إهداء المقال:
إلى الفلاسفة الماركسيين الذين علموني تثمين النمو الاقتصادي وإلى الفلاسفة غير
الماركسيين الذين علموني ألا أقدسه.
مَن قال عن
التوانسة أنهم عديمو الضمير المهني، متكاسلون ولمهنهم لا يتقنون، فهو كاذب !
التوانسة لا
يتكاسلون، لا يتغيبون، بل أعمالَهم يتقنون وفي سبيل خدمة المستثمرين الأجانب في
الخارج والداخل يتفننون ويتفانون. يتفانون طمعًا في الكسب الوفير والسريع مما نتج
عنه طبقية مقيتة وتفاوت في الدخل أمقَت.
يبدو لي أن
سبب هجرة الأدمغة التونسية ينحصر فقط في البحث عن تحقيق المصلحة الذاتية الخالصة
بصرف النظر عن أي اعتبار آخر، كالشعور بالمسئولية الاجتماعية أو الالتزام الخُلقي
حيال الوطن الأم. ويبدو لي أيضًا أن طريق تحقيق السعادة الفردية الانتهازية على
حساب المجموعة هو أسوأ طريق، وأن أنبل طريق لتحقيقها ودوامها هو السعي لتحقيق
سعادة المجموعة، فسعادة الفرد لا تكتمل إلا بسعادة المحيطين به، عائلته وجيرانه
الذين تركهم وراءه في تونس. تركهم اختيارًا وليس ضرورةً.
حتى حكوماتنا
المتتالية أصبحت شبه مُسخّرةٍ لخدمة الأجنبي: بعد الثورة، استمر النظام في استكانته
لإملاءات الاتحاد الأوروبي وأمريكا (عدم تجريم التطبيع مع إسرائيل في الدستور
مثلاً)، إملاءات ممثلة في الرضوخ لأوامر وشروط المؤسسات المالية العالمية، شروط مُذِلّة
ومُجحِفة (FMI, BM, BCE, club de Paris, etc).
"نموّنا
الاقتصادي" (5 في عهد بن علي، 0 ثم 2 بعد الثورة). لو حدث عندنا نموّ فهو نموٌّ
هشٌّ وتابعٌ: جل مصادر دخلنا الخام خرجت عن سيطرتنا فأصبحت نهضتنا الاقتصادية
رهينةً لتحويلات مهاجرينا بالخارج وتحويلات صدقات أمريكا وأوروبا والخليج وتحويلات
المستثمرين الأجانب وتحويلات السياح الأجانب عجمًا وعربًا.
كلها تحويلات
هشة، ظرفية وغير مضمونة، والدليل القاطع على هشاشتها يتمثل في ما عشناه بعد الثورة خاصة في سنواتها الأولى:
عملية سوسة الإرهابية (قُتِل فيها حوالي أربعين سائحًا بريطانيًّا) أوشكت أن تطيحَ
بقطاعٍ كاملٍ، فبين عشية وضحاها أصبح 500 ألف تونسي دون مصدر رزقٍ. ظاهرةُ رحيل
آلاف الشركات الاستثمارية الأجنبية، التي جاءتنا بفضل قانون أفريل 1972، تركت
وراءها مئات الآلاف من العمال العاطلين. ارتفاعُ المديونية أفقدنا المناعة الوطنية
فأصبحنا لا نعيش إلا بالمضادات الحيوية، الحُقنة بعد الحُقنة والقرض يليه قرض،
بينهما قرض.
مناعتُنا
الوطنية تتمثل في تحقيق اكتفائنا الذاتي من الأغذية الحياتية عبر زراعة الحبوب
واللفت السكري، وتتمثل أيضًا في صناعة النسيج والصناعات التحويلية والتقليدية.
سرقوا بذورنا الأصلية - الله لا تربّحهم - وحوّلوا بلادَنا إلى "سلة غلال
أوروبا"، نُصدِّر لهم الزيت والقوارص والدﭬلة (en vrac) وبأبخس الأثمان،
ونستورد منهم البذورَ والسيارات وقِطَعَ الغيار والويسكي والعطورات والألبسة
الجاهزة والسلع الكمالية الفاخرة وبأبهظ الأثمان (محصول 10 آلاف نخلة دﭬـلاية في
السنة لا يكفي لشراء سيارة "بورش" واحدة). صدّروا لنا مصانعَهم
الكيميائية الملوِّثة، وأسوأ مثال يحضرني الآن هو "مُركّب الصناعات
الكيميائية بـﭬابس"، جريمةٌ نكراءُ ضد البيئة والسكان، صناعةٌ يجني منها
المستثمر المقيم في الكويت أو فرنسا الربح الوفير، ولم يجنِ منها سكان ﭬابس إلا
التدمير الكبير، تدميرٌ شاملٌ بأتمّ معنى الكلمة: تلويثٌ مكثّفٌ لخليج ﭬابس، مزرعة
السمك الطبيعية، إتلافٌ شاملٌ لزراعة الرمّان والحنة التي اشتهرت بفضلها ﭬابس
المدينة، وتدهورٌ خطيرٌ في صحة
الـﭬوابسية. المفارقة الكبرى تكمن في أن الـﭬوابسية
لا يرون من جبل الثلج إلا ما ظهر منه فوق سطح البحر: يطالبون بإنشاء كلية طب
بـﭬابس لمعالجة النتائج ويتجاهلون الأسباب. والأجدر بهم أن يطالبوا بإغلاق "مركب
الصناعات الكيميائية" إغلاقًا نهائيًّا وإلى الأبد، ولو فعلوها فستكون خيرًا
من ألف كلية طب. لقد نبّههم مبكرًا "الكومندان كوستو"، عالِم البحار
الفرنسي، نبّههم منذ السبعينيات من القرن الماضي إلى خطورة هذا المشروع على المدي الطويل،
نبّههم وللأسف الشديد لم ينتبهوا. قد نجد لهم عذرًا على صمتهم في عهد بورﭬيبة وبن
علي، زمن القمع، لكن ما عذرهم اليوم في زمن "الديمقراطية والحرية" ؟
ملاحظة: للأمانة العلمية، استوحيتُ مقالي أعلاه واستعرتُ بعض جُمله وتراكيبه
من كتاب "ماذا علمتني الحياة سيرة ذاتية"، جلال أمين، دار
الشروق، الطبعة السابعة 2015، بداية من صفحة 360 إلى صفحة 363، فاختلط في نصي النقلُ بالبيان وتشابهت مآسي
الأوطان، تونس وهِبة النيل وسُدُّ أسوان.
إمضائي: "وإذا كانت كلماتي لا
تبلغ فهمك، فدعها إذن إلى فجر
آخر" جبران
تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 20 جوان 2019.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire