية وهذه مقاربة "المدرسة الاجتماعيّة-البنائيّة" (فيڤوتسكي ودواز ومونيي). ينقسم هذا النموذج الرابع إلى قسمين:

- القسم الأول من النموذج الرابع: نعالج تصورات التلميذ غير العلمية بالإفصاح عنها داخل القسم  حتّى تصبح مصدر تحفيز له.

- القسم الثاني من النموذج الرابع: نعالج التصورات غير العلمية للتلميذ وذلك بتوظيفها في عمليّة التعلّم. يتفرّع هذا القسم الثاني إلى ثلاثة فروع:

- الفرع الأول من القسم الثاني للنموذج الرابع:  نستفيد من التصورات غير العلمية للتلميذ ولا ننفيها ونحاول إبرازها ومكافحتها بالمعرفة العلميّة الجديدة.

- الفرع الثاني  من القسم الثاني للنموذج الرابع: نحاول تفنيد التصورات غير العلمية للتلميذ وتفكيكها وهذه "مقاربة القطيعة الإبستومولوجيّة" لباشلار. في هذه الحالة قد تعترضنا الصعوبة التالية: إذا جابهنا التلميذ بأخطائه فقد نصل إلى نتيجة معاكسة تتمثل في تعطّل تفكيره وفقدانه للتوازن الذهني أو إصابته غير المقصودة بالإحباط النفسي. مثلا: يتصور التلميذ أنّ القلب هو مصدر الحب. نُفنّد هذا التصور غير العلمي لديه بالتذكير بعمليّات زرع القلب فإذا زرعنا قلبَ شخص ميت للتو  في جسم آخر حي. هل ينتقل شعور المتبرع الميّت إلى المستفيد الحي؟ قد يجد التلميذ نفسه مجبرا على القطيعة التامة مع معارفه السابقة مما قد يسبب له حرجا وفشلا وعائقا في مستقبله الدراسي.

- الفرع الثالث من القسم الثاني للنموذج الرابع: يجمع الفرع الثالث بين الفرعين الاثنين السابقين ويتمثّل في الاستفادة من التصورات غير العلمية للتلميذ ونفيها في نفس الوقت. مثلا: يتصور التلميذ أنّ النبتة الخضراء تتغذّى من التربة فقط. نُفنّد تصوره هذا الذي يتأرجح بين العلمي وغير العلمي بالتذكير بالنباتات التي تعيش خارج التربة تماما  في الماء أو في الهواء، مِجهريه كانت أو مَرئيّة أو بالنباتات الطفيليّة التي تعيش على كاهل نباتات أخرى دون تربة. نتساءل ونقول: لماذا ننفي دائما تصور التلميذ ؟ فتصوره قد يحتوي على جزء من الجواب الصحيح، لأن النبتة في الأرض تأخذ بعض غذائها المتمثّل في الأملاح المعدنيّة والماء من التربة وتكمل أكثر غذائها من ثاني أكسيد الكربون المتوفّر في الهواء المحيط بها عن طريق وظيفة التركيب الضوئي. يتعلّم التلميذ في هذه الحالة بالاعتماد على تصوراته القديمة (تتغذّى النبتة من التربة) وفي نفس الوقت ضدّ هذه التصورات (تتغذّى النبتة أيضا من الهواء). يتكوّن هذا النموذج الثنائي المتضاد من العمل مع/ضد التصورات غير العلمية للتلميذ ويتضمن عدة متناقضات يجب المحافظة عليها وإذكائها عند اختفائها وهي المتناقضات التالية:

Ø     يتطلب التعلم مجهودا يتناقض مع اللذة, لكن قد يحتوي هذا المجهود على لذة تسمى لذة بناء المعرفة وهي محرك مهم للبحث عن الجديد.

Ø     على المدرس أن يعارض التلميذ ويكشف له عدم علمية تصوراته لكن في نفس الوقت يساعده على تجاوزها وعلى بناء تصورات علمية بديلة. مَثله كمَثل مَن يهدي عكازين طبيين لمعوق عضوي قبل أن ينتزع منه عكازيه التقليديين.

Ø     يفقد المتعلم توازنه الذهني عندما يتلقى معارف تنفي معارفه الراسخة والمريحة لكن في نفس الوقت يستطيع هضم هذه المعارف الجديدة بمساعدة المدرس والأقران فيستعيد توازنه الذهني ويبقى في حالة "توازن/لا توازن" دائم، وضعية غير مريحة لكنها محفزة ومفيدة.

 

نحن المدرسون، نعلِّم التلميذ كيف يجيب ولا نعلمه كيف يسأل. فهل طلبنا مرة من التلامذة أن يعدّوا جماعيا فرضا تأليفيّا قبل أن يجتازوا الفرض التأليفي الرسمي ؟ لقد حاولتُ في قسمي القيام بهذه التجربة الطريفة والمفيدة واكتشفت من خلال إجابات التلامذة أنماطا من الأسئلة لم تكن تخطر على بالي قبل هذا التمرين وفي نفس الوقت استفاد التلامذة من المراجعة والاستعداد للامتحان والتدرب على العمل الجماعي.

قديمًا كان المتعلم يكتسب زادا معرفيا صالحا مدى الحياة مثلا: أستاذ علوم الحياة والأرض يتخرج مُجازا ويبقى كامل حياته المهنية يجتر هذا الزاد ولا يجدده لأنه لم يتعلم كيف يتعلم بنفسه وقِس على هذا المثال، الطبيب الذي يعالج حالات مرضية جديدة بعقلية طبية قديمة والمسؤول المتخرج في الستينات من القرن العشرين الذي يتعامل مع مرؤوسيه بعقلية البايات والمعلم القديم الذي لا يزال يربي الأجيال الجديدة بعصا مؤدب الكتّاب التقليدي.

أما اليوم فالعلوم البيولوجية تتجدد كليا  تقريبا كل سبع سنوات وعلوم الإعلامية كل أربع سنوات. لقد انتهت مدة صلوحية زاد الأمس ولو أصررنا على مواصلة استعماله لأصِيب تلامذتنا بالتخلف الذهني. لذلك نرى أنه من واجبنا تعليم التلميذ طريقة "التعلم الذاتي" حتى يكون قادرا على تجديد زاده العلمي بنفسه كل ما جدّ جديد. لذلك قد ينطبق اليوم المثل الصيني الشهير تماما على طريقة "التعلم الذاتي": "لا تعطني سمكة بل علمني كيف أصطاد".

يبدو لي أن كل النماذج البيداغوجية والتعلمية  التي تعرّضنا إليها في هذا المقال تبقى صالحة على شرط استعمال كل واحد منها في موضعه المناسب ووقته الملائم. مثلا: في مؤتمر علمي حيث يتقارب المستوى العلمي للمشاركين والمحاضرين، يذهب المشاركون مباشرة لنموذج المواجهة (Discours frontal) ويدخلون في نقد وتفنيد المعارف المقدمة من قِبل المحاضر دون مقدمات أو مجاملات فارغة.

 

خلاصة القول

         بعد نيل شهادة الدكتورا في تعلميّة البيولوجيا, أشعر وكأنني لست واثقا من معارفي تمام الوثوق وأشعر في نفس الوقت أنني متأكد من كل شيء وبما أنني في حالة تعلّم متواصل أشعر دائما بالتوازن وفقدان التوازن المعرفي والقِيَمي وهذا قَدَرُ الباحِثِ.

 

المصدر: كتابي، الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي - سَفَرٌ في الديداكتيك وعِشْرَةٌ مع التدريس (1956-2016)، طبعة حمرة، 2017 ، 488 صفحة (ص.ص. 298-303).

 

إلى المنشغلين والمنشغلات بمضامين التعليم:

نسخة مجانية من كتابي "الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي" على شرط التسلم في مقهى الشيحي أو نسخة رقمية لمَن يرغب فيها ويطلبها على شرط أن يرسل لي عنوانه الألكتروني (mail).

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire