dimanche 17 juillet 2022

التصوّرات غير العلمية لا تنهزم بسهولة !

 

أنطلق في هذه الفقرة من البحث الّذي أجراه بيير كليمان, الأستاذ المحاضر بجامعة كلود برنار بليون 1 ومدير أطروحتي السابق, على عيّنة تتكوّن من 98 طالبا فرنسيّا في السّنة الأولى طبّ والمنشور في أكاديمية مونتريال سنة 2002 .

السؤال المطروح في البحث: عطشتَ جدّا فشربتَ لترا من الماء، وبعد وقت قصير, شعرتَ بحاجة للتبوّل. ارسُمْ على ورقة، المسار الذي اتبعه الماء داخل جسمك من لحظة دخوله إلى لحظة خروجه.

نَتَجَ عن هذا البحث ثلاثة تصورات (représentations ou conceptions):

التصوّر الأوّل: 55 في المائة من الأشخاص المستجوبين رسموا أنبوبا متواصلا من الفم إلى الكيس البولي مرورًا بالأمعاء يدخل فيه الماء من الفم ويخرج من الفتحة البوليّة. يُعتبر هذا المسار خطأ علميا لأن الأنبوب الهضميّ منفصل تماما عن الأنابيب البوليّة والأوعية الدموية هي  التي تربط بينهما.

 التصوّر الثاني: 6 في المائة رسموا أنبوبين منفصلين دون أيّ رابط دمويّ بينهما, الأوّل يدخل فيه الماء من الفم ويخرج من الشّرج مرورا بالأمعاء والثاني يخرج منه الماء من الفتحة البوليّة وهذا خطأ علمي أيضا.

التصور الثالث: 39 في المائة رسموا ثلاثة أنابيب مرتبطة بسهام, الأوّل يمثل الأمعاء والثاني الأوعية الدّمويّة والثالث الأوعية البوليّة. يدلّ الرسم على أن المستجوبين أصابوا علميا في تصورهم: يمر الماء إلى كامل أعضاء الجسم عبر الأوعية الدموية.

 

استنتج كليمان من هذا البحث ما يلي

رغم أن الطّلبة قد درسوا في الابتدائي والثانوي والعالي المضامين العلميّة اللازمة لتبنّي التصور الثالث السليم, لكننا نستطيع أن نلاحظ أن أكثر من نصفهم ما زال يتمثّل في ذهنه التصوّر غير العلمي الأوّل.

 

بحث كليمان في أسباب عدم انهزام هذه التصوّرات غير العلمية وتوصّل إلى الاستنتاج التالي:

تنبثق التصوّرات من التفاعل الذي يتم بين الثلاثة عناصر الآتية:

العنصر الأوّل:  المعارف العلميّة (les connaissances scientifiques) التي نُشِرت في المجلات المختصّة والكتب المدرسية أو المعلومات الّتي تلقّاها التلميذ في المدرسة.

العنصر الثاني:  مجموعة القيم (les valeurs) التي يتبنّاها التلميذ حول هذا الموضوع.

العنصر الثالث: الوسط الذي يعيش فيه التلميذ وممارساته الشّخصيّة والممارسات الاجتماعية السّائدة في بيئته (les pratiques sociales).

 

بعد التنظير، ننتقل الآن إلى واقعنا التعليمي التونسي لنعطي بعض الأمثلة على هذه التصوّرات غير العلمية الرّاسخة في أذهان تلامذتنا رغم أن المعارف العلميّة اللازمة لتصحيحها تُدرّس في كل المستويات وأسوق لكم الأمثلة المعبِّرة التالية:

المثال الأوّل: سؤال: ما هي أسباب حركات التنفّس عند الإنسان ؟

يأتي التلميذ إلى الإعدادي وهو يعتقد جازما أن الهواء يدخل إلى الرئتين وينفخهما فيرتفع الصدر. هذا جواب خاطئ علميا والجواب الصّحيح هو الآتي: تتقلّص عضلات الصدر وعضلة الحجاب الحاجز فتتبعها الرئتان الملتصقتان بهما. يزيد حجم القفص الصدري فيخلق فراغا في الداخل (Un vide) وهذا الفراغ يخلق قوة (Une force) قادرة على جذب الهواء من الخارج عن طريق الفم والأنف. نلاحظ إذن أن دخول الهواء هو نتيجة وليس سببا في حركات التنفّس. يدافع التلميذ على تصوره غير العلمي بقوله أن المعلّم لم يدرّسه المعلومة الصّحيحة وهذا مخالف للواقع لأن بعض التلامذة يحتفظون بهذا التصوّر غير العلمي رغم تصحيح أستاذ الإعدادي للمعلومة ويعيدون استعماله في الثانوي وفي العالي.

المثال الثاني: سؤال: ماذا تتنفّس النباتات الخضراء ؟

يأتي التلميذ إلى الإعدادي وهو يعتقد جازما أن النبتة تتنفّس عكس الإنسان, يعني أنّها تمتصّ ثاني أكسيد الكربون وتطرح الأكسجين. هذا جواب خاطئ علميا، والجواب الصّحيح هو الآتي: أثناء التنفّس, الذي يقع في النهار والليل على السواء, تأخذ النبتة الأكسجين وتطرح ثاني أكسيد الكربون مثلها مثل الإنسان والحيوان. من أسباب هذا التصوّر غير العلمي عند التلميذ هو الخلط بين وظيفة التنفّس ووظيفة التركيب الضوئي،  تقع الأولى في الليل والنهار، أما الثانية فتقع بحضور الضوء أي عادة في النهار فقط. أثناء عملية التركيب الضوئي الذي يقع في الضوء فقط, تأخذ النبتة ثاني أكسيد الكربون لتصنع منه المواد العضويّة كالنشا والسكر والدهنيّات والبروتينات ثمّ تطرح الأكسجين.

  المثال الثالث: سؤال: بماذا تتغذى النباتات الخضراء ؟

يأتي التلميذ إلى الإعدادي وهو يعتقد جازما أن ثاني أكسيد الكربون يتكوّن من غازات سامّة ومضرّة بصحّة كلّ الكائنات الحيّة ولذلك لا يعتبره مادّة مثلها مثل الأجسام الصلبة والساّئلة. هذا التصوّر غير العلمي يجعل من الصعب إقناع التلميذ بأن هذا الغاز هو مادّة وغذاء للنباتات الخضراء ومنه تصنع شجرة الزيتون الزيت ونبتة اللفت السكري السكّر… ودونه قد نموت جوعا.

المثال الرّابع: سؤال: هل مخ المرأة يساوي مخ الرجل ؟

يتمثّل التصوّر السّائد في أن مخ الرجل أكبر في الوزن والحجم من مخ المرأة والخطير هو ما ينجرّ عن هذا التصور من قِيم تحقّر ظلما من شأن المرأة وترفع من شأن الرجل رغم أن المعلومة الصّحيحة  تُدرّس  في برنامج الباكلوريا حيث نجد: "يختلف وزن المخ وحجمه حسب وزن الجسم رجلا كان أم امرأة وليس حسب الجنس. أضف إلى ذلك أن الذكاء البشري لا يُقاس بحجم أو وزن المخ بل يُقاس بما يقيمه المخ البشري من وصلات عصبية بين الخلايا المخية نتيجة التفاعل المستمر بين الجينات الموروثة والسلوكات المكتسبة من المحيط الخارجي المتوفر في الطبيعة والتعليم والمجتمع.

المثال الخامس: سؤال: من يشكّل الصفات البشرية ؟ هل هي العوامل الو راثية أم العوامل المكتسبة ؟

جلّ الناس يعتقدون أن العامل الوراثي هو المحدّد في تكوين الجسم بيولوجيا وذهنيّا ويهملون في أغلب الأوقات دور المكتسب أو يقلّلون من شانه مع العلم أنه يستحيل الفصل بين الاثنين لأن من تفاعلهما الدائم ينبثق الفرد بصفاته البدنية والذهنية.

 

خلاصة القول

يبدو لي أن التصوّرات غير العلمية راسخة في ذهن التلميذ والأستاذ وهي تمثّل منظومة فكريّة متماسكة أثبتت نجاعتها عبر السنين. قد لا نستطيع تغييرها بتصحيح المعلومة الخاطئة لدى للتلميذ فقط. يأتي التلميذ إلى القسم حاملا أفكارا وقِيما ناتجة عن تفاعله مع محيطه المادّي والبشريّ, فهو يتأثر بما يسمع في وسائل الأعلام وما يقرأ وهو كذلك يؤثر في أقرانه. نستنتج إذن أن التلميذ ليس صفحة بيضاء نكتب فيها ما نشاء أو إناء فارغا نملؤه بما نريد بل هو شخصيّة متكاملة وقابلة للتطوّر وقادرة على صنع معرفتها بنفسها كما يقول عالم المعرفة "بياجي".

من الأفضل إذن أن لا نهمل تصوّرات التلميذ في كلّ عمليّة تربويّة لكي لا نكون مثل الذي يبني على أساس هشّ: أعرض عليكم وجهة نظر بسيطة للتعامل مع هذه التصوّرات غير العلمية حسب طريقة تربويّة تعلّميّة:  قبل دراسة أي موضوع, نجمع تصوّرات التلاميذ حول هذا الموضوع ونحلّلها ونستخرج منها العوائق التي تحول دون تملّك المعرفة ونجعل من أهداف درسنا تجاوز هذه العوائق مع العلم أن تصحيح المعلومة وحده لا يكفي لتغيير المفاهيم غير العلمية عند التلميذ وإذا اعتقدنا خطأ أننا تجاوزناها فقد تظهر من جديد لأنها لا تنهزم بسهولة. بكل لطف أدعوكم إلى التّمعّن في هذا التعبير المجازي والمعبّر للأستاذ جونّآر: "عوائق التعلّم كجبل الثلج" , ما خفي منها كان أعظم لأن الأخطاء المعلنة الّتي تنبع من الذاكرة قصيرة المدى والّتي تبدو لنا بسيطة قد تلهينا عن معالجة المنظومة الفكريّة العميقة المخبأة بحرص في الذاكرة طويلة المدى وهي الّتي ترتكز عليها تصوّرات التلميذ ونحن جميعا, مدرسين وأولياء وأقران ووسائل إعلام, شاركنا للأسف في نحتها في مخ التلميذ.

         أختم هذه الفقرة بطرح الإشكالية التالية: هل نستطيع تغيير التصوّرات غير العلميّة عند التلميذ إذا اقتصرنا على  المدرسة فقط بمعزل عن المجتمع؟

 


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire