سأُصِيغُ
تدخلي هذا على شكل تساؤلات وسأحاول أن أمسك نفسي عن استسهال تقديم الأجوبة والحلول، لا لأنني لا أريد مساعدة نفسي
ومساعدتكم، بل لأنني لا أملك حيال هذه المعضلة سوى الحيرة والتساؤلات فقط، وفقني
الله ووفقكم في ما نسعى إليه من إصلاح لمنظومتنا التربوية العربية المريضة.
ما هي اللغات المستعملة في التعليم
التونسي ؟
-
هي العربية والفرنسية
أساسًا ؟
لنبدأ بالعربية الفصحى، لغتُنا التي تركها أهلها فتركتهم:
-
مدرسو المواد العلمية المعرّبة في الابتدائي
والإعدادي عادةً ما يستعملون الدارجة أكثر من الفصحى زائد ازدواجية اللغة في
الرياضيات والفيزياء والكيمياء:
Exp :
La bilatéralité dans l’enseignement des mathématiques et de la physique dans
l’écriture des symboles.
-
هل الفصحى هي لغة واقعية أو افتراضية في عالمنا
العربي ؟
-
هل العرب يستعملونها في معيشهم اليومي ؟
-
الفرنسية في تونس هي لغة التجارة لدى الحِرفيين والمستهلكين (خاصة لدى تجّار المواد الحديدية
والصحية وقطع الغيار والأثاث العصري والآلات الكهرومنزلية والمواد الفلاحية من
أسمدة وأدوية وآلات و"ماركات" الأغذية المعلّبة كبسكويت
"ڤوشو" وحليب "ديليس" وعصير "تروبيكو" وغيرها من
الأسماء الأجنبية الدخيلة التي لا تُحصى ولا تُعد).
-
اللغة العربية الفصحى التي أضحت، للأسف الشديد لغة، لغة غريبة في تونس،
وربما كانت في وطنها أكثر انبتاتًا وغربة من الفرنسية خاصة في أوساط المثقفين
الفرنكوفونيين المنبتّين (أنا فرنكوفوني منبت، يجاهد ضد نفسه و يحاول الانغراس في
بيئته من جديد).
-
كيف للمدرس أن يرغّب تلامذته في تعلم لغة لا
يستعملها أهلها خارج المدرسة، هم يمجّدونها في المنابر الرسمية (الجامعة والمدرسة
والندوات الثقافية)، ويستهزئون من متكلميها في جلساتهم الخاصة في المقاهي ؟
-
هل توجد مجلات علمية مختصة ومحكّمة ناطقة بالعربية ؟
في اختصاصي على الأقل، بيولوجيا وديداكتيك، لا توجد.
أقدم إليكم ملخص محاضرة ألقيتها في مركز تكوين المتفقدين
بقرطاج تحت عنوان "بعض أسباب النقص الفادح في مستوى اللغة العربية الفصحى لدى
تلامذتنا التونسيين" وهي عبارة عن تحليل نقدي لكتاب بوطيبة جلول "اللغة
العربية الفصحى لدى المتمدرسين-تحليل الواقع واقتراح الحلول/مثال الجزائر"،
صدر سنة 2013):
أذكّر بالأوهام الأربعة
السائدة لدى العرب حول لغتهم العربية الفصحى:
-
الوهم الأول: اللغة العربية الفصحى اللغة الأم (اللغة الأم هي اللغة
العربية الدارجة).
-
الوهم الثاني: اللغة العربية الفصحى لغة حضارة عالمية، كانت كذلك في القرون
الهجرية الثلاثة الأولى ثم انطفأت مع موت ابن رشد سنة 1198 ميلادي.
-
الوهم الثالث: اللغة العربية الفصحى المعجمية المستعملة اليوم لغة قادرة
على تعريب واستيعاب مصطلحات التكنولوجيا. لكنني لا أشك لحظة في مستقبل القدرة الاشتقاقية المحتملة
للغة العربية الفصحى في تعريب واستيعاب مصطلحات التكنولوجيا الحالية
والقادمة لو توفرت المبادرة الشجاعة لدى اللغويين المختصين العرب لتحديث لغتنا
وتحيينها.
-
الوهم الرابع: اللغة العربية الفصحى لغة حية معاصرة. كيف تكون حية
ومعاصرة، لغة يحتقرها أصحابها ويتباهون ويتجمّلون بالتكلم بمنافِساتِها الأجنبيات
(الفرنسية والأنڤليزية)، لغة لا ينتج مستعملوها علما ولا تكنولوجيا ولا فنا راقيا
ولا يمثلون وزنا في الاقتصاد العالمي إلا كمصدِّرِين سلبِيّين للنفط الخام. لو لم
تكن لغة القرآن والشِّعْر لَمَاتت واندثرت وورثتها وعَوّضتها اللغة الدارجة منذ
قرون كما ماتت اللغة اللاتينية وعوضتها تدريجيا اللهجات الدارجة كالفرنسية
والإيطالية في بداية القرن الرابع عشر ميلادي (الإنجيل كُتب لأول مرة بالآرامية،
لغة المسيح عليه السلام، لغة ماتت منذ زمان ولا يستعملها اليوم إلا بعض الباحثين
أو سكان قرية معلولة
بالاضافة إلى قريتين أخريين في سوريا. فلماذا صمدت اللغة العربية واندثرت الآرامية ؟ لا أملك جوابا لهذه
الإشكالية).
أذكّر ببعض أسباب تدني
مستوى العربية لدى تلامذتنا العرب، الجزائر وتونس نموذجًا:
-
بوطيبة جلول يقول: "عند التحاق الطفل
بالمدرسة لأول مرة ينتقل من الوسط الأسري وله من المكتسبات رصيد لغوي لا بأس به من
اللغة يستعمله في تواصله اليومي للتعبير عن حاجته واهتماماته، وهذا يُعد عاملا
مساعدا على اكتساب اللغة العربية الفصحى. ورغم ذلك لا يجد سهولة في التحدث أو
التحرير."
-
وأنا أقول: رصيدنا اللغوي غير
الفصيح والفقير فقر الدارجة (حسب إحدى المختصات في اللغة: تحوي الفصحى على ستة عشر
ألف مفردة أما الدارجة فلا تحتوي إلا على ثلاثة آلاف مفردة فقط)، قد يكون هذا
الفقر في المفردات عائقا في تطور الذكاء لدى الطفل العربي. يأتي الطفل التونسي إلى
المدرسة وهو يتكلم جيدا العربية الدارجة التونسية فيجد نفسه مبتدئا في تعلم الفصحى
ويُفاجأ بـ"السردوك" قد أصبح بالفصحى ديكًا و"القطوس" أضحى
قطَّا.
-
هو يقول: تساهل المدرّسين أنفسُهم مع اللغة العربية
عند مخاطبتهم للمتعلمين أو التواصل معهم أثناء العملية التعلمية ونحن نعرف أن
اللغة تُكتسب بالمحاكاة والتقليد، تقليد التلامذة لمدرّسيهم ، فما بالك بذلك
الطالب الذي يرى مدرسه لا يتحكم في اللغة ؟
-
ثم يضيف: هنالك أيضًا أسباب من خارج المحيط المدرسي: الدور
السلبي الذي تلعبه الفضائيات العربية الوطنية والإقليمية حيث أن أغلب البرامج
المحببة لدى الأطفال والمسلسلات والحصص المتنوعة تقدَّم باللهجات أو بالعاميات أو
بلغة عربية هابطة، رغم أن هناك قنوات أجنبية بريطانية وروسية وحتى صينية تبث بلغة
عربية راقية.
-
وأنا أقول: إضافة إلى الأسباب
الداخلية مثل السياسة التربوية التونسية الفاشلة منذ ثمانينات القرن الماضي أو
التكوين الناقص الممنهج لرجال التعليم ونسائه المتمثل في إلغاء مدارس ترشيح
المعلمين والأساتذة، نجد أيضا أسبابا خارجية عن الوطن نفسه ونذكر منها على سبيل
الذكر لا الحصر: اللغات العالمية المنافسة كالفرنسية والأنڤليزية وما تحمله وراءها
من مصالح استعمارية ثقافية واقتصادية واِملاءات البنك العالمي والدول المانحة وتأثيراتهما السلبية المحتملة على المنظومة التربوية
التونسية.
-
هو يقول: اللغة الوطنية الرسمية هي من أهم وسائل
الارتباط الروحي بين أبناء الوطن والأمة والمقوّم الأساس للشخصية العربية.
وأنا أقول: أتفق مع الكاتب في المبدأ لكنني أسأله: هل اللغة العربية الفصحى تمثل
اللغة الوطنية والرسمية في البلدان العربية ؟ حسب رأيي المتواضع، يبدو لي أن اللغة
الوطنية هي العربية الدارجة بلا منازع، أما الفصحى فهي لغة رسمية لكنها ليست وطنية
لأن الشعب لا يستعملها في حياته اليومية بل يستعمل الدارجة والفرنسية أكثر منها.
-
هو يقول: "إننا نركّز على تحسين مستوى العربية
لأن المسألة تُعد في ضوء التربية الحديثة وسيلة تواصل وتفاهم، لذا يجب على المتعلم
أن يعرف بأنه يتعلمها لأنه في حاجة ماسّة إليها في حياته."
-
وأنا أعلّق وأقول: لو كان المواطن
العربي الدارس وغير الدارس في حاجة ماسة للعربية الفصحى كما يؤكد الكاتب لأقبلَ
عليها وتعلمها، إن لم يكن من باب الأصالة الإسلامية أو القومية العربية فعلى الأقل
يتعلمها ويتقنها من باب المصلحة والمنفعية والبراڤماتية والأنانية. لكن الواقع
المعيش يقول عكس ذلك حتى في الجزائر نفسها أين يُدرّس علم الطب باللغة
الفرنسية فيتيه طالب سنة أولى طب ويشقى في
تصفح المراجع الفرنسية بسبب دراسته العلوم باللغة العربية من السنة أولى ابتدائي
إلى غاية الباكلوريا على مدى ثلاث عشرة سنة متتالية، يتحصل على الباكلوريا علوم
بملاحظة جيد جدا وهو لا يتقن اللغة الفرنسية ولا يمتلك زادا لغويا علميا
بالفرنسية، أصبحت اللغة العربية لديه إذن عاملا عائقا وليس عاملا مساعدا في دراسته الجامعية في اختصاص الطب وقِس على هذا المثال وعمِّمه على كل
الاختصاصات العلمية المدرّسة بالفرنسية في التعليم الجامعي الجزائري وما أكثرها.
أما عن مدرّسي العلوم بالعربية في التعليم الأساسي والثانوي الجزائريين والمتعاونين
الشرقيين، فعن حالهم المعرفي من الأفضل أن لا تَسألِ، جلهم لا يتقن الفرنسية ولا
الأنڤليزية ولا توجد مراجع أو مجلات علمية معتبرة مكتوبة بالعربية ولا يستطيعون
الاطلاع على النشريات العلمية الحديثة الصادرة باللغات الأجنبية فتصبح العربية
عائقا في طريق تكوينهم الذاتي مما يؤثر سلبا على مِهَنيتهم ويترك نقاط ضعفٍ في
تكوين تلامذتهم. يحدث الاستثناء ويتحسن المستوى اللغوي لأولاد العائلات الغنية الذين يتابعون تعليمهم
الأساسي في بعض المؤسسات التربوية الخاصة باهظة الثمن والتي تعتمد البرنامج
الفرنسي في تدريس اللغة الفرنسية والبرنامج الأنڤليزي في تدريس اللغة الأنڤليزية.
لنأخذ مثلا تونسيا: يبدو لي أن الطبيب التونسي
الذي لا يتقن العربية الفصحى تعبيرا وكتابة لم يفقد شيئا يندم أو يتحسر عليه ولن
يحس في حياته بأي نقص، يخاطب مرضاه بالدارجة أو بالفرنسية، يكتب وصْفته بالفرنسية
فيقرؤها أي صيدلي من بنزرت إلى بنڤردان، يشارك في المؤتمرات ويلقي محاضراته
بالفرنسية أو الأنڤليزية، يقرأ ويطّلِع على أحدث المجلات الطبية بالفرنسية، يكتب
وينشر مقالاته باللغات الأجنبية، فبماذا ستساعده الفصحى لو كان يتقنها؟ ربما
بالعمل في الخليج أو إلقاء محاضرة في مؤتمر علمي عربي في السعودية أو في اليمن
السعيد!
لنأخذ جدلا مثلا آخر دون تعميم غير علمي: يبدو لي أن المثقف العربي الذي درَس اختصاصه بالعربية الفصحى والذي قد لا
يكون يتقن لغة أجنبية فلن يجد في متناوله إلا إنتاجا علميا ضحلا-هذا إن وُجِد- ومآله
لتقوقع داخل تاريخه العرقي والديني أو استحضار الماضي المجيد للحضارة العربية
الإسلامية. وهمٌ قد يمنعه من بناء حاضره واستشراف مستقبله. كسلٌ فكريٌّ قد يُعَدّ
من أحد الأسباب التي جعلت العِلم يهجر لغتنا وديارنا إذْ لم يجد في اللغة العربية
وعاءً أو حاملاً فذهب يبحث عن أوعية تحمله في لغات أخرى في بلدنا أو في بلدان
أجنبية.
أقدّمُ لكم رأيًا في اللغة
العربية، رأيًا لعالم في السياسة الفرنسي فرنسوا بورﭬا، المختص في دراسة التطرف الإسلامي المسلح وغير المسلح:
-
سأله الصحفي: مقال لباحثَين أمريكيَّين قالا فيه:
البلدان الفرنكوفونية هي أكبر مصدّر للدواعش، مثل فرنسا، بلجيكا، تونس ولبنان.
-
فرنسوا بورﭬا: فرنسا عندما احتلت البلدان العربية بدأت
باغتصاب مجال الخيال الإسلامي (وأنا أقول: هذا هو المجال الذي تنتمي إليه اللغة
العربية الفصحى)، وترك فيه أضرارا أكثر مما فعله الاستعمار البريطاني في مستعمراته
العربية. في فرنسا، نحن لم ننتخب رئيسًا أسودًا مثلما فعلت أمريكا ولا رئيسًا
لبلدية لندرة مثلما فعلت بريطانيا (وأنا أقول: هنا يكمن الفرق بين العَلمانية
الفرنسية المعادية للدين والعَلمانية الأنـﭬلوساكسونية
المتصالحة مع للدين). العنف الرمزي الذي شرعنا في تسليطه على مجال الخيال الإسلامي
كان عنفًا أقوى. أسلوب التثاقف أو نزع الثقافة الذي كرّسته فرنسا في مستعمراتها
العربية كان أشدَّ إيذاءً مما فعلته بريطانيا في اليمن ومصر.
نمر الآن إلى الفرنسية:
-
ينتقل التلميذ من الإعدادي
إلى الثانوي فيجد نفسه فجأةً يدرس المواد العلمية بالفرنسية.
-
ما هي اللغة الأولى في
التعليم التونسي ؟ الفرنسية هي لغة العلوم الأولى في تونس.
-
هل ندرّس العلوم في الثانوي بالفرنسية كما هو مطلوب في البرنامج ؟ طبعًا لا.
-
مدرسو المواد العلمية المفرنسة في الثانوي عادةً ما
يستعملون العربية الدارجة أكثر من الفرنسية.
-
هل مسؤولية تعليم اللغات يتحملها وحدهم أساتذة
اللغات ؟
-
هل المعلمون والأساتذة يعطون فرصة لتلاميذهم للتدرب
على استعمال اللغات داخل أقسامهم ؟
-
المعلمون والأساتذة يتحملون جزءًا كبيرًا من
المسؤولية في تدنّي المستوى اللغوي لتلامذتنا.
-
هل لنا مخابر مجهّزة لتعليم
اللغات ؟
-
أنصحُ بتدريس الترجمة كمادة مستقلة من قِبل أساتذة يتقنون لغتين أو ثلاثة (تجربتي
مع الترجمة).
إمضائي: "الوطنية
والعالمية، علينا اليوم الجمع بين هذين المفهومين المتناقضين في الفكر المعقّد: الجمع
بينهما يخلق مواطن العالَم" (Edgar
Morin )
تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 3 ماي 2021.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire