إشكاليات التفقد البيداغوجي. بلقاسم
عمامي، ماجستير ديداكتيك علوم االحياة والكون، متفقد أول للمدارس الابتدائية
1- توطئة:
تشهد المدرسة التونسية منذ ما يقارب العشريتين أسوأ
فتراتها إن من حيث نتائجها أو إشعاعها على محيطها أو حتى من حيث خدماتها، ويظهر
ذلك من خلال نتائج تقييمات محليّة (هياكل وزارة التربية) أو خارجية (بيزا PISA وتيمسTIMS ). غير أن هذه التقييمات - وإن
صدقت - لا تعطينا حقيقة "التدحرج" الحاصل للمدرسة العمومية التونسية.
إنّ الواقع أعمق من ذلك وأعظم، إذ يكفي أن نشير إلى أن
ما يقارب خُمس المدرسين هم "معوِّضون" يشتغلون بأجر أقلّ من الأجر
الأدنى المضمون ومؤجل الدفع ودون تغطية اجتماعية، زيادة على غلق مدارس ترشيح
المعلّمين وانتداب "جمهور حامل للأستاذيات" دون تلقّي أدنى تكوين معرفي
ولا بيداغوجي (ولا نتحدّث عن التكوين الديداكتيكي فذلك يعدّ رفاه لا نطمح إليه).
ولعقود، ظلّت المدرسة العمومية مقياس درجة
"نجاح" الأنظمة الحاكمة المتعاقبة من "فشلها" حتّى وإن كان
هذا "النجاح" وهميّا ومسوَّقا بدعاية حزبية مغالِطة باعتماد إحصائيات
مفبركة حول نسب النجاح في الامتحانات الوطنية.
في هكذا وضع، يقوم المتفقّد البيداغوجي
بـ"مهامه" التي ضبطها له القانون من "تأطير وتجديد وتقييم" في
ظروف غير مستقرّة.
2- التفقد البيداغوجي تحت
شدّ التمثلات الاجتماعية:
أ-
تمثلات الإدارة وانتظاراتها من المتفقد:
لا يزال في تصور الإدارة أن دور التفقّد البيداغوجي هو
"ضبط جمهور المدرسين بما يعطيه له
القانون من صلوحيات تتوجّه أساسا للجانب الردعي" ولعل هذا المنحى في رؤية
الإدارة لدور المتفقد هو الذي حرف العلاقة "متفقد – مدرّس" إلى منحى
تغيب فيه المرافقة والإرشاد والمشاركة في القيادة في المجال المعرفي والبيداغوجي
والديداكتيكي، كما دفع بالإدارة - وأمام تغيّر في موقف هياكل المتفقدين من
"مهام المتفقد"- إلى ممارسات "عقابية" حيث "انفردت
بالمدرسين وأبعدت شيئا فشيئا سلك التفقد عن الجوانب الإدارية" مما قلّص من
"تلك الهالة التي ظلّت ترافق المتفقدين" الأمر الذي نتجت عنه انعكاسات
أضرّت بالعلاقات بين جميع الأطراف المتدخّلة في الفعل التربوي.
ولعلّ ذلك كان محرّك النداءات المرتفعة من مدّة حول
"إرجاع الدور الإداري للمتفقد" من الإدارة ومن المتفقدين على حدّ سواء،
الأمر الذي سيشكّل عبئا إضافيا على السلك وعلى المدرسين الذين "استطابوا
اختصار الدور في المجالات البيداغوجية".
ب- تمثلات المدرّسين
وانتظاراتهم من المتفقد:
يرى المدرّس في المتفقّد "مفتّشا وعينا رقيبة
عليه"، لذلك يعيش حالتين متناقضتين في تعامله مع "موعد الزيارة":
-
حالة انتظار "ممل وطويل ومضنٍ" قبيل تاريخ آخر
تفقد (وأكثر منها خلال زيارتي الترسيم وإسناد العدد القاعدي). فتجد المعلّم في عمل
دائم لتأمين "التفاصيل" من ذلك تصميم القاعة وغطاء المكتب وتوفير
الوسائل الإيضاحية وحتى "أصص النوار" وذلك طيلة "فترة الانتظار"
في مشهد مخادع خال من كلّ رغبة في إفادة تلاميذ قسمه وهم يراقبون مدرسهم عند
"نشر مجلوباته وعند حفظها ليعاود من الغد وكل يوم حتى يجيء السيد
المتفقد"...وهي حالة مقلقة مسببة في توتر وإرهاق نتيجة "تصورات"
مختلفة لطرفي العملية البيداغوجية. يرافق ذلك إعداد ماديّ ورقيا ونفسيا وحتى
سبّوريا.. وعند ما يدبّ اليأس في نفس المدرّس، فإنه يضع هناك في الدرج (أو في
الذهن) "عولته" من الوضعيات والجداول والأنشطة والحكايا وحتى الأشرطة
الرقمية حتى وإن اختلفت السياقات. فقط، حين يأتي المتفقد، يجد ما يريده لا ما
"ينفع التلاميذ ويساعدهم في النفاذ إلى عالم الحساب والقراءة والكتابة
والفنون".
-
حالة إهمال فاضح بمجرّد إنجاز زيارة التفقّد من حيث حجم
الإعداد المادي والحضور الذهني والإعداد السبوري ودورية استعمال كراسات القسم
وتأطير الفعل البيداغوجي، إذ يتراجع الاستعداد للعمل بمجرّد مغادرة المتفقد، فيضيع
الحرص وتُرفع حالة الطوارئ لسنتين مقبلتين ثم تكون الإعادة بنفس الأساليب ونفس
المخرجات.
ت- تمثّلات المتفقد
ونظرته للمهنة:
تستحضرني هنا طرفة قيلت في سياق دعابة لكنها من تلك
الدعابات التي تختزل "تصوّرا" لمهنة المتفقد: أثناء حلقة تكوينية لفائدة
متفقدين في طور التمرين موضوعها "أخلاقيات المهنة". ركّز المكوّن على
"ملامح المتفقّد المستهدفة" من خلال أمثلة للمقارنة بين نوعين "نوع
متغطرس ونوع مرافق". فتدخّل أحد المتفقدين المتكوّنين قائلا: "يعني حين
جاء دوري تريدون مني أن أكون ديمقراطيا؟". أعرف طينة الرجل وطيبته وتابعت
نجاحه بعد التخرّج وهو ذو طباع سلسة في التعامل مع منظوريه، غير أن ما قاله وقتها
كان ترجمة عن "تصوّر للمهنة" يقوم على التسلّط والقرار وربما حتى الثأر
للنفس من تجارب مريرة مع بعض المتفقدين طيلة مسيرتهم المهنية أو ربما شطط في الزهو
وتثمين الذّات.
تسأل المتخرجين الجدد - متفقدات ومتفقدين - السؤل نفسه:
"ما الذي دفعك إلى الالتحاق بسلك المتفقدين؟"، فتتلقى أجوبة مختلفة
الطاغي فيها "الخروج من القسم- قيمة اعتبارية- مسؤولية- حرية في العمل-
التخلّص من غطرسة المتفقدين- ممارسة السلطة..". لكن لا أحد، أو فلنقل قلّة هم الذين يأتون
للتفقّد محملين ب"مشروع" تربوي أو إنساني لفلسفة التربية ولأدوار
المدرسة في الرقي بالمجتمع.
يوم التحقت بمركز العمل بسيدي بوزيد (المزونة) وفي أول
جلسة لمجلس التفقّد قلت لزملائي القدامى: "جئت لأزيّن سلك التفقّد لا لأتزيّن
به". وقبل ذلك بيوم، نادتني والدتي وطلبت مني أن أعِدها...فقلت
"وبما؟" قالت: "عدني ألّا تستعمل قلمك لبخس الناس" (وهي تعني
ألا تظلم بسلطة وظيفتك)، هي لا تزال تحمل "تمثلا اجتماعيا حول مهنة المتفقّد
بما معناه السلطة والجبروت والحكم"، لم تصلها بعد أخبار تدهور الوضع بالمؤسسات
التربوية في جميع الأسلاك نتيجة تدحرج موقع المدرسة العمومية في المجتمع.
لا يزال المتفقّد يستبطن سلطة - رغم تقليمها - وهو مقيّد
بما اختزنه من صور حول المهنة تأسست نتيجة صلته بمتفقدين وبتجارب شخصية معهم، وهي
التي ستشكّل وجهة نظره في المهنة وستحكم على بناء صورته الأخيرة، بقطع النظر عن
محتويات تكوينه ولا عن بنود القانون المنظّم للمهنة (في انتظار صدوره)، وسيظل
يراوح بين ما لاقاه من "تثمين أو تنكيل" خلال مسيرته المهنية كمدرّس
(بما أن انتداب المتفقدين يكون من بين المدرسين وفق شروط معلومة) وبين ما ينتظره
هو من مهنته ومن موقعه الجديد من "اعتبار وهيبة ومرجعية".
لذلك، نشهد في فترات عديدة تعايشا متغيّرا بين مختلف هذه
التمثلات يراوح بين "توافق" في الانتظارات زمن الـ"سلم" أو
الهدوء، وبين التعارض" زمن الشدّ وحتى الاستقواء، (ما حدث خلال انطلاق هذه
السنة حول التنظيمات البيداغوجية حين عنّ للوزير ومساعديه التملّص من قراراتهم
الإدارية و"إلصاقها" في المتفقدين).
ويحملني ذلك للحديث عن خطورة هيمنة تلك التمثلات في
تحديد العلاقة بين مكوّنات الفعل التربوي والبيداغوجي في غياب مرجعية واضحة تستند
إلى القانون الأعلى "الدستور" وإلى "فقه التربية" في تحديد
الأدوار من تقاطع وتكامل وجدوى يعود نفعها على أداء المدرسة العمومية لمهمتها
"تعليم الناشئة القراءة والكتابة والحساب، وأيضا وربما قبل ذلك، التفكير
والحب والقيم الكونية" ضمن مناخات تقوم على إرساء الثقة بين مكوّنات الفعل التربوي
بهدف "إشاعة السعادة في ممارسة أجمل المهن: التعليم".
3- مهنة التفقد بين
السواد والألوان:
أ-
الواقع/ عيون قاتمة:
يعيش قطاع التفقّد اهتزازا مرجعيا وقانونيا وحتى داخليا
(أي داخل القطاع ذاته) مثله مثل بقية مكوّنات المدرسة العمومية. ويجد المتفقدون
صعوبة في "أداء" مهامهم وفق ما "ضبطه لهم القانون" وفي كثير
من الحالات يتعطّل الأداء إن نتيجة هيمنة تلك "التمثلات" التي ذكرت
سابقا، أو نتيجة قصور وضبابية في تحديد طبيعة العلاقة بين المدرس والمتفقد وحتى
الإدارة. فيغيب التواصل ويتعطّل، وقد تتدحرج العلاقة إلى سحيق فينهزم الحوار.
إن ما يهدره المتفقد أثناء عملية التفقد من جهد حيني وهو
يتنقل بين الوثائق والصفحات والملفات والكراريس والاستعمال السبوري، لا يتيح بناء
أفكار حول الجانب العلائقي ولا حول قدرة المعلم على تكييف منهجيته وفق حاجات طارئة
أو متأكّدة. كما لا تتيح له قيس درجة امتلاء التلميذ بالغبطة والشغف وهو يرى في
معلمه مفتاح نفاذه إلى المعرفة والتفكير والفنون لتكتمل السعادة لديه وليظلّ لهب
الشمعة في وجدانه مضيئا.
وهو وضع يسعى المدرس أثناء تفقده أن يستديمه، فينبري
يتحيّن الفرص لتكديس "مآثره" أمام المتفقد بهدف "منعه" بلباقة
عن التنبّه لسلوكاته أثناء التدريس، ودرجة التوفيق بين فترات التعلّم وفترات
التعليم، أو حتى لا يجد فسحة لرصد إخلالات في المنهجيات أو في طرق التنشيط ولما لا
في الثبات المعرفي. وهي حيل عادة ما تجد رواجا حين يتلهى المتفقد بتصفح مئات
الأوراق والـ"مشاريع" والـ"إنتاجات" فتأخذ منه وقتا وتركيزا
وبناء أفكار حول اقتدارات تتجاوز بكثير مجرّد النبش في كومة من الوثائق على
أهميتها.
وتدريجيا، انحصر دور التفقّد البيداغوجي في ممارسة
سلوكية لا ترصد في المقامات الأولى قدرة المدرّس على إدراك حاجات التلاميذ إلى
بناء الشخصية وتنمية التفكير السليم القائم على البرهنة وربط العلاقات وتوظيف
العلوم وتعميمها بما هي ثقافة يستفيد منها الطفل ويؤثر بها في محيطه وعلى بيئته.
فيتم تجاهل أداء التلاميذ في القسم ليتوجّه "التقييم" نحو "استيفاء
المدرّس لشروط مادية يكون قد سعى إلى رصّها دون وجاهة أو موجب بيداغوجي أو ديداكتيكي".
ويبقى الموضوع المغيّب في البحث عن الفهم والإجابة عن
الاستفهام الرئيس: ما مآل كل ذلك الكمّ الهائل من حلقات التكوين؟ إن المتتبّع لهذا
الموضوع، ينتهي إلى إقرار مربك ومحبط، حين يتعقّب المتفقد أثناء زيارات المتابعة
والتفقّد "انتقال أثر التكوين" من المتكوّن "أي المدرّس" إلى
المستهدف الأساسي بالتكوين "أي التلميذ" ولا يجد له أثرا.
هنا يتعطّل الحوار ويتسطّح. فلا المتفقّد يتوفّق في
تحديد موطن العطالة، ولا المدرّس يتوفّق في تبرير غياب ذلك الأثر وحرمان التلميذ
من الاستفادة به. والحديث في هذا الباب متشعّب، ولعلني لا أزيده تعقيدا حين أشير -
دون حفر في العمق - إلى غياب آلية أو جهاز
لتحديد "وجاهة موضوع التكوين ولا طرق التنشيط أو حتى درجة التمكّن من
المادّة"، وهي كلها معيقات أمام تحقيق الهدف من حلقات التكوين. هذا من ناحية،
ومن ناحية أخرى، يبدو أن "إحساسا بالاكتفاء" بدأ يتفشى لدى جمهور
المدرّسين عن وعي وعن غير وعي، بحكم المستويين المعرفي (الكثير من المدرسين من
حاملي الشهادات الجامعية وما يترتب عن ذلك من زيادة في تضخم الذات) والخِبَري (يرى
بعض المدرسين ونتيجة لخبرتهم في التدريس، قد "امتلؤوا" مهارات ومعارف وقدرة
على تكييف تلك الخبرة في تجاوز "كل الصعوبات" دون استثناء).
ولعله من الواجب التنبيه إلى غياب حلقة رئيسة في هذا
المنحى، والمتعلّقة بانعدام "توحيد" على مستوى التكوين في ظل
"استقلالية تامة وباتّة" للمتفقد في تحديد طرائق التكوين ومواعيده
وجمهوره. ولقد تسنى لي في مرات عديدة أن استضافتني زميلات واستضافني زملاء للتكوين
في دوائرهن ودوائرهم وفي مناطق متعددة، في مادة الاختصاص، وانتهيت إلى قناعة مفادها أن النجاح لا يقاس في
دائرة العمل ودائما بسبب تلك "التمثلاث" التي تخترق المدرسين والمتفقدين
على حدّ سواء.
ب- استشراف/عيون حالمة:
يتوق قطاع التفقّد إلى صدور قانون أساسي قد لا يجتمع
عليه كافة المتفقدات والمتفقدين، وهو لا يخلو من هنات عدّة لعلّ أهمها الدعوة إلى
"استرجاعه للمهام الإدارية" ضمن ما اصطلح على تسميته "مدققا".
ما أطمح إليه، هو فصل تام لمهام "التكوين" عن مهام "التقييم".
ولعله من الضروري تغيير موضوع التقييم من "أداء
المدرّس وسلوكاته" إلى "درجة استفادة التلميذ من التعليم". ولا
يتسع المجال هنا إلى ذكر متطلبات هكذا تحوّل. فقط أشير إلى أن الطفل في حاجة إلى
مرافقة المدرس له لطرح "الأسئلة" الحقيقية والانخراط في البحث عن
"أجوبة" وجيهة لها، وطرح استفهامات متوالدة. وأن حاجته للدربة على
"توظيف المعارف المدروسة والاستفادة منها لبلوغ السعادة ونشر الحب وتذوّق
الفنون والألوان واكتساب أسس تفكير رياضي وفلفسي يسائل الظواهر الطبيعية والعلاقات
الاجتماعية ضمن منظور كوني. وهكذا طموحات، تتطلب نوعية خاصة من المدرّسين تعترف
بخصوصيات كل تلميذ وبقدرته على الإبداع والتحليق في السماوات الرحبة.
من فواكه
المهنة:
أورد فيما يلي بعض المواقف التي عشتها أثناء بداياتي
كمدرّس (حالة الهاشمي وواقعة العدد القاعدي)، ثم ما عايشته كمتفقّد:
أ-
حالة "الهاشمي":
توفّيت
أمّه وهي تهبه الحياة... هو خامس إخوته... نُعت بـ"النحس والشُؤم"... تزوّج
والده من امرأة ناصبته الحقد والتطيّر... وأنجبت من بعده أربعة أغلبهم
"نكاية" فيه... عاش طفولة لم تر العين أتعس ولا أرذل...
وجاء
الفرج: الهاشمي يبلغ السابعة فيلحّ مدير المدرسة القريبة على الإخوة بتسجيله... وجاء
بحجم الجبال والوجع أحلاما وآمالا... كان معلّمه ذو الحادي والعشرين أبعد ما يكون
عن التدريس... طالِب جانح مكسّر الأحلام مثله... وقد أُطرد من الجامعة بعد أن قضّى
سنة في معسكر للطلبة المجنّدين... سنة كاملة بين جبال مكثر وصحراء رجيم معتوق...
وبين انتظارات الطفل "النحس" وجهل المدرّس "الجانح"، ضاع حلم الصبيّ...
كان
كلما اقترب منه معلّمه يتلبّسه الرعب فينزلق تحت الطاولة صراخا وتضرّعا ووعدا
بألّا يعيدها (يكرّرها): "آ سيدي حَنِّي سامحني...ماعادش نعاودها"...
هو/ الطفل لم يرتكب حماقة... وهو/ المدرّس لم يفهم سببا... فينهزم التواصل... في
شهر ديسمبر من تلك السنة، اختفى الهاشمي ولم يعد... تساءل المدرّس الغرّ.. ثمّ
سأل.. ثمّ حاول مع الوالد فتعنّتت الزوجة...
مرّت
السنون ليتعلّم المدرس منها ما بدّل منه... وذات صيف - بعد ر قرن - يزور المدرّس
ريفه... وفي بيت عمّه تعترضه ذراعان حارّتان عناقا وشجنا..."سيدي تمنيتك
تمنعّني (تنقذني) من أخوايا"... وكنت أنا ذلك المدرّس.
ب- واقعة العدد الصناعي
القاعدي:
وصلتنا
روزنامة اللقاءات التكوينية في ذلك الوقت من الثلاثية الثانية لعام 1983-1984
بمدرسة العلوي بالمكناسي... كان السيد المتفقد من طينة "الحاكمين بسلطة
الإدارة" في زمن قاس جدا وفي سنة شهدت انتفاضة الخبز واغتيال اثنين من أبناء
المكناسي برصاص ابن البلدة... صادف أن كان الموعد فيما يخصني يوم خميس. أعلمت
المدير السيد عامر البقلوطي (تحية له) باستحالة حضوري وطلبت الحضور في موعد لاحق
مع فوج ثان، لكن المتفقد تعنت ورفض... ولم أحضر.
عامها
كنت أنتظر زيارة إسناد العدد الصناعي القاعدي... شارفت السنة الدراسية على
الانتهاء. وفي الأسبوع الأخير من شهر ماي (في ذلك الوقت، كانت الدروس تتوقف مع
انتهاء شهر ماي)، دلف إلى القسم محملا بكل تلك الهالة مما منحته له "الأعراف
والقوانين والتمثلات".. ما راقت لي تلك النظرة ولا ذلك النقاش ولم أستكن.... فكان
العدد في حجم "الخطيئة" التي ارتكبتها سابقا: غيابي عن حضور لقاء
تكويني. كنت جانحا حتى ذلك الوقت، إذ كان لا يزال يراودني قرار المغادرة والهجرة
بهدف الدراسة.. قلت له ما أوجعه فهدد وتوعّد ولم يقدر سوى على بخس العدد.
ت- حالة "بلال":
جاء
يشتكي ضيما حيث أُجبِر على الانتقال من مدرسة إلى أخرى رأى في نقلته عسفا. دخل
عليّ مكتبي ذات أواخر سبتمبر 2011، كان في وضع نفسيّ سيء. قال أنه يتعرّض لمظلمة
لكونه غريبا عن المنطقة ثم زاد عليه مدير المدرسة أن أسند له مواد علمية وهو يفضل
الفرنسية.
طلب
أن يراعَى في الجدول ليتمكن من التنقل إلى بلدته البعيدة. وكان له تفريغ يوم السبت.
قلت له: "ستحافظ على تدريس العلوم لحاجة الدائرة إلى متحصّل على الأستاذية في
البيولوجيا". قال: "وكيف عرفت ذلك؟". قلت: "ليس متوفرا دائما
أن تجد مدرسا متحصلا على الأستاذية وعلى ماجستير في الميلتيميديا، كيف تنسى ذلك؟
أنت تمثل موردا للدائرة وجب توظيفه".
ضممته
إلى لجنة تفكير وإنتاج محليّة رغم حداثة عهده بالتدريس. انفتحت أمامه أبوابه
التألّق والاجتهاد والإبداع، فنهل منها وملأ وامتلأ. تزامن ذلك مع اندلاع ثورة 17
ديسمبر، فعرف كيف يشعّ على جهة احتوته واحتضنته، فردّ الجميل جمائل بما حوّل
مدرسته من حالة بؤس إلى حالة غنى حين بادر وثلة من شباب الجهة إلى تكوين جمعية
مدنية وفرت للمؤسسة التربوية مطعما ومكتبة وماجل ماء محمي. كما أشعّت الجمعية على
بقية المدارس من خلال شراكة مع تفقدية المكان لتنشيط ثقافي مميّز.
مع
بداية العام اللاحق، أقنعته بالتسجيل في ماجستير ديداكتيك علوم الحياة والأرض
بالمعهد الأعلى للتربية والتكوين المستمر ببوشوشة.
الآن
بلال يعدّ أطروحة دكتوراه في نفس الاختصاص وهو لا يزال يفيد المدرسة الابتدائية.
هذه السنة دعوته أن يقدّم مطلب تدريس لطلبة شعبة علوم التربية بالكلية القريبة من
مقر عمله، ففعل وهو اليوم يفيد بعلمه وبمعرفته في تكوين مدرسي الغد. بلال أنت على
الطريق السويّ، فاجعل جهدك في صالح مدرسة عمومية تشعّ أملا وحياة.
المصدر: كتابي، الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي - سَفَرٌ في الديداكتيك
وعِشْرَةٌ مع التدريس (1956-2016)، طبعة حرة، 2017 ، 488 صفحة (ص. ص. 465-480).
إلى المنشغلين والمنشغلات
بمضامين التعليم: نسخة
مجانية من كتابي "الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي" على شرط
التسلم في مقهى الشيحي بحمام الشط (23139868)، أو نسخة رقمية لمَن يرغب
فيها ويطلبها على شرط أن يرسل لي عنوانه الألكتروني (mail).
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire