jeudi 6 mai 2021

كيف أكتب ؟ المؤلف مواطن العالَم والديداكتيك

 

 

في هذا الكتاب، سمحتُ لنفسي أن أكتب أثرًا "خالٍ من تلك العتمة وذاك الركام من الاستشهادات والإحالات المضنية التي تلهي القارئ الصفحة تلو الأخرى وتصدّه عن المسك بجوهر الموضوع"، جملة قالها الموسيقار الألماني العبقري "فاغنر" تمجيدا لكتاب صديقه الفيلسوف الألماني العظيم نيتشه (المصدر: كتاب "نيتشة والفلسفة"، محمد المزوغي، 2010). لكنني أعي جيدا أن كل أثر علمي عادة ما يخضع لمعايير علمية وقواعد محددة وأن للكتابة العلمية ديونتولوجيتها وأن ناقل العلم مثلي لا يجب أن يكتب جزافا بل كل ما يورده يجب أن يكون مضبوطا وموثقا ومبرهنا عليه. تسع سنوات سجن لذيذة قضيتها في البحث العلمي بين ماجستير ودكتورا، تخللها كد وجهد فُرِضا عليّ ديونتولوجيا من قِبل أساتذتي المحترمين الأعزاء فقبلتها كَرها، وحالما حصلتُ على الشهادة الأخيرة قلتُ للجامعة والجامعيين ما قالته أم كلثوم في الأطلال:

أعطني حريتي أطلق يديَّ .. إنني أعطيت ما استبقيت شيَّ 

آه من قيدك أدمى معصمي .. لِمَ أبقيه وما أبقى عليَّ 

أشعر أنني لم أخلَق للبحث العلمي، وشهادة الدكتورا في نظري هي بمثابة بطاقة دخول إلى مجال البحث العلمي وليست تتويجا له كما يعتقد غير الجامعيين. أنا أخذت بطاقة الدخول وعوض أن أدخل القسم غادرت المعهد نهائيا كالتلميذ المتنطع. أحس بميلٍ كبير لغير النفع المادي المباشر في الوجود، أعني الفن. النتيجة، أنني، لا في العلم فلحت ولا في الفن !

يأتي كتابي هذا خاليا من أي استشهاد يُذكر عكس ما جاء في كتابي بالفرنسية (Le système éducatif au banc des accusés)، وهذا أمر ناشز ومحرِج للغاية في ميدان علم التعلمية (Didactique) الذي بُني أصلا على أساس الدقة العلمية والصرامة في الإحالات والاستشهادات المكثفة والأمانة في ذكر المراجع. لكنني لم ولن أجرؤ على التهجم على علم التعلمية الذي بحثت فيه وتمتعت به، هذا العلم الذي فتح عينيّ على آفاق أوسع وأرحب من علم البيولوجيا، اختصاصي الأول والأساسي وأتمنى أن لا يزدريني أصدقائي الديداكتيين الجامعيين التونسيين وفي الوقت نفسه أشك في أن أصبح يوما ما ديداكتيكيا حقيقيا.

أحسُّ أن علمَ الديداكتيك يسجُنُ عقلي ويضيِّقُ من مجال حركتي الفكرية ويقمعُ رغبتي في التحرر والولوج إلى مجالات فكرية أخرى أوسعَ وأرحبَ وأشملَ.

هذا التوجه الفكري الذي اخترتُه بمحض إرادتي، دون ضغوط خارجية، يوفرُ لي مساحة من التفكير أكبر مما يتمتعُ به زميلي الباحث الديداكتيكي الجامعي الملتزم حرفيا بما سطره الأوائل والرواد العظام. انعكست نتائج هذا الاختيار الانتحاري علميا على خياراتي الحياتية وأثرت في مسار حياتي المهنية والشخصية وقلصت من صداقاتي، وغيرت من طريقة تعامل زملائي الأساتذة معي وخاصة مَن اضطلع بمهمة التفقد منهم.

تحررتُ من صرامة الديداكتيك واستقامتها (orthodoxie) ولا أروم الرجوع إليهما. أتراني ارتكبتُ خيانة علمية أم تراني أضفتُ أوعمّدتُ ولادة علمية جديدة ؟ لن أتصالح مع الديداكتيك إلا إذا غيّرت اسمها ليصبح "إبستمولوجيا التعليم"، اسمها الأول حيث لا صرامة ولا استقامة، الإبستمولوجيا تستعمل مناهج مختلفة عن مناهج العلوم وتفضل غالبا المقاربة الشاملة 

(L`approche systémique

على المقاربة التحليلية (L`approche analytique) التي يلجأ لها مكرها كل علم بحكم طبيعته التجزيئية والاختزالية وذلك من أجل تحديد  مجاله الدراسي فاصلا بين الجزء والكل ونحن نعرف أن خاصيات الكل لا تتوفر في الجزء مهما درَسته وقلّبته !

أشعرُ أنني متلائم أكثر مع التسمية الأولى لعلم الديداكتيك، ولا أشعرُ بالانتماء إلى قسم علوم التربية.

 

المصدر: كتابي، الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي - سَفَرٌ في الديداكتيك وعِشْرَةٌ مع التدريس (1956-2016)، طبعة حرة، 2017 ، 488 صفحة (ص 432-434).

 

إلى المنشغلين والمنشغلات بمضامين التعليم: نسخة مجانية من كتابي "الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي" على شرط التسلم في مقهى الشيحي بحمام الشط (23139868)، أو نسخة رقمية لمَن يرغب فيها ويطلبها على شرط أن يرسل لي عنوانه الألكتروني (mail).

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire