هذا
المقال أيضا هو عبارة عن ترجمة مختصرة مع إضافة متواضعة لمحاضرة ألقاها صديقي
الموسمي، العالِم الفرنسي في علوم التربية "أندري جيوردان"، خلال مؤتمر
الأيام الوطنية الثانية للجمعية التونسية لتعلّمية علوم الحياة والأرض المنعقد بالحمامات من 28 إلى 31 مارس سنة
2007. كادت التعلمية أن تُسمّى "إبستمولوجيا التعليم" ويا ليتها أصبحت.
ما هو أثَّرُ عِلم البيولوجيا
في اقعنا
ومجتمعنا ؟ هل نحن بصدد مراقبة
تأثيراته على المحيط ؟ ما مدى سيطرتنا عليه ؟
تبدو العلوم بما فيها
البيولوجيا معقدة ومجردة... جل التلامذة لا يفهمون منها شيئا !!! قال تلميذ وهو ينظر إلى صورة حيوان منوي: "هذه صورتي عندما
كنت صغيرا". اليوم أصبحت العلوم بما فيها البيولوجيا مملّة.
نلاحظ نقصا في التساؤل
والحيرة العلمية لدى التلامذة خلال مدة الدراسة وهبوطا في عدد الطلبة المنتسبين
للشعب العلمية.
من 1996 إلى 1999، نزل عدد الطلبة الفرنسيين المسجلين بكليات العلوم بنسبة 13 بالمائة وكانت شعبة الفيزياء المتضررة الكبرى
(Nature vol.
401, 21/10/99).
في ألمانيا، تدنَّى عدد طلبة السنة الأولى فيزياء إلى النصف بالمقارنة مع سنة 1991 وأصبح عدد المتخرجين لا يستجيب لاحتياجات الصناعة والبحث العلمي
(Nature
vol. 394 6/08/98).
في اليابان، رغم أن عدد الباحثين الشبان في الاختصاصات العلمية هبط من 11 في المائة سنة 1977 إلى 4 في المائة سنة 1995 فإنهم يواجهون اليوم صعوبات كبيرة في الانتداب
(Nature
vol. 391 1/01/98).
العلوم،
هي شيء معقد...العلوم تزعج. ساعات دروس العلوم تبدو منفّرة ومتجهّمة ومكروهة وغير
سائغة... نفس الأخطاء تستمر من الروضة إلى الجامعة. لا نعرف موضعنا في هذا العالم.
عالم العلوم هو عالَم الاصطلاحات وعالَم الاعتباطي. الصرامة العلمية صرامة خانقة
وغير إنسانية. العلوم لا تهتم إلا قليلا بالحياة اليومية ومسائل البيئة والمجتمع
وعلم الأخلاق (Éthique
).
المدرسة
لفظت العديد من التلامذة الأذكياء بسبب العلوم. العلوم تخدم سياسة الانتقاء.
لكن... ماذا نتعلّم ؟ ولماذا ؟
نتعلم
علوم الحياة والأرض والعلوم المرجعية وتاريخ الطبيعة
وعلم النباتات وعلم الحيوانات وعلوم الحياة وعلم كيمياء الأحياء وعلم الوراثة وعلم
"التخلّق المخي" (Épigenèse
cérébrale ). يقول هذا العلم الأخير
والجديد أن الذكاء تصنعه مليون مليار وصلة عصبية بين الخلايا المخية في تفاعل
مستمر بين الوراثي والمكتسب اليومي.
يقول
صاحب السيارة: "أخيرا نقص ثمن البنزين"، يعلّق المترجل: "وارتفع
ثمن علاج سرطان الرئتين".
نتعلم
حتى نعرف كيف نحافظ على البيئة وكيف نقاوم تبذير المياه والإفراط في استعمال
مبيدات الأعشاب ومبيدات الحشرات وتسرّب المعادن الثقيلة في أجسام السمك المستهلك
وتكاثر الملوثات العضوية الدائمة وكثرة
الفضلات المنزلية وزراعة البذور المعدلة وراثيا وإشعاعات النفايات النووية
وتزايد الاحتباس الحراري جرّاء اتساع ثقب الأوزون وانتشار السيدا (مع الإشارة أن
ليس للسيدا علاجٌ شافٍ ولا تلقيح واقٍ حتى الآن) وتغليف الأسقف والجدران بالأمينت
أو الورق الحراري (L`amiante) ونقل الدم الملوث (منذ 10 سنوات
تقريبا، أصاب دمٌ ملوثٌ بفيروس السيدا العديد من الكهول وخاصة الأطفال، حدث هذا في
منشئه بفرنسا وفي بعض الدول التي استوردته كالعراق وتونس وليبيا) وعدوَى انفلونزا
الطيور والخنازير (أصابت الملايين من المواطنين بالهلع دون مبرّر وأصابت بعض الدول
بالعجز المالي نتيجة شراء التلاقيح المضادة) وظهور الأمراض الناتجة عن العدوى داخل
المستشفيات (Les infections nosocomiales)
وارتفاع نِسب التلوث الجوي والبحري والبري والصوتي.
نتعلم
البيولوجيا حتى نشارك في حل مشاكل البشر
بالطرق الطبية الحديثة
التالية:
العلاج الجيني (Thérapie
génique)
العلاج الجيني هو إستراتيجية علاجية
ترتكز على إدخال جينات في خلايا أنسجة الفرد لعلاج المرض. يهدف العلاج الجيني إلى
استبدال ِجِينة أو مورّثة متحولة مَعِيبة بجينة سليمة وظيفية أو الزيادة في إنتاج
بروتين قد يكون لنشاطه تأثير علاجي على الجسم.
الاستنساخ العلاجي (Clonage thérapeutique )
يمكن أن يؤدي الاستنساخ
البشري العلاجي إلى إنتاج أعضاء أو خلايا وهو يمثل تحديا أساسيا قد يعزز إمكانية
زرعِ أعضاءٍ أو خلايا لتحل محل أخرى متضررة
أو مدمرَة تماما مع ضمان توافقها الجيني مع المريض المستفيد. قد يكون
للاستنساخ العلاجي فائدة مزدوجة تتمثل في معالجة الأزمة الناتجة عن النقص في
الأعضاء الممنوحة وتُجنِّبُ المريض المستفيد مشقة أخذ العلاج مدى الحياة ضد احتمال
رفض العضو المزروع من قِبل الجسم المستفيد.
الإنجاب بمساعدة طبية (Procréation
médicalement assistée)
تمثل
التكنولوجيا الإنجابية مجموعة من الممارسات الطبية والبيولوجية حيث تسمح بالإنجاب للأزواج المصابين بالعقم. على الرغم من الارتباك الشائع ، لا ينحصر الإنجاب بمساعدة طبية في الإخصاب في
الأنابيب أو التخصيب في المختبر ونقل الأجنة فقط وهي ليست إلا طريقة من بين طرق
أخرى: تسمى هذه التقنية البيولوجية عادة بأطفال الأنابيب وهي تسمية قد تجر التلميذ
إلى الخطأ فيذهب في ظنه أن الجنين يكبر ويتكون داخل أنبوب والواقع أن تلقيح
البويضة بواسطة الحيوان المنوي هو فقط الذي يتم داخل أنبوب في المختبر ثم يُنقل
"الجنين-المضغة" إلى رحم أمه أو رحم كراء حيث يكمل التسعة أشهر مثل أي
جنين عادي (أو رحم اصطناعي في المستقبل الواعد البعيد-Henri
Atlan).
نحاول
الآن إدماج تطلعات جديدة في التعليم مثل التربية البيئية والتنمية المستدامة
والتربية الأسرية أو الصحية أو الجنسية.
نبحث في الميدان ونحتك بالمحترفين ليس فقط في العلوم المدرَّسة نظاميًّا ( Savoirs disciplinaires) بل في العلوم الأفقية (Savoirs transversaux) والمواقف (Attitudes) والتمشيات (Démarches) وكيف أكون (Savoir-être). ما هي مواقفي ؟: أحاول اكتساب الحيرة العلمية والثقة بالنفس والحس النقدي والرغبة في البحث والفهم و التواصل والانفتاح على المحيط والخيال الإبداعي. ما هي مهاراتي (Savoir-faire) وتمشياتي مثل المنهجية التجريبية (Méthode expérimentale) والمقاربة الشاملة (Approche systémique) وتملّك المعلومة (Maîtrise de l’information ) وتوضيح "الوضعية-المشكل" (Clarification de la situation-problème) والنَّمْذَجَة والتطبيق الافتراضي (Modélisation et simulation) والمحاججة (Argumentation) وتوظيف المعرفة في المكان والتوقيت المناسب (Mobilisation du savoir) والدهشة والمشاهدة والملاحظة (Observation) وطرح الفرضيات (Hypothèse) والتجريب
(Expérimentation)
والتفكير (Raisonnement ) والتأويل (Interprétation ) ثم نستنتج (Conclusion): محطات منفصلة في البحث العلمي،
لا تربطها إلا علاقات خطية متكلّسة، فاتها البحث العلمي وعوّضها بشبكة معقدة من
العلاقات بين الفرضية والتجربة والإشكالية والاستنتاج. يراوح الباحث ويجسّر [ يبني
جسورا ] بين المحطات المذكورة أعلاه دون ترتيب ودون تمييز ودون تزمين.
علينا أخيرا ربط الاستهلاك
بالمواطنة من خلال مقاربات محسوسة وذات معنى لا أن نضيِّع جهدا ونلوث محيطات من
أجل صنع دراجة بسيطة مثلا: تُصنع قطع غيارها في 30 دولة مختلفة، منها على سبيل
الذكر لا الحصر، إيطاليا، البرتغال، بلجيكا، تايلندا، اليابان، ايرلندا، الصين،
تايوان، إلخ... وتُجمّع في سلوفاكيا. تُنقل هذه القطع من أقصى العالم إلى أدناه
عبر الزوارق في الأنهار وفوق الشاحنات في السهول والجبال وفي الطائرات وداخل
البواخر في البحار والمحيطات.
خلاصة الموضوع
نحاول إخضاع تدريس البيولوجيا
وتكنولوجياتها إلى وقفة تأمل في الأهداف والغايات ونضيف في البرنامج تدريس علم
الأخلاق والإبستومولوجيا وعلم الاجتماع وتاريخ العلوم و"إدراك عملية الإدراك" (La Métacognition)
حتى نفهم تعقّد العلوم (La complexité)
والصُّدْفَوِي فيها (L’aléatoire)
وغير المحقق أو المشتبه فيه (L’incertain).
لكن يبدو أن تغيير السلوك مهمة صعبة.
ملاحظة: العالم الفرنسي "أندري جيوردان" خَلَفَ العالِم السويسري المشهور البيولوجي والابستومولوجي "جان بياجي" (المؤسس) منذ وفاته سنة 1980، خَلَفَه في "مخبر تعلّمية وإبستومولوجيا العلوم بجنيف"
(Laboratoire
de didactique et épistémologie
des sciences - LDES).
المصدر: كتابي، الإشكاليات العامة في النظام
التربوي التونسي - سَفَرٌ في الديداكتيك وعِشْرَةٌ مع التدريس (1956-2016)، طبعة حمرة، 2017 ، 488 صفحة (ص.ص. 257-263).
إلى المنشغلين والمنشغلات
بمضامين التعليم:
نسخة
مجانية من كتابي "الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي" على شرط
التسلم في مقهى الشيحي أو نسخة رقمية لمَن يرغب
فيها ويطلبها على شرط أن يرسل لي عنوانه الألكتروني (mail).
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire