dimanche 26 mai 2024

ماذا فعل، بنا وفينا، غولُ القطاعِ الخاصْ المتوحِّشُ جدًّا ؟ فكرةٌ قرأتُها في "لوموند ديبلوماتيك"، جريدة شهرية ناطقة بالفرنسية، ترجمة وتأثيث مواطن العالَم

 

 

فكرةٌ رسخت بِبالي، وإذا رسخ بِبالي شيءٌ، على الفورِ أكتُبُه ثم أنشرُه، ولِـبالِي لا أرفضُ أي طلبٍ. نزواتُه أوامرُ.

لقد لاحظتُ شخصيًّا (مجرد ملاحظة وليست تحليلاً أو دراسةً علميةً)، لاحظتُ أن كل المظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات خلال الثورة أو بعدها، كلها لم تتحدث بتاتًا عن مساهمة القطاع الخاص في تعميقِ أزمتِنا. قطاعٌ، تمثلُ حكومة الشاهد والنهضة مجتمعين واجهتَه الظاهرةَ، وما خَفِيَ كان أعظمُ. لا أحدَ احتجَّ على تَغوُّلِ المِلكية الخاصة لوسائل الإنتاج وأذرعتِها الطولَى المتجسمةِ في وسائل الإعلام الخاصةِ (الحوار التونسي، التاسعة، الجنوبية، حنبعل، الزيتونة، نسمة، تونسنا، وجل الإذاعات والجرائد والمواقع الرقمية، إلخ.). لا أحدَ احتجَّ على الإطلاق على توحُّشِ الرأسماليةِ الليبراليةِ في بلدٍ منهوبٍ كبلدنا تونس: يبدو أن المنوالَ الرأسماليَّ مقبولٌ ومسلَّمٌ به، كما هو، وكأنه قَدَرٌ من الله، ولا نقاشَ إلا حول الحدِّ من إفراطاتِه، مثل التخفيضِ  قليلاً في مرتباتِ الر.م.ع.، والترفيعِ قليلا في مرتبات الأجراء: اقتصادٌ أخلاقويٌّ، نوعًا ما أو ما شابهَ ذلك.

ماذا فعل، بنا وفينا، غولُ القطاعِ الخاصْ المتوحِّشُ جدًّا؟

1.    القطاعُ الخاصْ في التعليم:

نشأ في السبعينيات ضعيفًا مهمّشًا. نشأ في عصرٍ كان المنوالُ التنموي الاشتراكي مهيمنًا خاصة في دول العالم الثالث العربية (تونس، مصر، الجزائر، ليبيا، العراق، سوريا، اليمن). منوالٌ جاء كردّة فِعل على هيمنة المستعمر الرأسمالي الغربي القديم المتواصلة بعد الاستقلال (تونس في عهد أحمد بن صالح، عهد الاشتراكية المقلوبة على رأسها، فعوض أن يبدأ بتوزيع أراضي المعمرين والمَلاّكة الكبار على الفقراء، بدأ بافتكاك أملاك الفقراء الصغيرة جدا، هكتار وبقرة أو معزة).

في عهد بن علي الكلب (الصفة ترجع على العهد، وليس على الشخص احترامًا للذات البشرية)، ازدهرت سوق الساعات الخصوصية خارج المؤسسات التربوية (L`étude)، خرج قانون احتساب المعدل السنوي في مستوى الرابعة ثانوي ودخل بنسبة 25% في معدل النجاح في الباكلوريا فنتج عنه إقبالٌ كبيرٌ على المدارس الخاصة مما جعلها تتكاثر كالفطر في كامل معتمديات الجمهورية.

لستُ من الذين يُنكرون كل إيجابية على الدروس الخصوصية والمدارس الخاصة، بل أنكرُ عليهم جشعهم وتكالبهم على الربح المشط والسريع.

يبدو، والله أعلم، أن تدهور التعليم العمومي كان مخططا له من قِبل رأس المال العالمي (لا يهم أن بعض المستثمرين التونسيين يعون ذلك أو لا يعون، والأعمال في المال ليست بالنيات بل بالنتائج) الذي تفطّن متأخرًا أن الاستثمارَ في التعليم والتكوين مربحٌ أكثر من الاستثمار في البترول، وذلك لأن البترول ثروة أحفورية محدودة وسيأتي يومٌ وتنضبُ، أما التلميذ فثروةٌ متجددة دومًا ولا تنضبُ أبدًا، والسلعة المعروضة، أي المعرفة، هي أيضًا كنزٌ لا ينضبُ.

لم أغفل أيضًا الأسباب الموضوعية الجوهرية-الذاتية (intrinsèque)، وأخص بالنقد النقابيين. خرّبوا بيوتهم بأيديهم، شيّئوا التلاميذ واستعملوهم كأدوات نضالية (instrumentalisation)، لم يطوّروا في أساليبهم المتكلسة (إضراب، حجب الأعداد، عدم إجراء الامتحانات الثلاثية). التلاميذ هم محور العملية التربوية أو "بالفلاڤي هم الملاّكَة والمدرّسين هم الكرّايَة" (يقولها وزير: خطأ في التواصل، لكن أنا لستُ وزيرًا). التلاميذ حُشِروا في أُتُونِ (الموقد الكبير، كموقد الحمَّام والجَصَّاص) صراع نقابة-وزارة دون أن يكون لهم فيه أي مصلحة مباشرة. مع التذكير بموقفي الشخصي الذي تبنيته عند الكِبر والتقاعد أي بعد ما "اخْلِيتْها" إضرابات طيلة 38 سنة تدريس: أطالب بدسترة منع الإضراب في القطاع العام والوظيفة العمومية مع التشديد على التعليم العام والخاص. والحجج التي تؤيدني عديدة لا مجال لتكرارها الآن.

2.    القطاعُ الخاصْ في الصحة:

فجأة وفي هذا الزمن الرديء، في الواقع، كل الأزمنة التي مرّت كانت رديئة على الفقراء فقط، أمثالي وأمثالك، إلا فجر الرسالات السماوية في حياة الأنبياء وبداية الثورات الإيديولوجية في حياة المنظِّرين المؤسسين (Les idéologies sont liberté quand elles se font, oppression quand elles sont faites. Sartre)، أصبح وزير الصحة العمومية، ويا للمفارقة الكبرى، لا يدشن إلا المصحات الخاصة ولم يدشن ولو مستشفى عمومي واحد، لا هو ولا مَن سبقه منذ نصف قرن. على حد علمي، آخر مستشفى عمومي، أقيمَ في الجمهورية هو المستشفى الجهوي بڤبلي في عهد بورڤيبة.

3.    القطاعُ الخاصْ في الفلاحة:

سأكتفي بالحديث على ولاية ڤبلي، لا لأن فيها مسقط رأسي جمنة، بل لأنني أعرفها أكثر من غيرها. سأتكلم عنها هذه المرة نقدًا وليس شكرًا.

في الستينيات، كانت دولتنا الراعية (L`ère du temps) تحتكر حفر الآبار العميقة (1000-2000م)، تُشغِّل العاطلين، تزرع النخيل، ثم توزعه على العمال: مشروعٌ أنقذ عشرات العائلات النفزاوية من الفقر المدقع، دون جشعٍ واستغلال مفرط للاحتياطي المائي في القرية.

في أواخر عهد بورڤيبة، ضعفت الدولة ومعها القطاع العام، فخرج المارد من قمقمه: أنشِئت شركات الإحياء واستولت على واحات الدولة بعنوان الكراء، كراء الهكتار الواحد بـ80د العام، مع العلم أن الهكتار الواحد من الواحة يضم 100 دڤلاية، والدڤلاية الواحدة تنتج بما قيمته 100-200د في العام. سرقة موصوفة.. أو سرقة غير موصوفة ؟

أضفْ إلى ذلك بروز قلة من المستثمرين الخواص من حجم الحوت الكبير (لا أتكلم على صغار الفلاحين الذين حفروا آبار غير عميقة) حفروا آبار عميقة وزرعوا آلاف النخيل فأصبحوا يهددون المنطقة بقرب مجيء عصر العطش لو استنفِذت المائدة المائية المشتركة محدودة الكتلة المائية الأحفورية مهما عظُمت. كتلة لا تتجدد مع هطول الأمطار، مَثلها كمَثل خزان سيارة مغلَق بـ"اللحامْ"، فمهما كانت سعته كبيرة، ستأتي لحظة وتقف السيارة لانقطاع الوقود (panne sèche).

خاتمة: لستُ خبيرًا في الاقتصاد، لكن يبدو لي أن الحل يكمن في كبح جماح هذا المارد (القطاع الخاص المتوحش) حتى لا يأكل الأخضر واليابس.

كيف ؟

أولاً، المحافظة على مؤسسات القطاع العام وتطويرها: مثلا بالكف عن الإضرابات، لم أقل منع التظاهر والاحتجاج والمطالبة بالحقوق، ولنا أسوة طيبة فيما تفعله "السترات الصفراء" في فرنسا، يعملون كامل أيام الأسبوع ويتظاهرون يوم الراحة فقط، يوم السبت.

ثانيًا، أنا لا أنادي بنظام شيوعي وإلغاء الملكية الخاصة، بل أطالب بعدالة اجتماعية على شاكلة ما هو موجود اليوم في البلدان الأسكندنافية (فنلندا، النورفيج وغيرها)، وأطالب بإرساء ضريبة مرتفعة على الثروات الكبرى أي خصم 75% من الأرباح السنوية وضخها في القطاع العام، فلا يجوع الذئب ولا يشتكي الراعي.

ثالثًا، أذكّرُ كل مَن يهمه الأمر، بمبادئ الاقتصاد التضامني الأساسية الخمسة، تعجبني:

1.    يكون الهدف من بعث المؤسسة هدفًا اجتماعيًّا، أي مفيدًا لكل عمال وموظفي المؤسسة، يتقاسمون الأرباح بالتساوي.

2.    استقلالية القرارات الإدارية والمالية.

3.    ديمقراطية التسيير.

4.    أولوية الإنسان على رأس المال، عكس ما هو سائدٌ في المنوال الاقتصادي الرأسمالي وخاصة في المتوحّش منه.

5.    ربحية محدودة: كيفية التصرف في الأرباح السنوية:

-        15% تُدّخرُ احتياطًا، لذلك صمدت مؤسسات الاقتصاد التضامني عند الأزمات أكثر من مثيلاتها في المنوال الاقتصادي الرأسمالي.

-        45% نعيد حقنها في الاستثمار من أجل خلق مَواطن شغل جديدة.

-        40% سقف النسبة من الأرباح التي يحق للشركاء تقسيمها بالعدل سنويًّا.

تجربة جمنة، تجربة فريدة من نوعها في الاقتصاد التضامني نفسه: جميع أعضاء "جمعية حماية واحات جمنة" (10)،  المسيرون لضيعة ستيل (10.000 نخلة دڤلة نور)، كلهم يعملون متطوعين منذ ثمان سنوات، تطوّع كامل أي دون أجرٍ أو منحة أو مكافأة من أي نوع، لا نقدية لا عينية. عمال الضيعة الـ130 شبه متطوعين لأنهم لا يتقاسمون أي نسبة من الأرباح السنوية ويكتفون بالأجر الفلاحي الأدنَى. كل الأرباح تُصرَف سنويًّا لخدمة المصلحة العامة في جمنة وأحوازها. تغيرَ المنوال الاقتصادي من رأسمالي متوحش إلى تضامني إنساني فتغيرت فجأة أحوال القرية إلى الأفضل. كان الربح السنوي (ما يقارب المليون دينار) يذهب في جيب شخص واحد وحيد، المستثمر القديم. اليوم يذهب الربح كله لصالح أهالي جمنة. إنجازات الجمعية في ثمان سنوات فاقت إنجازات الدولة خلال نصف قرنٍ.

إضافة:

بعد النشرِ، علق صديقي الأمين البوعزيزي قائلاً: أستاذي وصديقي محمد كشكار: أهم شعارات سبعطاش كانت مشتبكة مباشرة مع قطاع اللصوص:

"التشغيل استحقاق يا عصابة السراق" 

"لا.. لا.. للطرابلسية اللي سرقوا الميزانية"

وحدها البيروقراطية النقابية تصر على التواطؤ معهم وتدمير القطاع العام خدمة لعصابة السراق.

أجبته: صباح الخير، أعي ذلك، لكن يبدو لي أنه كان اشتباكًا مع ما ظهر من جبل الثلج، أعني به الحكومة واجهة القطاع الخاص والطرابلسية فقط.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire