jeudi 28 avril 2022

فكرة حول تعليم الستينات والسبعينات من القرن العشرين

 

 

عندما طالبتُ بتطبيق النموذج التعليمي الفنلندي الحالي (النموذج المجاني الأفضل والأنجع في العالم) في تونس 2011 بعد ثورة 14 جانفي 2011، رد عليّ أصدقائي وقرائي المثقفون منهم والمتعلمون ووصفوني بالمثالية الأفلاطونية واتهموني بالاستشهاد بالنماذج التربوية الخارجية وإهمال الخصوصية التونسية واستيراد البرامج المسقطة وغيرها من التهم الجاهزة مثل "هذا على الحساب قبل أن أقرأ الكتاب". أرجوكم، اقرؤوا تجربتي الذاتية إلى الآخر وتمعّنوا في حججي قبل أن تحكموا لي أو عليّ.

 

وُلِدت في 16 نوفمبر 1952 بجمنة من أب تونسي وأم تونسية وأتممت أغلب دراستي بتونس وقليلا منها بفرنسا ولم أعش ولم أدرس يوما واحدا بفنلندا نموذج المقارنة.

1.    الابتدائي من سنة 1958 إلى 1965

درَست سبع سنوات ابتدائي (رسبت بالسنة الرابعة) بالمدرسة الابتدائية بجمنة التي بناها الاستعمار الفرنسي سنة 1952 تقريبا ولا زالت مربعات أرضية قاعاتها سليمة إلى اليوم (نحن في عام 2022) في حين انهارت جدران قاعات بُنيت بـ"كفاءات" تونسية بعدها بـ50 سنة. كانت المدرسة آنذاك أجمل ألف مرة من منازلنا، مَنَحَتنا مجانا أقلاما وكتبا وكراريس. في سن السادسة، وفرت لنا كل صباح كأسا من الحليب المجفف الممزوج بالماء الساخن وعند الغداء وجبة تتمثل في صحن مقرونة جارية، وجبة غير متوازنة لكنها لذيذة وقديما قالوا أن «الجوع أمهر الطباخين". كانت المدرسة قريبة من ديارنا ولم نكن في حاجة إلى وسيلة نقل. عوض المحفظة، كنا نستعمل كيسا من القماش الأبيض لنحفظ داخله أدواتنا القليلة، كيس ورثناه عن عمنا سام  الأمريكاني، كيس كان مملوءًا قمحا، كُتِب عليه باللون الأزرق "ليس للبيع ولا للمبادلة" ويحمل صورة عَلم أمريكا.

2.    الإعدادي بـﭬابس من 1965 إلى 1968 والثانوي بصفاقس وتونس من 1968 إلى 1972

في أول غربة وسفرة لي خارج جمنة في آخر سبتمبر 1965، أعطتني أمي دينارا تونسيا واحدا، لتغطية نفقات الثلاثية الأولى، وأوصتني أن أقتصد في المصروف ولا أبذّر ! ركبتُ إلى مدينة ﭬابس في الحافلة العمومية بـ600 مليم. وصلتُ بسلام ودخلت المبيت المجاني وبقيت أصرفُ كنزَ أمي المتبقي بحكمة كما أوصتني، كنا نحن "البيّاتَة" (التلامذة المقيمين بالمبيت) لا نخرج من المبيت إلا يوم الأحد وكان مصروفي يتمثل في دورو (5 مليمات) مرة الأسبوع كل يوم أحد لشراء قطعة "غْرَيْبَة" (نوع من الحلويات التقليدية) أو كأس "لاڤمي" (النسغ المحضّر المستخرج طبيعيا من النخلة) أو 20 مليما ثمن قطعة "هريسة" (نوع من الحلويات التقليدية). لم أكن قادرا ماديا على قطع تذكرة سينما بـ40 مليما (البث التلفزي بدأ سنة 1965 ولم تكن لنا تلفزة في المبيت).

وفي نهاية الثلاثية وقبل تاريخ العودة إلى مسقط رأسي جمنة الحبيبة ، كانت أمي ترسل لي 600 مليم ثمن تذكرة الرجوع في الحافلة العمومية أو أركب "لوّاج" (سيارة أجرة خاصة) وهي تدفع الثمن المطلوب إلى السائق الجمني عند الوصول.

كنتُ تلميذا مقيما مجّانا بمبيت إعدادية "سيدي مرزوﭬ" بـﭬابس المدينة ثم بمبيت المعهد الفلاحي ببوغرارة بصفاقس ومبيت مدرسة ترشيح الأساتذة المساعدين بتونس.

كنا في المبيت نأكل مجانا أربع وجبات صحية متوازنة وبيولوجية في اليوم، ثلاث ساخنة وواحدة باردة

فطور الصباح: قهوة حليب مع خبز ومعجون أو زبدة أو حلوى شامية.

الغداء أو العشاء: سَلَطَة خضراء طازجة، طبق رئيسي باللحم مثل الكسكسي أو اللوبيا (كانت من أحب الوجبات الدسمة إلى قلوبنا جميعا) أو الجلبانة أو المقرونة أو الملوخية أو الأرز الأبيض أو مرقة الڤناوية أو مرقة البطاطا أو غيرها من الأطعمة. البعض منها لم نكن نعرفه في بيوتنا الريفية كالملوخية والأرز الأبيض ومرقة الڤناوية. كنا نعرف  فقط الكسكسي والمقرونة الجارية ومرقة البطاطا. أما خاتمة الطعام فعلى كل الألوان: برتقال أو موز أو خوخ أو برقوق أو تين أو دلاع أو بطيخ أو هندي أو رمان أو حلوى شامية أو 4 تمرات دڤلة (كنا نحن النفزاويون نضحك ونسخر من هذه "الفاكهة" الأخيرة لسببين اثنين لا ثالث لهما وهما: أولا نضحك من اعتبار الدڤلة في مصاف الفاكهة يُختم بها الطعام وثانيا نسخر من الكمية التي لا تتناسب مع إقبالنا  النفزاوي النهم على الدڤلة فنحن متعودون على التهام كيلو دڤلة أو اثنين في المرة الواحدة).

لمجة السادسة مساء: قطعة شكلاطة بُنّية لذيذة جدا مع قطعة خبز.

حادثة غذائية طريفة رقم 1

قد تبدو لكم الحادثة التالية ولأول وهلة وكأنها مركبة أو مبرمجة للهزل لكنها والله واقعية وذات دلالة خاصة بالنسبة لأهل الذكر والاختصاصيين في دراسة حاسة تذوق الأطعمة المتنوعة عند البشر وعلاقتها بحاسة الشم وبالمكتسبات الأنتروبولوجية الحضارية والثقافية أكثر من علاقتها بالوراثة والجينات: في مبيتات ڤابس وصفاقس وتونس، ثانوي وجامعي، لم أكن أقبل على الملوخية ولا مرقة الڤناوية ولا الأرز ولا الحوت ولا الموز، لا لشيء  إلا لأنني لم أكن أعرف هذه الأنواع من الأطعمة والأغذية ولم تصادفني في حياتي قبل سن الثالثة عشرة. من حسن حظي، بدأت آكل كل هذه الروائع الغذائية بعد الزواج وأنا في سن الثلاثين لأن زوجتي من مواليد العاصمة وتعرف طريقة طبخ هذه الأكلات بصفة جيدة.

حادثة غذائية طريفة رقم 2 

في عطلة من عطل عيد الأضحى المبارك، عاد جل التلامذة المقيمين بالمعهد الفلاحي ببوغرارة بصفاقس إلى مدنهم وقراهم إلا قلة من المعوزين وكنت واحدا منهم. لكي لا يشعرنا بالفقر والغربة، أقام المدير مأدبة غداء على شرفنا وأمر طباخ المبيت بالحضور يوم العيد صباحا ليذبح لنا بالمناسبة نعجة. كان المدير حاضرا معنا، شَوَينا اللحم وأكلنا وضحكنا وعيّدنا على بعضنا وكأننا بين أهالينا وأقاربنا.

كنا نتمتع برعاية صحية كاملة مجانية وقائية وعلاجية.

كانت إدارة المبيت تتكفل بتنظيف ملابسنا الداخلية والخارجية وأغطيتنا مجانا وكانت كلها مرقمة حتى يسهُل إعادة توزيعها علينا.

كنا نستمتع بحمام تركي أسبوعي مجاني خارج المبيت وكان النقل من بوغرارة كلم 35 إلى صفاقس مجانيا أيضا.

كل قاعات الدرس نهارا تصبح قاعات مراجعة ليلا، يشرف عليها تلامذة قيمون متطوعون يختارونهم من نجباء الأقسام النهائية، يساعدوننا على أداء واجبنا المدرسي عند الحاجة.

يوجد بكل مؤسسة تربوية قاعة رياضة مغطاة ومجهزة بمعدات رياضية عصرية.

كان جل أساتذتنا الكرام أجانب (فرنسيين، بلجيكيين، كنديين، أمريكيين) ما عدى أساتذة العربية والتقنية والتصوير الفني والتربية الوطنية المزدوجة (المدنية والإسلامية حاليا).

كنا نقوم برحلات دراسية مجانا تحت إشراف أساتذتنا الأجانب.

كان الانضباط  الحديدي يسود النظام الداخلي في كل المؤسسات التربوية.

3. التعليم العالي من 1972 إلى 1974

كنا نقيم مجانا أو بمقابل رمزي في مبيتات جامعية محترمة، غرفة لكل طالبين اثنين في مبيت حي الزهور بتونس العاصمة.

كنا ندفع 100 مليم لا أكثر، ثمن وجبة غذائية صحية متوازنة في الغداء والعشاء.

كانت إدارة المبيت الجامعي بحي الزهور تتكفل بتنظيف ملابسنا الداخلية والخارجية وأغطيتنا مجانا.

كانت الحافلة الخاصة تنقلنا مجانا، ذهابا وإيابا،  من المبيت الجامعي بحي الزهور إلى مدرسة الترشيح العليا للتعليم التقني بباب عليوة (ENSET).

كنا نتمتع بمنحة جامعية قدرها 35 دينارا تونسيا (كان مرتب معلم الابتدائي أو مرتب موظف بنكي في ذلك الزمن الرومنطيقي الجميل في الذاكرة لا يفوق 45 دينارا تونسيا). كنت أرسل من منحتي حوالة شهرية بـ10 دنانير تونسية مصروف أمي بجمنة (حيث لا وجود وقتها لفاتورة ماء أو ضو ولا وجود لتلفزة في البيت ولا وجود لمشروبات غازية أو ياغورت أو حليب أو مرطبات في الحانوت ولا وجود للحم أو دجاج ولا وجود لجزار من أصله لو لم تخني ذاكرتي المتعبَة). كان  لي زميل طالب صفاقسي مشترك في الصندوق الوطني للسكن (ancien CNEL transformé banque de l`habitat) بمبلغ خمسة دنانير تونسية في الشهر وقد تسلّم منزلا محترما بصفاقس عند التخرج سنة 1974 وكان صديقي الآخر يتعلم السياقة بمقابل أما الأكثرية الغالبة من الشباب الجامعي فكانت تدخل الملاعب وقاعات المسرح والسينما أو تشتري كتبا ومجلات مثيرة أو تحتسي قهوة أو جعة أو تتسكع في بعض أنهج الأولياء الصالحين وأزقتهم الحادة وتسجد تقديسا لأيقوناتهم العارية الباردة الجميلة في أعينهم، عيون مراهقين حيارى عطاشى مساكين، عيون لا ترى إلا ما تريد أن ترى في صحراء المدينة.

خلاصة القول

هل تونس الستينيات أفقر من تونس 2011 ؟

نعم كانت أفقر ماديا لكنها كانت في المقابل أغنى ألف مرة في القيم الإنسانية والدينية وأقوى في الإرادة السياسية وأكثر استقلالية في اتخاذ القرار الداخلي وأقل ارتباطا بالبنك العالمي والدول الرأسمالية المانحة والشركات متعددة الجنسيات وأكبر إيمانا بالله وحبا في الوطن وأصدق في القول وأخلص في العمل.

كانت تونس الستينات تراهن على التعليم وتعتبره أساس التقدم والرقي ولو لم تتدخل القوى الأجنبية الإمبريالية في شؤوننا لوصلنا إلى نفس ما وصلت إليه كوريا الجنوبية من ديمقراطية ورفاهية بحسن تدبير مسؤوليها ووطنية مواطنيها وعبقرية مفكريها وأدبائها ومسرحيّيها وسينمائييها وأساتذتها ومعلميها.

ملاحظة أخيرة

قبل نشرها، من عادتي أن أطرح مواضيع مقالاتي للنقاش في الجلسات الثقافية بمقهى النت بحمام الشط الغربية صباحا وبمقهى البلميرا بحمام الشط الشرقية مساءً.

قال لي أستاذ فلسفة سابقا، كاتب عام نقابة أساسية سابقا ومدير معهد حاليا، نقابي نُصب مديرا بالوفاق من قِبل زملائه:

"الستينات من القرن الماضي مرحلة، و2011 مرحلة أخرى، لقد ساد في الستينات وفي كل العالم تقريبا نمط تنموي وطني أما اليوم فيسود العكس، يسود تونس نمط اقتصادي تابع مائة بالمائة للدوائر الإمبريالية. زد على ذلك، نظام التعليم ليس نظاما معزولا عن بقية الأنظمة الإدارية في الدولة، يوجد نظام التعليم داخل نظام سياسي تنموي أشمل فلا تستطيع إذن -حتى ولو أردت- أن تصلح قطعة واحدة فاسدة في  سيارة كل قِطَعِها بالية ولن تستطيع أن تطلب من هذه السيارة "الخربانة" أن تنطلق بسرعة وتأخذك إلى موطنك العزيز جمنة وحتى وإن حدثت المعجزة وسارت السيارة دون بنزين فلن تجد جمنتك، جمنة الستينات كما تركتها.

رددتُ عليه بلطف وقلت له:

"لقد حدثتْ مثل هذه المعجزات في أواخر القرن الماضي، في كوريا الجنوبية وتركيا وإيران وماليزيا، صمّمت هذه البلدان الأربعة على النهوض والإقلاع الاقتصادي واللحاق بركب الدول المتقدمة فبدأت أولا بتطوير نظام التعليم معتمدة على إرادة سياسية وطنية صلبة ويبدو لي أنها وُفِّقت في مسعاها، على الأقل نسبيا وبالمقارنة مع الدول العربية التي ما زال معظمها يتخبط في التخلف والفوضى.

قال متدخل آخر متوجها بالخطاب إليّ مباشرة:

"تمتعتَ أنتَ بالمجانية لأنك فقير".

أجبته:

وهل طلبتُ، أنا شخصيا،  الحق  والعدل لغير المعوزين من الفقراء والموظفين أمثالي وأمثالك ؟ أما الأغنياء فهم قادرون على الاستغناء على النظام التعليمي التونسي المتخلف ويستطيعون تدريس أبنائهم في أفضل النظم التعليمية الجامعية في ألمانيا أو فرنسا أو أمريكا.

وقلتُ له أيضا:

"يكمن العدل يا سيدي الكريم في توزيع الثروات الوطنية على طبقات المواطنين وأنا أؤمن بالمبدأ الإنساني السامي والنبيل القائل بالحكمة الماركسية العادلة التالية: "من كل حسب جهده ولكل حسب حاجته". وأتمنى أن يكون هذا "الكل" إنسانيًّا يأتم معنى الكلمة للإنسانية التي أتصورها في مخيلتي وأتمنى حدوثها في المستقبل القريب ولو بطفرة جينية نوعية ونادرة كالطفرة الجينية التي وقعت في الحمض النووي لأسلافنا ونقلتنا من "شبه إنسان"  إلى "إنسان".

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire