mardi 13 août 2024

أفكارٌ تعارضُ السائدَ وقد تحرّكُ الراكدَ



33. يقولون: "العنف لا يولّد إلا العنف".
أقول: وهل ولّد عنفًا، عنفُ نظام "بن علي" في تونس وعنفُ نظام "مبارك" في مصر وعنف نظام "علي عبد الله صالح" في اليمن ؟ هذه مقولة من المقولات "الكليشيهات" الزائفة التي أطاحت بها الثورة العربية. نجح التونسيون في ثورتهم في إحياء وتفعيل إصرار الفيلسوف الهندي غاندي على مواجهة العنف باللاعنف. كلما ازداد النظام الديكتاتوري قمعا إلا وقابله الشعب الأعزل بتحدّ غير مسلح أقوى من أسلحة الدمار الشامل.
34. يقولون: "دعاةُ المقاومة المسلحة ضد العدو الإسرائيلي يقولون عن دعاةِ المقاومة السلمية أنهم جبناء وخونة ومتخاذلون وغير وطنيين بل عملاء ومتخلّون عن القضية الفلسطينية، قضية العرب الأولى".
أقول: أردّد ما قاله مبدع المقاومة السلمية النبي الأرضي المهاتما غاندي: "لو خُيّرتُ بين الجُبنِ والعنفِ لاخترتُ العنفَ"، وأضيفُ: تَستعمل المقاومة السلمية أسلحة أقوى من الأسلحة التقليدية التي يملك العدو أجودها وهو مُصنعها ومُصدرها حسب ما تقتضيه مصلحته. تصنع المقاومة السلمية أسلحتها بنفسها ولا تستوردها من العدو وهي متنوعة ومبتكرة ومتجددة، منها المظاهرات السلمية والعصيان المدني والمقاطعة والانتفاضة. المقاومة السلمية ليست مهنة يمتهنها بعض المحترفين السياسيين لخدمة أغراضهم المادية الخاصة بواسطة تسخير بعض المسلحين الصادقين المؤمنين بالشهادة أو بالإيديولوجيات المادية. المقاومة السلمية هي إيمان عميق بعدالة قضيتنا وثبات على المبدأ وعلى الأرض، مقاومة يقوم بها كل مواطن شريف غير محترف سياسة وغير منافق. المقاومة السلمية تبدو لي أنها أشقُّ وأطولُ نفساً من المقاومة المسلحة لأنها تتجسم في مقاومة مسؤولة خدمة لقضية وطنية، مقاومة تستنزف بصمت قوةَ العدوّ وتجعله يركع في آخر المشوار كما ركعت بريطانيا العظمى أمام نبي غير مسلح إلا بإرادته، اسمه الروح العظيمة غاندي، وكما ركع البيض العنصريون في جنوب إفريقيا أمام صاحب الـسبعة وعشرين عاما سجنا، المناضل العالمي مانديلا، وكما ركعت بريطانيا أمام الصين وغادرت "هونقكونـﭬ" تجرّ أذيال الخيبة تاركة وراءها ثروة تكنولوجية لا تُقدّر بثمن فاستفادت الصين من هذه الثروة المتروكة وقفزت قفزة عملاقة في طريق التقدم وأصبحت تنافس أمريكا اقتصاديا، وكما ركع الأمريكان الغزاة أمام العبقريتين الاقتصاديتين والعلميتين اليابانية والألمانية اللتان أجبرتا الأمريكان دون طلقة سلاح واحدة على معاملة أعدائهم القدامى معاملة الند للند. ومن يجرؤ منا نحن العرب على نعت الشعب الياباني أو الألماني أو الهندي أو الجنوب إفريقي أو الصيني بالجبن أو الخيانة أمام أعدائهم الجبابرة ؟ وهل وصلنا نحن بعنترياتنا ومقاومتنا المسلحة الموسمية إلى تحقيق بعض أهدافنا أم فقدنا بسببيهما أرضنا شبرًا وراء شبرٍ ؟ نقيض المقاومة المسلحة ليس التفاوض غير المتكافئ على طريقة عرفات وعباس ومصر والأردن، هذا النوع من التفاوض، أسميه أنا جُبنا وخيانة واستسلاما وتفريطا في الحقوق واعترافا للعدو بالتفوق في جميع الميادين. المقاومة السلمية تحقق عكس هذا كله، هي شجاعة وقناعة صادقة بعدالة القضية وقوة حجتها، لا تنتظر الخلاص من أحد، لا من العدو ولا من السياسيين المحترفين غير الوطنيين والمتاجرين بالقضية، مسلحين كانوا أو مستسلمين.
لقد أفاق المستعمر واقتنع قبلنا بعدم جدوى السلاح الحديدي الكلاسيكي وأبدله بسلاح سائل (Zygmunt Bauman, sociologue-philosophe, La vie liquide, Ed. Fayard/Pluriel, 2016)، سلاح ناعم من متكون من الخبث والذكاء والعلم المنحاز والثقافة الامبريالية والديمقراطية الانتقائية وسرق منا بترولنا وأدمغتنا وعمالنا المهرة ونهب من أراضينا ثروات لم يقدر على نهبها أيام الاستعمار المسلح المباشر، لقد أفاق كل العالم المستعمِر سابقًا إلا الإدارة الأمريكية الحاكمة الغبية التي ما زالت تصر على احتلال البلدان بقوة السلاح.
استقل الشعب الجزائري بسرعة البرق بعد حرب تحرير دامت ثمان سنوات فقط. حرب تحرير حرّرت الأرض الجزائرية من المستعمِر لكن منفذوها استرقّوا المواطن الجزائري جسدا وفكرا مما جعله يفرّ ملتحقا بالمستعمر الفرنسي، عدو الأمس، يخدمه بفكره وساعده وترك بلاده يسرقها أبناء وطنه ممن قادوا كفاحه المسلح باسمه دون استشارته أو مشاركته الفعالة في القرارات المصيرية.
قديما، أتت بعض المقاومات المسلحة أكلها في جو توازنات دولية ظرفية خاصة في الصين وفيتنام وكوبا والجزائر وكوريا الشمالية ولكن يا لخيبة المسعى، لقد خلّفت لشعوبها أنظمة شمولية ديكتاتورية زال أكثرها والبقية في طريقها إلى الزوال أو التغيير الديمقراطي الحتمي.
أنا أتساءل بصدق: من كان صادقا مع نفسه ويؤمن بالسلاح وسيلة وحيدة لتحرير فلسطين فلماذا لا يلتحق بالفصائل الفلسطينية المسلحة داخل غزة ويرفعه مباشرة في وجه العدو الإسرائيلي ؟
جرّبتْ أنظمتُنا القومية الحروب المسلحة وللأسف لم تجلب لنا إلا العار والهزائم المتتالية في 48 و 67 و 2003.
صحيح أن للمقاومة المسلحة بريق جذاب وانتصارات مدوية كـ56 (بور سعيد بمصر) و62 (استقلال الجزائر) و73 (اجتياز خط بارليف على ضفة قناة السويس) و83 (العمليات الاستشهادية الثلاث المشروعة التي قام بها حزب الله على ما أظن ضد الجيوش الثلاثة الغازية الأمريكية والفرنسية والإسرائيلية ففرّت مذعورة تحت عزم وحزم وشجاعة اللبنانيين. هذه العمليات، هي العمليات الاستشهادية الوحيدة التي لا أدينها لأن كل ضحاياها جنود أعداء مدججين بالسلاح جاؤوا إلى أرض غير أرضهم ودون إذن من اللبنانيين فأصبحت مقاومتهم شرعية حتى وإن اختلفتُ مع المقاومين في الوسيلة ونضال حزب الله المسلح سنة 2000 الذي تُوِّج بخروج العدو من جنوب لبنان وإزالة دويلة "أنطوان لحد" الخائن والعميل من الخريطة اللبنانية وسنة 2006 عند الانتصار اللبناني المعنوي لكنه انتصار مكلف ماديا في الأرواح والبُنى التحتية:
Une victoire à la Pyrrhus est une victoire tactique obtenue au prix de pertes si lourdes pour le vainqueur qu'elles compromettent ses chances de victoire finale
لم تدم هذه الآثار الإيجابية لهذه المقاومة المسلحة طويلا فرجع العدو بعدها إلى أراضينا بسلاح أشرس من القنابل، ألا وهو البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والتبعية الغذائية والصحية والعلمية والتكنولوجية والثقافية والحضارية.
أنا أعي أن الوقوف بين مبدأ المقاومة المسلحة وفكرة الاستسلام ليس مريحا فكريا ولا اجتماعيا لكن ما دمنا في عالم إسلامي، أنا أطالب دعاة المقاومة المسلحة المسلمين وغير المسلمين إلى تطبيق ما يردّدونه من شعارات وما ورد في القرآن الكريم من آيات مثل الآية التالية: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط خيل...". هل أعددنا لأعدائنا شيئا من هذا القبيل ؟ طبعا لا، إذن فلماذا نمارس شجاعة كلامية لا تجلب لنا إلا الاستخفاف والذل والاحتقار من قِبل الأصدقاء قبل الأعداء. علينا أن نصمت ونصبر ونصابر ونعمل ونتأهل علميا وغذائيا وصحيا وثقافيا وديمقراطيا للمعركة كما فعل أعداؤنا الصهاينة ولنا من أسباب القوة ما لم يكونوا يحلمون به: عددٌ وثروة وحضارة وتاريخ وعمق جغرافي، ولنا ما أهم، ألا وهو عدالة قضيتنا مقابل زيف قضيتهم وهذا وحده يكفي لكي نَفِلَّ في الحديد بإرادتنا وأظافرنا.

حمام الشط في 21 أوت 2010.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire