samedi 19 mars 2022

كيف ينظر العَلمانيون التونسيون إلى المتدينين التونسيين ؟

 

ملاحظة هامة للأمانة العلمية

النص الأصلي كتبه هاشم صالح في كتابه "مدخل إلى التنوير الأوروبي"، تأليف: هاشم صالح، دار الطليعة للطباعة والنشر ورابطة العقلانيين العرب، الطبعة الأولى 2005، الطبعة الثانية 2007، بيروت - لبنان، 264 صفحة. شرح فيه أسباب النهضة الأوروبية في أواخر العصور الوسطى. يتحدث هذا النص، صفحة 226، عن الصراع المسيحي العَلماني في القرن التاسع عشر ميلادي. استعرت منه المنهجية في طرح الإشكالية والقالب اللغوي للنص الذي طوّعته وحشوته أفكارا شخصية عن الصراع الإسلامي (نسبة إلى الإسلام السياسي) العَلماني في تونس القرن الواحد والعشرين ميلادي. وأرجو أن أكون قد وُفِّقتُ في القيامِ بذلك بشفافية دون سرقة أدبية فجّة أو سخيفة ودون تعسّف أو تحريف أو تجنّ على النص الأصلي ودون إسقاط مرحلة على مرحلة أو حضارة على حضارة أو دين على دين أو نقد على نقد.

نص مقال المؤلف محمد كشكار:

1.    مقدمة:

العلمانيون الملحدون هم فريق أقلّي في المجتمع التونسي الأمازيغي-العربي-الإسلامي، هم أصحاب العَلمانية المتسلطة العنيفة الفجّة والاختزالية (التي تختزل الدين الإسلامي في بعض الممارسات الخاطئة لبعض المتدينين المسلمين المتزمتين العنصريين الرجعيين المتعصبين). أقصد العَلمانيين الذين يَسقُطون في إدانة الإيمان الصافي وإدانة الروحانية المنزّهة عن الأغراض الدنيوية والسياسية. أما العلمانيون غير الملحدين فهم أصحاب العَلمانية المنفتحة على كل أبعاد الدين الإسلامي بما فيها الأبعاد الإيمانية والدينية وحتى الروحانية منها المريحة للمؤمن.

2.    مواقف من الإلحاد:

ضمن المواقف المختلفة من الإلحاد، أبدأ بموقف الفيلسوف المسلم التونسي المستقل، الأستاذ الدكتور أبو يعرب المرزوقي: "الإلحادُ ظاهرةٌ طبيعية جداً إذا كان صاحبها صادقاً يبحث عن الحقيقة, ولم يجد الجواب. فيَصِل إلى نوع ٍمن اليأسِ الوجودي يجعله يلحد. ولكن هو في الحقيقة لا يلحد بمعنى أن ينفي وجود الله, هو ينفي وجود الله الذي عُرض عليه في الصورةِ الحالية. ثم يلاحظ أن هذه الصفات لا تطابق الموجود. الله عادل و لا يوجد إلا الظلم, الله رحيم و لا توجد إلا القسوة, فيجد تناقضاً بين الواقع والله. ولمّا كان هو يؤمن بأن الله قادر على كل شيء , فكيف يمكن أن يكون موجوداً وهو قادر على كل شيء. وهنا تحدث الأزمة الوجودية فيلحد، لكنه يلحد لأنه يُنزّه الله عن الموجود". انتهى الاستشهاد بأبي يعرب المرزوقي.

مع العلم أنني لا أدين الملحد على إلحاده الشخصي الذاتي في حد ذاته و قد كفل له حرية المعتقد كل من القانون الوضعي (البيان العالمي لحقوق الإنسان ودستور تونس 2014) والشريعة الإسلامية (لا إكراه في الدين...من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر... ولكم دينكم ولي دين وغيرها من الآيات القرآنية المتسامحة مع غير المسلمين من يهود ومسيحيين وصابئة ولادينيين أو لاإلهيين). وما دام الإلحاد مسألة ذاتية وشخصية، فلْيحتفظ الملحد بعقيدته لنفسه وهو ليس مطالبا أن يعلن عنها ولا يحق لنا نحن أن نطالبه بالإفصاح عنها لأن علاقته مع تصوره الخاص عن الله (حسب اجتهاد وفلسفة أبي يعرب المرزوقي) علاقة عمودية وربه ورب العالمين هو الذي يحاسبه يوم القيامة. إنما نحن التونسيون المسلمون تربطنا بالملحد التونسي علاقة مواطنة أفقية بشرية نتعامل معه على أساسها حسب الدستور الوضعي والقوانين الجاري بها العمل وحسب الاتفاقيات الدولية التي تضمن أيضا حرية المعتقد. لو حيّدنا العقيدة الشخصية الذاتية الخاصة جدا لوجدنا أنفسنا نحن التونسيون كلنا مسلمون حضاريا واجتماعيا، شاء الملحد أم أبى. وما دمنا نحن المسلمون التونسيون لم نتدخل في عقيدة الملحد فالأحرى به هو أن لا يتدخل في عقيدتنا الإسلامية وهكذا نتعايش بسلام في وطن واحد يشمل جميع المواطنين التونسيين ملحدين ومسلمين، سنّة وشيعة وإباضيين، مالكيين وسلفيين، يهود ومسيحيين و بهائيين والناس أجمعين.

نأتي الآن إلى الملحد الناشط السياسي، فيبدو لي أنه ليس من حقه نشر عقيدته بالقوة أو الإغراء أو الإكراه مثله مثل كل أصحاب العقائد الأخرى التوحيدية منها وغير التوحيدية وليس من حقه أيضًا الخلط بينها وبين السياسة وهو الذي يدعو دائمًا‘لى فصل الدين عن الدولة وعن الحزب وعن السياسة ويطالب بعدم اعتماد الشريعة مصدرا أساسيا ووحيدا  في كتابة الدستور التونسي الجديد، لكن من واجبه، وليس فضلاً، أن يتصرف في المجتمع التونسي كمسلم (حضاريا واجتماعيا) ويحترم مقدسات مجتمعه ورموزه الدينية وعليه ألا يرى في هذا السلوك الحضاري المتسامح المنفتح تناقضا مع عقيدته الداخلية أو نفاقا مع المجتمع أو تقية خوفا من رد فعل المتطرفين الإسلاميين ويبدو لي أنه عليه أن يرى كما يرى الفيلسوف عبد الله العروي، المسلم المغربي غير المنبت عن مجتمعه وجذوره وتراثه العربي الإسلامي، الذي قال: "لا أحد مُجبر على التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرّر أن يفعل، في أي ظرف كان، فعليه إذن أن يتكلم بلسانه (المجتمع)، أن ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه...لأن في التماهي شرط التحقيق، أي شرط المرور من التصور إلى الواقع، من الفكر المجرد إلى الحياة". انتهى الاستشهاد بعبد الله العروي.

3.    وهم الأيديولوجيات المستوردة:

أوهمتنا بعض الأيديولوجيات المستوردة في الستينية الماضية، منذ الاستقلال سنة 1956، أو حاولتْ أن توهمنا أننا قد تجاوزنا الأصولية الإسلامية الأرتدوكسية الدوغمائية أو الظلامية والرجعية بالمقارنة مع عصر التنوير العربي الإسلامي في القرن الثالث والرابع هجري أي الفترة الذهبية في العصر العباسي حيث التسامح والحرية والتعايش السلمي،  تسامح بدأنا نفقده في تونس ما بعد الثورة في القرن الثاني والعشرين. توهمنا أننا قد تجاوزنا لمجرد أننا رفعنا بعض الشعارات الماركسية المشوَّهة كشعارات اللينينية والستالينية والماوية أو التقدمية الليبرالية السطحية المنبتّة أو القومية الدكتاتورية الشوفينية العنصرية الناصرية أو الصَّدَّامية أو رأسمالية الدولة ملفوفة في غلاف اشتراكي أو الحرية الغربية المزيفة أو حقوق الإنسان المقتصرة على حرية البرجوازي الغربي... إلخ. لقد توهمنا أو أوهمنا أنفسنا بأننا متحررون ولكن دون تحرّر، وأننا مستنيرون ولكن دون استنارة فعلية. ثم أوهمنا أنفسنا وهذا هو الأخطر، أننا لسنا بحاجة إلى المرور بالمراحل التدريجية للتنوير لأن التنوير مرتبط في الأذهان بالأيديولوجيا الليبرالية الكافرة التي هي أيديولوجيا المستعمر بالذات. وبالتالي يصبح المرور بالمراحل التدريجية للتنوير خطأ كله أو كفرًا كله ومسفَّهًا سلفًا... ولكننا نعلم أن الأيديولوجيا الليبرالية لم تُستورد بشكل صحيح بل استوردنا نُتَفًا منها كما حصل للأيديولوجيا الاشتراكية التي تلتها (هذا بالرغم من أن مثقفي المرحلة الليبرالية في أوائل القرن العشرين كانوا أكثر جدية بكثير من مثقفي المرحلة الثورية الاشتراكية... مَن يجرؤ على مقارنة شخصية كطه حسين بالحداثيين المعاصرين ؟) ثم وجدنا أنفسنا في تونس منذ عام 1956 وقد دخلنا في مرحلة الأيديولوجيات والتصفية الجسدية والتعذيب والسجون للقوميين اليوسفيين ولمهندسي المحاولة الانقلابية بقيادة لزهر الشرايطي وللمعارضين اليساريين.

منذ سنة 1970  بدأنا ندخل في مرحلة استخدام الدين كسلاح سياسي من قبل الاتجاه الإسلامي أو إخوانُ الإخوانِ المسلمين أو حزب النهضة حديثا، فرُحنا نستغرب ونتعجب كيف حصل ذلك بعد أن تنوّرنا وتحدّثنا (من الحداثة الغربية) واستُلِبنا وانبتتنا (من الاستلاب الحضاري والإنبتات الاجتماعي) عن مجتمعنا التونسي الأمازيغي-العربي-الإسلامي وعن تراثنا العربي الإسلامي النيّر (عصر الفكر والتنوير في القرن الثالث والرابع هجري أي العصر العباسي) وتمركسنا (من الماركسية) وتشرّكنا (من الاشتراكية) وتحررنا بين ظفرين من ديننا وماضينا وتاريخنا وتراثنا العربي الإسلامي وتشرّدنا فكريا وحضاريا وفقدنا مِشيتنا ولم نتعلم مِشية الغرب فأصبحنا معوقين ذهنيا وعضويا.

هكذا نجد أنفسنا إذن مضطرين للعودة إلى نقطة الصفر، نقطة بداية النهضة العربية على يد الأفغاني والطهطاوي وعبده وبن عاشور والحداد وطه حسين وقاسم أمين، إلى نقطة الأصل لبدء المعركة التنويرية والتحريرية لَوَعْيِنا من جديد. فالقفز على المراحل وإيهام النفس بالتطور المزيّف أو الكاذب كرد فعل على الغرب أو كإحساس بعقدة النقص نحوه أو عقدة التفوق والعنجهية تجاهه، موقف سلبي انهزامي لا يفيد شيئا ولا يقدم الأمور في شيء بل لعله قد يُؤخر ويُعطل نهضتنا ويُعيق تقدمنا نحو الأفضل وقد يُؤدي إلى الانتكاسة السريعة والارتطام بالجدار المنيع ككل مرة. لذلك يقول هاشم صالح بأن التنوير أمامنا، وليس خلفنا، على عكس الأوروبيين الذين يحتاجون اليوم إلى تنوير آخر من نمط جديد (أو قل إنهم يحتاجون إلى نفس التنوير، فالتنوير لا ينتهي، ولكن ضمن معطيات جديدة غير التي نعرفها في مجتمعاتنا). فما هو هذا التنوير الذي يخشاه البعض ويتلهف إليه الآخرون بكل قلوبهم ؟ ثم ما هو الطريق الأنجع للوصول إليه ؟ يبدو لي -و الله أعلم- أنه من الأفضل لنا أن نبدأ بتجاوز القطيعة الأولى التي أنجزناها خطأ مع تراثنا التنويري في العصور الوسطى قبل أن نجسّر(من الجسر أو القنطرة) علاقاتنا المقطوعة منذ أربعة قرون مع التنوير الأوروبي، منذ كوبرنيك وڤاليلي  وديكارت إلى فولتير وديدرو وروسو ونيوتن وكانْتْ وداروين حتى نصل إلى العلماء والفلاسفة المعاصرين مثل أنشتاين وباشلار وبياجي وسارتر وفوكو وهابرماس.

4.    لبّ الموضوع

يوجد في تونس القرن الثاني والعشرين، مُعسكر يتكون من أشخاص عَلمانيين خالين تماما من أي شعور روحاني (وهذا من حقهم لو انحصر المشكل في ذواتهم ولم يتعدّ قسرًا إلى غيرهم من المواطنين التونسيين المسلمين العاديين) إلى حد أنهم لا يفهمون ولا يستطيعون ولا يريدون أن يفهموا قلق الذين يُعانون، ولا طمأنينة أولئك الذين يُصلّون ولا يقدّرون مدى حاجة الناس إلى العامل الروحاني الضروري من أجل خلق توازن نفسي خاصة في غياب التوازن المادي والاجتماعي وفي غياب الحريات واستفحال قمع المعارضين والمثقفين والمبدعين والفنانين والمعطلين وسجنهم أو قتلهم أو نفيهم أو تشريدهم أو تهميشهم من قِبل سلطة دكتاتورية عربية مسلمة. ولم يكن المسلمون بالنسبة لهؤلاء العَلمانيين إلا عبارة عن ضعفاء أو جهلة متخلفين أو مسحورين ودجّالين. وعندما لا يشعر العَلمانيون الملحدون التونسيون بالحاجة للإيمان والتديّن الخالص لوجه الله الذي نلاحظه لدى عامة التونسيين، فإنهم يحاولون تشويه التدين عن قصد أو عن جهل بقيمته المادية وفاعليته في توازن الفرد واستقرار المجتمع: حاجة المجتمع التونسي إلى الدين الإسلامي الوسطِي المعتدل المتسامح كما عهدناه وتربينا عليه في المدن والأرياف في الخمسينات والستينات من القرن العشرين (أنا أشهد أنني عشت طفولة سعيدة تحت إسلام جمنة، قرية جميلة تُكنّى بـ"مدينة العلوم" في ولاية ﭬبلي  التي تقع في الجنوب الغربي التونسي). ما زال العَلمانيون الملحدون التونسيون يبالغون في تصوير الدين الإسلامي بشكل كاريكاتوري، فالإسلام في نظرهم هو عبارة عن دين رجعي قمعي ويعتبرونه عن خطأ سببا أساسيا من أسباب تخلّفنا. وما زالوا يرون بأن الإسلام لم يولّد إلا الخرافات والأساطير والمعجزات التي لا يصدقها حسب رأيهم ولا يقبلها العقل، دين يبرِّر بالنقل ما لا يُبرَّر بالعقل. وما زالوا يعتقدون بأن كل الأمراض والمشاكل التي نعاني منها في تونس سوف تنتهي بمجرد أن ينفصل الإسلام عن الدولة والسلطة والتربية والتعليم ويختفي من الساحة السياسية العامة. وما زالوا يصوّرون التعسف والتجاوزات التي قام بها الحكام المسلمون عبر التاريخ القديم والحديث أو سمحوا بها أو شاركوا فيها أحيانا على أنها هي جوهر الإسلام ومقاصد قرآنه الكريم وتعاليم رسوله النهضوي التنويري العظيم (من مفهوم النهضة والتقدم و ليس من حزب النهضة التونسي)، محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم. فالإيمان والتدين وممارسة الشعائر بحسب زعمهم كانت عبارة عن سذاجة عبثية صالحة فقط للجَهَلَة والبُلَهَاء.

لكن هذا لا يعني أن المسلمين التونسيين ملائكة تمشي على وجه الأرض، على العكس نجد فيهم وبكثرة المُرائين والمنافقين والمداهنين والمستغلين الدين مطية لأغراض شخصية دنيوية مادية أو سياسية حقيرة. وقد سبق وكان الحاكمان الظالمان المستبدّان بورﭬيبة وبن علي مقتنعَين بأن الجهل بالدين والدنيا، المتفشي في المجتمع التونسي، ينبغي أن يبقى على حاله، لأنه مَرسوم ومُبرمج و مُبيّت لصالح حلفائهم الأجانب وصالح بطانتهم من الأقارب والأصهار والأغنياء ورجال الدين المتواطئين مع السلطة والمثقفين المأجورين والانتهازيين الذين يعدّون بمئات الآلاف من الدستوريين البورﭬيبيين والتجمّعيين البنعليّين. وما زالت هناك في تونس فئة خطيرة من رجال الدين المتطرّفين المتزمتين المتعصبين الإقصائيين الاجتثاثيين العنيدين قصيري النظر الذين يجدون أنه من الأسهل أن يدينوا ويكفّروا المناضلين التونسيين المسلمين اليساريين والقوميين والليبراليين الثوريين الصادقين الوطنيين المخلصين ولو وصل هؤلاء المتدينون إلى السلطة فسيعاقبون مواطنيهم التونسيين المعارضين ويقطعون أيديهم وأرجلهم من خلاف (أذكّر هنا بالتصريح الخطير المُفزع والمُرهب المُخيف للنائب عن حزب النهضة في المجلس التأسيسي، السيد "صادق شورو" وأذكّر أيضا بالتصريحات المشابهة لنواب سلفيين مصريين). كان الأجدر بنواب حزب النهضة التونسي الحاكم، وهم في المجلس يمثلون كل فئات الشعب التونسي بعَلمانييه ومُلحديه وشيعته وبهائييه ويهوده ومسيحييه، أن يدخلوا مع معارضيهم السياسيين التونسيين في عمق الحوار كما هو الحال في الدول الديمقراطية الغربية. لم أنس الفئة الأخرى من التونسيين الأتقياء المزيفين الذين يختزلون الدين الإسلامي في أداء الشعائر من صوم و صلاة وحج وزكاة، والذين سرعان ما يصرخون ويولولون بمجرد أن تمس خرافة معينة وتُنتقدها ولا يثورون ولا يتظاهرون دفاعا عن عرضهم المهتوك في أفغانستان وفلسطين والعراق من قِبل الأمريكان، هؤلاء هُم مسلمون بالاسم ولكنهم أشد كفرا بالدين الإسلامي من الملحدين.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire