وُلِدْتُ سنة
1952 في قرية جميلة تقع في الجنوب الغربي التونسي بولاية ﭬبلي تحديدًا، بلدةٌ أعشقها واسمها جمنة.
وُلِدْتُ من أبٍ (1886-1967) كان يصلي مرة واحدة في الأسبوع، يوم الجمعة في الجامع،
ومن أم (1912-1993) بدأت تصلي بعد وفاة أبي وقد تجاوزت الخمسين من عمرها.
تبين لي
بكتابة مقال بعد آخر من هذا النوع أن الاشتغال على الذات هو أحب أنواع الكتابة
إليّ، لا الكتابة في السياسة ولا في الدين ولا في أي موضوع آخر ما لم أحاول مزجه
بتجربة حياتية عشتها في الواقع. ثم تبينتُ أيضًا أن كتابة هذا النوع من المقالات
هو في الحقيقة أكثر ما يجلب لي السرور على الإطلاق، أكتبه بصدق ودون عناء، أسبح في
ذاتي كالسمكة في الماء، أنسى همومي وأنسى أين أنا. أكتب عن طفولتي.. دراستي..
أساتذتي.. أمي.. أختي.. أصدقائي وحتى خصومي والمناوئين والأعداء.
حماسي في شبابي
للشيوعية مر بسلام دون أن يعكّر عليّ صفو حياتي. لم يكن في الساحة الجامعية غيرها
الحمراء. كان لي موقف غير متعاطف مع الدين، وكنا نقول عنه "بنية فوقية لا
تغير الواقع".. "أفيون الشعوب".. ولم نكن نعرف تتمة قولة ماركس
"الدين صرخة المظلوم.. الدين روح عالَم بلا روح. الدين قلب عالَم بلا قلب".
في أواخر
الثمانينيات، تلقت الشيوعية الضربة القاصمة، انكسر عكازي مع انهيار جدار برلين، انكسر عكازي الذي كنت أظن أنه صلبٌ حديدْ، شديدٌ عنيدْ، لا ينكسر فاعتراني شك عميق ولم يعد من الممكن أن أميل
إلى تفسير التاريخ بالعوامل المادية فقط مثلما يميل الماركسيون في أغلب الأحوال بل
تبينتُ أن هناك أشياء أخرى أكثر عمقا وربما أكثر ثباتا من العوامل المادية، ولم يعد الدين في نظري بنية
فوقية.
المفارقة
الكبرى أن أكثر الكُتّاب تأثيرًا فيّ، هُمُ مفكرون أحرارٌ غير مسلمين من أمثال أمين
معلوف وريمون آرون وميشيل أونفري وميشيل سارّ وإدﭬار موران وجان بول سارتر وسيمون دي بوفوار
وغيرهم، يليهم في التأثير مفكرون أحرارٌ مسلمون لكنهم غير أرتدوكسيين من أمثال
الطاهر الحداد، علي شريعتي، جمال البنّا، محمد أركون، محمد الطالبي، محمد حداد،
هاشم صالح، هشام جعيط، عبد الله العروي وغيرهم.
هذا التحول المفاهيمي (changement conceptuel progressif) في
التفكير لديّ قَوّاه ولم يضعفه
اكتشافي في مرحلة إعداد الدكتورا كم كنا نبالغ في موضوعية العلم وحياديته، وفي
إمكانية النهضة به وحده دون الحاجة إلى الدين. واكتشفتُ مع مدير أطروحتي بيار
كليمان أن العلم غير تام الموضوعية مائة
بالمائة وغير محايد مائة بالمائة، إنما هو في الواقع منحازٌ لمنتجيه والمتاجرين
بنتائجه، واكتشفتُ أيضًا أن علمًا بلا أخلاق كحصانٍ بلا لِجام. ثم تبينتُ شيئًا
فشيئًا أن العلم هو أكثر ذاتية مما كنتُ أظن وأقل نفعًا مما كنتُ أتوسم فيه، ومن
ثم من الممكن جدًّا أن يكون ضارًّا ومدمّرًا كما حدث في هيروشيما وتشرنوبيل. وفي
نفس الوقت تبينتُ أيضًا أن الدين رغم أنه لا يقوم على التجربة، قد يكون قوة دافعة
لأعمال عظيمة أو قوة مدمّرة لو تحول إلى مجموعة "هويات قاتلة" كما يحدث
اليوم في سوريا وليبيا. ربي يستر، يبدو لي أنني "هربت من القطرة جِيتْ تحت
الميزاب" ! فما هذا الغرور إذن الذي يتسم به الطرفان، الشيوعيون والإسلاميون ؟
مصالحتي مع المتدينين واحترامي لهم،
شيئان أملاهما عليّ تعاطفي مع مجتمعي وحرصي على تقدمه، ومَن أراد أن يفعل في
المجتمع فعليه أن يتكلم لغته، ولا لغة للمسلمين غير الإسلام. لا أسيء إليهم، أراعي
مشاعرهم دون أن أنافقهم، مع حقي في الإعلان عن إسلامي غير الأرتدوكسي وعلمانيتي غير المعادية للدين والاحتفاظ في نفس الوقت بيساريتي غير
الماركسية أو ما قبل الماركسية. أعي جيدًا أن تعدد الهويات في شخصٍ واحدٍ أمرٌ مرفوضٌ عند الماركسيين ومنكورٌ عند الإسلاميين: الماركسيون لم يغفروا لي
تجاوزي لإيديولوجيتهم الماركسية والإسلاميون لم يقبلوا اختلافي عن إيديولوجيتهم
الإسلامية. الغريب أنني لا ألوم سلفيّي الجهتين، الخضر والحمر على السواء، على ما اقترفوه في حق حرية الضمير، بل أتفهم دوافع صدهم ومقاومتهم
للرأي المخالف.
خاتمة: ما حيلةُ ناقدٍ هدّامٍ-بنّاءْ للإيديولوجيات الكاملة الصماء،
الماركسية والإسلام السياسي، الأولى يعتقد معتنقوها أن ماركس أنزلها، والثانية
يدعي أصحابها أنها كالقرآن نزلت من السماء
؟ وما حيلة مفكر حر وجد الحل في تعدد الهويات ويسعى دومًا إلى فتح حوار فكريّ بين
الإيديولوجيات ؟
ملاحظة: للأمانة العلمية،
استوحيتُ مقالي أعلاه واستعرتُ بعض جُمله وتراكيبه من كتاب "ماذا
علمتني الحياة سيرة ذاتية"، جلال أمين، دار الشروق، الطبعة السابعة 2015، بداية
من صفحة 295 إلى صفحة 319، فاختلط في نصي النقلُ بالبيان وتشابهت السيرتان.
إمضائي: "وإذا كانت كلماتي لا
تبلغ فهمك، فدعها إذن إلى فجر
آخر" جبران
تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 17 جوان 2019.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire