vendredi 25 mars 2022

رأي في الجمهور. علي حرب

 

كتاب "خطاب الهوية. سيرة فكرية" لعلي حرب، الطبعة الأولى 1996، دار الكنوز الأدبية، بيروت لبنان، 176 صفحة.

نص علي حرب:

صفحة 26: فالجمهور أو العامة لا يدركون الأمور بالعقل والبرهان بل يدركونها بالمناسبة والتمثيل، أي بما يناسبها من الأمثلة المحسوسة والشواهد الملموسة. وهم لا قدرة لهم على تأويل الحقائق، بل يقفون عند الظاهر ولا يتعدونه إلى الباطن. وهم لا  يتفقهون في المسائل ولا يتدبرون الأفعال، بل يقلدون في آرائهم العلماء ويطيعون في أفعالهم الرؤساء وينفذون الأوامر دون نظر أو تدبير. ومما زاد في اقتناعه برأي الحكماء في صفات الجمهور، أنه كان ينظر إلى العوام من الناس وهم الجمهور الغالب والسواد الأعظم، فيراهم يؤلّهون رؤساءهم ويجلّون علماءهم ويخلعون عليهم ألقاب الآلهة، فيمجّدونهم ويعظّمونهم وينزّهونهم عن الضد والند والشريك، ويعتقدون بعصمتهم عن الخطأ ويتماهون معهم ويتعصّبون لهم ويغضبون لغضبهم. بل كان يرى أحيانا أن الناس يغضبون لرؤسائهم الأموات منهم والأحياء، أكثر مما يغضبون لله الواحد المتعالي. بل كان يرى أن الإساءة إلى الرؤساء قد تجر الخلق إلى فتنة لا تحمد عقباها. وتفكر في هذا الأمر وأمعن فيه فتقررت عنده جملة حقائق:

لقد تقرر عنده أولا أن الجمهور ليس عقلا ولا رأي له. فلا تنفع معه الحجة ولا يقنعه الدليل. بل الأنفع و الأعدل بحقه التسليم والتقليد والانقياد. وقد وجد أن هذه الصفة لا تختص بجمهور دون آخر، وإنما تشترك فيها الجماهير عامة عند كل أمة وملة وفي كل عصر وحال. وتبين له إذ ذاك خطل الآراء التي تتحدث عن تحرر "الجماهير" و"وعي" الطبقات. إذ الجمهور هو هو على الدوام، قوة غفل ومادة للانقياد. وجمع، لا وعي له ولا يملك زمام أمره. فأكثرهم لا يعقلون ولا يفقهون. ولذلك سرعان ما تبدل الجماهير والعامة مواقفها وتنقلب على أوضاعها، فتنتقل من النقيض إلى النقيض.

على أنه رأى أن تلك الصفة هي صفة الجمهور بما هو جماعة إنسانية وكينونة جماعية، لا صفة الفرد الواحد والكائن العاقل. إذ لم يخامره شك في أن الفرد الواحد من الناس يدرك ويعقل، فيميز بين الحق والقبح، والخير والشر، والنفع والضرر. غير أنه وجد أن الجمهور، بما هو جماعة، محتاج دوما إلى رئيس مدبر عاقل يسوسه ويرعاه. ولهذا، كانت الجموع دوما آلة السلطان وموضوع السيطرة وأداة قيام الدول ونهوض الدعوات. وحتى ولو وجدت مجموعة من العلماء فإنها تحتاج، بما هي كينونة اجتماعية، إلى رئيس عاقل يدبرها ويدير شؤونها.

وتقرر عنده ثانيا أن الجماعة الإنسانية تأتمر بالغيب وتنزع إلى المتعالي وتهاب المقدس. وهي يستبد بها الوهم ويحركها الخيال وتعشق الرموز. وتبين له أيضا أن الجماعات بقدر ما تأتمر بالغيب وتحيا على نحو رمزي، فهي تميل إلى تجسيد الغائب في الهُنا والآن وفي الزمان والمكان، إذ لا بد من أن تشهد الغائب في الملموس واليومي والمعاش. وهي بذلك النقيض من الفرد الواحد العاقل. إذ الفرد العاقل ينطلق مما هو محسوس وعيني إلى المجرد والمعقول، وإلى الكلّي والغيبي.

(...) واتضح له كذلك أن طلب البرهنة في كل أمر من الأمور الاعتقادية قد تكون له مساوئه ومضاره بالنسبة إلى حياة الجماعة. ذلك أنه إذا كانت الجماعة لا تحيا حياتها من خلال العقل وحده، وإذا كان وجودها بما هو كينونة اجتماعية ينطوي على قدر من التوهم، فإن استخدام العقل قد يفكك عرى الجماعات الإنسانية، وذلك بقدر ما يميل العقل الباحث بالإنسان إلى تعرية الأوهام التي تغلف حياة البشر وهتك الأسرار التي تكتنف المقدسات وفك الرموز التي منها تُنسج المعتقدات والأساطير. فالعقد الاجتماعي بين البشر محتاج إلى معتقد. والمعتقد يضرب بجذوره في اللامعقول وينهل من الطاقة الرمزية التي يختزنها الإنسان، طاقة على الإيحاء والتخيل، وقدرته على إنتاج المعنى وخلق الدلالات.

فصحّ عنده ما ذكره ابن رشد في "تهافته"، وما مفاده أن لا شريعة تقوم على العقل وحده، وأن الشرائع التي تتجاوز المعقول إلى الغيبي والإلهي أحثُّ للبشر على الالتئام والطاعة والانقياد. ورجع إلى أقوال الشيخ الأكبر ابن عربي في نصوصه وحيث يؤكد أن الوهم سلطان أعظم في النشأة الإنسانية، وأن الشريعة نزهت بالعقل في التشبيه وشبهت بالوهم في التنزيه، فأثبتها وخلص منها إلى أن الإنسان يعقل بقدر ما يتوهم، وأنه لا ينفك عقل عن وهم ولا يخلو وهم من عقل.

 

 



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire