dimanche 25 août 2024

ماذا جنيت بعد ثلاثة عشر سنة تعليم عال ؟

 

 

بعد دراسة جامعية أولى (دون باكلوريا) دامت سنتين، تخرّجت -وأنا عمري 22 عاما- أستاذا مساعدا في الاعدادي، اختصاص علوم الحياة والأرض. عدت إلى التعلّم الذاتي في سن 27، أعددت نفسي بمساعدة زملائي للترشح الحر لاجتياز الباكلوريا العلمية الجزائرية، تحصلت عليها بملاحظة متوسط. للمرة الأولى عدت إلى الدراسة الجامعية بالمراسلة، في جامعة "رانس" بفرنسا وأنا في سن 30، درست الفلسفة الإغريقية سنة واحدة ولم أواصل لأسباب مادية. للمرة الثانية عدت إلى الدراسة الجامعية بالحضور، وأنا في سن 38  وأكملت الإجازة خلال ثلاث سنوات بملاحظة حسن. للمرة الثالثة عدت إلى الدراسة الجامعية، وأنا في سن 46 وبعد عامين بحث علمي تحصلت على "دبلوم الدراسات المعمقة" في تعلميه البيولوجيا بملاحظة حسن جدا. أضعت عامين بين الشعور بالإحباط والإحساس بالفشل والتردد في اختيار موضوع أطروحتي. للمرة الرابعة عدت إلى الدراسة الجامعية وأنا في سن 50 وبعد خمس سنوات بحث تحصلت على الدكتورا بملاحظة مشرّف جدا مع الشكر الشفوي للجنة دكتورا ثنائية الإشراف من جامعة تونس وجامعة كلود برنار بليون 1 بفرنسا (UCBL1, 2007). مسيرة دراسية خاصة لا تُحتذى، متعثرة وبطيئة جدا، لا أنصح الشباب بمحاكاتها.

رغم طول مدة الدراسة وتعثرها لأسباب خارجة عن قدراتي الذهنية، لم أشعر يوما بالملل أو القلق، بل على العكس، كانت أيام سعادة ومرح ومتعة فكرية. وددت لو طالت الدراسة الجامعية إلى آخر العمر لأن كل متع الحياة الدنيا لا تساوي "جناح بعوضة" جنب المتعة الفكرية لو كان فيها متع في متناول الفقراء ما عدى متعة التدخين السامة.

لم أجْنِ من كل هذا الجهد إلا عملا بسيطا أقتات منه متنقلا في الجمهورية التونسية من مدينة مغمورة إلى أخرى ولست نادما لأن ما حققته هو إرضاء لنفس طموحة غير طمّاعة.

جنيت ثقافة علمية واسعة ومتشعبة ومركَّبَة (complexe) واكتسبت تواضعا فكريا حقيقيا واكتشفت أن كل ما اطلع الإنسان أكثر عرف أن ما يجهله أكبر.

أقدّم لكم في الفقرة الموالية، ما جنيته ويتمثل في بعض المفاهيم أو أدوات التحليل والتفكير التي بقيت لي من سنوات الجهاد العلمي، وسأقدّمها دون تعمق وبصيغة أدبية أكثر منها علمية لأنني سوف أتعرض إليها في مقالات أخرى بالتفصيل العلمي:

1.  مفهوم "التفاعل":

L’Interaction

يحل هذا المفهوم السحري كل المسائل الملتبسة في النقاش الفكري ويجيب منهجيا على كل الإشكاليات بمنطق مشاركة كل الأطراف في الفعل ورد الفعل.

مثال أ:

السؤال: هل الذكاء وراثي أم مكتسب ؟

الجواب: يتفاعل الوراثي مع المكتسب "فينبثق" منهما الذكاء.

مضى زمن الفصل التعسفي بين الوراثي والمكتسب إلى غير رجعة.

مثال ب:

السؤال: ما هي أسباب تخلف العالَم العربي ؟ هل هي خارجية (مفهوم المؤامرة) أم داخلية ؟ هل هي دينية أم عَلمانية ؟ هل هي معاصرة أم تاريخية ؟ هل هي نتيجة الاستبداد أم نتيجة الفساد ؟

الجواب: تفاعلت كل هذه الأسباب فيما بينها وخلقت وسطًا، عشنا داخله أربعة عشر قرنا و"انبثقنا" منه أفرادا وشعوبا ودولا عربية-مسلمة متخلفة.

2.   مفهوم "الانبثاق" أو "الانبجاس":

L’Émergence

ينتج الانبثاق عن التفاعل بين عناصر الظاهرة الطبيعية أو التفاعل الكيميائي، تبدأ النتيجة تظهر شيئا فشيئا، فهي إذن ليست حتمية وليست معروفة مسبقا.

مثال أ:

يتعاون الآلاف من حشرات النحل لبناء خلية النحل. كل واحدة تقوم بعمل بسيط دون نية مسبقة ودون تصميم ذهني "فينبثق" من مجموع الأعمال المنفردة والبسيطة لجماعة النحل بناء هندسيا دقيقا لا يقدر على تصميمه أكفأ المهندسين.

مثال ب:

إذا انتقدتَ التعليم في تونس, يطالبك محاورك بنبرة المتحدي بالبديل, ومِن أين لي أنا المواطن الواحد بالبديل ؟ البديل ليس شيئا توجد وصفته الجاهزة سلفا بشكل كامل في جيب النقابة أو الوزير، وما عليه إلا وضعها موضع التنفيذ. البديل الإصلاحي للتعليم، هو بناء "ينبثق" منك ومني ومن آلاف الأساتذة والتلامذة والمختصين في الفلسفة والديداكتيك وعلوم التربية والتعليم.

3.   مفهوم "التخلّق" أو "ما بعد أو ما فوق الوراثي المخي":

L’Épigenèse cérébrale

يجمع هذا المفهوم بين المفهومين السابقين: "يتفاعل" الموروث والمكتسب داخل خلايا المخ البشري فـ"ينبثق" منهما الذكاء. لا نستطيع أن نعرف مَلَكَة الذكاء البشري مسبقا وإلا لكان كل أولاد العباقرة عباقرة بدورهم. فالذكاء إذن هو 100 % موروث بيولوجي و100 % مكتسب حضاري. لا يولد الإنسان ذكيا أو غبيا (إلا في بعض حالات التخلف الذهني الوراثي أو الجيني). "قد" يصبح الإنسان ذكيا لو توفر له المحيط المناسب والاستعداد الجيني ولو كدّ واجتهد.

4.   مفهوم "التعقيد" أو "التركيب":

La Complexité

قد يتبادر إلى ذهن جل المدرسين, ابتدائي وثانوي, أن تبسيط المعارف بجميع أنواعها قد يساعد التلميذ على تقبلها بسهولة. لكن يبدو أن مربينا نسوا أو تناسوا أن تبسيط المفاهيم العلمية قد يجر التلميذ إلى الخطأ وهذا الخطأ قد يرسخ في ذهن التلميذ فيصعب علينا إصلاحه لأن التصوّرات غير العلمية لا تتغير ولا تنهزم بسهولة. العلم مركَّب بطبيعته لكن المدرس المتمكن هو الذي يقدمه في وضعية تعلمية تراعي مستوى التلميذ ولا تسطّح المشكل وتبسطه دون أن تُفقده تعقيداته العلمية الهيكلية.

5.  مفهوم "المقاربة الشاملة":

L’Approche systémique

تركّز هذه المقاربة على التفاعلات بين كل العناصر، وتعتمد على الإدراك الشامل للمشكلة أو القضية فنتناولها من جميع جوانبها وجميع زواياها دون إهمال لأي جانب أو زاوية منها مهما بديا ضعيفين. تتعامل "المقاربة الشاملة" مع عدة مجموعات من المتغيرات في نفس الوقت. هي مقاربة ناجعة في التعليم الحديث وتعتمد "بيداغوجيا المشروع" أو تعّلمات المواد المشتركة: يبحث التلميذ على حل إشكالية علمية، تتطلب هذه الإشكالية، في الوقت نفسه، معارف من مادة علوم الحياة والأرض ومادة الفيزياء. يحضَر التلميذ في المخبر لإتمام مشروعه بنفسه تحت إشراف أستاذ العلوم وأستاذ الفيزياء في نفس القاعة. يُطبَّق هذا المشروع بنجاح في التعليم الثانوي بفرنسا لأن الدولة وفرت له التجهيزات الضرورية، أما في تونس فنحاول تطبيقه بصعوبة كبيرة في الإعدادي لسببين اثنين, أولا عدم توفّر الفضاء اللازم و عدم اقتناع جل الأساتذة بجدواه لنقص في تكوينهم في علوم التربية والديداكتيك.

6.  مفهوم "تداول النماذج التعلمية بيسر":

Jongler avec les modèles d’apprentissage

يغرق الأستاذ في كثرة النماذج والطرق التربوية ويحاول تطبيق أفضلها. نذكر من بين هذه النماذج, المدرسة البنائية لـ"بياجي" والمدرسة البنائية الاجتماعية لـ"فيڤوتسكي" والمدرسة السلوكية لـ"سكينر" والتلقين والتقليد والمحاضرة المباشرة وغيرها. لا يمكن التفضيل علميا بين كل هذه النماذج لأن كل واحد منها يصلح في وضعية لا يصلح فيها الآخر, مثلا: المحاضرة المباشرة تبلّغ المعلومة عندما يكون مستوى الباث والمتلقي متقاربَين مثل المتفقد والأستاذ. يكتسب المتدرب الجديد لدى الحدّاد أو النجار أو الميكانيكي مهارته بالتقليد. يحفظ الصغير القرآن في الكتّاب بالتلقين. في بعض الوضعيات التعلمية، يتعلم التلميذ في الابتدائي بالمكافأة والعقوبة. يرتقي المتلقي إلى مستوى ذهني أعلى عندما يبني معارفه بمشاركة أستاذه وأقرانه. يتملك التلميذ معارفه عندما يراجعها وحده في المنزل.

7.   مفهوم "نفي الحتمية البيولوجية و الجينية":

L’Anti - Déterminisme biologique et génétique

تنفي هذه النظرية أعلاه نظرية "الحتمية البيولوجية"

Le Déterminisme biologique et génétique

والتي بدورها تنفي تأثير المحيط على عمل الجينات أو المورّثات وتقلّل من دور المكتسب خلال التجارب الحياتية والتعليمية. تؤمن نظرية "الحتمية البيولوجية" بتأثير الموروث فقط وتهمل التفاعل الذي يحصل بين المكتسب والموروث. ترفع "الحتمية البيولوجية " من شأن "الموهبة" وتحط من شأن التدريب والاجتهاد. نحن نعرف أن الاستعدادات البيولوجية الموروثة عند البشر ليست متساوية لكن نعرف أيضا أن العمل والاجتهاد والمثابرة تشارك في صنع ما يسمّيه عامة الناس "الموهبة". الموهبة هي القدرات الذهنية العالية المتوفرة عند بعض الناس: نقول مثلا أن هذا التلميذ "موهوب" في الرياضيات,ماذا يعني "موهوب" ؟ هل وُلِدَ وهو قادر على حل المسائل الرياضية المعقدة ؟ طبعا لا ! هل كُتب في جيناته مبادئ الرياضيات ؟ طبعا لا ! إذن، أصبح قادرا ولم يولد قادرا, اكتسب القدرة الرياضية أثناء تعلّمه وتدريبه ولم يرثها عن والديه لكن قد يكون ورث عنهما استعدادا جينيا غير حتمي الغاية. لو وُلِدَ عالم الرياضيات والفيزياء، المشهور "انشتاين"، مثلا في الصحراء وعاش مع الرعاة ولم يدخل المدرسة لأصبح في أحسن الحالات راعيا ماهرا للجمال والماعز لكنه ولحسن حظه وُلِدَ في ألمانيا وتعلم في جنيف وبنا علمه بمساعدة فريق من العلماء في أمريكا فأصبح موهوبا ولم يولد موهوبا رغم استعداداته الوراثية الذاتية لتقبل العلم والمعرفة.

خلاصة القول:

أحُث بكل حب ولطف الشباب على مواصلة تعليمهم العالي في المرحلة الثالثة مبكرا حتى يبقى في العمر متسع للبحث والبناء العلمي ولا أقول الاكتشاف لأن العلم ليس جزيرة مهجورة نكتشفها صدفة. العلم كدّ وجدّ وجهد وبحث وتمحيص، نبنيه لبِنَة لبِنَة بمساعدة الآخرين وعلى أساس متين من الموروث الحضاري المكتسب عبر تاريخ البشرية والموروث البيولوجي الذي لا ناقة لنا فيه ولا جمل. لم يتغير المخ البشري بيولوجيا منذ عهد الفراعنة أو أبعد من ذلك لكن القدرات الذهنية عند الإنسان قفزت قفزة عملاقة بفضل التراكم الحضاري البشري الأممي.

إمضائي

لا أحد مُجبر على التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرّر أن يفعل، في أي ظرف كان، فعليه إذن أن يتكلم بلسانه (المجتمع)، أن ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه. عبد الله العروي.

حمام الشط في 15 ماي 2009.

 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire