jeudi 24 mars 2022

لننظر قليلا في أحوال أمتنا العربية-الإسلامية. علي حرب

 

كتاب "خطاب الهوية. سيرة فكرية" لعلي حرب، الطبعة الأولى 1996، دار الكنوز الأدبية، بيروت لبنان، 176 صفحة.

نص علي حرب:

صفحة 90: وكان قد نظر في أحوال أمته، فوجد خللا أساسيا واضطرابا دائما في أمور السياسة، وهي التي ترعى مصالح العباد وتسيّر شؤون البلاد. وقد ظهر له ذلك بوضوح منذ البداية. فمنذ انتهاء زمن النبوة وابتداء عهد الخلافة، والرئاسة عند أهل الإسلام لا تستقر على حال ولا يستقيم لها أمر. فقد كانت على الدوام مجالا للتنازع والاقتتال، وهدفا لِحَوك الدسائس والمؤامرات. ولم يكن بمقدور رئيس منذ حادثة السقيفة حتى الانقلاب الحديث، أن يحوز على الشرعية التامة أو أن يحيا حياة سوية. فهو إما أن يكون قابضا على الأمر، أو يكون في السجن أو المنفى أو القبر، إن لم يكن متخفيا يدبر المكائد للإطاحة بالسلطان القائم. وأظهر دليل على ما اعتوَر الحياة السياسية في ملته من الاضطراب، أن ثلاثة من خلفاء النبئ ماتوا قتلا. وقد بلغ السوء في بعض الأزمنة حدا كان حكم الخليفة لا يدوم فيه أكثر من يوم واحد. وهو يعرف أن كُتب التاريخ تضج بذكر الأخبار التي تصف ألوان الفساد السياسي وفنونه التي بلغت حد الفحشاء. نعم إنه يدرك أن أمته لا تنفرد بين الأمم بهذه المساوئ والمثالب. ولكن ذلك كان يحمله على التشكيك فيما يدعيه أهل ملته من الفضل لأنفسهم، وفي زعمهم احتكار الحق وحدهم من بين سائر عباد الله. وكان كلما أمعن النظر في تاريخ قومه، دعاه ذلك إلى التساؤل عما إذا كان قومه قد عاشوا حياتهم على نحو أصلح من غيرهم. بل ذهبت به الخواطر إلى التساؤل عما إذا كانت حياتهم بعد الدعوة، باستثناء عهد النبوة وزمن المعجزة، وهو زمن خاطف نادر الوقوع في حياة الشعوب، أفضل وأصلح من حياتهم قبلها، من حيث الرئاسة والسياسة، أو من حيث الوئام والسلام، أو من حيث الخُلق والمروءة.

ومما قوّى شكوكه ودعّم رأيه، أنه في اليوم الذي كان يناقش فيه مسألة العري (السفور والتحجب) مع زوجه ونفر من أهل بلده، سمع أن وزيرا في حكومة أولئك القوم الغرباء، قد غُرّم لتأخره عن الوصول إلى مجلس الوزراء في الموعد المحدد. وقد أدهشه السبب الذي يُعاقب من أجله مسؤول كبير في بلاد يُتّهم أهلها بالشرك والخلاعة والفجور. بينما الأمر في بلده على النقيض من ذلك. ففي بلده لا يكف أولو الأمر والوعاظ عن الدعوة إلى الاحتشام بإخفاء المفاتن وستر العورات. ولكن لا يُحاسب مسؤول في بلده على كبائر الأمور فكيف يُحاسب على صغائرها.

وتفكر فيما وجده عند الغير من الصلاح في بعض وجوه الحياة وما وجده عند أهله من الفساد في بعض الوجوه. فعلم أن الأمر ليس صلاحا كله ولا فسادا كله. وأعتقد أن التقوى قد تخفي فجورا والإيمان جحودا، والتوحيد شِركا، والطاعة معصية..

وشرع يضرب الأمثلة ويورد الشواهد لتأييد ما ذهب إليه. وقد نظر أول ما نظر في الصيام الذي هو ركن من أركان الدين وطاعة من أهم الطاعات. فكان يلاحظ من جهة أولى أن الناس يستعدون لاستقبال شهر الهدى، فيبتهجون لقدومه ويصبرون على صومه ويُراعون آدابه. غير أنه كان يلاحظ من جهة ثانية أن أسعار البقول ترتفع أضعافا مضاعفة مع حلول الشهر المبارك. والسبب في ذلك إما جشع التجار وإما ازدياد الاستهلاك لإقبال الناس على الشراء. مع أن شهر رمضان هو شهر التوبة والمحاسبة. ففيه ينبغي أن يتقي التجار ربهم بالامتناع عن رفع الأسعار. وفيه ينبغي أن يزهد المرء بعض الشيء بالإعراض عن المباهج. غير أن الأمر لا يجري على هذا النحو. فالتاجر يصوم ولكنه لا يخرج عن قاعدة العرض والطلب، فلا يتورع عن رفع الأسعار. والصائم يمسك عن الطعام ولكنه يقبل على الأكل عند الإفطار أكثر مما يفعل في الأيام العادية، وينفق في هذا الشهر على مأكله أكثر مما ينفق في الأشهر الأخرى. وكم كان يتساءل أمام نفسه وأمام الناس أيضا، كلما نظر في ممارسات الناس لصيامهم، كيف أن قوانين السوق تعلو على أحكام الشرع، وكيف أن حاجات الجسد تطغى على متطلبات الروح. وهو لم يرد بذلك تجريد الناس من كل إيمان. فهو يدرك أن الإنسان مفطور على الإيمان والعبادة والتقديس. وما من أحد يعرى من نزوعه إلى التدين، أي إلى الطاعة والامتثال. وقد يكون بعض الناس في صيامهم يصدرون عن إيمان صادق وعن طاعة حقة، ولكنه كان يرى أن الصيام كما يمارسه الكافة، أقرب إلى ممارسة الطقس إن لم يكن رياضة ومجاهدة. وهو طقس جميل يجري بطريقة احتفالية وتتولد عنه أجواء حميمية. ولعل الجماعات الإنسانية مفطورة أيضا على ممارسة الطقوس وعلى الاحتفال. فالطقس يشعر الفرد بانتمائه وبهويته الجمعية. وقد يطرد من قلبه الإحساس بالغربة والوحشة. هكذا كان يرى أن العبادات لا تصدر في أغلب الحالات عن تقى عميق، ولا تؤدي للزهد بالذات أو إلى مساواة فعلية بين الناس أو إلى وئام حقيقي بين أفراد الجماعة، كما يُفترض فيها أن تفعل. لم تكن تفعل فعلها العميق في تربية الإنسان وتهذيبه أو في ردعه وزجره، بقدر ما كانت عبارة عن طقوس وشعائر تعبر عن هوية الجماعة وتسهم في تكفيرها عن سيئاتها. ولكل أمة طقوسها وعباداتها. وبالفعل فإن ممارسة العبادات في ملته لم تقف حائلا دون أن يعيش أهل هذه الملة حياتهم الواقعية كسائر خلق الله بخيرها وشرها، وحسنها وقبحها، وحلالها وحرامها، وصلاحها وفسادها، وسويتها وانحرافها.

وكان يمعن النظر في سلوك الناس فينكشف له أن الإنسان كائن متعدد الأبعاد كثير الوجوه. يُبرز وجها ويخفي آخر، فيتقي ويفجر، ويطيع ويعصي، ويحب ويكره، ويسالم ويعادي... فقد لاحظ أن الناس في بلده يحاسبون على أشياء ويهملون أشياء، يتذكرون أمورا وينسون أخرى، ويكفون عن الهوى من وجه ليستعيدوه من وجه آخر. فهم يمتنعون عن الطعام ليقبلوا عليه بقوة وشدة. ويحاسبون مَن لا يصوم ولكنهم يتغاضون عن احتكار السلع والفحش في رفع الأسعار. ويحاسبون على خلع الملابس ولا يحاسبون على استثمار مياه البحر أو هدر الموارد. بينما الأمر على العكس في بلاد أخرى حيث لا يُحاسب الفرد على طريقة الملبس أو على ممارسة الفرائض، ولكنه يحاسب على رفع صوت الراديو أكثر من اللازم، ويحاسب على التلاعب بالأسعار، بل يحاسب على التأخر عن أداء واجبه مهما علا شأنه وأيا كانت مرتبته. وكان بمقدوره أن يورد من الأمثلة التي تؤيد رأيه في كل مجال من مجالات الحياة وفي كل دوائر الاجتماع.

 

 


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire