أنطلق هذه المرّة من جزء صغير من بحث علمي شخصي، أجريته على
عيّنة تتكوّن من 275 أستاذ تعليم
ثانوي
تونسيّ،
وذلك في إطار الإعداد لشهادة دكتورا في
اختصاص تعلمية البيولوجيا (la didactique de la biologie)،
2007، تحت إشراف جامعة كلود برنار ليون 1 بفرنسا وجامعة تونس.
في سؤال من جملة 25
طرحتُ
ما يلي: هل يوجد استعدادٌ جينيّ للإيمان بالله، يورّثه
الآباء للأبناء ؟
أجِب بنعم أو لا ثم
علّل جوابك.
بعد فرز الأجوبة, توصّلت إلي النتائج الآتية:
78,5 %
من الأساتذة أجابوا بلا و %14,3 بنعم و7,2 لم يجيبوا.
نصف المستجوبين
لم يعلّلوا أجوبتهم و40 % فسروا رفضهم لتوارث
الإيمان وعللوه بتأثير البيئة التي يعيش فيها الأبناء
و10 %
قدّموا
حججا أخري.
قبل أن أشرع في التحليل أطرح وأجيب
علي سؤال قد يُسأل:
السؤال: لماذا هذا البحث من أصله
والمسألة واضحة ومحسومة لدي أهل العلم بأن الإيمان
مكتسب وليس وراثيّا
؟
الجواب: كل العلماء يؤكدون أن لا
وجود لأي مسألة علمية واضحة ومحسومة. والدليل أن نفس السؤال قد طُرِحَ في نطاق بحث
علمي في أرقى الجامعات الغربية وأجابوا عليه كالتالي:
ورد في غلاف مجلة "العلم والحياة" (Science
& Vie) بعنوان: "مخّ الإنسان مبرمج للإيمان.
اكتشاف الجزيء المسئول عن العقيدة
؟". نتابع ما كُتب في الصفحة 49 من
المجلة:
-
توّصل فريق من الباحثين في جامعة سويدية إلي ربط درجة التديّن بنسبة "السروتونين" في المخّ وهي إفراز
عصبيّ ينقل المعلومات من خليّة عصبيّة إلي أخرى وهي هرمونة مخية مسؤولة عادة عن
الإحساس بالجوع والعطش والنوم.
-
وتوصّل فريق
آخر في جامعة أمريكيّة إلي ربط التديّن بما هو مكتوب رمزيّا في الجينات
(le
code génétique)
لا بالمحيط الذي ترعرع فيه الشخص المتدين.
انتهى
الاستشهاد بالمجلة.
بكل احترام للعلم والعلماء، أوجه
سؤالين إلي الفريقين المذكورين في المجلة:
-
أولا علي أي تديّن تتحدّثون ؟ المسيحيّة أم الإسلام أم اليهوديّة أم
البهائية أم البوذيّة أم المجوسيّة ؟
-
ثانيا، أين ذهبت جينة
التديّن عند الملحدين ؟ هل هي
موجودة وصامتة أم مفقودة تماما ؟ ومن المسؤول عن عدم وجودها أو صمتها ؟
نترك العلماء الأفاضل يواصلون
بحوثهم لعلّهم يكتشفون ما ينفع الناس أما الزبد فيذهب جفاء، ونعود الآن إلي بحثنا
الذي بيّن أنّ أكثرية الأساتذة يعتقدون أن الإيمانَ
مكتسبٌ وليس وراثيّا. يقول
المستجوبون أن الإيمان نابع من دور المحيط العائليّ والمدرسيّ والثقافيّ في نحت
سلوكيّات الإنسان وأفكاره ومعتقداته خلال تجربته الشخصيّة في الحياة. أما الذين
أجابوا بنعم فيبرّرون إجابتهم انطلاقا من نظرية الحتمية البيولوجية في إطار
التفكير (أو باراديـﭫـم) المسمى "كل شيء وراثي" والذي يؤكد على
أن كل الصفات الذهنيّة كالذكاء والإيمان
بالله محدّدة مسبّقا في الجينات مثلها مثل الصفات الجسدية كلون العينين أو فصيلة
الدم.
يبدو لي أن جل العلماء المعاصرين
تقريبا قد أجمعوا علي أن كل الصفات الذهنيّة والسلوكيّة هي وليدة التّفاعل الدائم
بين الموروث والمكتسب, أي بين الجينات والمحيط الداخلي والخارجي للخلية منذ نشأتها
من اتحاد الخليتيّن التناسليّتين البويضة والحيوان المنويّ.
خلاصة القول:
الإيمان بالله
هو سلوك ناتج عن إرث ثقافيّ مكتسب عبر العصور لكن لا يؤمن إلا من ورث مخّا بشرياّ
لأن الحيوانات لا تدرك الأفكار المجرّدة وهمّها الوحيد هو البقاء علي قيد الحياة
أطول مدّة ممكنة وإشباع رغباتها الغذائيّة وغرائزها الجنسيّة للمحافظة علي النوع.
نذكّر بأن الجدل العلميّ الذي كان
قائما بين النسبة المئوية للموروث والنسبة المئوية للمكتسب في الصفات البشريّة
وخاصة الذهنية منها، هذا الجدل أصبح جدلاً عقيمًا وقد ولّي وانتهي وأصبحنا نقول
اليوم أن الصفات الذهنية مثل صفات الإيمان بالله والذكاء والعنف هي صفات وراثيّة
بنسبة 100 % ومكتسبة بنسبة 100 % ،
وذلك لأن الأسباب الوراثية والمكتسبة المسؤولة عن
تشكّل الصفات الذهنية، عديدة ومتداخلة ومتشابكة فيما بينها وتتفاعل مع
بعضها باستمرار فلا نستطيع تجزئتها أو
فصلها ميكانيكيا عن بعضها البعض أو تحديد نسبة الوراثي فيها من نسبة المكتسب.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire