mercredi 29 mai 2024

المنوالُ التنمويُّ الاقتصاديُّ الرأسماليُّ الليبراليُّ العالميُّ العقلانيُّ العلميُّ: أمامنا خيارٌ واحدٌ، نأخذه نتطوّر اقتصاديًّا، لا نأخذه نتخلّف اقتصاديًّا !

 

 

ملاحظة منهجية: سأوصّفه ولن أحكم له أو عليه (juste un constat et non un jugement). وما مدي عمق تكويني الشخصي في العلوم الاقتصادية حتى أحكم له أو عليه ؟ رأيي الشخصي لا يهم في هذا المقام فأنا أحلم بمنوالٍ مغايرٍ تمامًا،  منوالٍ تنمويٍّ اشتراكيٍّ-ديمقراطيٍّ يشبه المنوال المطبّق في بعض البلدان الأسكندنافية أو ما هو أفضلُ منه، ألا وهو المنوالُ التنمويُّ الجمنيُّ، تجربة جمنة في واحة ستيل بعد الثورة حيث التطوّع هو سيد الموقف داخل جمعية حماية واحات جمنة وأعضائها الإحدى عشر، الأنبياء الباذلون لأقصى جهودهم والناكرون لذواتهم من أجل خدمة المصلحة العامة على حساب سعادة عائلاتهم على مدي ثماني سنوات، أي منذ استرجاع الواحة -أمّ العشرة آلاف نخلة دڤلة نور- من براثن المستثمر الرأسمالي المافيوزي غير الليبرالي وغير العلمي وغير العقلاني وغير العالمي.

هذا المنوالُ التنمويُّ الاقتصاديُّ الرأسماليُّ الليبراليُّ العالميُّ العقلانيُّ العلميُّ، منوالٌ لا يتدخّلُ فيه الدين ولا الأخلاق ولا الوطنية ولا السيادة الوطنية ولا التضحية من أجل الوطن ولا "هَيّا ناقْفو لْتونسْ" ولا القومية ولا القِيم ولا الضمير المهني ولا الأصالة ولا حب العمل ولا الحضارة ولا الثقافة ولا التقاليد ولا التاريخ. لكنه في المقابل لا يمسّ الدين ولا التقاليد، وأفصحُ مثال على ذلك هو نمط عيش اليابانيين الذي لم يتغيّر رغم تطورهم العلمي والتكنولوجي والاقتصادي، حيث يقال أن الزوجة ما زالت تغسل ساقَيْ زوجَها بكل حِنّيّة عند رجوعه من العمل. سبق وقلنا أنه عقلانيُّ علميُّ، فكيف ستتدخّلُ فيه كل هذه المفاهيم غير العلميّة وغير العقلانيّة ؟ وهل تدخلت قبله في الرياضيات والفيزياء أو البيولوجيا ؟ وهل توجد رياضيات إسلامية وأخرى بوذية أو مسيحية ؟

والدليل على نجاعة هذا المنوال الذي أحكي عنه هو التالي: طبقتْه دول إسلامية مثل ماليزيا وتركيا وأندونيسيا فنجحت، وكذلك فعلت كوريا الجنوبية الكونفوشيسية-المسيحية والصين الكونفوشيسية-الشيوعية والهند الهندوسية-الإسلامية ورواندا الكحيانة الخارجة للتو من حرب أهلية وجارتها أثيوبيا الجيعانة، كلها دولٌ تحققُ في تنمية مذهلة منذ عشر سنوات تقريبًا.

عارَضَتْه اليونان فذلّتها الدوائر المالية العالمية (FMI, BM, BCE) فانصاعت. تركيا أردوڤان ترددت وأرادت تحريم الربا البنكي، هددتها نفس الدوائر فرضخت وهي صاغرة.

لم تطبّقه كل الدول العربية والنتيجة واضحة للعيانْ، لا تحتاج لإثباتٍ أو برهانْ !

السؤال: لماذا لم نطبّقه، نحن العرب خاصةً ونحن نملك المال والرجال (اقتصاديونا ومهندسونا وعمالنا أثبتوا كفاءاتهم في هذا المجال خارج الوطن) ؟

الجواب: لا أدرِي !

أدرِي فقط أنها تقاومه. لمصلحة مَن ؟ الله أعلَمُ  !

في تونس، مَن يحكمنا ؟

 

 

-        العولمة هي عولمة نمط الاستهلاك، نمطٌ فاسدٌ غزانا وكنا أضعف من أن نقاومه: صنعت من قلة منّا (حوالَيْ 5% من البشر الذين يعيشون في الدول الغنية الغربية والآسيوية والخليجية وإسرائيل) نمطًا بشريًّا جشعًا، نمطًا يستهلك أكثر من حاجته أي يأخذ حاجة غيره ويلوث بيئته.

-        الرأسمالية هي التي عولمت نمط الاستهلاك الفاسد بل خلقت للغش والفساد علوما تُدرّس في الجامعات: الإشهار، التسويق، المضاربة، العمولة، إلخ.

-        مَن يحكمنا ؟ لا نهضة ولا دساترة ولا يسار ولا قوميين ! يحكمنا نمط الاستهلاك الرأسمالي الغربي المعولَم ويحكم العالَم أجمع. يقودوننا من نقطة ضعفنا، شهواتِنا الغريزية !

-        مَن يحكمنا ؟: معضلة (أي مشكلة لا حل قريب لها في الأفق). للأسف، "لا وجود لحلول محلية لمشاكل وُلدت وترعرعت في ظروف عالمية" (Zygmunt Bauman) لكن نحن لنا ضِلعٌ فيها كبيرٌ ومسئوليةٌ أكبرُ.

-        المعذرة، عندِيَ حلٌّ، لكنه حلٌّ مُرٌّ كالحنظلِ، حلٌّ فرديٌّ وسلبيٌّ لكنه حلٌّ مجرّبٌ وناجعٌ: جهاد النفس والرضا بالقدر، أي كبحُ الشهوات الغريزية. لو عُمّم لأصبح مقاومة !

mardi 28 mai 2024

سأحدّثكم اليوم على لغز حيّرني: ما هو "الشيء" المتسببُ الأولُ في تخلفِنا وأزماتِنا ؟

 

 

"الشيء" الذي استلبَ حريتَنا وسلبَ إرادتَنا وأصبحَ يحددُ في حياتِنا كل شيءٍ، هو يعرفُ عنّا كل شيءٍ ونحن لا نعرفُ عنه إلا القليلَ مما سرّبَه هو  بنفسه ؟

هل أتانا مع الاستعمار، مع الغزو الثقافي الغربي، مع التكنولوجيا، أو حديثًا مع  القنوات الفضائية واليوتوب والفيسبوك ؟ هل تصحّ أو تجوز مقاومة هذا "الشيء" ؟ أو من الأفضل التكيّف معه ؟ وهل إذا صحت وجازت مقاومته، فهل أعددنا له العُدّة ؟ والله حِرتُ وحارَ دليلي ولم أجد لهذا الداء لقاحًا ناجعًا ! "الشيء" داءٌ يشبه كثيرًا داء السيدا في إستراتيجيتِه، بدأ بتحطيم قيمِنا-ثغورِنا، ثم أجهز على ما تبقّى من تقاليدِنا-أصالتِنا، ولم يَذَرْ لغتَنا-كيانَنا، فانهارت تحت ضرباتِ منجنيقاتِه  أسوارَنا، حصونَنا ثم قلاعَنا. هذا "الشيء" يشبه جنرالاً متمرّسًا بفنون القتال، بدأ بتحطّيم الرئتين في جسمنا فارتخت اليدان وشُلت الساقين ولم يَبقَ فينا إلا العينين، عينين ننظر بهما لكننا لا نرى إلا ما يريد هو أن نرى: سرق بذورنا وصدّرها لنا قمحًا، وظفنا سلة ثمار يزيّن بها موائدَه، سخّر مدارسنا لتخريج مهندسيه، افتكّ منّا أسواقنا ليبيع فيه سلعه، همّش أعيادنا وثمّن في قلوبنا أعياده، أنسانا عاداتنا، فرض علينا لغته، حضارته، معماره، دستوره، ديمقراطيته، نظام غذائه، لباسه، موسيقاه، ذوقه، مِشيته، أدبه، وحتى ميولاته العاطفية.

هاجمنا "الشيء" بعدما هرمنا وتركنا القتال وعجزنا عن النضال وأصبحنا نراه من المحال، أصابنا ضمورٌ في العضلات فتكلست خلايانا المخية ولم تعد تشتغل فينا إلا الخلايا الشوكية، تشتغل لتنفيذ أوامره دون إدراكٍ، أو نكتفي بإشباع رغباتنا المَعِدِية والجنسية، رغبات طبيعية وحياتية ضرورية، رغبات أولية بدائية، باختصار رغبات حيوانية لا ترتقي البتة إلى مستوى الإنسانية. عَصَرَنا حتى دحرجنا إلى الحيوانية، والحيوانية هي الشر بعينه، هي العصارة التي لا يمكن أن تُعتصَرَ أكثر، عصارةُ تَتابُعِ أجيال طويلة من الفساد (1956-2024).

هيمنةُ "الشيء" وتسلطُه جعلا منّا ذرّات لا تساوي شيئًا، ذرّات ممسوحة من تاريخ وذاكرة "الشيء"، تاريخ مزيفٌ ومغشوشٌ وذاكرةٌ انتقائيةٌ وعنصريةٌ، لكن هذا لن يمحوَ حقيقة وجودنا. ورغم لا معقولية "الشيء" فهو بالنسبة إلينا يمثل كل شيء، وبقدرة ساحرٍ استطاع وفي غفلةٍ منّا أن يقلب المِجَنّ ويُشعرنا أننا نحن هُمُ اللامعقول نفسه. أصبحنا بفضله نشعر أننا ضحايا وشهود في نفس الوقت، شركاء بُلهاء في مسرحية عبثية ضخمة ضخامة العالَم أجمع، ممثلون متقِنون لأدوارهم، أو بالأحرى كومبارس في عملٍ مجهول المخرِج، كومبارس كلما حاولوا التلاؤم مع العمل أو التعوّد عليه أو تبديله، كانت كل محاولاتهم تسقط منذ البدء في العبثِ والعبثُ من جنسِ عملِ "الشيء" وطبيعتِه.

أول مرة أكتب عن شيء دون أن أقدر على تحديدِ هويتِه والغريب أن هذا "الشيء"  هو الذي أصبح يحدد هويتَنا رغمًا عن أنوفنا ويسوقنا إلى حتفنا سَوْقَ النِّعامِ، يسوقنا أو يجذبنا، لا يهم، مصيرٌ مجهولٌ نسعى إليه حثيثًا ظنًّا منّا أنه فيه يكمنُ خلاصُنا.

"الشيء" جعل منّا، وفي نفس الوقت، ضحايا-جلادين، مسلمين-غير مسلمين، مصلين-فاحشين، صائمين-مفطرين، إسلاميين-غير إسلاميين، قوميين-غير قوميين، ليبراليين-محافظين، علمانيين-غير علمانيين، يساريين-غير يساريين، ديمقراطيين-غير ديمقراطيين، ثوريين-رجعيين، حداثيين-سلفيين، دعاة إصلاح-مفسدين، دعاة صدق-كاذبين، دعاة عمل-متكاسلين، دعاة ضمير-غشاشين، دعاة علم-مشعوذين ودعاة نظام-فوضويين، أسوياء-معوقين.

ماذا يكون هذا "الشيء" الذي غيّر فينا كل شيء ؟ حوّل قيمنا السمحة إلى قيم رجعية. حوّل حب الإنسانية فينا إلى قسوةٍ ضد بعضنا البعض. حوّل حب الحقيقة فينا إلى الإدمان على فعل الباطل. حوّل خطابنا إلى خطابٍ مناقضٍ لأفعالنا.

إذا كان هذا "الشيء" هو الكذبة الرسمية، فكيف يمكن أن يكون في الوقت نفسه هو حقيقتنا الرسمية التي لا حقيقةَ لنا غيرها. هذا "الشيء" لا يحمل أي فكرة ولا ينفع معه أي تحليل، ولا حتى محاولة تفسير: "قصة مملوءة بالصخب والعنف يرويها أبله".

يبدو أن هذا "الشيء" استسهلنا منذ زمان، لم يجد في جماجمنا أمخاخًا فاستوطنها، ثم أنتج من خلالِنا فكرًا متكلسًا،  فكرًا لا يؤمن إلا بتأبيد نفسه للبقاء على قيد الحياة، حياة ثقيلة الوطأة، حياة مطمئنة راضية بالحد الأدنى، فكرًا يسحق كل الشكوك ويغطي كل الشقوق ويرمّم السقوط، فكرًا يزيّن لنا الموت البطيء حياةً،  فكرًا حوّل اتجاه طموحاتنا من الأعلى إلى الأسفل،  فكرًا يريد أن يقنعنا أن "الكف ما يعاند الإشفَى" و"العين ما تعلَى عالحاجب" وبأنه من غير المجدي مواجهة الواقع وقول الحقيقة، ويقنعنا أيضًا بأن كذبته هي نهاية التاريخ والحقيقة التي لا قبلها ولا بعدها حقيقة.

هذا "الشيء" أوهمنا بالاستسلام للدعاية القائلة كما يقول ميرابو: "أن الطريق الذي يقود من الشر إلى الخير هو أسوأ من الشر"، وفي استسلامنا ذاك خَضَعْنا بادئ ذي بدء للشر الذي يتمثل أولاً في تراكم رأس المال وأوهمنا أن هذا التراكم سيقود حتمًا إلى الاستثمار والاستثمار يقود إلى الرفاهية (رفاهية القلة على حساب الأكثرية)، و يتمثل ثانيًا في تحرير المبادرة وأوهمنا أن هذا التحرير سيجلب حتمًا تعميم  الفائدة فدعه إذن يعمل دعه يمر (و فعلاً مرّ، لكنه مرّ على جُثثِنا، نحن الأجراء الفقراء)، ويتمثل ثالثًا في فتح أسواقنا وأوهمنا أن هذا الفتح سيعدّل الأسعار وسوف يقضي على الاحتكار (كذبة القرن). صدّقْنا "الشيء" واستسلمنا استسلامًا طوعيًّا لأوهامه، فرأينا في شرِّه هذا (الفردانية، الأنانية، الجشع، الربح السهل والسريع، إلخ.) الوسيلة الوحيدة للوصول إلى الخير الموعود، فصرنا نرى الشر نفسَه خيرًا، وغدونا نرى الشر كل الشر في أي محاولة تقاوم هذا الشر وتصمد أمامه: وسط هذا الليل البهيم انبثق في مسقط رأسي فجرٌ واعدٌ منيرْ، قبسٌ من نورٍ. وُلِدت تجربة جمنة من رحم جمنة، فكانت أسعدَ ولادة وأجملَ بشرى بعد 2011، قاومْنا المنوال الليبرالي المطبَّق في واحة ستيل بجمنة (10 آلاف دڤلاية)، صمدْنا أمامه، قضيْنا على استغلال المستثمِر الرأسمالي، وانتقلنا من الشر (الخوصصة التعاقدية الوقتية مع الدولة) إلى الخير (استرجاع مِلكية الشعب للأراضي الدولية وتطبيق منوال الاقتصاد الاجتماعي التضامني)، فأثبتْنا بالتجربة الملموسة أن الطريق الذي يقود من الشر إلى الخير ليس أسوأ من الشر بل على العكس هو الخير كله. 

صحفيونا و"الشيء": كذابون مأجورون، تنحصر مهمتهم في طمس طبيعة "الشيء" نفسه وإظهاره في دور المنقِذ وهو في الواقع مغرِّقٌ بامتياز. ويستمرّ صحفيونا في النهيقِ والنعيقِ، عبر صمتِ عشرة ملايين تونسي ما عادوا يصدّقون حرفًا واحدًا من هذيانهم. ومَن يكرّر خطابَهم، فوق، في القمة، في السلطة، فهم أكثر عزلة ووحشة ممن تعاونوا مع العدو أثناء الاحتلال الفرنسي، هم أيضًا يعرفون أن  صحافيينا يكذبون، وأن  "الشيء" هو عدو الإنسان.

خلاصة القول:  "الشيء" هو عبارةٌ عن حجرٍ غير منحوتٍ سقط على رؤوسِنا من حيث لا ندري، اجتثّ من قلوبِنا المقاومة وغرس  مكانها الاستسلامَ والخنوعَ. سحرَنا، خدّرَنا، ودون أن نشعرَ، أوهمَنا أننا أسيادٌ، ونحن له في الواقع عبيدٌ، على أن عبيدَ "الشيء" لا يتقنون استغلال هفوات "الشيء" المتعددة ونقاط ضعفه الكثيرة، ولا يعرفون كيف يتصرّفون، حيال الأخطار التي تتهدد "الشيء" (الإرهاب الداعشي)، إلا حسب "كاتالوڤِه" الموزّع مجانًا على قنواتنا الفضائية المأجورة والمنحازة، لا بل بالغوا في غبائهم فأصبحوا يلتمسون له الأعذار ويتعاطفون مع أزماته أكثر من تعاطفهم مع أمثالهم البؤساء بسببه.

 

خاتمة: والله العظيم عجزتُ عن تفكيك هذا "الشيء" الذي حوّلنا إلى لا شيء. أكون ممنونًا لمن فهم شيئًا من هذا "الشيء" وأبلغني إياه !

أمنية مواطن العالَم: أتمنى يأتي يومٌ ينبثق فيه في تونس وعيٌ جماعيٌّ، وأشاهدُ بأم عيني جميع التونسيين وهم ينهالون بالمطارقِ على رأس هذا "الشيء"، يضربونه حتى يتحطّم، يتفتّت، بحيث يستحيل بعد ذلك إصلاحَه أو ترميمَه. لم يفعلوها في ثورة 14-17 فندموا حيث لا ينفع الندم.

كلمة أخيرة: نحن هنا، المفكرون الأحرار، الأوراق فوق الطاولة، ولم يعد الغش ممكنًا. ومع ذلك فإن "الشيء" مازال يغش. والنظام وحده ما يجب أن نتهم، النظام الذي يدعم "الشيء" ويُقوِّيه عن طريق اعتماده حصريًّا على المنوال التنموي العالمي الرأسمالي الليبرالي بجناحَيه الحداثي والمحافظ.

ملاحظة: للأمانة الأدبية، استوحيتُ فكرة وقالب هذا المقال من كتاب "الاشتراكية الوافدة من الصقيع"، مترجَم عن سارتر، سلسلة مواقف الفكر المعاصر، دار الكاتب العربي، بيروت، (أول مرّة لا أجد في كتابٍ تاريخَ إصدارِه).

ليبراليتُهم وليبراليتُنا ؟ فكرة فيلسوف حمام الشط حبيب بن حميدة، تأثيث مواطن العالَم

 

 

الأنظمة الغربية الرأسمالية الليبرالية فيها كثيرٌ من الإيجابيات وقليلٌ من السلبيات بالنسبة لهم، أما نحن في تونس فقد نجحنا في التأليفِ بين سلبياتِهم جميعًا، وصنعنا منها ليبراليتَنا المشوّهةَ:

1. صناعةُ الغربِ فيها كثيرٌ من المصانعِ قليلةُ التلويثِ وقليلٌ من المصانعِ كثيرةُ التلويثِ، أما مصانعُنا فجلها على قلتها كثيرةُ التلويثِ (المصانع الكيميائية بصفاقس وڤابس).

2. فلاحتُه تنتِجُ الأغذيةَ الأساسيةَ وتصدّرُها لنا (الحبوب بأنواعها)، أما فلاحتُنا فقد اختصّت في إنتاجِ الأغذيةِ غير الأساسيةِ وتصديرِها لأوروبا (برتقال، دڤلة، زيت زيتون، إلخ) حتى أصبحنا نُنعتُ بِسلّةِ الغربِ للفواكهِ: لو لم يصدّرْ لنا حبوبَه أو بذورَه، احتفظَ بها وخزّنها، ومِتنا نحن جوعًا، وفي المقابلِ لو لم نصدّرْ له فواكهَنا، فسدتْ، وأفلستْ فلاحتُنا التابعةُ.

3. صحّتُه فيها مستشفياتٍ عموميةٌ تنافسُ المصحّاتَ الخاصةِ، أما صحتُنا فأفضلُها خواصّ.

4. تعليمُه العموميُّ ما زال منتِجًا للكفاءات، ينافسُه تعليمٌ خاصّ، أما تعليمُنا فمِن الخارجِ عموميٌّ ومن الداخلِ خاصٌّ (L`étude).

5. برلماناتُه تجسّمُ سيادة شعوبِه، أما برلمانُنا فيجسّم سيادة صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ويفرِّطُ في سيادةِ شعبِنا.

6. سلاحُه المتطوّرُ يبيعُه لعدوِّنا، إسرائيل، ولا يبيعُنا لنا نحن العرب إلا "الخُرْدَة".

7. اقتصادُه كله منظمٌ ويدفعُ الضرائبَ، أما اقتصادُنا فنصفُه مُوازٍ يتهرّبُ من دفعِ الضرائبِ.

8. نقاباتُه تتفاوضُ وتتجنّبُ الإضرابَ قدرَ المستطاعِ (آخرُ إضرابٍ في التعليم الفنلندي عام 1994)، أما نقابتُنا فتُضرِبُ من أجلِ فتحِ بابِ التفاوضِ.

9. تلفزاتُه تبثُّ برامجَ تثقيفٍ وبرامجَ ترفيهٍ، أما تلفزاتُنا فلا ترفيهَ فيها ولا تثقيفَ، بل جلها تهريجٌ، تخاريفٌ وتخريفٌ.

10. ثوراتُه نقلتْ مجتمعاتِه نوعيًّا، من الإقطاعية إلى الديمقراطية، أما ثورتُنا، وللأسف، وبعد عشر سنواتٍ عِجافٍ، لم تُفرزْ إلا الانتهازيةَ والمحسوبيةَ وغيابَ الانضباطِ في العملِ وانعدامَ احترامِ التراتُبيةِ الإداريةِ والأكاديميةِ.

الإله لا يسكن مستقبلاً إلا في العالَمِ الثالثِ والرابعِ. مقولةٌ للفيلسوف ميشيل سارّ. تعليق مواطن العالَم

 

 

L`idée principale de cet article est inspirée de Michel Serres, Hominescence, Ed. Le Pommier, 2001.

نص مواطن العالَم:

الله يُمهِلُ ولا يُهمِلُ، "وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا" (قرآن) .القرية حسب فهمي الخاص هي عالَم اليوم ومترفوها المعاصرون هم الرأسماليون الغربيون ووسطاؤهم في العالَمِ الثالثِ والرابعِ. ابتلاهم الله بِدعوشةٍ فاقت في الإرهابِ دعوشةَ المسلمين، أليس هم مَن مدّ دويعشاتَنا بأداة الجريمة، أسلحةُ الدمارِ الشاملِ وعلى رأسِها اللغمُ والقنبلةُ والرشّاشُ والمدفعُ.

زيّن الله لهم أنهم أصبحوا أقوياءَ من دون الله فتوهّموا أنهم هم الخالقون الآمرون الناهون المتنفذون المتحكمون في مصائر شعوبهم والشعوب الأخرى. تراءى لهم أنهم نجحوا في انتحال صفات الله: القوة والجبروت والقهر والحساب والعقاب، وظنوا خطأ أن "الله مات" أو شُبِّه لهم أنهم قتلوه ودون محاكمة دفنوه ولم يُصلّوا عليه وطلبوا منا أن نترك ذكره وننساه ونحمله مصائبنا، فقرنا وتعاستنا، جهلنا ومرضنا، سلمنا وحربنا وهو القائل سبحانه وتعالى: "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ"، "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ"، حكمتان كافيتان شافيتان لو تفكرهما دعاةُ المسلمين لَحلّوا عنا وبلعوا ألسنتهم وكفوا عنا هُراءهم.

تهيأ لهم، الرأسماليون الغربيون ووسطاؤهم في العالَمِ الثالثِ والرابعِ، أن الأمرَ استقر نهائيًّا لهم ولأولادهم من بعدهم، لا آخرة والدنيا لهم، ولا عقاب ولا حساب، هم الله ولا إله غير آلهتهم، آلهة المال والربح والاستغلال. اغترّوا بنجاحاتهم المادية المتتالية وتوهموا أنهم اكتسبوا كل صفات الله.

صفةٌ واحدةٌ من صفاتِ الله لم يدّعوا يومًا اكتسابَها، صفةٌ واحدةٌ تبدو لي لوحدها أحق منهم بالتبجيلِ والتوقيرِ والإجلالِ والتعظيمِ، ألا وهي الرحمةُ !

الله يسكن حيث يسكن عباده الفقراء الضعفاء والذين بسبب فقرهم هم الأقل ضررًا بالإنسانية والبيئة وهم الأقرب إلى صفات الله الأزلية فهم الأكثر طيبة ورحمة والأقل بطشًا بإخوانهم من عباد الله.

وهل للفقيرِ الضعيفِ أنيابٌ حتى ينهش لحمَ أخيه ؟ ومَن أحوجُ إلى رحمة الله غير الفقيرِ المسكينِ ؟

قِمّةُ الأنانِيَّةِ واللُّؤْمِ: مناطقَ غنيّةٌ تُطالِبُ بالانفصالِ والاستقلالِ عن مناطقَ فقيرةٍ في نفس الدولةِ

 

 

ثلاثُ مناطقَ غنيةٌ طالبتْ بالانفصالِ والاستقلالِ عن باقي المناطقِ الفقيرةِ في ثلاثِ دِولٍ: كردستان في العراق، كاتالونيا في إسبانيا، ولومبارديا في إيطاليا.

ثلاثةُ شعوبٍ في ثلاثِ مناطقَ غنيةٍ هزمتها الأنانيةُ وغلَبَها اللؤمُ، ثلاثتهم لا يؤمنون بالتكافُلِ الاجتماعيِّ بين الشعوبِ، ويريدون احتكارَ ثروات البلاد والاستِحواذَ عليها لأنفسِهِم دون وجهِ حقٍّ، في العراق وإسبانيا وإيطاليا، على حسابِ باقي المناطقَ المحرومةِ فيها، وينسَونَ أو يتناسَون أن لولا فقرِ الآخرين لَما كانت لهم ثروةٌ أصلاً.

مَن شيّدَ ناطحات سحابِكم ومن شَغّلَ ماكينات مصانِعَكم يا ناكِريِّ الجميلِ ؟ أليسوا عمال الوطن كله ؟ أيكون جزاؤهم كجزاءِ سنمارْ، مهندسُ المِعمارْ ؟

بِربكم، أيهما أفضل ؟ وأيهما عند الله والإنسانيةِ أبْقَى ؟ الإيثارُ أم الاستئثارُ ؟

lundi 27 mai 2024

بالله عليكم، ابدؤوا بإصلاح الزجاجِ المُهَشَّمِ في نوافِذِ المؤسسات العمومية التونسية

 


 

1.    بُلوغُ المجتمعِ اليساريِّ الديمقراطيِّ المستقبليِّ -كما أراه أنا- يبدو صعبَ المنالِ. أنا أراه مجتمعًا تُفرَضُ فيه العدالةُ الاجتماعيةُ بِقوّةِ القانونِ الوَضْعِيِّ.

2.    بُلوغُ المجتمعِ الإسلاميِّ الديمقراطيِّ المستقبليِّ - كما تراه أنتَ - يبدو صعبَ المنالِ أيضًا. أنتَ ترى مجتمعًا تسودُ فيه التقوى (La Vertu) خِشيةً في الله.

ما الحلُّ إذن ؟

بِربكم، ابدؤوا بإصلاح الزجاجِ المُهَشَّمِ في شبابِيبِكم، ولو أنه لا يَصلُحُ ولا يُصلَحُ بل يُغيَّرُ !

تساؤلٌ: المفارقةُ الصارِخةُ أن صِغرَ أهدافِنا (الربحُ ولا شيء غير الربحِ) ناتِجٌ عن كِبرِ وسائلِنا (التنافُسُ الصناعِيُّ الاقتصادِيُّ المحمومُ). ألا يحقُّ لنا إذن أن نُصَغِّرَ في وسائلِنا (التضامن الاجتماعي) من أجلِ بُلوغِ أهدافٍ كبيرةٍ (العدلُ في توزيع الثروة بين الغربِ والعربِ، بين الشمالِ والجنوبِ، بين الغنيِّ والفقيرِ، بين القويِّ والضعيفِ، بين السليمِ والمريضِ، إلخ).

Le mieux (La vertu et la justice sociale) est l`ennemi du bien (Le juste milieu), que ce soit le mieux de la gauche ou celui de la religion.

حمام الشط، الاثنين 30 أكتوبر 2017.

ما سبب الفوضى السائدة في عالَم اليوم: هل يكمن المشكل في الانضباط المدني أو في العصيان المدني ؟ فكرة الممثل الأمريكي ماتْ دامون، ترجمة وإعادة صياغة مواطن العالَم

 

 (L`obéissance civile)  (La désobéissance civile)

 (L`Universel dépasse de loin le Culturel, mais ne le nie pas)

 

يبدو لي أن المشكل يكمن في الانضباط المدني وليس في العصيان المدني ! كيف ؟

لولا انضباط الجنود الألمان والطليان واليابانيين والأسبان وطاعتهم العمياء لهتلر وموسولوني وهيروهيتو وفرانكو لَما تفرعنت حكومات ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية واليابان الغازية وأسبانيا الديكتاتورية واحتلت العالَم في الحرب العالمية الثانية وأفسدت في الأرض وتسببت في قتلِ حوالي ستين مليون نسمة ولولا انضباط الجنود السوفيات لستالين الشمولي لَما قُمِعَ عشرون مليون مدني سوفياتي أو سُجِنوا أو شُرِّدوا أو نُفِيوا أو هُجِّروا !

ولولا انضباط الجنود الأمريكان لَما شنّت حكومات أمريكا المتعاقبة مئتَي حرب استباقية ظالمة على عديد البلدان وذلك منذ نشأتها في القرن الخامس عشر ميلادي، ولولا انضباط الجنود الفرنسيين والأنڤليز لَما استعمرت فرنسا وبريطانيا إفرقيا والهند والشرق الأوسط ونهبت ثرواتهم الطبيعية وسرقت آثارهم وجهّلت شعوبهم ويتّمت صغارَهم !

لكن وفي المقابل، لولا انضباط الجنود الأمريكان والبريطانيين والسوفيات لَما انتصرت دِولُ الحلفِ (أمريكا، بريطانيا، فرنسا، الاتحاد السوفياتي، إلخ.) على دِولِ المحورِ (ألمانيا، إيطاليا، إسبانيا، اليابان، إلخ.) ! ولولا انضباط العمال المصريين لَما شُيِّدت الأهرامات وحُفِرت قناة السويس !

الطاعةُ العمياءُ عندي تعني دومًا التبعيّةَ والاستلابَ والعصيانُ المدني عندي لا يعني بالضرورة دومًا التحرّرَ والثورةَ! ما الحلُّ إذن ؟ الحلُّ ليس في جيبي، والبديلُ يُصنَعُ ولا يُهدَى، وهو جماعيٌّ أو لا يكون، ولا طاعة لمخلوقٍ في معصيةِ الخالِقِ، والخالِقُ قال لنا بصريح العبارة أحادية الدلالة وجلية المعنى: "مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا". وهل عَمِلَ المسلمون قبل غيرهم بهذه الآية الكريمة الرائعة؟ طبعًا لا ! بل فعلوا عكس ما جاء فيها: قتل المسلمون بعضُهم البعضَ وكلاهما يدّعِي ظُلمًا وبُهتانًا أنه يجاهد في سبيل الله، وأفسدوا في الأرض في سوريا والعراق وليبيا والصومال واليمن وأفغانستان والجزائر.

والله ما رأيتُ أحدًا حريصًا على أرواح شعبه أكثر من غاندي ومانديلا وحكومتَي ألمانيا واليابان. هاتان الحكومتان اعترفتا بالهزيمة أمام أمريكا ولم ترفعا في وجهها السلاح منذ 1945 بل قاومتاها بالعلم والعمل فوفرا على شعبَيهما شرور الحروب والتفتتا للبناء والتشييد ففاقتا أمريكا تقدمًا وتطورًا. فتبًّا لنا ولله درّهم جميعًا !

ويحك يا كشكار، يا سارق الأفكار، يا عديم الصفة في هذا المجال الرقمي البعيد على اختصاصك المحدود ومخك الصغير (1300غ)، يا منتحل صفة ! مالَك وسِيدَكْ الشيخ "ڤوڤل": صوّرتَه لنا وكأنه لم يبنِ شيئًا يُذكر فيُشكَرُ !

 

 

ومَن قال أن الفسادَ لا يبني ؟ على العكس فهو ولا أحدَ غيره مَن بنَى كل الحضارات الإنسانية الإمبريالية دون استثناء !

لولا فساد العبودية لَما شُيِّدت أهرامُ الفراعنة في مصر وأهرامُ المايا في أمريكا الجنوبية، ولَما تَفرّغَ فلاسفة أثينا للجدل والتفكير والتنظير في شتى مجالات المعرفة والفن والجماليات والأخلاق !

لولا فساد الإبادة العرقية للهنود الحمر لَما أسِّست أكبر قوة ظالمة في العالم الحديث، أمريكا !

لولا فساد الاستعمار لَما تقدّمت أوروبا !

والمفارقة الكبرى (Le grand paradoxe) أن الحضارةَ الأقل بناءًا هي الحضارة الأقل فسادًا ؟ نعم، وهي، لحسن حظنا أو لسوء حظنا، لا أدري، هي حضارتُنا العربية-الإسلامية ! حضارةٌ لم تبنِ أهرامات ولا أقصورًا ولا أسوارَ، لكنها بَنَتْ فكرةَ "لا إله إلا الله"، والفكرةُ أبقى من الحجرِ ! عند الفتح، مَنَعَ عمر بن الخطاب، رضي الله عنه،  الصحابة من تأسيس نظام إقطاعي في العراق. أخطأ أو أصابَ ؟ الله أعلَم ؟

La civilisation arabo-musulmane est victime de son succès (l`esprit égalitaire y est  plus développé que dans les autres civilisations concurrentes, chrétienne et juive. Idée du marxiste Habib Ben Hamida, le fameux philosophe de Hammam-Chatt

هو شرٌّ كله إذن يا عِرّيفْ زمانه ؟

لا، لم أقل ذلك، فالشر دون خير يستحيل وجوده كالفيروس دون خلية حية تستحيل حياته !

كيف تُفسّر إذن مجانية خدماته الجليلة المتمثلة في مساعدتنا على التواصل وحرية النشر والتعبير والبحث عن المعلومة المفيدة بسرعة البرق بواسطة محركاته البحثية النفّاثة ؟

هو ليس غبيًّا حتى يذبح الدجاجة التي تبيض له كل يوم بيضة من ذهب عيار 24 كارا ! لن يخاطر اقتصاديًّا ويطلب مقابلاً من عبيده مستعمليه وإلا خسر كل شيء.

كيف تُفسّر أيضًا إمكانية فتح حساب "ڤوڤل" جديد مزيّف دون مَدِّ هذا النظام بأي معلومة صحيحة ؟

لوموند ديبلوماتيك طرحت الإشكالية ولم تُجبْ عليها، وأنا لستُ مختصًّا وليس لي ما أضيفُ. لكنني أكاد أجزم أن الثعلب لا يفعل شيئًا لوجه الله وأكيد له مآربَ لا يعلمها إلا هو ورب العالمين ! ومتأكد أيضًا أن لا خيرَ يأتي من عنده لصالح الشعوب قاطبةً !

 

خاتمة شخصية

 "ڤوڤل"، العزيز على قلبي، قدّم لنا مشكورًا خدمات لا تُحصَى ولا تُعَد ويسّر لنا سُبُلَ تَواصُل ولولاه لَما يُسِّرت، وأنا أعتبرُ نفسي على المستوى الشخصي أول وأكبر المستفيدين، لكن ألا تعلمون أعزّائي أن جهابذة الصناعة الرقمية وأصحابها في أمريكا يُدخِلون أبناءَهم مدارسَ يُحجَّر فيها تمامًا استعمالُ الأنترنات. ولكم في المثال موعظة يا أولِي الألباب.

المصدر:

Le Monde diplomatique, janvier 2019, Extrait de l`article «Votre brosse à dents vous espionne. Un capitalisme de surveillance», par Shoshana Zuboff, Professeure émérite à la Harvard School , pp. 1, 10 et 11.

ڤوڤل 1: هذا الغول القادم من كاليفورنيا ! ماذا فعلَ بمعلوماتنا الشخصية التي جاءته على طبقٍ من ذهبٍ ؟ لوموند ديبلوماتيك، تأثيث وترجمة بقليلٍ من التصرّف مواطن العالَم

 

 

الصناعة الرقمية وسوقُها (L`industrie numérique) ازدهرتْ بفضل فكرة طفولية بسيطة: تستقبلُ جميع المعلومات الشخصية المجانية لكل مستعملي الأنترنات، تَستخرجُها، تُجمِّعُها، تُبوِّبُها، تُصنِّفُها، تُسلعِنها، ثم تبيعُها بأسوامٍ  خيالية باهظة الثمن للدولة والخواص.

ما هي المعلومات الشخصية التي يستغلُّها "ڤوڤل" ؟

(Google, le moteur de recherche numérique supposé le plus utilisé, le plus efficace et le plus rapide)

هي: صورُنا، عناوينُنا، تواريخُ ولاداتِنا، نوعيةُ أصدقائِنا، وجهاتُ أسفارِنا، أبطالِنا ورموزِنا وميولاتنا ومعتقداتنا في الدين والفكر والسياسة والفن، أذواقنا في الغذاء والموضة والموسيقى،  هواياتنا في الرياضة والثقافة والأدب والعلم والتعليم، إلخ.

معلومات تبدو في نظرنا تافهة وبلا قيمة اقتصادية، وهي على المستوى الفردي فعلاً كذلك. لكن لو أحصيتها وصنفتها فستصبح كنزًا يُقدَّر بمليارات الدولارات.

لِمَن يبيع الحاج "ڤوڤل" معلوماتنا الشخصية بعد سلعنتها ؟

الحريف الأول: غسّالة الأدمغة من شركات الإشهار التجاري الكاذب (Publicité) وشركات التسويق والغش والتزويق (Marketing) حتى يطوّروا أساليبهم وحيلهم القذرة ويجوّدوا فخاخهم لمزيد اصطياد فرائسهم من المستهلكين المكرَهين المضطَرّين.

الحريف الثاني: غسّالة الأدمغة من مرتزقة السياسة محترفي صناعة الرأي العام من أجل التأثير على الناخبين والتحكم في توجهاتهم قبل الذهاب إلى صناديق الاقتراع "الديمقراطية" في الانتخابات الرئاسية والتشريعية والاستفتاءات الوطنية.

الحريف الثالث: "ڤوڤل" يبيع إلى مجموعة شركات تدفع لتكسب أكثر بكثير ودون سقف، شركات أنشَأت لهذا الغرض بالذات أسواقًا جديدةً، اسمها أسواق السلوكات البشرية حاضرًا ومستقبلاً.

ماذا يبيع العطّار "ڤوڤل" ؟

يبيع معلومات استشرافية حول السلوكات الفردية المستقبلية لمستعمليه، أي عبيده. سلعة افتراضية، سلعة  دون كتلة ولا وزن، سلعة  تباع أغلى من الذهبِ.

صاحبنا خلق إمكانات جديدة لاستخراج واستنتاج أفكار الأفراد والمجموعات وعواطفهم وانفعالاتهم ونواياهم ومصالحهم بواسطة آليات متطورة تشتغل كمرآة دون طِلاء (miroir sans tain). آليات تتجاهل وعيَ المستعملين ولا تنتظر موافقتهم المسبقة. مَجازُ المرآة دون طِلاء يرمز إلى العلاقات الاجتماعية الرقابية الخاصة المرتكزة على عدم تناسق ممتاز في المعرفة وفي السلطة بين "ڤوڤل" ومستعمليه.

منذ سنوات شرع "ڤوڤل" في توسيع هيمنته خارج حدود محرّكه لتشمل كل مجالات الأنترنات (مايل، فيسبوك، مسّانجر، سكايب، فايبر، تويتر، أنستاغرام، يوتوب، إلخ.) وتحتلها ثم تحوّلها إلى مستوطنات ترتع فيها إعلاناته الإشهارية الموجهة إلى جمهور مستهدف محدَّد بحِرفية تجارية عالية. وبهذه الطريقة يستطيع أن يستخرج ويحلل محتويات أصغر صفحة تُنشَر على الأنترنات ويرصد أقل حركة لكل مستعمل للأنترنات بواسطة علم تحليل النصوص (La sémantique) والذكاء الاصطناعي مع احتمال استخراج المعنى: هذا الفرع من شركة "ڤوڤل" حقق يوميًّا أرباحًا بقيمة مليون دولار، رقمٌ تضاعف 25 مرة سنة 2010.

هل نحن، مستعملو "ڤوڤل"، فاعلون في إنتاج القيمة المضافة ؟ (Les sujets de la réalisation de la valeur)

طبعًا الجواب بالنفي. لسنا أيضًا، عكس ما يعتقد الكثيرون، السلعة التي يبيعها "ڤوڤل". مَن نحن إذن ؟ نحن منجم افتراضي يَستخرج منه "ڤوڤل" معدنًا، يستحوذ على ملكية هذا المعدن، ثم يصهره في أتُونه، يصقله في مخابر  مصانعه، فيصبح ذهبًا خالصًا يبيعه لحرفاء حقيقيين.

 

هل وقف عَمّو "ڤوڤل" عند هذا الحد ؟

لا، عَمّو اللقيط المستِر "ڤوڤل"، عَمٌّ لا يستحي ويفعل ما يشاء. الحلّوف يبقى حلّوف ولو حمّمته في بانو ورد !

شنَّ علينا، نحن فقراء العالَم الأول والثاني والثالث،  شنّ علينا حربًا استباقية والشيء من مأتاه لا يُستغرَبُ. أليست جنسيته أمريكية ؟ وأمريكا شنّت 200 حرب استبقاقية على دول العالم القوية والمستضعفة منذ تأسيسها المشؤوم على البشر كلهم بما فيهم الأمريكان الفقراء أنفسهم وعددهم يفوق الـ50 مليون نسمة.

فيما تتمثل هذه الحرب الاستباقية ؟

عوض أن يكتفي بجمع وتصنيف ما توفّر له مجانًا من معلومات شخصية، شرع في قراءة أفكارنا ونوايانا وتحليلها من أجل استلابنا استلابًا كاملاً. استلابٌ يجعلنا ننطق بمنطقه، نتكلم بلسانه، نعبّر عن شهواته ونتبناها وكأنها شهواتنا. فعل فينا ما يفعله فيروس السيدا في خلايا الكريات البيضاء: اندمج في آدِآنها (ADN) فأصبحت الخلية تُصَنِّعُ عدوَّها بنفسها وبالملايين.

"ڤوڤل" سلبنا إرادتنا، استوطن أمخاخنا وعقولنا، استلبنا حتى النخاع، جعلنا نتماهى مكرَهين مع مصالحه الرأسمالية الأنانية الربحية المشِطّة الجشعة جدًّا حتى خِلناها مصالحنا نحن، وذهب في ظننا أن أفكارَه هي من بَنات أفكارنا وأن اختيارَه هو اختيارنا النابع من إرادتنا لا إرادته.