vendredi 18 mars 2022

العلمانية

 


 

من كتاب عبد الله العروي "السنّة والإصلاح" الطبعة الأولى 2008, المركز الثقافي العربي, بيروت, 224 صفحة.

صفحة 210: أبرزنا سلسلة من الثنائيات على مستويات مختلفة. تصرّ السنّة، هذا ديدنها، على اختزالها كلها في ثنائية واحدة: الكفر والإيمان، وهو عين التغرير.

وكما أشرت، واجب علينا إنقاذ العلم والسياسة، لا من الدين، إذ المفهوم يتطلب كل مرة مزيد تدقيق، بل من التأويل الذي فرضته السنّة، والسنّة مؤسسة بشرية، رسمية كانت أم لا، منظمة كانت أم لا، والواجب عام ودائم إذ لا نهاية للصراع.

في هذه الحال لا بد من سلطة محايدة، ترسم الحدود وتلزم كل طرف باحترامها، بعد أن علمتنا تجارب مُرّة كثيرة أن النفس لا تُؤتمَن.

كلمة علمانية، رغم ما يلازمها منذ القرن الماضي وبكامل الأسف من إشارة قدْحية، لا تعني سوى هذا الحياد المنشود (الهامش 23 صفحة 210: لفظة علماني تقابل اليوم في الاصطلاح السياسي كلمة لائكي الفرنسية وسِيكُولَارْ secular الانـﭬليزية مع أن المدلول في اللغتين مختلف نسبيا). لا شك أن اختيار لفظ علماني كان خطأ ولعب دورا سلبيا في مسار الفكر العربي الحديث. لو اختِير لفظ مثل لفظ "دنيوي"، مقابل "أخروي"، أو "معاملاتي" من معاملات مقابل "عباداتي"، أو "سلطاني" مقابل "شرعي"، إلخ. لما استُبشِع اللفظ في الأوساط التقليدية كما هو الحال مع لفظ "علماني". الواقع أن الاختيار وقع في إطار الحملة التي شنها مروّجو نظرية داروين ضد التفسير الكنسي للتاريخ الطبيعي، متأثرين بما كان يجري آنذاك في أوروبا، سيما وأن أغلب الكُتّاب في هذا الباب كانوا  من الشوامّ المسيحيين.

اختاروا كلمة "علماني"، من العلم، اقتباسا من كلمة scientist إذ التعارض كان بين العلم والدين (إضافة المؤلف محمد كشكار: تفسير آخر يقول أن كلمة "علمانية" اشتُقَّت من كلمة "عالَم" وأصلها "عالَمانية" أي أن شؤون العالَم هي من اختصاص البشر لا الشريعة).

لو قيل منذ البدء إن المشكل يتعلق بالتمييز في كل حكم بين الجانب العقائدي والجانب الاجتماعي، وإنّ هذا التمييز واقع ملموس وليس بأمر من السلطة السياسية التي هي، بالتأسيس والتعريف، حيادية، عادلة، فوق الملل والنحل والمذاهب المتساكنة داخل الدولة الواحدة، لما وجد الفقهاء، السنّة بخاصة، في ذلك التمييز أيّ عيب إذ يعتمدون مثله منذ زمن طويل.

التمييز بين "الشرعي" و"السلطاني" عادي عند الفقهاء. يعود في آخر تحليل، حتى عند الأصوليين الأكثر تعلقا بالسنّة، إلى الفرق بين الأحكام المكية والأحكام المدنية، كما يفسر ذلك الشاطبي حيث يقول: "الأحكام المكية مبنية على الإنصاف من النفس وبذل المجهود في الامتثال بالنسبة إلى حقوق الله أو حقوق الآدميين. وأما الأحكام المدنية فمنزّلة في الغالب على وقائع لم تكن فيما تقدم من بعض المنازعات والمشاحنات والرخص والتحقيقات وتقرير العقوبات في الجزئيات لا الكليات." (مرجع سابق، ج 4 ص 237).

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire