نص المؤلف:
"إنما الأمم كالمعادن، لا يتلألأ
منها إلا السطحُ" أنتوان ريفارول، 1753-1801
الغريب أن الشعوبَ العربية أضحت
شعوباً كارهةً لنفسها مما دفعها دفعاً إلى الحنين لزمن الاحتلال الغربي. نادراً ما
تجد في تاريخ البشرية شعوباً مثل العرب، كرههم لأنفسهم أوصلهم إلى التطرف
! فعوض أن يرفعوا من شأن ماضيهم الحضاري المشرّف ويفتخروا بمساهماتهم
الهامة في بناء الحضارة الإنسانية، مساهماتهم في الرياضيات والفلك والهندسة
المعمارية والموسيقى وفن الخط والطب والفلسفة، وعوض أن يُذكّروا معاصريهم بأمجاد
قرطبة وغرناطة وفاس والأسكندرية وسِيرتة وبغداد ودمشق وحلب، عوض كل هذا نرى أحفادَ
عظماء بنائين الأمس غير قادرين على إثبات أحقيتهم في إرث هم أصحابه الشرعيون،
وكأنهم يتعمّدون إحراجَ عشاق حضارتهم ويمنحون مجاناً حججاً لذامّيها.
قديما، كل من كان يكره العرب كان
يُنعت بالعنصري المعادي للأجانب والمشتاق لزمن الاستعمار، أما اليوم فكُره العرب
أصبح عند غير العرب كُرهًا شرعيا وغير مخالف للضمائر. باسم الحداثة أصبح العرب
يوصَمون بمعاداة المرأة، وباسم العلمانية أصبح العرب يُنعتون بأعداء حرية الضمير
والتعبير.
أشَد ما كان يضايقني في شبابي هو تفشي
ظاهرة فقدان الثقة لدي بني قومي (p. 18: “ma” nation
arabe) وانعدام القدرة لديهم على تولي مستقبلهم بأيديهم. يبدو أن هذه الظاهرة
السلبية ليست حكرا على العرب أو المسلمين بل هي ظاهرة نجدها عند كل الشعوب التي
خضعت للاحتلال طويلا أو رضخت لأوامر تأتي من سلطة تقع وراء البحار (العثمانيون
والغرب). شعوبٌ مستلبة السيادة والإرادة. شعوبٌ تابعة للدول العظمى (أمريكا،
فرنسا، بريطانيا، روسيا، الباب العالي). شعوبٌ تنتظر قرارا قد يأتي أو لا يأتي من
هيئة خارجية عُليا. شعوبٌ لا تثق في قراراتها السيادية خوفا من أن تُحتقر أو لا
تُؤخذ في الاعتبار أو تُرفض تماما ودون مبرر معقول. تبعيةٌ نتجت عن شعور بالنقص
جراء تاريخ طويل مليء بالهزائم والنكسات والإحباطات المتعاقبة واليأس الموروث
والمكتسب في آن: ما الفائدة من المقاومة، من الاحتجاحات، من الغضب، من المطالبة
بالحقوق ما دمنا نعرف مسبقا أن كل هذا سينتهي بحمام دم ؟ ومَن يدعي عكس هذا فهو
ساذجٌ أو جاهلٌ.
مهما كان مضحكا
ومزعجا، فإن ظاهرة فقدان الثقة في النفس تبدو مع ذلك خفيفة بالمقارنة مع ما بدأ
ينطلق منذ عقد أو عقدين وينتشر في العالم
العربي والإسلامي وفي أماكن تواجد العرب والمسلمين بالخارج، ألا وهي ظاهرة كُره النفس وكُره الآخر. ظاهرةٌ مقرونةٌ بتبجيل
الموت وتمجيد العمليات الانتحارية. ليس من السهل ترتيب الكلمات لتفسير مثل هذا
الانحرافُ المَسْخُ: "إلى الجنة ذاهبينْ، شهداء بالملايينْ" (شعار رُفع
في سوريا، فيديو نُشِر في أفريل 2011). شعارٌ رُدِّد في عدة بلدان مجاورة. كنتُ
أنظر إلى هؤلاء الرجال بإعجاب مخلوط بِرعبٍ. لقد أثبتوا شجاعة كبيرة في مواجهة
الطلق الناري بأيدي فارغة وصدور عارية. لكن كلماتهم هذه كشفت نفوسا مكسورة وعرّت
كل مأساة العالم.
عندما ييأس
فردٌ معزولٌ ويفقد الأمل في الحياة، نُحمِّل المسؤولية لعائلته في بعث الأمل فيه
من جديد. لكن عندما تيأس شعوبٌ بأكملها وتستسلم لشعور الرغبة في تدمير الآخر
وتدمير نفسها في آن، هنا نُحمِّل المسؤولية لأنفسنا كلنا، للشعوب الأخرى المعاصرة،
لشركائهم في الإنسانية، نُحمِّلهم جميعًا مسؤولية إيجاد علاج ودواء. إن لم يكن من
باب التضامن مع الآخر، يكون على الأقل من باب إرادة الحياة، لأن اليأس، في زمننا
هذا، بدأ ينتشر ويَنفُذ إلى
ما وراء البحار،
من مسامّ الجدران، ويَعبُر خطوط الحدود الجغرافية والذهنية، وليس من السهل صدّه أو
الحد من انتشاره.
خاتمة مواطن
العالم:
الطبيب الذي
يُشخِّص سرطان لأول مرة عند مريض لا يعني أنه شامتٌ في المريض أو غير مبالٍ
بمصيره. تشخيصُ أمين معلوف تشخيصُ طبيبٍ مسؤولٍ، واعٍ ومحترفٍ، وعلينا نحن كلنا،
مواطني العالم، تقع مسؤولية اكتشاف الدواء
الناجع، وإلا غرقت حضاراتنا وغرقنا كلنا معها وانقرض من النوع البشري من على وجه
الأرض ! وقهرُ الشعوب العربية والإسلامية من قِبل الحكومات الغربية والعربية
(ترامب والسيسي نموذجان) ليس دواءً لإرهاب الحركات الإسلامية. يبدو لي أن أفضل
سلاحٍ ضد القهر والإرهاب هو تقسيمُ ثروات العالم بالعدلِ بين دول الشمال ودول
الجنوب وبين الأغنياء والفقراء دون تمييزٍ بين مسلمٍ وغير مسلمٍ.
الإرهابُ
الغربي المحترِف المسمَّى دبلوماسيًّا حربًا استباقية دون وجه حق (شنت منها أمريكا
200 منذ نشأتها، آخرها ضد يوغسلافيا والعراق وأفغانستان وكذلك فعلت شقيقتيها فرنسا
وبريطانيا)، إرهابٌ مارسته الحكومات الغربية (فرنسا، أمريكا، بريطانيا وغيرها)،
إرهابٌ يُنكِره جل مثقفي الغرب باستثناء ميشيل أونفري، فرانسوا بورڤا، وميشيل
كولون وغيرهم ممن لا أعرفهم. إرهابٌ غربيٌّ رسميٌّ لم يشرْ إليه أمين معلوف في
كتابه هذا، وهو ليس معذورًا، أولاً بصفته مفكرًا عالميًّا وثانيًا بصفته لبنانيًّا
مسيحيًّا منتميًا للحضارة العربية-الإسلامية، أو هي أحد مكونات هويته أو على الأقل
حضارة آبائه وأجداده حيث وُلد في ترابها، نشأ، شبّ، درس وتزوّج في سن مبكرة ثم
هاجر واستقر نهائيًّا في فرنسا.
لا يحق
لأوباما أن ينعت أسامة بالإرهابي، كما لا يحق لأسامة أن ينعت أوباما بالإرهابي،
لكن يحق لمواطن العالَم أن ينعت الاثنين بالإرهاب، أوباما قبل أسامة.
Référence: Le
naufrage des civilisations, Amin Maalouf, Grasset, 332 p, 22 €, pp. 85-92.
حمام الشط، الخميس 25 أفريل 2019.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire