يبدو لي أن نفورَ الجماهير العربية من الفكر اليساري، نفورٌ مردّه
اجتماعيٌّ بحتٌ ولا علاقة له بنباهة اليساريين أو بحدّة ذكائهم.
يبدو لي أن الأنظمة السياسية العربية الحاكمة في الستينيات والسبعينيات
كانت في حاجة إلى نشر وَهْمِ الاشتراكية أكثر مما كانت في حاجة إلى تطبيق مبادئها،
ومن هنا نشأت خصوصية علاقة الأنظمة السياسية العربية بالاشتراكية:
-
من جهة لوّحوا بها كطُعم للجماهير التوّاقة
للعدالة الاجتماعية والمساواة الطبقية، لكنهم لم يتجاوزوا الشعار إلى التمثل
الفكري والتطبيق المادي.
-
ومن جهة ثانية تأثر بها بعض المفكرين العرب إلى حد أنهم حاولوا إحياء مذاهب
إسلامية قديمة وأوّلوها تأويلا اشتراكيا، وهكذا أصبح "أبو ذر الغفاري"
من أبطال الاشتراكية وتحوّل "القرامطة" إلى ثوار اشتراكيين.
يبدو لي أن جل الأنظمة السياسية العربية الحاكمة استغلت الاشتراكية كشعار
لأن هذه الأخيرة كانت حلما شرعيّاً يستجيب إلى طموحات الجماهير العربية وتوقها إلى التحرر والعدل والتقدم
والمساواة. هذه الوضعية دامت تقريبا عقدين أو ثلاثة من الزمن (50-79).
يبدو لي أن انضمامَ العرب إلى المنظومة الاشتراكية أثناء هذه الفترة
(50-79) كان في المتناول، وكانت الاشتراكية تمثل النظام الأكثر ملاءمة للوضعية
العربية في ظل الحرب الباردة بين القطب الاشتراكي "التقدمي" والقطب
الرأسمالي الامبريالي، وفي بعض الأحيان كان الفكر الاشتراكي هو الفكر الأكثر
انتشارا في الأوساط الثقافية العالمية. لكن الفكر الاشتراكي لم يكن يوماً في
الساحة وحده ولم يلبث أن واجه منظومات رأسمالية ثورية محافظة ومنافسة قوية خلال
سنتَي 78-79 منها إصلاحات دينغ شياوبينغ في الصين وإصلاحات تاتشر في بريطانيا
وثورة الخميني في إيران (أمين معلوف، غرق الحضارات، 2019)، وكثيرا ما استغل اليمين
العربي هذه المنظومات الأخيرة لنشر دعوة الليبرالية الاقتصادية دون الأخذ
بالديمقراطية.
يجب التمييز إذن بين العهد الاشتراكي الذي مر به الفكر العربي وبين المدة
القصيرة جدا التي تبنت فيها بعض الدول العربية نظاما اشتراكيا مشوّها نظريا
وتطبيقيا (مصر، اليمن، سوريا، العراق، الجزائر، ليبيا، تونس). إن الاشتراكية
الرسمية العربية لم تكن أبدا وفية لأصولها الماركسية: الكتّاب العرب والمفكرون
والمثقفون والطلبة والمناضلون والمعارضون اعتنقوا الاشتراكية في صورتها الماركسية
وعاشوا عهدا اشتراكيا فكريا افتراضيّا زاهراً رغم تعسفهم على بعض المفاهيم العربية
الإسلامية غير الاشتراكية وتأويلها تأويلاً اشتراكيا خاطئاً. كان الشيوعيون
والاشتراكيون الديمقراطيون والقوميون واليساريون الإسلاميون العرب يوظفون فكرة
الاشتراكية توظيفا سياسيا كمادة للدعاية التحررية بغض النظر عن أصولها ومراميها
الفلسفية. كان المهم عندهم آنذاك هو توظيف شعار العدالة الاجتماعية ولا يهمهم من
أي إيديولوجية تيسر، ورَفْعِ هذا الشعار كان عندهم بمثابة التغني بشيء مفقود
ومستحيل.
رُفعت الاشتراكية كشعار -ليس إلا- في العهد الاشتراكي الذي عاشته بعض الدول
العربية، وبالفعل نلاحظ أن مؤلفات الاشتراكيين العرب في ذلك الوقت لا تتميز
بالتجذر والتكيّف والتأقلم والتماهي الجدلي
(Indigénisation) وكان مُنظِّروها يُتهمون
دائما بالميوعة والزندقة والكفر والإلحاد وفي أفضل الأحوال بالتقليد والانبتات عن
مجتمعاتهم العربية الإسلامية، والحقيقة أن جل هذه التهم لم تكن من فراغ. لكن إذا
تفهمنا بعمق الظروف الاجتماعية التي كانت سائدة آنذاك أدركنا أن هذا الفقر في
الإبداع لديهم لا يعني عجزا في أذهان اليساريين ولا قصورا في همتهم وإنما يعني
نتيجة طبيعية للتفاعل الذي حدث بين عنصرين اثنين أساسيين:
-
الأول يتمثل في عدم اطلاع فظيع من قبل
عَلمانيي ويساريي ذلك الوقت -وهذا الوقت أيضاً- على قاموس اللغة العربية وقاموس
رموز الحضارة الإسلامية وتراثها وفقهها وتاريخها (بالرغم من وجود جهابذة عرب
مسلمين أنتجوا بغزارة في هذا الميدان أمثال عبد الله العروي وحسين مروة وصادق جلال
العظم وعلي حرب وهشام جعيط وعبد المجيد الشرفي ومحمد الشرفي ومحمد حداد وآمال
ڤرامي ومحمد الشريف الفرجاني ومحمد الطالبي ونصر حامد أبو زيد وجمال البنّا وألفة
يوسف وأبو يعرب المرزوقي وعياض بن عاشور ويوسف الصديق ومحمد أركون وهاشم صالح
وغيرهم -أكيد الكثير- مما لم أطلع على إنتاجاتهم).
-
أما العنصر الثاني فيتمثل في صعوبة وتعقّد
الفكر الاشتراكي مما نفّر منه الجماهير الأمية والفئة المتعلمة غير المثقفة، وخاصة
أصحاب الاختصاصات منهم في التكنولوجيا والعلوم الصحيحة والتجريبية، كالرياضيات
والهندسة والطب والبيولوجيا.
أثناء المد الاشتراكي العالمي، لاحظ المختصون شيئاً من الانفصال بين
النظرية والتطبيق، ولم تسترجع النظرية الاشتراكية حقها من اهتمام المؤلفين إلا بعد
انتهاء العهد الاشتراكي، بعد أن أفضت التجربة الاشتراكية إلى فشل عالمي (بدأت في
السقوط كأحجار الدومينو في بداية التسعينيات، في الاتحاد السوفياتي والدول
الأوروبية الشرقية وكمبوديا وألبانيا أما في الدول العربية فقد سقطت منذ بداية
السبعينيات، في مصر وسوريا والعراق والجزائر واليمن وتونس). فشلٌ أثبت أن
الاشتراكية نظرية متناقضة في ذاتها وليست أفضل من نقيضها النظري المتمثل في
الليبرالية الرأسمالية، لكن شعارَ الاشتراكية بقي مرفوعاً لأن الحاجة إلى العدالة
الاجتماعية تدعو إلى ذلك، شعاراً لم يعد من مسلمات هذا المجتمع، وسيكون نقد هذا
الشعار في المستقبل منطلقا لطرح مسائل جوهرية حول الاشتراكية وعلاقتها بالدين
والحرية والديمقراطية.
يبدو لي أن الأفكار التالية كانت غير صحيحة:
-
مثل القول بأن الاشتراكية العربية هي
اشتراكيةٌ متولدة من رحم الاشتراكية العالمية تَولدا آليا، وأن الدعوة إلى
الاشتراكية في العالم العربي الإسلامي ترجمة صرفة للدعوة العالمية، وأن كلمة
اشتراكية ذاتها ترجمة للكلمة الأجنبية "سوسياليزم".
-
أو أن الدعوة إلى الاشتراكية في العالم
العربي الإسلامي قد انبثقت قبل كل شيء عن حاجة متولدة في المجتمع العربي الإسلامي
نفسه، شعر بها عدد من الناس المثقفين والمفكرين والمبدعين والفنانين والطلبة
والمعارضين السياسيين (وقع العكس: الدعوة إلى الاشتراكية لم تنبثق من الصراع
الطبقي في المجتمعات العربية لأن الوعيَ بالصراع الطبقي في العالم العربي كان ولا
يزال مفقودًا لغياب مفهوم الطبقة نفسه عند العرب، فالطبقة تُعرّفُ بوعي العمال
بالانتماء إلى طبقة البروليتاريا وليس بوجودهم المادي كعمال في السوق الرأسمالية).
-
هذا الانبثاق المرتقب نظريا من قِبل ماركس
نفسه لم يحدث حتى في الاتحاد السوفياتي أو الصين. قد يكون حكام العرب، مثل عبد
الناصر وصدام والأسد والقذافي، قد تهافتوا على المنظومة الاشتراكية لأنهم رأوا
فيها المنقذ الوهمي الوحيد من براثن الرأسمالية الغربية الاستعمارية الامبريالية
ووجدوا فيها ملاذا وقتيا آمنا وتجسيما لما يحسون به في داخلهم من استفراد بالرأي
والحكم، فنهلوا من تنظيماتها الاستبدادية اللينينية-الستالينية متنوعة الأشكال
كالحزب الواحد والزعيم الأوحد الملهَم والملهِم المعصوم ورأسمالية الدولة
والانتخابات المزيفة واستلاب الشعب بأكمله والدكتاتورية على الشعب باسم الشعب. كل
هذا يؤكد أن الدافع الأول عند حكام العرب كان دافعا ذاتيا محليا انتهازيّاً وليس
تأثيرا خارجيا. والدليل على ذلك هو أن حكام العرب في تلك الفترة، ما بعد الاستعمار
الغربي، لم ينقلوا بأمانة مبادئ الاشتراكية الغربية التي رغم كثرة هِناتها، لا
ينكر أحدٌ أنها حققت في العالم الشيوعي نهضة مادية في البنى التحتية وفي العلم
والتعليم والتكنولوجيا والتصنيع. تعامَى مثقفو العرب عما كانت تحمله الاشتراكية من
وعي بتناقضاتها الداخلية البنيوية الذاتية. تَعاميهم هذا، غير المقصود وغير
الواعي، نتج عن حلم بتحقيق العدالة الاجتماعية في أسرع وقت ممكن كأنهم يسابقون
الزمن، إنهم في حاجة إلى اشتراكية متفائلة حازمة واثقة بذاتها فأوّلوا اشتراكية
عصرهم حسب أوهامهم.
يبدو لي أن مفهوم الاشتراكية عند الاشتراكيين أنفسهم بقي مفهوما سطحيا وأن
تلك السطحية كانت الحاجز الذي منع الثوار الاشتراكيين، أمثال لينين وستالين وماو
وكاسترو من تجسيد الاشتراكية في تنظيمات سياسية تتصف بالحرية والديمقراطية
والعدالة الاجتماعية ونبذ الامبريالية. إن أخطاء الثوار الاشتراكيين نشأت عن خلط
بين الاشتراكية والدكتاتورية. ولتدارك تلك الأخطاء لا بد من نقد ذاتي وتطوير في
التنظيمات والاستفادة من تجارب التنظيمات الليبرالية الرأسمالية وتوظيف المبادرة
الفردية أفضل توظيفٍ، أما بالنسبة للاشتراكيين العرب، فهم مطالبون أكثر من رفاقهم
الغربيين بالتعمّق في دراسة تراث وواقع مجتمعاتهم
العربية الإسلامية. قال ماركس بما معناه: "على الفلاسفة تغيير العالم وليس
الاكتفاء بفهمه"، وأنا أقول بعد حفظ المقامات: "على اليساريين العرب فهم
ماضيهم واستشراف مستقبلهم قبل تغيير واقعهم، ولا يوجد في الأفق أمامهم سوى التماهي الجدلي مع
هويتهم العربية-الإسلامية".
حمام الشط في 14 فيفري 2012 (تحيين 2020).
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire