المصدر:
كتاب "مخاضات الحداثة التنويرية. القطيعة
الإبستمولوجية في الفكر والحياة."، هاشم صالح، دار الطليعة للطباعة والنشر،
بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 2008، 391 صفحة.
تمهيد:
إن اجتهادات
المثقف العربي طيلة القرن الماضي لإيجاد البديل للأزمة العربية الخانقة، لم تأت
بالحل كما توهّم بعض المثقفين التقدميين كالماركسيين والقوميين والليبراليين
العرب غير الملمّين عادة بالتراث العربي الإسلامي، أو كما أمِلَ بعض الناشطين
السياسيين منهم. وإنما البراديغم في حد ذاته (البراديغم لدى توماس كوهان، يشبه إلى حد
ما مصطلح الإبستميه لدى فوكو. أي تراث البحث السائد أو النظرية العلمية
السائدة في بيئة علمية ما وزمن ما) الذي سجن فيه
المثقفون العرب أنفسهم هو العلامة التي لا تخطئ الأزمة، حِدة الأزمة. إن مقالات أو
مقولات المثقف العربي المعاصر ليست العلاج أو الدواء وإنما هي أعراض المرض.
نص هاشم صالح:
صفحة 247: لم يترك المثقف العربي
طريقا إلا وجرّبه: من الإصلاحية السلفية إلى الليبرالية إلى الوجودية إلى
الماركسية إلى البنيوية إلى القومية الرومانطيقية إلى التراثية التقليدية أو
التراثية الثورية، ولكن المَخرج المناسب لا يزال عَصِيّا على المنال حتى الآن. ولا
تزال المعضلة الرهيبة صامدة كتلك الصخرة التي تحدث عنها شاعرنا العربي القديم:
كناطح صخرة يوما ليُوهنها .................
فلم يُضِرها و أوهى قرنه الوَعِلُ.
صفحة 248: كلنا يعرف أن الخط
الليبرالي قد سيطر على نخبة المثقفين في المغرب والمشرق منذ أواخر القرن التاسع
عشر وحتى منتصف هذا القرن. و كان يبدو بمثابة المَنفذ الصحيح إلى الحل. وقد أعطى
بالفعل عدة إسهامات جادة من خلال أعمال الطاهر الحداد وأحمد أمين وعباس محمود
العقاد وطه حسين... إلخ. ولكنه هُزِم فيما بعد على يد الخط الصاعد في الخمسينات:
خط القومية والاشتراكية الذي استطاع أن يواكب الثورة السياسية التحررية، وإن لم
يستطع تقديم أعمال فكرية كبيرة كتلك التي قدمها سلفه. ثم جاء الخط الماركسي في
السبعينات لكي يبدو أنه الحل والخلاص الأكيد. كيف لا وهو منهج علمي ذو حتمية لا
تقل صرامة عن حتمية القوانين الفيزيائية والكيميائية ؟ ثم تبخّرت الماركسية عن
سراب أو شيء يشبه السراب. وجاءت البنيوية بعدئذ لكي توهمنا بأننا قبضنا على الحل
والوصفة الجاهزة التي ستحل كل الأمور بضربة عصا سحرية. ثم خاب الأمل بها أيضا في
السنوات الأخيرة.
وأخيرا جاء الحل الإسلامي والثورة الإسلامية، وكانت النتيجة
التي نعرفها، والتي لا تزال مُجرياتها تتفاعل تحت أعيننا حتى الآن.
كل الخطوط جُرِّبت، وكل الدروب طُرِقت، ولكن الحل بقي
مستعصيا، والداء متأصّلا. كل الدروب جُرّبت إذن إلا درب واحد، لم يطرقه المفكرون
إلا نادرا، و من بعيد البعيد، وبالشكل الذي لم يكن ناجعا حتى الآن. ولا عجب في
ذلك، فهو الدرب الأبعد لأنه الأقرب، قرب فوهة القنينة من ذبابة
"فتغنشتين". فهو لشدة قربه منا وارتطامنا به يوميا لا نكاد نراه. إنه
كمن يبحث عن قلم أو ورقة في كل مكان والورقة أمامه على الطاولة مباشرة ولكنه لا
يراها.... كان من السهل على المثقف العربي في بدايات هذا القرن (القرن العشرون) أو
في منتصفه أن يقول: أنا ليبرالي مستنير، أنا خِرِّيج جامعات أكسفورد والسوربون
وبرلين، أنا متحرّر ولا علاقة لي بهذا التراث المتخلف والجامد الذي يشكل عبئا
عليَّ ووصمة عار أحاول التهرب منها.
(...) أما المثقف القومي أو القومي الاشتراكي الذي ظهر بعد
الخمسينات من القرن المنصرم فكان أقل تدرّبا على مناهج البحث والتفكير القادمة من
أوروبا. ولكنه كان أكثر تحمسا للسياسة والفكرة القومية الصاعدة بكل طيبة وعفوية
رومنطيقية. وأعتقد أنه قد اكتشف أخيرا الطريق إلى النهضة والخلاص المنشود: إنه
الخط القومي. ولا ريب أن اكتشافه كان صحيحا، فلا شيء أغلى على العرب من وحدة العرب
ففيها عزهم ومنعتهم. ولكنه اعتقد -وهنا وجه التسرع والخطأ- أنه يكفي أن نمزج بين
التراث والحداثة، أو بين الأصالة والمعاصرة بتلفيقة معيّنة وبطريقة معيّنة لكي
نتوصّل إلى الجواب. يكفي أن نبلوِر ذلك في عدة شعارات مبسطة وانفعالية لكي نستطيع
تجييش الجماهير ودفعها نحو تحقيق الهدف الأكبر. ولكن هزيمة الخامس من حزيران/يونيو
1967 والهزائم التي تلتها جاءت لكي تضع حدا لهذا الحلم الكبير والجميل، أو لكي
تعرقل تحقيقه، مرحليا على الأقل. فالأمور
أشد صعوبة مما توقعنا، والطريق أكثر طولا وتعرّجا والتواء. وكانت صدمة مفجعة أصابت
النرجسية العربية في الصميم. فجاءت التيارات الماركسية كعلاج يَجُبّ ما قبله. ذلك
أن الماركسية -أو ما فُهم منها و ما تُرجم ونُقل- قدّمت نفسها على أساس أنها نظرية
علمية لا تُناقش ولا تُرَد. وهل يُناقش العلم وقوانينه الحتمية ؟ وأفرزت في الساحة
الأدبية مذهبا نقديا مزعجا، باترا ومبتورا، يُدعى بالواقعية الاشتراكية. وراحت
تسيطر على بعض الساحات والجامعات على هيئة شعارات سريعة ومبتسرة. وجذبت الكثير من
الشباب المتحمسين، وكانت النتيجة المعروفة. فالماركسي العربي هو أيضا رجل تقدمي
مُفرغ من كل ما هو ماضوي أو تراثي. إنه رجل تقدمي لا يعبأ بمشاكل التراث ولا تهمه
دراسة الإسلام (أو المسيحية العربية الشرقية مثلا). والسبب أن هذه الأشياء عفا
عليها الزمن، أشياء مضت وانقضت، أشياء تخص الرجعيين فقط. وبالتالي فلا داعي للخوض
فيها أو الاهتمام بها، اللهم من خلال "المادية الديالكتية"
و"المادية التاريخية" وهكذا راح يُدَبّج الكتب التي تتحدث عن كل شيء ما
عدا التراث، وتُسقط ما ليس فيه عليه. وفي حين أن المثقف الليبرالي كان يدرس أحيانا
بعض هذه الجوانب ببعض الاعتدال والاستنارة، فإن المثقف الماركسي أراد القفز عليها
واعتقد بإمكانية قفز الجماهير المسلمة على تاريخها ونسيانه تماما بمجرد أن تعتنق
النظرية العلمية التي فسّرت سر التاريخ ولغز الكون !
مرة أخرى نلاحظ أن القفز على
المشكلة كان هو الحل المقترح، أو قُل الانحراف عنها والمواربة بدلا من مواجهتها
وجها بوجه، وعينا بعين.
ثم جاءت الحركات
"الإسلامية" الحالية وأعادت الأمور إلى نصابها. لا أقصد بالطبع إنها قد
وجدت الحل. وإنما أقصد أنها قد أجبرت بمجرد وجودها الضخم والكثيف في الشارع كل
هؤلاء المثقفين التقدميين من دون تقدم، والمتحررين من دون تحرر، على فهم أن حل
المشكلة لا يكون بالقفز عليها أو بالتعامي عنها، ثم لفتت انتباههم إلى أن المشكلة
ليست حيث يظنون ويتوهّمون ويسرحون، وإنما هي في مكان آخر مختلف تماما، إنها لا
تزال رازحة هنا، حيث هي. إنها في الصميم منا، إنها مشكلة العلاقة، الصحيحة أو
المَرَضِية، مع الذات التاريخية العربية-الإسلامية. والتحرر- إذا ما حصل يوما ما-
سوف يكون من داخل هذا التراث في صراع جدلي وخلاّق معه، وليس من خارجه.
كفانا إذن جريا وراء الأوهام وبُقع
السراب في الغرب أو في الشرق، كفانا إذن دَفْنًا للرؤوس في الرمال وتعاميا عن واقع
الحال والتاريخ. وهذا الحل التحريري لن يتم دفعة واحدة أو بضربة عصا سحرية، وإنما
درجة درجة، ومرحلة فمرحلة، وبعد يأس مرير وكفاح طويل (=الجهاد الأكبر). ذلك أن أي
تحرر آخر للعرب والمسلمين سوف يكون هشا ووهميا، وقابلا للانتكاسة عند أول صدمة
موجعة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire