samedi 16 juillet 2022

حكايات طريفة. تقديم الروائية ليلى الحاج عمر

 

 

 


 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

 

محمد كشكار، مواطن العالم، أصيل جمنة ولادة وتربية

 

حكايات طريفة

 

تقديم الروائية ليلى الحاج عمر

 


 

 

 

 

 

الإهداء:

إلى حفيدي إسكندر كشكار (ابن غيث)، وحفيدتي سلمى عميرة ( Salma Amira ابنة عبير). [صورة الغلاف]


أتوجه بالشكر الجزيل إلى كل مَن ساعدني على إخراج هذا الكُتيّب:

-         ليلى الحاج عمر، الروائية وأستاذة اللغة والآداب العربية، على التقديم والمراجعة اللغوية.

-         رضا بركاتي، الكاتب وأستاذ اللغة والآداب العربية، على المراجعة اللغوية.

-         عمر الجمني، الفنان الخطاط، على تصميم غلافات كتبي الثلاثة مجانًا.


فهرس الكتاب

مقدمة بقلم الروائية ليلى الحاج عمر.........................................8

1.    قصة حب رائعة......................................................15

2.    الأضاحي الثلاثةُ في الميثولوجيا اليهوديةِ-المسيحيةِ ؟.............16

3.    أسطورةُ الرجلِ الذي يمشي وهو حاملٌ رأسَه المقطوعَ بين يديه؟17

4.    منقذ بريطانيا تقتله بريطانيا !........................................19

5.    اللسان، هل هو أفضل ما في الإنسان ؟.............................20

6.    معيار الرب ومعيار الإنسان ! ......................................21

7.    خِفتُ أن أذوقَ المَرَقَ فتَهِيمُ نفسي بالحَجَلِ !.........................23

8.    وما صِلتنا نحن الشيوعيين بهذه الفضاءات الدينية ؟................24

9.    الاستقامة والشفافية الأسكندنافية !....................................28

10.                      لقاءٌ بين صديقَين حميمَين بعد 40 عامًا !..................29

11.                      آية في التسامج !.............................................32

12.                      حكايةٌ يهودية-جزائريةٌ طريفةٌ !............................33

13.                      حكايةٌ يهودية-تونسية طريفةٌ !..............................35

14.                      "مجنون" قرية جمنة ؟......................................38

15.                      أختي الكبيرة الضريرة المستنيرة !.........................42

16.                      قرط أمي ! ..................................................48

17.                      "على قد لحافك مد رجليك" !...............................50

18.                      عاملٌ علّمني كَمْ يَزِنُ القرآنُ في قلوبِ المؤمنينَ !.........52

19.                      قاهر وزارة التربية الفرنسية !..............................54

20.                      بعض الذكريات الطريفة مع أساتذتي الأجانب ؟...........56

21.                       بعض الذكريات الطريفة مع تلامذتي ؟...................58

22.                       شهادة على العصر: أستاذ تونسي متعاون في الجزائر؟ 60

23.                         "لوجيك" الشادلي بن جديد !.......................................73

24.                       حكايتي مع وزير التربية منصر الرويسي ؟..............75

25.                        بنت تاجر سمك فرنسية، كيف أصبحت ملكة السويد والنورفيج؟86

26.                      أتابع مقالاتك وأفهمها جيدًا إلا كلمة "إبستمولوجيا" !.....91

27.                      شاحنتان تسيران في اتجاه معاكس.........................95


28.                       يوم 14 فيفري، لماذا سُمِّيَ يوم "ﭬِرَّة العنز" ؟ ..........96


مقدمة بقلم الروائية ليلى الحاج عمر

 

" فيلسوف المستقبل لا يبدع إلا بقوّة تذكّره لشيء ما طواه النسيان "

جيل دولوز

كلّ شيء في الحكاية

وأنا أجوب أرجاء الحكايات الستّ والعشرين في الكتاب الخامس للدكتور محمد كشكار، وأراوح ما بين الحكاية الأولى: قصة حب رائعة والحكاية الأخيرة: بنت تاجر سمك فرنسية: كيف أصبحت ملكة السويد والنّورفيج؟  وأقف في ما بينهما لأسكن بعض الحكايات التي تحملني إلى أطراف العالم حينا وقاع المجتمع أحيانا أخرى، وإلى تاريخنا الجماعي مرّة والتاريخي الشخصيّ للكاتب مرّات أخرى، بين سماء الحكاية وأرضها، وبين عقلائها ومجانينها، ومسلميها ومسيحييها ويهودها، وبين الأمّ والأخت الضريرة المستنيرة، تذكّرت قولة جاك داريدا: كلّ شيء في النصّ. لم يكن داريدا يقصد التقليل من أهميّة العالم الحقيقي ولا من القضايا الكامنة في النص، ولكنّه يرى أنّ النصّ يخلق واقعه ويكوّن مجاله والقوى المتنافرة التي تشكّله، والتي تحتاج تفكيكا حتّى تتصدّع فتكشف فكرها المغاير الكامن. 

لا شيء خارج الحكاية في ما صاغه دكتور ديداكتيك البيولوجيا، المسلم اليساري غير الماركسي وغاندي الهوى كما يعرّف نفسه، فهي حكايات تقول اختلافها الخصب عبر التعدّد والتشتّت وهي تكسر بذلك المتوقّع والمنتظر واليقيني لأنها حكايات لم ترتّب وفق منطق واضح ولأنّها كُتبت بلغة يؤرقها المسكوت عنه والمقصيّ والمغيّب والمنسيّ. إنّها لغة تذهب إلى الهامشي واللّامفكّر فيه لتفكّر فيه. كلّ ذلك عبر الحكاية التي تقول كلّ شيء.

ينتشر أفق الحكايات في الكتاب في مدارات متعدّدة ومتداخلة، فبين الحب والسياسة، الله والإنسان، الدين  والايدولوجيا، الأسطورة والواقع، الذاتي والموضوعي، الآني والتاريخي، يتّسع مدى الحكاية ليرسم حضورنا في العالم وأنطولوجيتنا الهشّة. ويدعونا تنوّع المحكيّ إلى البحث عن الخيط الرّفيع الذي يجمع شتاته. ولا نجد عناء في التقاطه. إنّه هناك. في لُحمة النصوص وسَداها يغزل معناها. إنّه معنى القيمة في كلّ شيء: قيمة المعرفة، قيمة الإنسان، قيمة الحبّ، قيمة العلم، قيمة الدّين، قيمة الفكر، قيمة الاختلاف..

إنّها القيمة التي تخفيها الحكاياتُ نبضُ الشعوب وأنفاسُها الدّافئة، القيمةُ التي تحوّل الحكاية إلى نظام معرفي وبنية وجود  يرسم أفقا معرفيا جديدا هو الأفق الذي نريد أن نصل ولن نصل ما لم نروّض الوحش ونوقظ الإنسان ونرى العالم بعيني الأخت الضريرة المستنيرة، تلك التي ظلّت، في الحكاية، مع صاحباتها البصيرات، تراقب النار بعيون القلب ليالي حتّى لا يمتدّ الحريق. حكاية هزّت وجداني فتمنّيت امتلاك عيون الأخت الضريرة حتى أرى ما لا يُرى وحتّى أمنع حريقا فينا لا ينطفئ لغياب البصيرة. بل في حكاية مجنون قرية جمنة تمنّيت أن أكون السّاسي. لقد غبطت الساسي بن أحمد الذي " اتّحدت في حبّه العروش والقبائل " وغبطته لأنّه " معدٍ في سعادته " وما أحوجنا إلى عدوى السعادة زمن عدوى الوباء والغباء.

الساسي " مهبول" أو " درويش " القرية لم تصنّفه القرية كمختلّ عقليّا، ولم تعتقله في مستشفى الأمراض العقليّة، بل أطلقت حريّته ليعيش بينها فأبدع واستعاد بداخله الإنسان. إنّها جمنة التي تصنع فرادتها بتجاربها التّضامنيّة. وكأنّما الكاتب ابن جمنة يهتف:  نحن هنا قادرون على المعجزات. جمنة فعلنا الخارق ولحظتنا الثورية الدائمة تقول عبر حكاية مجنونها إنّنا الأجمل في جنوننا العاقل وإننا الأقدر عبر ثقافتنا وقيمنا الإنسانية على أنسنة العالم خارج الأجهزة والمؤسّسات والتقنية السّالبة للروح. فأقبل أيّها العالم لتتعلّم كيف تنقذ الإنسان. تعال حيث جمنة.

الإنسان مدار شتات الحكايات: الأمّ التي تضيّع قرطها فتنتصر أمانة الإنسان، وحكاية معيار الرب ومعيار الإنسان التي ينتصر فيها، يوم القيامة والحساب، على القسّ سائقُ التاكسي، وحكاية على قد لحافك مدّ رجليك التي ينتصر فيها عليٌّ على نفسه. إنّه الحكي الذي يمنح معنى لأحداث عابرة منسيّة. نحكي لنتعرّف إلى أنفسنا ونحكي لنفهم أنفسنا ونحكي لنتجاوز أنفسنا. تصبح الحكاية هنا بلغة بول ريكور " نضالا سرديّا من أجل تجديد الهويّة وإثرائها، وتحويلها إلى هويّة مرنة تقوّي مناعة الأشخاص ضدّ التحجّر ".

هذا ما يفسر تنوّع الحكاية مناخا وجغرافيا دينا وأجناسا واقعا ومتخيّلا. إنّها حكاية النّاس كلّ الناس. حتى أنّك، وأنت تنتشي بالحكاية، وتتبسّم، تترنّم بأنشودة الشيخ إمام:

يا حكاية كلّ الناس

من قلب الناس للناس

تصحى على لسان الناس

وتبات في ضمير الناس

وكيف لا تكون حكاية كلّ الناس وصاحبها يساريّ الهوى عالميّ الانتماء؟ أليس هو مواطن العالم كما يعرّف نفسه؟

غير أنّ الطريف أيضا أنّ راوي الحكاية يأبى أن يظلّ متخفّيا وراء الحكاية، إنّه يأبى منطقةَ الظلّ فيغادر عالم الحكاية كسارد ويستعيد دوره أستاذا ومفكّرا وإبستيمولوجيّا. يقف أمام النصّ وينبري يوجّه فهم القارئ ويعمّقه ويصله بالعصر الحديث من خلال تعاليق مطوّلة يعلن فيها مواقفه ويشرح فيها وجهات نظره. لم يجنح الدكتور محمد كشكار رغم عنونة كتابه بحكايات طريفة إلى التخلّص من وظيفة الأستاذ. لقد رفض الاكتفاء بدور السّارد وأصرّ على أن يمسك بيد القارئ، كما يمسك بأيدي تلامذته، ليدلّهم على بعض المقاصد التي لا يطيق أن تظلّ مكتومة أو مغيّبة أو منسيّة. انظر كيف يوجّه فهمنا لأسطورة الرّجل الذي يمشي وهو حامل رأسه المقطوع بين يديه لنقرأها كما يشاء هو في ضوء العصر فيصبح كلّ منّا حاملا رأسه المقطوع. أجل. إنّه تأويل الكاتب الطّريف الذي يستنبطه من روح زمننا التكنولوجي. ولا بدّ من قراءة الحكاية لندرك أيّ رأس مقطوع نحمله اليوم بين أيدينا ونسير به بلطف وثقة؟

وانظر كيف يؤسّس عبر حكاية سيّدنا ابراهيم مع الضّيف لعلاقة جديدة مع الله قوامها الرحمة وإكرام الإنسان

وكيف ينفض عن الدّين من خلال أسلوب التعجّب ما علق به عبر قرون من متخيّل ديني حوّل العلاقة وألغى المعنى.

تأصيل القيم وأجلاها قيمة احترام الاختلاف نتبيّنه في حكايات يهوديّة جزائرية وتونسيّة يرويها السارد ويعلّق عليها: حكاية اليهودي الجرّاح مع مريض جزائريّ مسلم وحكاية اليهودي صاحب محلّ "كسكروتات وبريك" مع المرأة الحامل. وفي الحكاية الثانية يطلّ علينا البيولوجي / الكاتب ليعلّق بأسلوب طريف لطيف ويؤكّد علميّا على أنّ ما يسمّى " الشهوة " خرافة وأنّ " الصّفات تنتقل إلى الجنين عبر جينات أمّه وأبيه وليس من حانوت بريكاجي يهوديّا كان أو مسلما".

وتبدو حكاية " الشّهوة " مُلحة النصّ التي تحملك إلى جمالية الاختلاف وإلى إمكانيات وجودنا المشترك من أجل حملٍ سويٍّ لمشروع مجتمعيّ لا يُطرِد أيّا كان مهما شطّت بنا الاختلافات.

الكاتب الأستاذ والإبستيمولوحي يطلّ علينا في كامل النصّ. إنّه لا يكفّ عن الحضور في الحكاية وخارجها. وقد يغفل أحيانا عن الحكاية في نصوص حجاجية تفسيرية تنزع إلى تصحيح مفاهيم ودحض أخطاء شائعة ومغالطات سائدة. من ذلك ما يتعلّق بتصحيح فهم مقولة " الدين أفيون الشعوب " ونقد يساريين " كالألواحِ فوق الماء، يطفون على السطح ولا ينفذون إلى الأعماق " صورة تمثيلية لمأزق اليسار وخيبتنا فيه.

ولا يضنّ الكاتب الأستاذ على قرّائه بتقديم أغرب الحكايات عن التعليم، مأزقنا الآخر، كحكايات زميله الذي درّس في اليمن، ولكنّ حضور الأستاذ يصبح طاغيا عبر حكايات مطوّلة في آخر الكتاب هي أقرب إلى السيرة الذاتية. إنّها حكايات تجربته في التدريس بالجزائر الشقيقة وحكايته مع أحد وزراء التربية. حكايات من خزّان الذّاكرة سعى السارد إلى التزام الميثاق السّيرذاتي في سردها ويتداخل أحيانا السرد بالتحليل، والتعبير عن الشعور فيصبح فعل التذكّر جهدا ذاتيّا يقترن لدى الكاتب "كائن اليوم" بدفق شعوريّ، وقيم ثقافيّة تدفعه إلى إعادة بناء الذكريات انطلاقا ممّا تشكّل له من وعي تاريخيّ بها، وإحساس حادّ بها. إنّه يكتب تجربة أصيلة عاشها لأنّها تنبني على قيم ثقافيّة: قيم المعرفة وشغف التّدريس والانفتاح على المعارف، وقيم اشتراكيّة من أهمّ تجلّياتها قصّة السيّارة والتشاركية التي ميّزت استعمالها. تأصّل التجربة يتجلّى من خلال  تأكيدها على أهميّة الجهد في صنع الكيان، وفي قدرة الإرادة على الإفلات من الأوضاع المكبّله. صورة نموذجيّة ترشح بثراء داخليّ واعتزاز بالنفس لا يخفيه الكاتب رغم روح التواضع شيمة العلماء.

إنّ النبش في ذاكرة الماضي والحفر في ثقوبها إنّما هو " تذكّر لشيء ما طواه النسيان " وما الإبداع كما يخبرنا جيل دولوز سوى التقاط المنسيّ وتحويله عبر السرد والحكي إلى حياة كاملة طافحة بالحيويّة وإلى نقطة تقاطع لكلّ الأشياء في وجودنا وإلى لحظات مكثّفة هي " حبّات رمال الأبدية " كما يقول بول ريكور. لحظات مكثّفة جدا قد تعيد بناء علاقتنا مع الكائنات ومع أنفسنا وتغيّر طريقة حضورنا في العالم.

ليلى الحاج عمر (الزّهراء 28 أكتوبر 2021)

 


خَمْسُ حكايات رواها فيلسوفي المفضّل ميشيل سار وترجمها المؤلف

 

فيلسوفي المفضّل يصحح المفاهيم ويقول:

"الحرب العالمية" الأولى أو الثانية،

يجب أن نسميها "الحرب ضد العالم" وليس "الحرب العالمية" !

 

فيلسوفي المفضل يعرّف الحرب ويقول:

اثنان يتعاركان فوق رمالٍ متحركةٍ !

مَن ربح الحرب؟ طالبان أم الأمريكان، اليمن أم السعودية...؟

ربما ربحها أو خسرها ثالثٌ ورابعٌ مجهولان !

 

فيلسوفي المفضل يعرّف الدكتاتورية ويقول:

إذا أردتَ أن تحتكر السلطة اِبدأ بإفساد السلطة، كما الحيوان عندما يتبول في مكان في الغابة ليثبت ملكيته التامة لهذا المكان.

 


1.    قصة حب رائعة



يُحكَى أن شيخين متجولين منهكين وفدا على قرية فلم يُكرِم وفادتهما أحد من السكان. وعند خروجهما من القرية اللئيمة لمحا زريبة مهجورة في أطرافها فقصداها، استقبلهما بحفاوة عجوز وزوجته، نزعا لهما حذاءَيهما، غسلا لهما أقدامهما وأحضرا لهما طعامًا شهيًّا وفاكهة نَضِرة. بعد العشاء، قام العجوز وبدأ يصب لهما النبيذ من الجرة فلاحظ أنه كلما صب أكثر امتلأت الجرة أكثر. رفع عينيه حائرًا وسأل ضيفَيه: مَن أنتما ؟ أجاب أكبرهما: أنا جوبيتير ورفيقي هيرميس، من آلهة اليونان، وما دمتما قد أكرمتمانا فقد جاء دورُنا لنكرمكما، لن تفترقا أبدًا، أنتَ عند قدوم ساعتك ستتحول إل شجرة زيزفون وأنتِ سنديانة، وستظل أغصانكما تتعانق مع كل هَبَّةِ نسيمٍ عليلٍ.


2.    الأضاحي الثلاثةُ في الميثولوجيا اليهوديةِ-المسيحيةِ ؟

الأضْحِيَةُ الأولَى: عَزَمَ إبراهيمَ على التضحيةِ بابنِه طاعةً وتقرُّبًا لربِّهِ، فأنزلَ عليهِ الربُّ كبشًا من السماءْ لابنِه إسحاقَ فداءْ. العبرةُ: ومنذ حدوثِ تلكَ المعجزِةِ، أمسَى الحيوانُ قربانًا وحُرّمَ على الإنسان ذبحُ إنسانٍ.

 

الأضْحِيَةُ الثانيةُ: هبّتْ على السفينةِ عاصفةٌ بحريةٌ هوجاءُ، سفينةٍ يركبُها يونسَ الذي التفت لمرافقيه وقال: "أنا السبَبُ، أنا المذنِبُ، ارمونِي في البحرِ ولَسَوفَ تَهدَأ العاصفةُ، ومِن الموتِ غَرَقًا سوفَ تَنجُونَ جميعًا". وفورًا في اليمِّ رَمَوْهُ، فهدأتِ العاصفةُ وفعلاً جميعًا نَجَوْا، لكنهم ندِموا على فعلتِهم الشنيعةِ الناتجةِ عن فرطِ أنانيتِهم وقالوا: "يا لِخيبتِنا، رَمَيْنا في اللُّجِّ أفضلَنا. كيفَ نَرمِي فيه مَن يعلمُ الغيبَ ومن تستجيبُ له السماءْ ؟" أما سيدُنا يونسَ فله ربٌّ يرعاهُ، سَخَّرَ له حوتًا عظيمًا، في العمقِ بَلَعَهُ وعلى الشاطئ سليمًا تقيّأهُ. العبرةُ: نَجَا الإنسانْ ونَجَا الحيوانْ.

 

الأضْحِيَةُ الثالثةُ والأخيرةُ: صُلِبَ المسيحُ فداءً للبشريةِ جمعاءَ، وأصبحنا نتقرّبُ إلى الربّ بالتضحيةِ بروحه الخالِدةِ وأصبحَ لحمُه خبزًا ودمُه خمرًا.

 

الموعظة:  لا أضاحِيَ ولا قَرابينَ بعدَ اليومَ، وبِحولِ الربِّ، ربِّ العالَمينَ، أصبحنا في أعيادِنا نباتيّينَ بعد ما كنّا لَحْمِيّينَ !

 


3.    أسطورةُ الرجلِ الذي يمشي وهو حاملٌ رأسَه المقطوعَ بين يديه ؟

 

الأسطورةُ:

كانت المسيحية، قبل تحوّلها إلى دين الدولة الرومانية عن طريق الامبراطور الروماني قسطنطين الأول في بداية القرن الرابع ميلادي، تُعتبَرُ فِرقة سريةً مهمشةً (une secte) وكان أتباعُها ملاحَقِينَ من قِبل أصحاب السلطة. عَقَدَ بعضُ المسيحيين في باريس اجتماعًا سريًّا كعادتهم برئاسة أسْقُفٍ منتَخَبٍ. فاجأتهم الشرطة، وحتى ترهبهم قطعت رأسَ الأسقفِ أمام مريديه، لم يسقط الرجل بل انحنى قليلا وبلطفٍ أخذ رأسَه المقطوعَ بين راحتيه وصعد به مشيًا إلى ربوة مونمارتر وفي أعلى نقطةٍ في القمة دفنه وصلى عليه صلاة الجنازة بكل سكونٍ وثباتْ.

 

التعليق:

كانت أسطورة لا تُصدق، كيف يمكن لرجلٍ أن يحملَ رأسَه المقطوعَ بيديه حتى ظهر الحاسوبُ المحمولُ (Ordinateur Portable). أليس الحاسوبَ هو رأسُنا اليوم ؟ أليس هو ذاكرتنا التي تحفظ ذكرياتنا المسموعة والمرئية، الثابتة والمتحرّكة ؟ أليس هو مصدر معلوماتنا قبل اتخاذ قراراتنا ؟ أليس هو امتدادٌ وتقويةٍ لحواسِّنا البيولوجيةِ المحدودة فِطرِيًّا ؟ عينٌ وأذنٌ آليتان متطورتان لم نكن يومًا نحلم بأٍّفضلِ منهما !  عينٌ نرى بها العالَمَ أجمعَ وأذنٌ نسمعُ بها محاضرةً في باريس أو نيويرك في ساعتها ولحظتها.

الحاسوبَ هو رأسُنا الافتراضي إذن وهي التي طوّرت وضخّمت قُدُراتَ رأسِنا البيولوجي ! نحمله في الدارِ، في قاعة الدرسِ، في الطائرة والقطارْ. يَبِيتُ معنا ونرفعه بلطفٍ، ثم نضعه على الطاولة أو على ركبتينا في الليلِ والنهارْ، وتتعطّلُ ذاكرتنا لو انقطع الاتصال أو التيّار.

 


4. منقذ بريطانيا تقتله بريطانيا !

 

إلامَ ترمزُ صورةُ التفاحةِ المقضومةِ (La pomme croquée) الظاهرةِ على حواسيبِ ماركة (Apple) ؟

ألان تورينڤ  (Inventeur de la machine de Turing en 1936)، أب الحواسيب الحديثة. وُلِدَ في لندن سنة 1912 وتوفي سنة 1954. ساهم مساهمة حاسمة في انتصار الحلفاء على المحور، أستاذ جامعي في الرياضيات، جنّده الجيش البريطاني في الحرب العالمية الثانية في قسم الأعداد (Service de chiffres) فنجح في فك رموز الشفرة  التي يستعملها الجيش الألماني النازي (جيش هتلر) في رسائله المشفّرة (décoder les messages codés).

سُجِنَ بسبب ميولاته الجنسية المثلية ومات في السجن منتحرًا بعد أن قَضَمَ تفاحةً سمّمها بنفسِه.

 

 

 


5. اللسان، هل هو أفضل ما في الإنسان ؟

 

في قديم الزمان والمكان، يُروَى أن ملكًا طلب من رئيس الطبّاخين أن يُعدّ له أفضل طبق طعام. في الغداء قدّم الطباخ للملك طبقا متكونًا من ألسنة خرفان.

في الغد طلب الملك من نفس رئيس الطبّاخين أن يُعدّ له أسوأ طبق طعام. في الغداء قدّم الطباخ للملك طبقا متكونًا من ألسنة خرفان كالأمس تمامًا.

غضب الملك غضبًا شديدًا وصاح في وجه طباخه وقال له: أوَصَلَتْ بك الجرأة أن تسخر من الملك ؟

أجاب رئيس الطبّاخين وهو واثقٌ من وجاهة حجّته وقال: حاشا يا سيدي، فاللسان هو أفضل عضوٍ في الإنسان وفي نفس الوقت هو أسوأ ما فيه.

تساءل الملك: كيف ذلك ؟

أجاب رئيس الطبّاخين وقال: "لسانك حصانك إن صنته صانك وإن أهنته أهانك".


6. معيار الرب ومعيار الإنسان ! حكاية رواها عالم النفس رولان ﭬوري وترجمها المؤلف

 

في قرية فرنسية، تَعاصَر رجلان يحملان نفس الاسم "فرنسِيسْ"، واحد قِس والثاني سائق تاكسي، صادف أن توفّيا في نفس اليوم.

وفي يوم القيامة والحساب حضر الاثنان في نفس الوقت أمام الرب:

بدأ الرب بسائق التاكسي، نَظَرَ في سِجِلِّهِ وقال له أنتَ تستحق الجنة في الآخرة على ما فعلته في دنياك ومنحه عصاً من فضة ورداءً من ذهب، ثم توجه بالخطاب إلى القس، نَظَرَ في سِجِلِّهِ وقال له أنتَ أيضاً تستحق الجنة على ما فعلته في دنياك ومنحه عصاً من خشب "البَلُّوطْ" ورداءً من صوف.

احتج القس وقال: كيف أيها الرب، قد يكون في الحساب خطأ، لم أفهم، أنا راهبٌ متعبّدٌ أُصَلِّي بالناس كل أحد وهو سائقٌ متهوّرٌ يرتكب حادثاً كل يوم، فكيف يا مولاي تجازيه بالفضةِ والذهبْ و تجازيني بالصوفِ والخشبْ ؟

أجابه الرب: لا وجودَ لأي خطأ في الحساب يا ابنِي، بل يوجد تغييرٌ في معاييرِ التقييمِ :

معياري في الآخرة يختلف عن معياركم في الدنيا.. معياركم الظاهرُ ومعياري الباطنُ.. معياركم المشهد، ومعياري المقصد.. معياركم الأقوال، ومعياري الأفعال.. معياركم وقتي، ومعياري أزلي، معياركم فانٍ، ومعياري هو الباقي.. ألمْ تفهم ؟.. أفهِّمك: هو، كل ما انطلقتْ سيارته بدأ الراكب في الصلاة والدعاء من شدة الخوف من الحوادث، وأنتَ كلما شرعتَ في خطبة قُدّاس الأحد إلا وذهب الحاضرون في سُباتٍ عميقٍ من شدة التكرار والملل.

 

 

 

 

 

 

 


 

7. "خِفتُ أن أذوقَ المَرَقَ فتَهِيمُ نفسي بالحَجَلِ". حكاية رواها الروائي أمين معلوف (جُرجِي زَيدان اللغة الفرنسية)، وترجمهاالمؤلف



يُحكَى أن سلطانًا من سلاطينِ غرناطة (1482 ميلادي)، قبل سقوطِها بعشرِ سنواتٍ، واسمه أبو الحسن علي بن سَعْدٍ، أصيل السلالة الحاكمة لبني الأحمر، هَجَرَ زوجتَه، ابنة عمه فاطمة بنت محمد الأيسر، ليتسرر بسبيةٍ نصرانيةٍ تُدعَى إيزابيل دو سوليس، سمّاها هو ثريّا.

وفي صبيحة يومٍ من الأيامِ، دعا كل أعضاء حاشيته، وجمعهم في ساحةٍ عَطِرَةٍ، مكسوةً بالآسِ والريحانِ، لمشاهدة هذه الأمَةِ الرومية وهي تستحمّ. وبعد خروج جاريته من الحمام، دعا جميع الحاضرين لِملء أكوابهم من ماء الحوضِ الذي كانت تتبختر فيه وأمَرَهم بِشُربِه، ثم طلب منهم التحدثَ بحماسةٍ، شعرًا أو نثرًا، حول الطعمِ اللذيذِ الذي اكتسبه هذا السائلُ من جسمِ ثريّا. استجاب الجميعُ إلا واحد فقط، وهو الوزير أبو القاسم الذي بقي جالسًا بكرامةٍ وكبرياءٍ، سأله السلطانُ عن السببِ، أجابَه قائلاً: "خِفتُ أن أذوقَ المَرَقَ فتَهِيمُ نفسي بالحَجَلِ".

 

 

 

 

 


8. وما صِلتنا نحن الشيوعيين بهذه الفضاءات الدينية ؟ حكاية رواها لي في مقهى البلميرا بِحمّام الشط الشرقية صديقي وزميلي اليساري رضا بركاتي أخو نبيل بركاتي العضو السابق بحزب العمال  الشيوعي التنوسي وشهيد القمع آخر أيام بورﭬيبة وبداية عهد بن علي سنة 1987

 

في بداية الستينيات زار الحزبُ الشيوعي التونسي، قبل حَظْرِهِ مِن قِبل بورڤيبة سنة  1963، دولةَ الصين الشيوعية للمشاركة في مؤتمرٍ عالمي للأحزاب الشيوعية. وَجَّهَ له الحزبُ الشيوعي الصيني سؤالا عن هيكلته في تونس فأجاب: لدينا تمثيلياتٍ في الجامعات ومكاتبَ في بعض الجهات وحضورٌ في المنتديات الثقافية. ردّ الصيني متعجِّبًا: نحن نعلم أن الشعبَ التونسي مسلمٌ بنسبة 99% ، ونعلم أيضًا أن أكثرهم يرتادون المساجدَ والجوامعَ. فهل لديكم حضورٌ في هذه الفضاءات ؟ قال التونسي مرتبِكًا: وما صِلتنا نحن الشيوعيين بهذه الفضاءات الدينية ؟".

 

تعليقي:

مِن المفروض أن يكون المناضلُ الشيوعي داخل شعبه كالسمكة في الماء كما قال ماوتستونڤ، الزعيم الصيني الشيوعي ومؤسس الصين الشعبية الحديثة سنة 1945، ونحن نرى اليوم اليساريين في تونس كالألواحِ فوق الماء، يطفون على السطح ولا ينفذون للأعماق ! وعِوض أن يقاوموا الظلمَ والفقرَ نراهم يتعالون على هُويةَ شعبهم الإسلامية وأنتروبولوجيته، ويجهلون تراثَه وينسون أو يتناسَون أن ماركس قد قال أن الدين هو صرخةُ المظلوم. وأول الفقراء والمظلومين في تونس هم الأجراء عُمّالاً وفلاحينَ، وإذا هَجَرَ هؤلاء الأخيرين الأحزابَ اليساريةَ فالمشكلة في هذه الأحزابِ وليست في الأجراء لو كان اليساريون صادقين مع يسارِيتِهِم ومتماهين مع شعبِهِم في آن.

 

توضيحٌ حول مقولة ماركس الشهيرة "الدين أفيون الشعوب" التي وظفها ماركسيّونا خطأ ضد مسلمينا وإسلاميينا.

تعريف المفاهيم: الإسلامي التونسي هو مسلم يحمل مشروعًا سياسيًّا ذو مرجعية إسلامية (نهضاوي، سلفي غير داعشي، تحريري).

الماركسي التونسي قد يكون مسلمًا أو ملحدًا يحمل مشروعًا سياسيًّا ذو مرجعية ماركسية-لينينية-ستالينية-ماوية (بوكت، وطد).

"الدين أفيون الشعوب"، جملةٌ فعلاً أخرِجت من سياقها. أنقل لكم سياقها كاملاً من كتاب ماركس الشاب (1818-1883)، الفيلسوف الأكثر عمقًا من ماركس الكهل (حسب فيلسوف حمام الشط). كتابٌ نشره سنة 1844 تحت عنوان "مقدمة لنقد الفلسفة وقانون هيڤل"، حيث وردت هذه المقارنة بين الدين والأفيون أي بين جنة اصطناعية وسعادة وهمية.

قال: "البؤس الديني هو في نفس الوقت تعبيرةٌ عن البؤس الحقيقي وشكوى ضد هذا البؤس الأخير. الدين هو صرخة المظلوم، هو روحُ عالَمٍ بلا روحٍ، هو أيضًا أخلاقُ عالَمٍ بلا أخلاقٍ. الدين أفيون الشعوب.".

هذه الجملة التي يُشهِرُها الماركسيون التونسيون خطأ في وجه المتدينين التونسيين كحكم غير قابل للاستئناف، هي جملةٌ استُعمِلت فيها كلمة أفيون كمرادف لكلمة تسليةٍ، تسليةٍ عن بؤس حقيقي وليس استبلاهًا أو عجزًا وجُبنًا. الأفيون (البؤس الديني) كوسيلةٌ نظيفة لطيفة للتخلص من حقيقة كريهة بغيضة (البؤس الحقيقي). الدين هو عبارةٌ عن لوحةٍ فنية جميلة تزيّن جدارًا قبيحًا كقبح عالَمِنا المعاصر. الدين هو التحصّنُ بعالَم اللامادة المقدّس هروبًا من عالَم المادة المدنّس.

جملةُ ماركس ليست جملةَ إدانةٍ بل جملةُ فهمٍ دون تقديم تنازلات للايديولوجيات الدينية (L`intégrisme islamique). ماركس يقبل المتدينين كما هم، خاصة المضطهَدين منهم اجتماعيًّا الذين لا ملاذ لهم إلا ملاذ الدين ولا صوت لهم إلا الشكوى للخالق.

الماركسيون التونسيون يلوّحون بالمسألة الدينية عند الأزمات كفزّاعةٍ (أستثني الدواعش التونسيين، فهُم ليسوا فزّاعةً بل هُمُ واقعٌ خطيرٌ مريرٌ ووبالٌ رهيبٌ على الإسلام والمسلمين والناس أجمعين)، يلوّحون بها للتغطية على المسائل الديمقراطية التي تقضّ مضاجعهم لقلة عددهم مقارنة بالإسلاميين.
ماركس لا يهتم بمعتقدات العمال بقدر اهتمامه بتحريرهم من رِبْقَةِ استغلال الرأسماليين الذين لا دين لهم حسب رأيه إلا دين الربح السريع، متدينين كانوا أو لا دينيين.

ماركس الشاب الحالِم رهيف الإحساس، قبل أن يطلب من الفقير المتدين التخلي عن حلمه المشروع بجنة سماوية ، يريد أن يهبه جنّة أرضية ويطمح إلى تحقيق فلسفة الدين فوق أرض دون دين.
وأنتَ أيها الماركسي التونسي ماذا قدمت للفقير المسلم التونسي ؟ خاصة بعد أن سفّهتْ التجربة السوفياتية حلم ماركس ؟ بعد ماركس، أصبح الحلم كابوسًا بفضل بركات ستالين وماو وبول بوت، وضحاياهم من العمال والفقراء يُعدّون بعشرات الملايين.

ماركس، كان مثاليًّا في طرحه إلى حد السذاجة لأنه أراد تخطّي تعقيد الوجود البشري (La condition humaine) حيث يبدو البؤس قدرًا منزّلاً لا فصال فيه، والدين أفيونٌ لا غنَى للبشرية عنه. في وطننا يبدو لي أن للدين الإسلامي مستقبلٌ طويلٌ زاهرٌ، لا بل أزليٌّ دائمٌ كديمومة الخالق.

أختي (77 عام) ضريرةٌ منذ سن الست سنوات، مؤمنةٌ إيمانًا راسخًا أنه سيأتي يومٌ تُبصِرُ فيه وترى أمها بواسطة النور الإلهي، ترى أباها وإخوتها وأخواتها وأبناءهم، ترى صديقاتها وزميلاتها القدامى في معمل النسيج للمكفوفين بمدينة سوسة. ائتني بإيديولوجية تمنح لها هذا الأمل وأنا أتبعها صاغرًا لك ممنونًا !

خاتمة: يقول العامل المسلم التونسي (Le prolétaire) للماركسي التونسي: أرجوك يا رفيقي، أرأفْ بحالي، فأنا بلا إسلامٍ معاقٌ، تمهّلْ.. تريّثْ.. أرزُنْ.. أو أعطني عكّازًا قبل أن تكسر عكّازي ! عكّازي هو عكّازٌ ربانيٌّ لم يُصنَع أفضل منه بعدُ.. ولن يُصنعَ ! عكّازٌ رفعني من الحضيضِ إلى السماء. ملجأ ألجأ إليه حيث لا تصلُ يدُ المتكبّرِ الظالِمِ.

العامل المسلم التونسي يضيف: صيحةُ "لا إله إلا الله" التي أرفعُها صباحًا مساءً ويوم الجمعة، أرفعُها في وجه الطغاة فترفعني إلى السماء السابع، سماء لا يطالها جبروت العباد، فضاء ينتقمُ فيه رب العباد ممن استباح دم العباد، فضاء تنعدم فيه المذلّة والمسكنة، فضاء يُذلّ فيه كل ظلاّمٍ للعبيد، أم تراكَ تبغي أن تمنعني من الشكوى للخالق بعد ما بُليتُ بظلم المخلوق ؟ اذهبْ في حال سبيلك، أنت حرٌّ، لكنني -ورأفةً بك وبأمثالك- أنصحك نصيحةً صادقةً خالصةً لوجه الله، اتركْ هذه التجارة الخاسرة واشتغلْ فيما ينفعُ الناس، كل الناس دون تمييزٍ دينيٍّ أو عرقيٍّ أو إيديولوجيٍّ، واتركْ لي عكّازي فلا عكازَ لي اليومَ غيرهُ.

 


9. الاستقامة والشفافية الأسكندنافية !

 

1.    الوزير لا يتمتع بسيارة وظيفية ولا سكن وظيفي ويدفع ثمن وجبته في مطعم الوزارة حيث يجلس على الطاولة حذو أي عامل.

2.    وزير تربية يريد زيارة مؤسسة تربوية، وفرت له البلدية سيارة (4L). قبل التجنيس، هذا الوزير كان مهاجرًا تركيًّا واشتغل في غسل الصحون.

3.    وزارة التربية، مساحتها 300 متر مربع وفيها كاتبة واحدة عندها بورتابل لا يطلب إلا الأرقام الرسمية (وزارتنا تشغل 1600 موظف في مقرّاتها بالعاصمة فقط).

4.    وزيرة مرشحة للوزارة الأولى أخطأت مرة ودفعت ثمن تنقل في تاكسي من بطاقة الوزارة لقضاء شأن خاص. فضحتها الصحافة وانتهى مستقبلها السياسي.

5.    رئيس وزراء يشتغل مرة في الأسبوع سائق تاكسي ليعرف عن كثب حالة الرعية (عمر الأسكندنافي).

6.    لأي صحفي حق الاطلاع في كل وقت على سجلات الوزارة ونشر ما فيها من دون إذن مسبق.

7.    في دولة فدرالية، يتداول على الرئاسة 4، كل عام 1.

8.    بلد اكتشف مخزونًا كبيرًا من النفط، لكن استغلاله قد يشوه البيئة. لم يحفروه.

9.    بلد نفطي يقتصد 10% من ربح النفط السنوي ويضعها في صندوق للأجيال القادمة التي ستولد بعد نفاد احتياطي النفط.

10.                       بلد فرغت سجونه من السجناء فأصبح يسوّغها بمقابل لدول مجاورة.

 

 

 

10.                        لقاءٌ بين صديقَين حميمَين بعد 40 عامًا !

 

هبطتُ اليوم صباحا (الاثنين 19 أكتوبر 2015) فرحا مسرورا من حمام الشط إلى وسط العاصمة مع أنني نادرا ما أفرح ونادرا ما أفارق الأحواز الجنوبية إلا "للشديد الآوي". نزلتُ لأقابل صديق دراسة لم أره منذ تخرّجنا من جامعة مونفلوري سنة 1974 (ENSET-ENPA, transformée aujourd`hui en ENSIT). نفسيا كنت مرتاحا جدا وأنا في الطريق إليه، راحة لا تشبهها إلا راحة المواعيد الغرامية أيام الشباب. خِفت ألا أتعرّف عليه، هاتَفني وأنا في ميترو حمام الأنف صديق مشترك (صديقي الجميل الطريف هذا، أبوه كان مدير مدرسة في الخمسينات ومن سنة 1958 إلى سنة 2014 أي على امتداد أكثر من نصف قرن كان له كل عام ابن أو اثنين يزاول تعليمه في الابتدائي، في الجملة 16 بين بنت وولد من زوجتين متلاحقتين ولا زال يأمر وينهى مديرا في الدار بعد ما كان مديرا في المدرسة). قلت له: كيف سأتعرف على صديقنا المشترك وأنا لم أره منذ 41 سنة ؟ قال: "صَلُعَ الرجل وسَمِنَ". وصلتُ إلى مقهى باريس وكان لنا في المقاهي المجاورة في شارع بوريبة جلسات ونقاشات وصَولات وجَولات. تفرّستُ قليلا في الوجوه الجالسة على "الترّاس" وقصدته متأكدا، احتضنته واحتضنني وكأننا أولاد عشرين، ضحكنا ومزحنا مزاح الشباب وكأننا لم نفترق يوما وتذكرنا مقهى تونس ومقهى ثلاثة نجوم والاستعراض الذي قام به "بكل شفافية" ثلاثة أبالسة منّا فوق سطح قاعة الرياضة بمعهد باردو، وإضراباتنا التي كنا نملؤها غناءً ورقصًا، وزياراتنا المتباعدة لـدانيال، "أستاذة الروحانيات" بحثًا عن "الغذاء الروحي". مرّ شريط شقاواتنا التلمذية بسرعة في ساعتين، شقاوات لا يمكن أن يتخيلها ولا يقدر على إيتائها أشقى أشقياء تلامذة اليوم ولذلك كنا من أكثر الأساتذة تسامحا مع تلاميذنا طيلة 38 عام من الكد والجد. لم نربح من التعليم إلا شرف المهنة وراحة الضمير.

روى لي صديقي وزميلي بعض الطرائف الغريبة التي عاينها في يمن الثمانينات عندما كان يعمل فيها كأستاذ متعاقد (في تونس كان يدرّس علوم الحياة والأرض باللغة الفرنسية):

-  في نفس العام الدراسي اليمني كنت أدرّس باللغة العربية الفصحى الفيزياء خلال الثلاثية الأولى والكيمياء خلال الثلاثية الثانية وعلم الأحياء خلال الثلاثية الثالثة.

-  قِسمي الواحد في الحصة الواحدة كان يضم 110 تلميذًا، كلهم مسلحون بالخنجر التقليدي أو المسدس لكنهم كانوا طيبين إلى درجة أنهم كانوا يتقبلون التأديب بالعصا لكنهم يثورون وقد يردّون الفعل بالعنف إذا صفعهم الأستاذ على الوجه. من حسن حظ الأستاذ أن جل التلاميذ لا يرجعون إلى قاعة الدرس بعد أول فسحة راحة صباحية لأنهم يلتحقون بأعمالهم الأصلية اليومية  كمعاوني بنّائين (مرمّة) أو سواق تاكسي. أحد تلامذتي في السنة الأولى ثانوي كان عمره 37 سنة أكبر من عمري آنذاك.

-  وأزف إلى قُرّائي الأعزاء أغرب حكاية حول التعليم سمعتها في حياتي: قال صديقي مسترسلا: تلميذٌ آخر من تلامذتي، صباحًا يدرس عندي في السنة الأولى ثانوي (16 عام)، مساءً يشتغل رسميا مدير مدرسة ابتدائية عمومية. التفسير: تقريبًا كل المدرسين في اليمن أساتذة ومعلمين كانوا متعاونين قادمين من الدول العربية الشقيقة فاضطرّت الحكومة اليمنية مُكرَهة على حصر تعيين المديرين في أصحاب الجنسية اليمنية فقط حتى ولو كانوا دون المستوى المطلوب مثل بطل قصتنا، وهذا يُعتبرُ نوعًا من أنواعِ التكريس المشوّه لمبدأَ يَمننة اليمن.

 

 

 


11. آية في التسامج ! إعادة صياغة وتأثيث مواطن العالَم والديداكتيك

 

كان من عادة سيدنا إبراهيم الخليل، رضي الله عنه، أن لا يتناولَ عشاءَه حتى يمر عابرُ سبيلٍ يشاركه طعامَه. فجأةً، قدم عابرُ سبيلٍ، أكل وشرب ثم طلب من سيدنا إبراهيم الخليل أن يوقد له نارًا ففعل سيدنا. قام الضيف يصلي للنار فنهره أبُو الأنبياء وطرده من بيته قائلا: أتُعْبَدُ النارُ في بيت الخليل ؟ في الحين، كلّمه الله مربيا: "يا إبراهيم كم عمر هذا الضيف ؟" قال: "ستون سنة". قال سبحانه: "تحملته وأنا الأعلَمُ بما تخفي الصدورُ، تحملته ستين سنة ولو شئتُ لَقبضتُ روحَه في أي لحظة من عمرِه، وأنت لم تستطعْ أن تتحمله ليلة واحدة ! ما أروعَ هذه الحكمة الإلهية لو أخذ بها وطبّقها دُعاة الدين الإسلامي الجدد.

 


12. حكايةٌ يهودية-جزائرية طريفةٌ !

 

حكايةٌ رواها لي ضيفٌ جزائريٌّ في مقهى الشيحي بحمام الشط، اليوم صباحًا (الجمعة 3 ماي 2019)، وكالعادة -الله لا تقطع لنا عادة-  قبل أن أنشرها في الفيسبوك، طلبتُ الإذن من الراوي في نقلها على لسانه مع ذِكر اسمه. وافقَ.

الراوي هو الحاج بوراس من سوق هراس، جليسي الوقتي في المقهى، كان مجاهدًا في جبهة التحرير الجزائرية.

قال: سنة 1975، ذهبتُ أنا وصديق لي (اسمه الرشيد، من خنشلة، الجزائر) للعلاج في فرنسا في مستشفى خاص بمدينة مرسيليا (HP Clairval).

الرشيد كان مصابًا بالتهاب الغدة الدرقية (Thyroïde)، مرضٌ يتطلب عملية جراحية. جرّاحُ المستشفى كان بالصدفة يهوديًّا ومساعده كان لبنانيًّا (اسمه عبدون عبد الصمد).

رفض الرشيد أن يجرّحه يهوديٌّ !

زاره الجرّاح في غرفته، دخل ثم أشارَ بيده إلى ما يُبَث في التلفزة من صورٍ للصراع الدائر آنذاك بين العرب والإسرائيليين، ثم قال له: "الجندي الإسرائيلي عدوٌّ للعربي، الفدائي الفلسطيني عدوٌّ للإسرائيلي، أما أنا فطبيب يهودي وجنسيتي فرنسية، ومرضك هذا هو عدوّي وعدوّك، فهل تسمح لي بالقضاء على عدوّي وعدوّك ؟" وافقَ الرشيد.

نجحت العملية ورجع الرشيد إلى خنشلة ومنذ ذلك الحين وهو يدعو بالرحمة لطبيبه اليهودي في كل صلاة.

 

 

 

 

 

 


13. حكاية يهودية-تونسية طريفة !

 

حكايةٌ جميلةٌ، راقيةٌ ورقيقةٌ، سمعتها للتوِّ صباحًا في مقهى الشيحي. رواها جليسٌ، أستاذ تعليم عالٍ، وهو في نفس الوقت شاهد حَضَرَ المشهدَ، حضرَه وهو ما يزال جنينًا في رحمِ أمه. نقلَه عن لسانِ أمه، الشاهدة والراوية الأصلية للحكاية.

في أوائل الاستقلال، كان يوجد محل "كسكروتات وبريك" في العاصمة وفي ساحة "الباسّاج" تحديدًا، صاحب المحلِّ كان يهوديًّا تونسيًّا، وكانت أم جليسي الحامل مارّةً صحبةَ زوجها فوق الرصيف المحاذي للمحل. لمح اليهودي حَمْلَها وكان حينذاك "يقلي في البريك"، لفّ "بريكتَين" في ورقة ثم خرج من الحانوت مسرعاً، لحق المرأة الحامل وسلّمها الهدية وقال لها:  "ربي إوَصِّلْ بالسالِم وربي إخلّصْ وحْلِكْ يا مدام"، ثم قفلَ راجعًا وبنفس السرعةٍ إلى عمله.

قَصْدُهُ كان طيّباً -حسب الاعتقادات الشعبية السائدة حتى اليوم- ويتمثل في تجنيبِ الجنينِ ظهور "شهوة" على شكل "بريكة" على خدّه أو ظهره (من البديهي أن العلمَ ينفي هذه الخرافات نفيًا قاطعًا لا جدالَ فيه، لأن الصفات لا تنتقل إلى الجنين إلا في جينات أمه وأبيه، ولا تقفز في الهواء من حانوت "بريكاجي"، يهوديًّا كان أو مسلمًا).

 

وللرفع من معنوياتِنا، نحن المسلمون، رويتُ له حكايةً أجملَ، ولو أن الأفضليةَ في التحضُّرِ لا تجوزُ أنتروبولوجيًّا: سافرتْ زوجتي مرّةً إلى كندا لمؤانسة ابنتها أثناء وضعِ مولودِها الأولِ. غابت شهرًا ونصف وخلال غيابها خَدَمتْنا جارتُنا تطوّعًا ودون طلبٍ أو احتياجٍ منّا ووفّرت لنا (أنا وأولادي الاثنين) يوميّاً وطيلة الشهر ونصف وجبة ساخنةً طازجةً لذيذةً، صنيعٌ جميلٌ خالصٌ لوجه الله.

 


 

 

 

 

 

حكايات من مسقط رأسي جمنة
14. "مجنون" قرية جمنة ؟

 

قرية جمنة سبقتْ دولة إيطاليا في احتضان مختلِّيها العقليين وتركتهم أحرارا خارج أسوار المستشفات النفسية (مثل مستشفى الرازي بتونس) وكذلك فعلت كل قرى الريف التونسي.

حدث في إيطاليا سنة 1970:

أغلِق المستشفى النفسي في ترياست (Trieste) في أوائل السبعينات من قِبل الدكتور فرانكو بازاڤليا (Franco Basaglia، 1924-1980) أين كان يقيم 1200 "مجنون" ولم تنقرض المستشفات النفسية في إيطاليا إلا في أواسط التسعينات . ولِد بازاڤليا بطل الطب النفسي البديل بمدينة البندقية (Venise) وجرّب الإقامة كـ"مريض" في هذه المستشفيات طيلة شهور بسبب قربه من مجموعة تناضل ضد الفاشية. تأثر بـنقد ميشال فوكو وفرانز فانون للمؤسسات الاستعمارية. كانت المستشفيات النفسية الإيطالية بعد الحرب العالمية الثانية تأوي أكثر من 100 ألف شخص.

حدث في جمنة الستينات:

مَن هو "الساسي بن أحمد" ؟ هو مواطن عادي يقطن قرية "جمنة"  بالجنوب الغربي التونسي وهو فنّان بالمعنى الحَرفي  للكلمة. تربّع على عرش الشهرة في قريتنا بلا منافس على مدى نصف قرن. يعشقه كل السكان، الصغار قبل الكبار. اتحدت في حبه كل "العروش" (القبائل) وكل الأحياء السكنية من "الحمادة" إلى "الصور". كان يقوم بمفرده بما تقوم به بلدية جمنة الحالية بجيشها البيروقراطي وآلياتها المتواضعة. شخص يساوي بمؤهلاته مؤسسة البلدية أو يفوقها في بعض المهمات لكنه لا يكلف المواطن سوى بعض القطع النقدية الزهيدة، يتبرع بها بعض سكان البلدة في بعض المناسبات. كان يفوق العمدة ورئيس البلدية في التعرف على جميع متساكني القرية، اسما ولقبا، شبابا وكهولا. يتعرف عليهم بسرعة ولا تعيقه العتمة في تسميتهم. يغني  بإتقان فريد الأطرش وعبد الوهاب وأسمهان وغيرهم. لا تفارق ثغره البسمة والضحكة المجلجلة في بعض الأحيان. مُعْدٍ في سعادته. قمحي البشرة، جميل المحيَّا، ممشوق القوام، رياضي العضلات، خفيف اللباس صيفا شتاء. ينطق حِكما، لا يشتم ولا يسب ولا يظلم أبدا. لا يبيع ولا يشتري. مؤنِسٌ في صمته وفي هذيانه. أظن أنه لا يصلي. إيمانه سِرٌّ بينه وبين خالقه يعاقبه إن شاء أو يسامحه كما يتمنى كل جمني. يشتغل ليلا نهارا في تنظيف الطرقات والساحات.

من لا يعرف "الساسي" يظن أنني أبالغ في مدحه ومن عرفه وعاشره يتهمني بأني مُقَصِّرٌ في حقه.

من أي جامعة غربية تخرّج هذا المواطن المهذب والفنان يا ترى ؟ ومَن عساه يكون ؟ عُمدة البلدة أو مدير المعهد أو عَيْنٌ من أعيان البلاد أو مصلح اجتماعي أو فلاح كبير  ومَن لا يصلي لا يمكن أن يكون إماما.

إذا أخذنا بتعريفات العلوم الغربية الحديثة نستطيع أن نصنّف "الساسي بن احمد" كمختل عقليا. وإذا طبقنا نصائح الأطباء النفسانيين الأفاضل فسوف نعزله في مصحة الأمراض النفسية. هو "مهبول" أو "درويش" القرية بالمعنى الدارج للكلمة لكنه أيضا حكيم القرية: الساسي يروي بنفسه حكاية طريفة مثل حكايات سليمان العليم بلغة الحيوان ويقول: هاجم يوما قط قطتي. دافعت عن نفسها بشراسة وكبرياء. وبين الجولة والجولة كانت تلتفت لي وتقول: "اعْجِبتكشِي يا خالْ". ويُروى عنه أنه ذات يوم رمَاه الصغار بحجر. تعرّف على أحدهم. وفي الغد قصد حوش أهله، توقف أمام الباب ثم نادى بأعلى صوته. خرج الجدّ مستفسرا. صفعه الساسي وقال له: "اضْرِبْ الكِبيرْ يِستِحِي الصْغير"، حكمة يتداولها الجمنين إلى يوم الناس هذا.

نحن أولاد بلده "جمنة" لم نصنّفه كمختل أو معتوه ولم نحاكمه ولم نحكم لصالحه ولا ضده ولم نعزله في أي مكان بل رحبنا به يعيش حرا طليقا بيننا. نكنّ له كل الاحترام  والمحبة والمعاملة بالمثل مثله مثل أي مواطن "جمني".

لو دخل مصحة نفسية لَسَمَّمَ الأطباء جسمه بالمهدئات ولَجعلوا منه جسمًا بلا روح، جسمٌ ينتظر الموت. نحن "الجمنين" أعطيناه أهلاً وأملاً. تحمل تطوُّعًا مسؤولية نظافة قريتنا. ملأنا حياته حيوية ونشاطا فغمرنا هو بمزاياه ونظّف شوارعنا وجامعنا الوحيد. أسعدنا بإشعاعه وأعجبنا كبرياؤه. عاش ومات بيننا كالسمكة في الماء فأقمنا له جنازة لا تضاهيها جنازة في المهابة والحزن والحضور.

هذه سلوكاتنا وهذه تقاليدنا الوطنية الصادقة، لم نقرأها في كتاب ولم نستوردها من اليابان ولا من الغرب بل على العكس ندعوهم هم للتعلم من ثقافتنا والنهل من قِيمِنا الإنسانية كما تعلمنا منهم وما زلنا نتعلم والمعرفة كونية ومشتركة أو لا تكون. أخيرا تفطن علماؤهم النفسانيون لانعدام الفائدة الصحية من عزل المختلين عقليا في مصحة نفسية وشرعوا في إطلاق سراح جميع المعتقلين فيها مثلما فعلت مجتمعاتهم ومجتمعاتنا خارج إطار المؤسسات الرسمية.

وددتُ لو قام باحثونا وعلماؤنا بدراسة وتعميق ثقافتنا الوطنية عِوض تقليد الغرب وإعادة إنتاج ما أبدعه بصورة مشوهة. لو فعلوها لأعطوا دروسا في الطب النفسي الحديث ولَفازوا بجائزة نوبل للطب النفسي.

تَعُجُّ رفوف مكتباتنا الجامعية بأطروحات في كل الميادين من علوم صحيحة إلى علوم إنسانية لكن لا يقرؤها أحد، والناس مُحقّون في عدم الاطلاع عليها. كلها للأسف نسخٌ باهتة لإبداعات علماء الغرب المنتجين للعلم والمعرفة.

لو أن أحدَ علمائنا قام ببحث حول "الساسي بن احمد" والبيئة الاجتماعية-الصحية التي عاش فيها لأنتج نظرية جديدة في العلاج النفسي ولَأسَّسَ علما قد يُدرّس في أرقى الجامعات الأمريكية ولَهاجَر علماؤهم وقدِموا إلى "جمنة" وأقاموا فيها مؤتمرات علمية، وقديمًا قِيل "يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر" (هذا الحلم حلمت به سنة 2008، تحقق مع تجربة جمنة في الاقتصاد الاجتماعي-التضامني في فجر الثورة سنة 2011 وأصبحت جمنة مكة الباحثين من القارّات الخمس).

 

 

 


 

15. أختي الكبيرة الضريرة المستنيرة !

 

وُلِدَتْ سنة 1941 بقرية جمنة بالجنوب الغربي التونسي. كانت ثانية أخواتها, طفلة جميلة وذكية، تنعم بجميع حواسها, تجري وتقفز وتلهو في المنزل والحي مثل أندادها. أضفتْ الفرحة والبهجة على والديها وأخواتها وإخوتها وجيرانها. بلغت 6 سنوات من عمرها, أصابها مرضُ الرمد في عينيها, مرضٌ بسيطٌ لو عولج بسرعة لَشُفِيت منه تماما. لم يكن بالقرية طبيبٌ ولا ممرضٌ وكان أبوها غائبا بتونس العاصمة لظروف العمل فأشار الجيران على أمها بمعالجتها بـ"الدواء العربي" ويا ليتها ما استشارت ولا نفّذت، لكنها ومن فرط حبها لابنتها طبقت الوصفة التي تتمثل في ضمادة محشوّة, أصرّ المتطبّبون أن تبيت على عينيها ليلة كاملة. ضمادة فيها ما فيها ولا أريد ذكر ما فيها لهول ما فيها. نامت الملاك المبصرة بنت الست سنوات والضمادة على عينيها فأصبحت في الغد بنتا ضريرة لا تميّز بالنظر بين أمها وأختها ولا ترى من الدنيا إلا هالة من نور وبقيت على هذه الحالة طوال حياتها إلى اليوم.

 

رجع أبوها من السفر، عرف بالمصيبة فحملها فورا إلى تونس العاصمة وعرضها على الأطباء لكن لا علاج لما أفسده الجهل والتخلف والعادات البالية. عادت إلى حضن أمها الحنون ورضيت بما كتبه الله لها ولم تنقم على أمها ولا على المشعوذين الجهلة الذين نصحوا أمها. فقدت البصر ولم تفقد البصيرة. كبرت على الرضا بالمكتوب والتسليم بقضاء الله. لم تشك لحظة في حب أمها وعاشت تحت جناح أرق وأجمل أم في الدنيا. غمرتها أمها بحب لا يوصف لكنها لم تميزها على إخوتها وأخواتها  لكثرة ما لهذه الأم من حنان وعطف لو وزعناه على أمة محمد لكفاهم جميعا. لم تستسلم لقدرها رغم إيمانها القوي بما كتبه الله لها. كانت تقوم بكل شؤون المنزل من طبخ وكنس وخياطة ورغم فقدان البصر كانت قادرة على إدخال الخيط في ثقب الإبرة بفضل حاسة اللمس المتطوّرة عادة عند المكفوفين أكثر من المبصرين. لا تكلّ ولا تملّ من خدمتنا ولا تمنّ علينا نحن إخوتها الصغار. كانت محترمة من القريب والجار لفطنتها وذكائها.

 

 هذا العيش الكريم لم يُرض طموحها فالتحقت وهي في سن الثلاثين بمعهد سيدي ثابت للمكفوفين أين تدرّبت على حرفة النسيج وتعلمت القراءة بفضل طريقة "براي" أي بلمس الحروف البارزة على الورقة. بعد التخرج, استقرّت مع زميلاتها بمبيت معمل النسيج للمكفوفين بمدينة سوسة واشتغلت فيه سنوات تأكل من عرق جبينها.  كانت تعمل ثمان ساعات في اليوم وتتقاضى أجرًا زهيدا يساوي 50 دينارًا في الشهر في الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين. يخصم مدير المعمل من أجرها 10 دنانير للأكل وعشرة أخرى للسكن. كانت راضية وقنوعة وسعيدة وفخورة بعملها الذي ضمن لها الاستقلالية والكرامة. كان أصحاب الخير يتبرعون لها ولزميلاتها  بين الفَيْنة والأخرى ببعض المال. يمتاز شهر رمضان في المبيت بطابع خاص, تُنصب فيه موائد الرحمان من عند الرحمان, فواكه ورمان وعسل و"بنان" وأصناف أخرى من الطعام لذيذة من صُنع أهل سوسة الخيّرين. كان المشرفون المتطوعون يشاركونهن يوميا فطورهن ويعدّون لهن صحورهن.

 

في يوم من الأيام المفجعة اندلع حريق هائل في مخزن معملهن فاشتعل القطن الاصطناعي, المادة الأولية التي يصنعن منها المماسح (Les serpillières). حريق من نوع خاص, لا تطفئه خراطيم المياه, يحترق القطن الاصطناعي ببطء شديد دون انقطاع. لم تستطع الحماية المدنية إطفاءه. كان مرقد البنات يقع بجوار المخزن المحترق. دام الحريق أياما والحماية المدنية حاضرة نهارا غائبة ليلا ومن "فرط حرصها" على سلامة المكفوفين فقد أوصتهم بتبليغها هاتفيا لو زاد اشتعال الحريق. كيف يتأتى لكفيف أن يراقب حريقا عجزت عن إطفائه مؤسسة مبصرة مختصة في الحرائق ؟ ورغم ذلك راقبت الكفيفات الحريق بكل كفاءة. كان المخزن "قِبلتهم" في الليل وبخشوع المؤمن وقدسية الإيمان، كن خمسين ضريرة بمائة أذن ينصتن بصمت رهيب لصوت احتراق القطن الاصطناعي دون غمضة عين طوال الليل. تعرفون أن الأعمى يتمتع بحاسة سمع مرهفة تفوق بكثير مثيلتها عند المبصر لأن مرونة مخه تحوّل وجهة الخلايا العصبية السليمة وغير المستعملة المكونة للمركز العصبي للإبصار وتوظفها وتستعملها  لخدمة حواس أخرى.  عندما يرتفع هذا الصوت المتربص بحياتهن, يهرعن إلى سماعة الهاتف الموجودة في ساحة المعمل ويُبلِّغن الحماية المدنية فتأتي سيارة الإطفاء لنجدتهن مؤقتا ثم يرجع العمال المبصرون إلى ديارهم تاركين البنات الكفيفات تحت رحمة قنبلة قد تنفجر فيهن في أي لحظة من الليل المظلم. ظلام تعوّدن عليه طوال حياتهن وحولنه بإيمانهن بالحياة إلى نور داخلي يضئ بصيرتهن لكن لم يتعودن على مجابهة نور الحريق الكيميائي المستمر الذي قد يقضي على حياتهن جميعا في غمضة عين إذا غلبهن النعاس دقيقة غفلة.

 

لم تكن ظروف العيش في المعمل سيئة كما يتخيل المبصرون, كن معا يكوّنّ مجتمعا مغلقا على الخارج منفتحا على الداخل. يحتوي المعمل على مشغل فيه آلات للنسيج ومشرب يستقبلن فيه ضيوفهن ومطعما يتناولن فيه وجباتهن. تزوج بعضهن وبَنَينَ عائلات وأنجبن أطفالا كالزهور مبصرين لأن فقدان البصر ليس مرضا وراثيا في جل الحالات بل هو مرض مكتسب نتيجة سوء الظروف الصحية والمعيشية وناتج عن إهمال مجال الطب الوقائي عندنا في العالم العربي.

 

كنت أزورهن عند مروري بسوسة وكن يرحّبن بي بحفاوة كبيرة وكرم حاتمي. كانت بينهن ضريرة جميلة تمنيت الزواج منها, عيناها خُضْرٌ سليمتان لأن الخلل قد يكون في المركز العصبي للإبصار أو في العصب البصري الذي يربط العين بالمخ, قِوامها رشيق وفكرها متقد وكبرياؤها في السماء. كنت أحاول مجاملتها والتخفيف عنها بذكر عبقرية طه حسين الأعمى وكانت ترد علىّ بكل سخرية لاذعة قائلة: "طه حسين هو الشجرة التي حجبت الغابة, غابة معاناة العميان المصريين". طه حسين يمثل حالة محظوظة ومعزولة ولا يحق لنا تعميمها لخصوصية ظروفها وملابساتها, وجد في طريقه جامعة الأزهر أين يعتمد التدريس على السمع فقط ثم احتضنته جامعة السريون، عشقته زوجة فرنسية متفهمة وأعانته في دراسته، عوضت عينيه وتفرغت لقراءة الكتب له وحده.

 

لقد كنّ قنوعات بما يسّرت لهن  الدولة التونسية من مؤسسات فيها ايجابيات وسلبيات. كان همهن الوحيد هو ضمان مستقبلهن بعد التقاعد والتمتع بجراية شهرية بعد ما يبلغن الستين من العمر حين لا يقدرن على العمل ولا يجدن من يعيلهن في كِبرهن.

 

ناضلن من أجل هذا المطلب. قمن بمظاهرات ومسيرات بتونس العاصمة أمام الوزارة الأولى وأمام قصر قرطاج للمطالبة بتحسين ظروف العمل وضمان جراية عند التقاعد. فرّقهن البوليس أمام الوزارة الأولى. استقبلهن ممثل الرئيس في القصر ووعدهن بتبليغ مطالبهن المشروعة لسيادة الرئيس. كن ينسّقن فيما بينهن في سوسة قبل السفر إلى التظاهر بتونس العاصمة ويلتقين في دار اتحاد المكفوفين بالعاصمة. حضرتُ مرة لممثلتين منهن يدافعن عن مطالبهن في منظمة رابطة حقوق الإنسان بتونس العاصمة، صفق لهن الحضور لفصاحتهن وشجاعتهن.

 

بعد نضال مرير دام سنوات تحصلن على حق التمتع بجراية شهرية عند التقاعد لكن السلطات أغلقت المعمل لأسباب واهية ورجعت كل بنت إلى أهلها. كان أجر التقاعد يساوي مرتين أجرهن أثناء العمل، وفّر لهن نسبيا عيشا كريما وأغناهن على ذل السؤال وفقدان الاستقلال.

 

ملاحظة: الضريرة المستنيرة التي رويت لكم قصة حياتها باختصار والدمع الدافئ  يترقرق في عينيّ من الحب والاحترام والإعجاب بمسيرتها النضالية هي أختي الشقيقة فاطمة كشكار. تعيش اليوم عند أخي الأصغر أحمد كشكار في قرية جمنة الحبيبة بالجنوب الغربي التونسي تؤنسها في حوشنا زوجة أخي عائشة بنت صالح الله يرحم أخوَيها ووالدَيها.

 


16. قرط أمي !

 

حِفظ الأمانة، قيمة أخلاقية تونسية بربرية عربية إسلامية إنسانية، كانت ولا تزال متأصّلة في أخلاقنا وعاداتنا وتقاليدنا في جمنة، تذكّرتها في هذا الزمن التونسي "الثوري"، الانتقالي إن شاء الله !

حدثت هذه القصة الواقعية القصيرة بجمنة في أربعينات القرن العشرين (ولاية ڤبلي، جمهورية تونس).

في أحد الأيام فقدت أمي يامنة أحد قرطيها الذهبيّين وهي راجعة من عرس (لا أتذكر بالضبط، المهم قطعة ذهبية، "بَدْلَة" أو "شِرْكة" باللهجة الجمنية). خَشِيَتْ غضب أبي (سي السيد بالمعنى المصري للكلمة) ولم تطلب من مُنادي القرية (البَرَّاحْ باللهجة الجمنية) ما يُطلب منه في مثل هذه المناسبات، يعني أن يجول الشوارع ويعلن  ويفشي الخبرْ حتى يعثر على الأثرْ.

وَجَدَ القرط الضائع أحد المواطنين الجمنين (الساسي بن صالح بن بوبكر مغداد حسب الذاكرة القوية لأختي فاطمة الضريرة المستنيرة)، وهو عامل مهاجر بفرنسا جاء يقضي عطلته السنوية بمسقط رأسه جمنة، أخذ القرط واحتفظ به في منزله حتى تظهر صاحبته. انتظر شهر العطلة ولم يناد مُنادي القرية على شيء ضائع كالعادة. انتهت عطلته فرجع إلى عمله في فرنسا.

مرّ عام على الحادثة وصاحبنا محتفظ بالأمانة لصاحبة الأمانة. وفي أحد أمسيات عمّالنا بالخارج، روى في فرنسا ما حدث له في جمنة. سمعه صدفة أحد جيراننا فأخبره أن صاحبة الأمانة موجودة لكنها كتمت خبر ضياع قرطها خوفا من بطش زوجها. وعند عودة بطل قصتنا إلى القرية بعد عام غربة، سلّم الأمانة سرّا إلى أمي عن طريق زوجته.

ملاحظة: برّاحُنا (منادينا) في جمنة اسمه مْحِمَّدْ بن رُمضان وأحيانا يعوّضه الساسي بن حْمِدْ. مُنادينا المرحوم بن رمضان يا سادة يا كرام كان فنانا موسيقارا. الموسيقار هو مَن ينتج أو يؤدي موسيقى. ومَن مِن الجمنين في عهده لم يطربه عزفه على مزماره السحري  (الغَيّاطَة باللهجة الجمنية). شخصيا أطربتني موسيقاه في طفولتي كما أطربتني في شبابي موسيقى بتهوفن في أغاني فيروز.


17. "على قد لحافك مد رجليك" !



عَلِي، شابٌّ أعزبٌ من جمنة السبعينات، يسكن مع أمه وأخته أما أبوه فهو عاملٌ بسيطٌ بمعمل الأسمنت مهاجر بتونس العاصمة.

سؤال: كم مرتبك الشهري يا عَلِي؟

جواب: ستون دينارًا.

سؤال: كم تدّخرُ شهرِيًّا لعُرسِك يا عَلِي؟

جواب: ستون دينارًا.

سؤال: كيف يا عَلِي، تقبض ستينًا وتدّخرُ ستينًا ؟ "فزّورة" هذه ؟

جواب: لا، المسألة واضحة وضوح شمس جمنة، إذا كنتُ أقبضُ ستينًا فكيف لا تريدوني أن أدخرَ ستينًا ؟

سؤال: ونفقاتك اليومية يا عَلِي، أليست لك رغبات ؟

جواب: لا، ليست لي أي نفقات شخصية. ولماذا التبذيرُ ؟ لا أسكرُ ولا أدخِّنُ ولا أتقهوجُ ولا أسافرُ أبدًا إلا إلى ڤبلي أو دوز وعلى القدمَين أو على بَهيمتِنا ولا ...، آكل مع العائلة، ألبسُ مما يرسله أبي من فريب الحفصية مع الحوالة الشهرية وقدرها عشرون دينارًا وهي كافية وشافية لنفقات عائلة متكونة من ثلاثة أنفارٍ.

سؤال: ولكنك تُجالسنا يوميًّا في المقهى.

جواب: آيْ نعم أجالسكم في مقهي علي بن الجيلاني، لكنني لا أطلبُ شيئًا، فإذا عَرَضْتم عليّ كأسَ شاي هديةً، شربته ممنونًا لكم، وإذا لمْ تَعرِضوا عليّ شيئًا، صَمَتُّ وواصلتُ التفرجَ فيكم وأنتم تلعبون الكارطة أو القْمارْ لرِبح "دورو" أو "مورصو حلقوم" أو "فطيرة سخونة وسمينة من دادة وريدة".



خاتمة: عَلِي، درسٌ في القناعة يمشي على قدميه وقُدوةٌ في الصبرٌ على ضَنَكِ العيش. صاحبُنا وبطلُ قصتنا أصبح اليوم ربَّ عائلة ومالِّكٌ لـِ"سانيَة" دڤلة نور. أدامه الله ذُخْرًا لأولاده وللوطن وجعله عِبرةً لمن يعتبرْ من الحرّاقة المحرومينْ المُحْبَطِينْ من السياسة والدينْ ! حَسَنُ المعاشرةِ، دَمِثُ الأخلاقِ. عَلِي مدرسةٌ، إذا أعددتها أعددتَ جيلاً طيبَ الأخلاقِ. تحياتِي واحتراماتِي لـسِي عَلِي. للأسف لم أرَه لأسلّمَ عليه في سفرتي الأخيرة لجمنة. أحبه في الله يا أتقَى عَلِي عرفتُه في حياتي على الإطلاقْ.

 

 

 

 

 


18. حدثَ هذا منذ ربعِ قرنٍ عندما كنتُ ماركسيًّا: عاملٌ علّمني كَمْ يَزِنُ القرآنُ في قلوبِ المؤمنينَ !  

 

عاملٌ، أصيل جمنة، صديقٌ كان في خلافٍ مع زوجته، استنجدَ بنا -أنا وصديق، ماركسي أيضًا- للتدخل بالحسنَى وتسوية الخلاف بينه وبين زوجته. كانت زوجته تتهمه بإقامة علاقات مع زميلاته في المصنع، وكان هو ينكر ما نُسِبَ إليه، وكنا، نحن، نثق في صديقنا ونصدّقه.

زوجته لم تكن تصدّقه واشترطت عليه أن يحلف على المصحف لو كان صادقًا. رفض شرطَها، أصرَّ على الرفض وألحَّ.

طلبْنا الإذن من زوجته واصطحبناه إلى مقهى مجاورٍ في جبل الجلود من أجل إيجادِ حلٍّ لهذه المعضلة. صارَحَنا وقال إنه أقام علاقات زمالة مع العاملات لا أكثر ولا أقل. قلنا له: احلفْ إذن. قال: لا يمكن. قلنا: لماذا ؟ قال: لا أستطيع أن أحلفَ على القرآن بالكذب. قلنا: الكذب في المصالح جائزٌ. قال: إلا مع القرآن !

حاولنا إقناعَه أن الغايةَ النبيلةٌ -الحفاظ على تماسك العائلة- تُبرِّرُ الوسيلة وربي يغفر ويسامح. رغم إلحاحِنا، رفضَ رفضًا باتًّا وقاطعًا. فشلنا في مهمتنا بسبب إيمانه القوي وخَشية الله وخوفه من القَسَم على القرآن كذبًا حتى ولو كانت كذبة صغيرة لتحقيق مصلحة كبيرة. يومها فقط عرفتُ مكانة القرآن في قلوب المؤمنين، إيمانٌ كنتُ أحسبه أفيونًا. بعد هذه الحادثة بسنوات، قرأتُ كتابًا فعرفتُ أن ماركسيتي هي الأفيون، "أفيون المثقفين"!

L'Opium des intellectuels (le marxisme), Raymond Aron, 1955.

ملاحظة ديونتولوجية (من الأخلاق): قبل نَشْرِ هذه القصة الحقيقية ورغم أنني لم أذكر اسمَه، عَرَضْتُ نصَّ المقالِ أعلاه على صديقي بطل القصة طالبًا إذنَه قبل النشرِ. قرأ، أذِنَ لي، فنشرتُ.

 


 

 

 

 

 

حكايات أستاذ متقاعد


19. قاهر وزارة التربية الفرنسية !

 

الزمان: العشرية الأولى من القرن 21.

المكان: معهد ثانوي عمومي بباريس.

البطل: أستاذ ثانوي مختص في تدريس التاريخ،   واسمه

Pascal Diard, Lycée Suger à Saint Denis, Paris


cleardotالخبرُ، كما وصلني بالسماع وليس بالمعاينة:

أستاذٌ أقام وزارة التربية الفرنسية منذ سنوات ولم يُقْعِدْها حتى الآن: قرّر أن يسند لكل تلامذته دومًا 20 على 20 في كل الامتحانات، الرسمية وغير الرسمية، داخل المعهد الذي يدرّس فيه بباريس.

حُجتُه في ذلك أن الأعداد الجزائية المسنَدة إلى التلامذة هي بالأساس أعدادٌ تقييميّةٌ اعتباطيّةٌ وقد تصدم التلميذ أو تؤلمه أو تحبطه أو تخيفه أو تفزعه، لذلك رأى بطلُ قصتنا وارتأى أن واجبَه يُحَتِّمُ عليه عدم إرباك أبنائه التلامذة.

تَجدرُ الإشارةُ إلى أن هذا الأستاذ المتنطع والثائر على قوانين وزارة التربية الفرنسية يرى أن لا وصاية على الأستاذ في المسائل البيداغوجية، ومن بين هذه المسائل حرية إسناد الأعداد كما يشاءُ هو، لا كما يشاءُ وزيرُ التربية. لم أجرؤ طوال حياتي المهنية على فِعل ما فَعل زميلي الأجنبي، لكنني تمنيتُ في داخلي أن أفعل ما فعل. أتعاطفُ مبدئيًّا مع زميلي الفرنسي وأؤيدُ تبريرَه المنطقي دفاعًا عن سيادةِ وحريةِ الأستاذ داخل قسمِه.

اعتباطيةُ إسنادِ الأعدادِ تظهرُ أساسا في أن مَن يُسنِدُ الأعداد  ويقيّمُ التلاميذ، أي المعلم والأستاذ، هو نفسُه لم يدرسْ أكاديميًّا ولو شهرا واحدا علم التقييم، فمَثَلُ مدرّسِينا إذن كمَثَلِ "تاجر يقدّر وزن سلعة دون ميزان"، أتوجدُ اعتباطيةٌ أكثر من هذه الاعتباطيةِ ؟

حاولتْ الوزارة ثَنْيَه عن صنيعه هذا فلم تفلح في ردعه، لا بالجزرة ولا بالعصا. قاموا بتفقده قصد إرهابه 8 مرات خلال 11 عاما تدريس. عرضتْ عليه الوزارة تقديم استقالته من التدريس ووعدته بتكليفه بعمل إداري فرفض. أرادت الوزارة إسكاتَه وإخمادَ صوته، فذاع على العكس صيتُه في كامل التراب الفرنسي، وتأسست من أجل حمايته ومساندته لجنة قومية، وتكوّن حول هذه الأخيرة حزامٌ نقابي يضم الآلاف من المتعاطفين الفرنسيين وغير الفرنسيين،  وحصل لي الشرف أن كنتُ واحدًا منهم ولو بالإيمان بقضيته فقط وقد بلّغته فعلا تحياتي عن طريق ابن أختي، زميله في نفس المعهد. أخبرني ابن أختي أخيرا أن زميلَه تنازل قليلا لصالح الوزارة وأصبح يسند لتلامذته أعدادا أقل من 20 لكن تفوقُ 17 على 20.

 

مع العلم أن بطلَ قصتنا الواقعية هذه، هو أستاذُ تاريخٍ كفءٌ وقديرٌ ومن كراماتِه أنه عندما يدرّس تاريخَ حركة المقاومة الفرنسية في الحرب العالمية الثانية، يستدعي إلى القسم بطلاً من أبطالِها الناجين (هل فعلها أستاذٌ تونسيٌّ واحدٌ ؟ لا أظنُّ، رغم أن التجربة تبدو سهلةً وفي متناوَل أي أستاذ تاريخ !)، ومن إنجازاته أيضا أنه يؤطِّر تلامذة الباكلوريا ويحثهم على البحث العلمي، وبفضل علاقاته الثقافية والصحفية والجمعياتية يُمهِّدُ لهم نشرَ إنتاجِهم الفكري في مجلات مختصة، ويساعدهم على إصدارِ أقراصٍ رقميةٍ مضغوطةٍ (CD) تروي التاريخَ بأسلوبٍ بيداغوجيٍّ جذّابٍ وطريقةٍ تعلّميةٍ ناجعةٍ لفائدة تلامذة المعهد وتلامذة المعاهد الأخرى.

 


20. بعض الذكريات الطريفة مع أساتذتي الأجانب في الستينات ؟

 

1.     عام 65، سنة ثالثة ثانوي (التاسعة اليوم)، إعدادية سيدي مرزوڤ بڤابس، أستاذ الأنڤليزية أمريكاني، مِيسْتَر...: كان لطيفًا معنا، كان يخالف القانون الداخلي ويُخرِجنا للراحة في التاسعة والعاشرة طبعًا. كان يستقبلنا في داره يوم الأحد لنتحدث بالأنڤليزية ويسبح معنا في بحر ﭬابس الجميل آنذاك. سلوك ودّي حبّبنا في أستاذنا ورغّبنا في المعرفة، حركةٌ لم يفعلها معنا أي أستاذ تونسي خلال دراستنا الثانوية.

2.     عام 68، سنة رابعة ثانوي علوم فلاحية (الأولى ثانوي اليوم)، المعهد الفلاحي ببوغرارة صفاقس، أستاذ الرياضيات، مِيسِيو شاسّاني: كان رقيقًا معنا، زارني مرة في دارنا بجمنة، أكل معنا وأخذَنا في فسحة بسيارته. زيارة وفسحة ودّيتان حبّبتاني في أستاذي، حركتان جميلتان لم يفعلهما معي أيضًا أي أستاذ تونسي خلال دراستي الثانوية.

3.     عام 69، سنة خامسة  ثانوي علوم فلاحية (الثانية ثانوي اليوم)، المعهد الفلاحي ببوغرارة صفاقس، أستاذ الفرنسية، مِيسِيو برڤاسّولي: خلال كامل السنة الدراسية لم يشرح لنا إلا ثلاثة أو أربع نصوص. كان مهرّجًا في القسم، يقفز فوق طاولاتنا، يرمي سيجارة في الهواء، يتلقفها بفمه ويطلب منّا تقليده. سلوكٌ لم نَعِ عيوبَه إلا اليوم.

4.     عام 69، المعهد الفلاحي ببوغرارة صفاقس، أستاذ الفيزياء، مِيسِيو بونّيه: كان محبِطًا لطموحاتنا، ينتقي أنجب التلامذة ويدرّسهم ساعات إضافية. كان عليه أن يفعل هذا مع التلامذة الذين تعترضهم صعوبات في فهم أولِ وأهمِّ علمٍ في التاريخ، أنا كنتُ واحدًا منهم.

5.     استثناء: عام 59، السنة الثانية ابتدائي، مدرسة الجامع الابتدائية (قاعتان فقط) جنب "العين الڤديمة" (عين طبيعية)، معلّم تونسي، سِيدِي...: كنتُ أنامُ في القسم لأسبابٍ نسيتُها، لا يوقِظني، وعندما أستيقظُ، لا ينهرني بل كان يقولُ لي: "بَرَّ اغسِلْ وجهكْ وليدِي في العين وارجعْ اقرأ". كم أحببتُه حينذاك، كان أحنَّ عليَّ من أبي، الله يرحم الاثنين.


21. بعض الذكريات الطريفة مع تلامذتي ؟

 

1.     عام 76، مع السنة الثانية ثانوي (الثامنة اليوم)، إعدادية غار الدماء: تلميذٌ أخذ عددًا ضعيفًا، قال لي: " اهْرَدْتْنِي في العدد ميسيو"، تعوذتُ من الشيطان، الكلمة قبيحة في جمنة.

2.     عام 77، مع السنة الثالثة ثانوي (التاسعة اليوم)، إعدادية غار الدماء، درّستهم علوم في السنة الثانية وفي الثالثة عوضتني زميلة: كنتُ بصدَدِ تقديم معوّضتي في هذا القسم، وظنًّا مني أنهم يعشقونني ككل أستاذ شاب (25 عام)، جئتُ لأخفّفُ عنهم وطأة فقدان الدرّة النادرة (أنا). أنهيتُ تقديم زميلتي الجديدةَ، وعند مغادرتي القاعة وقبل أن أغلق الباب، سمعتُ تلميذًا من تلامذتي السابقين يقول: "ارْتِحْنا من رَبَّكْ" (عذرًا أوجهه للقرّاء، نقلت العبارة دون أن أهذّبها حتى لا تفقد سطوتَها وقساوتَها). درسٌ قاسٍ، لن أنساه !

3.     عام 92، مع السنة السابعة، معهد بومهل في بدايته: تلميذٌ نحيفٌ وسيمٌ، التحق بالمعهد في الثلاثية الثانية، سألته عن السبب، قال: "رفتوني نهائيًّا من المعهد الذي كنتُ فيه". قلتُ: ما السبب ؟ قال وعيناه منكسرتَين: "صفعتني أستاذتي على وجهي، فقلت لها: كفْ من إيديكْ كِي العسلْ". تبسمتُ وربّتُّ على كتفيه بلطفٍ.

4.     عام 95، مع السنة الثالثة رياضيات، معهد برج السدرية، الحصة الأولى، حصة التعارف: تلميذٌ جدِّيٌّ، بادرني وقال: "أنا أكره العلوم وأستاذ العلوم". نزل عليّ وقتها "العْقَلْ"، لا أعرفُ من أين نزلْ (ليست عادتي)، وأجبته مبتسمًا: إن شاء الله معي أنا هذه السنة سوف تحب العلوم وأستاذ العلوم. وكان الأمر كذلك والحمد لله وللسنّ، وهو اليوم "باش مهندس أدْ الدنيا". بعد التخرّجِ، كان كلما لاقاني، بأدبٍ حيّاني.


22. شهادة على العصر: أستاذ تونسي متعاون في الجزائر (80-88) ؟

 

عام  1980، التحقتُ بــ"إعدادية زيروت يوسف" ولاية سكيكدة وكان عمري 28. وصلتُ القرية مساءً. لا يوجد بها نُزْلٌ. قضيتُ ليلتي في الحمام التركي بالقرية ونمتُ على حصيرة. توجهتُ باكرا إلى المدرسة الإعدادية وقابلتُ المدير. كان جزائريا بربريا (أي أمازيغيا أو قبائليا) يتكلمُ الفرنسية فقط في زمن تعريب التعليم الجزائري.

أسكَنوني مع أستاذ عراقي وآخر سوري. كان العراقي شيوعيا هاربا من صدام ومحكومًا عليه غيابيًّا بالإعدام ككل الشيوعيين العراقيين الفارين الممنوعين من العودة إلى وطنهم الأم.

قسّمنا الأدوار في المطبخ وبدأتُ أنا بمقرونة تونسية حارّة فقال لي العراقي: أنت يا "أبو جاسم" عيّنّاك منذ اليوم غاسلا للأواني ولا شأن لك بالطبخ وبقيتُ على تلك الحال كامل السنة. كان العراقي حاذقًا جدا في إعداد الأكل وفي تقديمه أيضا. كان يعزف العود ويدرّس الأنڤليزية. دَرَسَ التصوير الفني بألمانيا الشرقية ودرّسه لاحقًا بمدينة بسكرة بالجزائر. كان قارئا نهما لأمهات الكتب وقد تعلّمت منه الكثير وأوّل مرة في حياتي أشعر بعقدة نقص حضارية إزاء عربي مثلي. كان محروما من الدخول للعراق إثر صدور حكم إعدام غيابي ضد كل الشيوعيين العراقيين في المهجر وكان يذهب إلى سوريا ليقابل أمه القادمة من العراق. كنا في الدار أربعة عزاب, ثلاثة أساتذة  وعراقي صغير, أخو الكبير، وكان وسيمًا كـ"يوسف" وكان يدرس في الإعدادي في الجزائر.

ألبَسَ العراقيُّ نوافذنا ستائر فقلت له: أتحداك أن تجد ستائر في بيت أستاذ أعزب في تونس. كان يحكي لي عن مطاعم دجلة أيام الرئيس البكر وكيف كان يتعشى سمكا ويسكر "عرقا" بـنصف دينار عراقي. كان أبوه يحاكي المنجد ويتحدى أولاده في تفسير أي كلمة أنڤليزية تخطر على بالهم. آمنتُ أن العراقيين شعب متحضر وخاصة بعض الشيوعيين البغداديين منهم الذين عرفتهم ولن أنسى أن الحضارة العربية الفارسية الإسلامية في العراق أنجبت وربّت خيرة العلماء في الدين والدنيا.

أثناء تواجدي بالجزائر اتصلت بجامعة قسنطينة للتسجيل بقسم الفلسفة حتى أكمل تعليمي العالي. قال لي العميد: ليس لنا أماكن شاغرة في الفلسفة لكن تستطيع التسجيل في الطب على شرط أن تتخلي عن الإعارة أي التدريس. رفضتُ لأنني لا أملك مورد رزق غير التدريس ويا ليتني ما رفضتُ أو ربما أحسن ما فعلتُ لأن الطب يتطلب قلبا كاسحا وأنا قلبي رهيف وحساس. كان الطلبة التونسيون بالجزائر يهرّبون سراويل "دجين" وينفقون من فارق الثمن وفارق العملة في السوق الموازية.

جاءتني برقية عاجلة من فرنسا تعلن وفاة زوج أختي الكبيرة بباريس. ذهبتُ إلى مؤسستي البنكية في مدينة سكيكدة لأسحب مبلغا بالفرنك الفرنسي. قال لي الموظف: لا يوجد عندنا سوى البيزيتاس العملة الاسبانية أو الليرة الإيطالية. التجأتُ إلى حلاّل المشاكل زميلي الحاج الفلسطيني الذي كان يؤجّر سيارته وهو سائقها في الأفراح ويأخذ أولاده الخمسة يأكلون  مجانا في الولائم. اتصل بالموظف البنكي الجزائري وقال له: صديقنا بن علي, و كنت حينذاك أحمل لقب بن علي, ذاهب إلى فرنسا فماذا تريد أن يجلب لك كهدية, قال: "سروال دجين". حضرتْ الفرنكات فورًا وسافرتُ. اشتريتُ له "دجين" بـ80 فرنكا فرنسيًّا أي ما يساوي تقريبا 8 دنانير تونسية فأصبح بعد الإكرامية البسيطة يقوم من كرسيه ويستقبلني بالأحضان وأنا داخل للبنك، وكانت أول رشوة وآخر رشوة أدفعها في حياتي. كان بعض التونسيين يقضون حوائجهم ويرشون بعض الموظفين الجزائريين حتى بقطعة صابون تونسية نوع لوكس.

أسستُ في المدرسة الإعدادية بزيروت يوسف ولاية سكيكدة نادي قصة على منوال النادي الذي كنت أنشّطه في إعدادية غار الدماء بتونس. بعض زملائي الجزائريين الحزبيين الموالين من  حزب جبهة التحرير الجزائرية اتهموني ظلما بشتم الشعب الجزائري في هذا النادي الناجح فأبعدتني وزارة التربية الجزائرية في نقلة عقاب إلى مدينة جامعة ولاية وادي سوف بالصحراء الجزائرية.

أردتُ زيارة مكان عملي الجديد قبل الرجوع إلى تونس في العطلة الصيفية. ذهبتُ إلى مدينة قسنطينة لأستقل الحافلة إلى مدينة بسكرة حيث توجد الإدارة الجهوية للتعليم بالجنوب. وصلتُ إلى محطة الحافلات فوجدتُ صفا طويلا كالعادة أمام شباك التذاكر. أخذتُ مكاني في الآخر والناس يتدافعون دون سبب ظاهر. بعد ساعة من الانتظار المتحرك أصبحتُ الثاني في الصف. دفعني الثالث بضربة كَتِفٍ وأزاحني من أمامه وأخذ مكاني. لم أرد الفعل وعدتُ بكل برودة دم إلى آخر الصف حتى لا أهدر طاقة في غير موضعها. احتج عِوضي الجزائري الأول في الصف وحلف بأغلظ الأيمان أن يقتطع لي تذكرة قبل المعتدِي وهذا ما حدث فعلا. قال لي منقذي بابتسامة فيها إعجاب واستغراب: "أنتَ, إمّا غير جزائري وإمّا مثقف جدا". أجبتُه: " الصفة الأولى صحيحة وأما الثانية فأحاول الاقتراب منها كل ساعة بكل جهد وعزم مع العلم أنها مستحيلة المنال.

 

في السنة الثانية إعارة, سافرتُ عبر الحدود الجنوبية مرورا بتوزر ونفطة وحزوة. اجتزنا الديوانة التونسية بسلام وبعد كيلومترين وصلنا إلى الديوانة الجزائرية وكنت أظن أنهم سوف يستقبلونا بالورود والطبل والمزمار, ألسنا عربا أشقاء وأجوارا اشتركنا في مقاومة الاستعمار الفرنسي واختلطت دماؤنا في ساقية سيدي يوسف التونسية ؟ لا يوجد بيت راحة. ماء في صهريج تحت الشمس يذكرني بالصهريج الفارغ لتهريب الفلسطينيين في قصة غسان كنفاني "رجال تحت الشمس". صفّ طويل وانتظار تحت شمس الجنوب في شهر أوت دام أربع ساعات. موظفون يلعبون الورق ويحتسون المشروبات المثلجة ويقهقهون غير مبالين بالمواطنين، وهل نحن مواطنون في هذا الوطن ؟ نقلتُ المشهد لزميلي الأستاذ الفلسطيني الأستاذ المتعاون بمدينة جامعة, فقال معلقا: "المحتلون الإسرائيليون لا يعاملون الفلسطينيين المارين عبر المعابر مثلما يعاملكم جيرانكم، شرطة حدود الجزائر وديوانتها". كان الديوانيون الجزائريون يفتشوننا ويحجزون حتى جريدة الصباح خوفا وحماية للدولة الجزائرية "القوية" من الانهيار لو دخل عدد واحد من جريدة الصباح ولم يكن يخطر على بالهم قرب ظهور المهدي المنتظر وهو الـ"فايسبوك" الذي نقلنا حقا من الظلمات إلى النور ونصرنا على القوم الظالمين فأصبحنا بقدرته اليوم (2010) ندخل الجزائر صباحا مساء ويوم الأحد دون استشارة شرطي يحمل في جمجمته مخا وهو لا يحتاج أكثر من نخاع شوكي ينظم ذهابه إلى دورة المياه.

وصلتُ مدينة "جامعة" بالجزائر وللأمانة رحّبتْ بي السلط الحزبية المحلية ترحيبا جيدا. التحقتْ مباشرة للسكن مع أستاذين تونسيين قديمين في المنطقة. كان الحي مخصصا لرجال التعليم وكان السكن مجانيا للجزائريين والأجانب والماء أيضا مجانيا للجزائريين والأجانب والجولان مجانيا لسيارات الجزائريين وسيارات الأجانب, كنا لا ندفع المعلوم السنوي للجولان في الجزائر. هذا من بقايا اشتراكية بومدين ومكاسبها، اشتراكية أنتقدها في جوانب أخرى مثل غياب الديمقراطية وكَبْتِ الحريات كحرية الصحافة.

سبق وأن قلتُ أنني انتدِبتُ كمدرس علوم الحياة والأرض بالفرنسية لكن أصبحتُ أغيّر الاختصاص كما تغير الحرباء لونها. بدأتُ عملي في إعدادية مدينة جامعة كمدرس للعلوم التطبيقية الفلاحية. كنا أنا وُ تلامذتي نفلح الأرض ونزرع البطاطا والفول ونجني ثمارها لكن لا نأكلها. بعد عام بدأتُ أدرّسُ التكنولوجيا وكيفية استعمال سخان الحمام وغيره من الآلات, اعتمدتُ في تحضير دروسي على كتب رسمية تونسية في التقنية لغياب البرنامج والكتب الجزائرية في هذا الاختصاص. انقرضَ تعليم العلوم بالفرنسية في عامي الرابع من الإعارة فاقترح عليّ صديقي المدير تدريس اللغة الفرنسية في نفس الإعدادية فقبلتُ ووافقتْ الوزارة الجزائرية وتَجدد عقدي لمدة أربع سنوات أخرى بمجرد تزكية من المدير. المدير وما أدراك ما المدير, أصفه لكم بكل دقة وأمانة وهو داخل صباحا للإعدادية: كان بدينا لحد الإفراط, يرتدي قميصا خارجا من سرواله وينتعل في قدميه "شلاكة نيلون بنصف دينار تونسي" وفي يده "قرطاس فول مدمس" يأكل البذرة ويلفظ القشرة على الأرض مباشرة بقوة دفع رهيبة. لا تغرّكم المظاهر ولا تحكموا بسرعة على البشر فهذا المدير طيب جدا ومتكون جدا, دون مبالغة,  فقد كان قادرا وعن جدارة وتفوق أن يعوض أي أستاذ يتغيب وفي أي اختصاص ويؤدي المهمة أحسن من الأستاذ المتغيب نفسه.

تعلمتُ السياقة في الجزائر وحصلتُ على رخصة في الوزن الخفيف والثقيل وعلّمتُ قانون الطرقات مجانا وبمنزلي للكثيرين من الجزائريين الأمّيين.

في عامي الثاني بمدينة جامعة، اشتريتُ بالحاضر, سيارة مستعملة وثلاجة وموقد طبخ حديث وتلفازا بالألوان وسريرًا كبيرًا وغسالة أوتوماتيكية. أثناء عطلة الشتاء، تزوجتُ بتونس من الجميلة والرقيقة سهام بالرحال. وفّرتْ لي المدرسة الجزائرية فيلاّ للسكن تابعة للمؤسسة دون كراء ولا فاتورة ضوء ولا فاتورة ماء، وكما يقول المثل التونسي " اغسل ساقيك وادخل" وفي جانفي 1983 دخلتُ أنا وزوجتي في شهر عسل شتوي ثابت ومتواضع لكنه دافئٌ.

كنتُ مقاطعا الجلوس في المقاهي، أسهرُ مع زملائي الجزائريين والفلسطينيين في ساحة الحي الشبه مجاني السكن ومجاني الماء (كان نصف الحي مجاني السكن ونصفه الآخر شبه مجاني لأن كراء فيلاّ كان بـ200 دينار جزائري (أي 20 ألف مليم جزائري، الدينار الجزائري هو بمثابة  100 مليم عندنا في تونس), يقابلها في السوق السوداء ة 4 دنانير تونسية (أي 4 آلاف مليم تونسي). كنا نفترش الرمل الصحراوي الناعم النظيف الدافئ ونتجاذب أطراف الحديث والنقاش دون تمييز في الجنسية لقرب لهجتي من لهجتهم الجنوبية. كانوا يعشقون رئيسهم السابق الهواري بومدين ولا يقبلون النقد فيه. لا يحبون رئيسهم الشاذلي بن جديد وكنتُ أنا على العكس, لا أوافق  بومدين في ديكتاتوريته ولا في طريقة تطبيق اشتراكيته رغم إيماني الراسخ بوجاهة بعض ما جاءت به النظرية الاشتراكية لو نزعنا منها الديكتاتورية وعوضناها بالديمقراطية-الاشتراكية والتغيير المتدرج في المفاهيم والتصورات. أحترم بن جديد لشعره الأبيض ولبساطته ولتوفُّرِ مستلزمات الحياة في عهده. كان عهدا ذهبيا بالمعنى النفعي للكلمة, في عهده، تمتع الجزائريون بالأمن والعيش الكريم بعد ما قُمِعوا في العهد الذي سبقه وقُتِلوا في العهد الذي لحقه.

على ضوء القمر وكاس الشاي الأخضر الخفيف و"الحمص المعاود" التونسي الذي يعشقه زملائي الجزائريون, كنا قرابة عشرين أستاذا نناقش خبر تأسيس المغرب العربي خلال اجتماع الرؤساء المغاربة الأربعة في المغرب الأقصى في الثمانينات. كان كل زملائي متفائلين ومُصدّقين الوعود وكنتُ أقول لهم: لا تصدّقوا الأقوال قبل أن تروا الأفعال، فالسوق الأوروبية المشتركة نشأتْ على المستوى الاقتصادي والثقافي قبل أن تنتقل إلى المستوى السياسي أما نحن فبدأنا من القمة وبحول الله ستنكسر رقابنا وسنتدحرج من الأعلى إلى أسفل السافلين. وها قد مرّ اليوم على التأسيس والحفل الضخم قرابة ربع قرن ولم يتحقق لا مغرب عربي كبير ولا صغير بل اشتعلت الحرب الأهلية في الجزائر وحصدت مائتي ألف جزائري بأيادٍ جزائرية وطنية خالصة مائة في المائة.

كان زميلي الفلسطيني الأستاذ المتعاون بالجزائر المذكور أعلاه وهو من سكان غزة يتدخل في النقاش أحيانا وبحرقة شديدة تستشفها من نبرة صوته وبدأ يقارن بين عهد "الاحتلال" المصري المباشر لغزة قبل 67 وعهد الاحتلال الإسرائيلي المباشر بعد هزيمة 67.

قبل 67, كانت الفوضى تعم القطاع تحت الحماية المصرية وكان الفدائيون الفلسطينيون, أبطالا في نظر العرب وقطّاع طرق في نظر الغزّاويين, كانوا يَقُظّون مضاجعنا نحن المدنيين الأبرياء العزّل ويفرضون علينا سيطرتهم بقوة السلاح الذي يحملونه، صوّبوه ضدنا ولم يصوّبوه ضد العدو.

قبل 67, لم يكن الأمن مستتبا في القطاع ولا في الضفة والقدس الشرقية.

بعد 67, جاءت إسرائيل بجيشها وجبروتها ففرضت القانون والأمن ودخل المجاهدون المزيفون جحورهم وأصبح العمال الفلسطينيون يتوافدون على فلسطين 48 بمئات الآلاف يكسبون لقمة عيشهم من عرق جبينهم في بناء المستوطنات وزراعة الأراضي الفلاحية لصالح اليهود الصهاينة المحتلين القادمين من بولونيا وروسيا وأمريكا والمهجّرين من الدول العربية التي جبنت أمام جيش الهجوم الإسرائيلي واستأسدت ضد رعاياها اليهود الأبرياء العزّل وأجبرتهم بالقوة على مغادرة أوطانهم العربية وحولتهم من يهود عرب مسالمين في أغلبيتهم إلى صهاينة معادين لنا نحن الفلسطينيين فقط (حوالي 900 ألف يهودي عربي)، ثم يضيف زميلي الفلسطيني معتذرا عن جلد الذات الفلسطينية العربية: لا تأخذوا كلامي هذا على أنه تجميل للوجه القبيح للاحتلال الإسرائيلي بل هو تقبيح للوجه المجمّل لـ"الاحتلال المصري" للقطاع و"الاحتلال الأردني" للضفة قبل 67. الإحتلال الإسرائيلي هو تمييز عنصري واضح بين اليهودي والعربي أما "الاحتلال العربي" فهو تمييز متخفٍّ أشد عنصرية لأنه يميز بين عربي وعربي وبين مسلم ومسلم، لم يميز الله بينهما إلا بالتقوى. بعد أن أتم زميلي الفلسطيني سرد شهادته على العصر, عصر الانحطاط العربي, ألقيتُ عليه السؤال التالي: لماذا لم تطالبوا قبل  67 بالاستقلال التام والتخلص من "الاحتلال المصري" لغزة و"الاحتلال الأردني" للضفة والقدس الشرقية وتبنُوا دولتكم المضيّقة وعاصمتها القدس الشرقية قبل أن تحتلها إسرائيل في 67 ؟ نسيتُ أو تناسيت جوابه حتى لا أجرح شعوركم أكثر مما هو مجروح.

معاهد مدينة "جامعة" جمعت أساتذة متعاونين من 8 جنسيات مختلفة: 5 مصريين و3 فرنسيين وايرلنديا وباكستانيا وفلسطينيَين وسوريًّا و7 تونسيين وعراقيًّا. استدعتنا مرة مديرية الأمن بولاية وادي سوف في يوم واحد لأمر يهمنا دون ذكر السبب بالتفصيل فتغيبنا كلنا والتحقنا بدار الأمن على بُعد مائة كيلومتر من مدينتنا, وصلنا الثامنة صباحا, دخلنا, سألونا: هل غيرتم محل إقامتكم ؟ أجبنا جميعا بلا. قالوا لنا شكرا ومع السلامة. ضاع يوم دراسة على التلامذة الجزائريين بسبب غباء ضابط أمن جزائري كان أجدر به أن يطلب المعلومة هاتفيا.

كانت الجالية التونسية, أكبر جالية أجنبية في مدينة جامعة,  تتكون من ست عائلات, أربعة أساتذة وبائع فطائر مقلية وسائق شاحنة. كنت الوحيد الذي يملك سيارة (R14). كان زملائي الثلاثة يستلفونها لقضاء حوائجهم ولم أكن أمانع. اقترحوا عليّ تحويلها إلى ملكية مشتركة فقبلتُ فورا. قدّرنا ثمنها بمليون مليم تونسي وكل واحد ساهم بربع مليون. بقيتْ البطاقة الرمادية باسمي. حرّرنا شفويا في شأنها كراس الشروط التالية: إصلاح العطب مشترك أيا كان المتسبب فيه ومهما كان مكان وقوعه، في تونس أو في الجزائر. ثمن البنزين مشترك في حدود شعاع 50 كلم من مدينة جامعة ولو تباعدت المسافة يتحمل السائق مقابل الوقود الزائد المستهلك. تبيتُ السيارة أمام منزلي أنا مهما كان توقيت رجوع المسافر وتنطلق من أمامه مهما كانت ساعة الانطلاق. إذا رغب أحدنا في فض الشركة, يسترجعُ مبلغ مائة دينار تونسي بعد بيع السيارة في التوقيت الذي يحدده الباقون. تدرّبَ عليها لنيل رخصة السياقة أربعة تونسيون, زوجتي  وزميلي وزوجته، وزميلتنا، حتى تقطعت أوصالها وهرمتْ. حسدَنا المصريون على اشتراكيتنا وتفاهمنا وقد كانت تجربة فريدة في التاريخ ولو حدث ونسج على منوالنا الكثير من الموظفين في العاصمة التونسية القادمين إلى العمل من الأحواز  لوفرنا الكثير من الطاقة وحمينا بيئة عاصمتنا من التلوث وطبقنا التنمية المستدامة. يذهبُ الموظف التونسي الفقير في بلد العالم الثالث إلى عمله البيروقراطي غير المنتج في أغلب الأحيان وهو راكبٌ عربة تجرّها 4 أحصنة ( voiture populaire de 4 chevaux ) وهو في الواقع حصان واحد خسارة فيه. لماذا لا يتفق 4 أو 5 موظفين جيران, مثلا من حمام الشط، ويشتغلون في العاصمة بالتوقيت الإداري, على  استغلال سيارة أحدهم  أسبوع "أ" وسيارة آخر أسبوع "ب" فيربحون راحتهم ويوفرون ثمن البنزين ويتجاذبون أطراف الحديث في الطريق حول الكرة والمسلسل التركي وتنازلات عباس وعنتريات أردوڤان الفارغة ووعود أوباما بتحرير فلسطين والمقاومة الافتراضية التي يقوم بها يوميا حزب الله وحماس والجبهة الشعبية أو يناقشون وضع العمال المصريين  المسجونين في السعودية الذين بلغ عددهم تقريبا  12 ألف وهو عدد يساوي أو يفوق حسب بعض الإحصائيات عدد السجناء الفلسطينيين في إسرائيل ويجيبون على نكستي وهزيمتي وحيرتي وسؤالي: هل نحرّر السجناء المصريين في السعودية أولا أم الفلسطينيين في إسرائيل أولا ؟ وهل نلجأ في تحريرهم إلى الجامعة العربية أو إلى مجلس الأمن أو إلى المؤتمر الإسلامي أو إلى المقاومة الافتراضية لحزب الله وحماس ؟

اصطحبتُ زوجتي إلى الجزائر، بعد عامٍ وَلَدَتْ فيها بنتا مثل القمر, سمّيتها عبير من عبير الجنة. دخلتْ زوجتي المستشفى في مدينة جامعة ولم يطلبوها في دفتر العلاج ولا جواز سفر ولا حتى بطاقة تعريف. سألوها عن اسمها فقط. وَلّدَها في ظروف طيبة طبيبٌ مصري متعاون وكفء. لم أدفع مليما واحدا في الدخول ولا في الخروج وهذه تُعَدُّ من مكاسب الاشتراكية التي أتمسك بها وتخلت عنها مع الأسف المر والشديد الدولة الجزائرية واتبعت نصائح صندوق الدولي (FMI) مثلها مثل كل أخواتها التابعات المطيعات المهذبات في تعاملهم مع صندوق النهب الدولي والمخربشات النمرات القامعات النافيات لكل الحريات والكامتات لكل الأصوات والمانعات لكل التجمعات والمحبِطات لكل أملٍ قد ينبثقُ من الشعب العربي الكريم، كريم في سخائه وعطائه وتمسكنه واستقالته وتسليمه السلطة لمدة 14 قرن لأسياده واحتفاظه بالألقاب الرنانة الفارغة كالشعب العظيم  والشعب الكريم ونموت نموت ويحيا الوطن. إذا مات المواطن فبمن ولمن سيحيا الوطن يا ترى ؟

تمت دعوتي مرة إلى مديرية الأمن ببسكرة  لاستخراج بطاقة الرعايا الأجانب لزوجتي الوافدة الجديدة وكنتُ قد احتطتُ للمناسبة، حملتُ معي كل الأوراق اللازمة، قدمتُها للموظف فتمعّن فيها جيدا   ثم قال لي: ملفك تنقصه ورقة مهمة. قلتُ: ما هي ؟ قال: شهادة معرّفة الإمضاء تشهد فيها أنك تُطعم وتُسكّن زوجتك معك. قلت متعجّبا: وهل يُعقل أن تأكل زوجتي وتبيت عند الجيران ؟ أجابني بغلظة وحزم: نحن نطبق القانون.

كتبتُ الشهادة الغريبة على ورقة بيضاء، ذهبتُ إلى البلدية طالبا التعريف بالإمضاء فضحكوا عليّ, لكن ختموا عليها بسبعة أختام، حملتُها إلى المركز ورجعت بزوجتي أطعمها وأسكّنها بشهادة ضابط أمن جزائري ثانٍ أغبى من الأول المذكور سابقًا.

كان أهل مدينة "جامعة" كرماء معنا وأذكرُ منهم خاصة مدير الدائرة الحزبية الذي كان يدعونا لوجه الله كل أسبوع إلى وليمة عربية فاخرة في منزله دون أن ينتظر منا جزاء أو شكورا. بعد عودتي بسنوات سمعتُ أنه أصبح نائبا في مجلس النواب وبلغني أيضًا أن  مصباحا كهربائيا انفجر في وجهه صدفة في بهو المجلس ففقد بصره ومات بعد سنة تقريبا. رحمة الله عليه وجازاه الله خيرا على كرمه الحاتمي الجزائري ويا ليت مسؤولينا يفعلون مثله مع ضيوفنا الأساتذة الأجانب.

كنتُ بين جيراني الأساتذة السوافَى (نسبة إلى وادي سوف) كالسمكة في الماء وصدّقتُ بالفعل أننا شعبٌ واحدٌ, أعني السوافى والنفزاوات (نسبة إلى نفزاوة ولاية ڤبلي). لهجتنا واحدة وتقاليدنا مشتركة وتمورنا متشابهة كلون بشرتنا.

كان زمن بن جديد زمن الوفرة والأمن و الأمان. كنا نشتري السكر بالكيس وبسكويت الڤوفرات بالكرتون. كانت البقول رخيصة والخضر والفواكه متوفرة في السوق والسمك المثلج المستورد معروضا بأثمان بخسة في المغازة الكبرى (Les galeries). أما "الموز بالصندوق" فلم أره ولم أشتره إلا مرة واحدة في الثماني سنوات التي قضيتها في الجزائر وكانت "شبعة موز" فريدة من نوعها. وزّعوه علينا في المدرسة حسب الاختصاص وما دمت من العلوم وهي أقرب للموز من الرياضيات فقد كانت حصتي أكبر حصة. الحمد لله, اليوم 2010, أشتري 5 موزات كل أسبوع على عدد أفراد العائلة وموزة واحدة في الأسبوع خير من تخمة واحدة في ثماني سنوات.

مدينة المرّارة مدينة صغيرة تقع قرب مدينة جامعة, تنازع أهلها مرة حول تقسيم الأراضي بين العروش والقبائل ولم يكن لدى البلدية ولا الولاية ولا الرئاسة أي مثال هندسي ينظم عملية التقسيم. فكّر المجلس البلدي المحلي في حل النزاع ودون المرور بالتسلسل الإداري الجزائري, راسل مباشرة الدولة الفرنسية, المستعمر القديم, طالبا مثالا هندسيا يحدد ملكية كل قبيلة وحدودها. أمدّته السلط الفرنسية مشكورة بخريطة مفصلة لكل الأراضي ببلدية المرّارة. أصدر الوالي الجزائري قرارا بحل المجلس البلدي بالمرارة عقابا له على الاستقواء والاستنجاد بالأجنبي لحل نزاع وطني.

نصّبوا مجلسا بلديا جديدا بالمرّارة وجاء الرئيس بن جديد لزيارة المرّارة لتأكيد حضور الدولة الجزائرية. اعترضتْ المجلس البلدي الجديد معضلة جديدة, ألا وهي وجود آليات ضخمة وعالية على جنب الطريق الذي سيمر منه ركب الرئيس المفدّى وهي بقايا مهملة لمشروع فاشل للتنقيب على المياه، تتطلب إزالتها ميزانية ضخمة قد ترهق المجلس الفتي لكن احتمال إمكانية مشاهدتها من قِبل الرئيس عند مروره قد تعرِّض المجلس البلدي الجديد إلى مساءلة قانونية. فكّر المجلس الموقر مليا في حل وطني ولم يلجأ هذه المرة إلى المستعمر الفرنسي بل استنبط حلا وطنيا خالصا يتمثل في ردم كل الآليات التي يُقدَّرُ ثمنها بالملايين، أهالوا عليها الرمال حتى لا يراها الرئيس، مَرّ الرئيس بسلام ودُفِنت أموال الشعب تحت التراب و ما زالت إلى الآن رائحة البيروقراطية النتنة تنبعث من مقبرة المشاريع الكبرى وتزكم الأنوف.

يوم 16 جوان 1988, ولد ابني الثاني في مدينة "جامعة" في المستشفى في ظروف طبية طيبة ومجانية مثل ولادة ابنتي الأولى عبير. ذهبتُ إلى مقر البلدية لتسجيله وقد اخترنا له, أنا وأمه, اسم "نادر". سألني الكاتب عن الاسم فقلت "نادر". أجابني: هذا الاسم ليس موجودا في كتاب الأسماء وهو اسمٌ غير عربي، لذلك لن  نقبل تسجيله بهذا الاسم، ومن الأفضل لك، وبسرعة، اختيار اسم آخر. لم أصدّق ما سمعتُ، دفع تجاهي  كتاب الأسماء. قرأته، تفحصته فلم أجد "نادر" ولكنني وجدتُ فيه أسماء عربية وأخرى تركية أو فارسية مثل "بهجة" و"شوكة" و"دنيا زاد" و"شهرزاد". حاولتُ إقناعه بأنني لستُ جزائريا ومن حقي اختيار الاسم حسب القانون التونسي وليس حسب كتابكم غير المنزّل. أجابني بلغة البيروقراطي الذي ليس له أدنى استعداد للتفاهم: أنتَ لستَ أجنبيا, أنت عربي. قلت له مستغربا: كيف لا نجد في كتابكم  اسم "نادر" وهي كلمة عربية مشتقة من فعل نَدَرَ ونقول ندر الشيء أيّ قل وجوده. ردّ عليّ مغتاظا: أتريد أن تسجل ابنك أو تتركه في المستشفى دون اسم ؟ لعنتُ الشيطان الرجيم ونظرتُ من النافذة الشفافة وكان المطر ينزل في الصيف فأوحى الطقس إلى ذهني اسم "غيث" فقال لي: موجود في الكتاب. خرجتُ فرحا بابني, نادرا كان أم غيثا وبعد أربعة عشر سنة قدم ابني الثالث وكنت في تونس فأسميته "نادر" وثأرت لنفسي من العبد المأمور كاتب البلدية الجزائري المغمور.

 

عند نهاية عقدي في 1988، ذهبتُ إلى فرنسا واشتريتُ سيارة مستعملة. رجعتُ إلى مدينة جامعة بالجزائر، جمعتُ أمتعتي ثم غادرتُ الجزائر نهائيا متأسّفا على العشرة الطيبة والأخلاق الكريمة لأهل الجنوب الجزائري. وفي صباح يوم 15 جويلية 1988 انطلقتُ عائدا إلى تونس بسيارتين, المشتركة و"الجديدة". تعطلتُ كثيرا في ديوانة الجزائر لتَعقدِ الإجراءات البيروقراطية. وصلتُ إلى الديوانة التونسية حوالي العاشرة ليلا. قالوا لي: لن تدخل تونس اليوم لأن التصريحَ بِجلبِ سيارتين يتطلب موافقة رئيس المركز وهو غير متواجِد الآن في العمل ولتسوية وضعيتك عليك انتظاره حتى صباح الغد. قلتُ: وإذا أدخلتُ سيارةً واحدةً فقط ؟ قالوا: في هذه الحالة نصرّح لك بالدخول فورًا. مهما رويتُ لكم لن تصدقوا حرق الأعصاب والمعاناة الرهيبة والمعاملة السيئة والإهانات غير المباشرة والتجاهل والاحتقار الذي نتعرضُ له في الحدود من قِبل الشرطة والديوانة الجزائرية, والله الإسرائيليون أرحم منهم حتى ولو لم أجرّبهم، مع العلم أنني سمعتُ عنهم من زميلي الفلسطيني أصيل غزة. أما الشرطة والديوانة التونسية فأقل حِدة وألطف معاملة، يوجدُ المركز الحدودي بمدينة حزوة حيث تتوفّرُ كل المرافق الضرورية. سلّمتُ مفاتيحَ سيارتي المستهلكة وأوراقَها إلى الديواني التونسي وقلتُ له بالحرف الواحد: "إذا رجعتُ إليك أو رأيتَ وجهي بعد اليوم فافعل بي ما شئتَ". وهذا ما وقع فعلا وبعد شهور من عودتي واستقراري بحمام الشط بتونس, هاتفني صديقي وزميلي في الجزائر سابقا والمستقر حينها بتوزر، وهو شريكي في السيارة الاشتراكية طالبا توكيلا في السيارة حتى ينتزعها من أعوان الديوانة  الذين أصبحوا يستعملونها دون وجه حق، وهي تُعتبر ملكا خاصا محجوزًا. أرسلتُ له ما طلب فأخذها من الديوانة وباعها إلى عم محمد التونسي بائع ألفطائر بمدينة جامعة بالجزائر ولم يقبض ثمنها حتى اليوم بعد 22 سنة. أرجوكم, لا تشكّوا لحظة في ذمّة عم محمد فهو أشرفُ من الشرف والغائب حجتُه معه ويكفينا ثمنًا, الفطائر والولائم التي أكلناها في حانوته ومنزله. ثمن السيارة 400 ألف جزائرية (أي 4000 دينار جزائري)، يقابلُها في السوق السوداء الجزائرية في ذلك الوقت 100 دينار تونسي (أي 100 ألف تونسية).

عندما أعودُ في عطلة الصيف إلى مسقط رأسي قرية "جمنة" بالجنوب الغربي التونسي, كان يصلني راتبي 700 دينار تونسي في الشهر في الثمانينيات وكنتُ أقولُ مستمتعًا وساخرًا: "هل جُنّت الدولة الجزائرية حتى تمنحني راتبا أكثر من راتب عضو في مجلس النواب التونسي حينذاك وأنا أحتسي الشاي الأحمر فوق كثبان الرمال الصحراوية".

قضيتُ في الجزائر ثماني سنوات وفّرتُ فيهم مالا، أقمتُ بواسطته منزلا متواضعا بحمام الشط حيثُ أقطنُ منذ عشرين سنة (1990-2010).

عشتُ بين إخوتي الجزائريين الجنوبيين كل هذه المدة معزّزًا مدللاً مكرّمًا مُهابًا، أعطيتُهم من جهدي كل ما أستطيع، مثّلت بلدي أحسن من السفراء، وما زالتُ إلى الآن تربطُني ببعضهم علاقات تَزاورٍ ووِدٍّ واحترامٍ متبادَلٍ، والسلام على مَن قرأني وصَبَرَ عليَّ إلى الآخِرِ.

 

 


23. في بابْ الهَزَلْ، لا أكْثَرْ ولا أقَلْ: بعضُ النوادر التي تُروَى، داخل الجزائر نفسها، عن "ذكاء الشادلي بن جديد"، الرئيس السابق للجزائر الشقيقة (1980-1988). مواطن العالَم

 

مقدمة أخلاقية: عملتُ في عهده في الجزائر كأستاذ متعاون لمدة ثمان سنوات ودرّستُ العلوم الطبيعية بالفرنسية والعربية، العلوم الفلاحية، التقنية وأنهيتُ عقدي أستاذًا للغة الفرنسية. لم أر من سكان مدينة جامعة، ولاية واد سوف، إلا الكرم والأمان والثقة والرجولية والصدق والاحترام والتبجيل.

 

أروي ما سمعته عنه في الجزائر، وهذا لم ولن يقلّل من احترامي لشخصه ولكل الشعب الجزائري، شعبٌ "لحم أكتافي من خِيرُو":

1.     قال في خطابٍ: الدولةُ التي ليس لها مشاكلَ ليست دولةً، ونحن في الجزائر ليس لنا مشاكل والحمد لله !

2.     وفي خطابٍ آخرَ قال: وجدتُ البلاد على شَفا حفرةٍ، واليوم خطونا خطوةً إلى الأمام (علق الجزائريون: جِينا في ڤَلْبو).

3.     كان كاتبه الشخصي يدخل عليه كل صباح وفي يده مذكّرةٌ لإمضائها، ويخاطبه بالفرنسية قائلاً: Une circulaire à signer Mr le président. سكت بن جديد، تحمّل "غباء كاتبه" لسنوات، طفق الكيل وفي يومٍ من الأيام صاح في وجهه قائلاً: تقولون عني أنني رئيسٌ غبيٌّ، لكن لن تنجحوا أبدًا في إقناعي بأن Un écrit rectangulaire أصبح عندكم  Circulaire.

4.     بن جديد يجتاز امتحان سنة أولى في مادة الحساب، وعده مستشاروه بالمساعدة خفيةً لو صَعُبَ عليه الامتحان: السؤال: كم يساوي 5 + 5 ؟ كتب 1 ثم وضع القلم مستنجدًا بمساعديه فأشاروا عليه بإضافةٍ صِفرٍ. خرج ولم يضِفْ شيئًا. سألوه: سيدي الرئيس، ألم تفهم إشارتنا. لا، فهمتها إنها تعني الصفر. لماذا لم تكتبه إذن ؟ احْتَرْتُ، أأضعه أمام الـ1 أو بعده؟

5.     استقبل بن جديد مرة رئيس فرنسا ميترّان الذي كان يستعمل كثيرًا كلمة Logique، فدار بينهما الحوار التالي:

بن جديد: ما معنى كلمة  Logique سيدي الرئيس ؟

ميترّان: عندكم بحر؟

بن جديد: نعم. 

ميترّان: فيه حوت ؟

بن جديد: طبعًا.

ميترّان: C`est logique.

بَرَّ يا زمان، تعالَى يا زمان: ذهب بن جديد لزيارة بلد وسط إفريقيا وفي كل خطاباته أصبح يحشر كلمة Logique.

الرئيس الإفريقي: ما معنى كلمة Logique سيدي الرئيس ؟

بن جديد: عندكم بحر ؟

الرئيس الإفريقي: لا.

بن جديد: ليس عندكم بحر، فلا علاقة لكم إذن بالــlogique.


24. حكايتي مع وزير التربية منصر الرويسي ؟

 

الله يسامح الدولة التونسية التي حولتني من باحث علم في تعلمية البيولوجيا (La didactique de la biologie) إلى "حكواتي حواديث". أغدقت عليّ الدولة مشكورة من أموال الشعب 12 عاما تعليم عالي: 5 للإجازة و 2 للماجستير و 5 للدكتورا. جلبت لنا الأساتذة المشهورين من فرنسا ومكّنتني من السفر إلى ليون تقريبا عشر مرات بغرض التكوين العلمي في أحسن الجامعات الفرنسية, جامعة كلود برنار بليون 1. مع العلم أنه يكفي ثلث هذه المدة لتأدية وظيفتي الحالية كأستاذ تعليم ثانوي. لم ينتدبوني في الجامعة لتدريس اختصاصي في التعلمية الذي أضعت من أجله 7 سنوات بحث وتمحيص والأغرب أنني أرى متفقدي الثانوي يدرّسون التعلمية في المعاهد العليا دون أن يقضوا ولو شهرا واحدا في التكوين الأكاديمي في هذا الاختصاص والأدهى والأمرّ أنه يوجد بالجامعة التونسية قرابة عشرة آلاف من الأساتذة لا يحملون شهادة الدكتورا التي أفنيت عمري للحصول عليها. سأحاول القيام بدوري الجديد على قدر المستطاع وسأروي لكم حكايتي مع وزير التربية التونسي السابق.


عام 1998 وفي بداية المرحلة الثالثة من التعليم العالي درَست نظرية [ما بعد أو ما فوق الوراثي المخي ] (
Épigenèse cérébrale), هذه النظرية التي تقول بتفاعل الموروث والمكتسب داخل خلايا المخ البشري. الذكاء ينبثق من هذا التفاعل المستمر, فالذكاء إذن هو 100 % موروث بيولوجي و 100 % مكتسب حضاري. لا نستطيع الفصل ولا القسمة بينهما لشدة تشابك عديد المتغيرات. لا يولد الإنسان ذكيا أو غبيا (إلا في بعض الحالات المرضية) لكن قد يصبح الإنسان ذكيا إذا توفر له المحيط المناسب وإذا كد واجتهد وقد يبقى عاديا إذا لم يتوفر له المحيط المناسب. تعلّقت بهذه النظرية التي تعارض تأليه الجينات أو المورّثات وتنسب لهم عن خطأ متعمد كل القدرات الذهنية البشرية من ذكاء وموهبة وفن وتفوّق وغيرها. لا تدرّس هذه النظرية في تونس في الثانوي ولا في الجامعة وقد بدأ تعليمها في فرنسا سنة 2001 في السنة ثالثة ثانوي, عام قبل الباكلوريا.


ذهبت إلى مقر وزارة التربية التونسية واتصلت بمكتب الضبط وطلبت مقابلة الوزير. طلب منّي الكاتب تعمير استمارة فيها الاسم واللقب وعدد بطاقة التعريف وسبب المقابلة. كتبت في خانة السبب ما يلي: سيدي الوزير أطلب مقابلتك شخصيا حتى أحاول إقناعك بإدراج نظرية "ما بعد أو ما فوق الوراثي المخي" في برنامج علوم الحياة والأرض في السنة الثالثة ثانوي, عام قبل الباكلوريا.

 

بقيت أنتظر ما يقارب شهرين حتى رن جرس هاتفي القار بمنزلي بحمام الشط على الساعة الثانية عشرة, رفعت السماعة فقالت لي كاتبة الوزير: "أنت محمد كشكار", قلت: "نعم", قالت: "السيد الوزير ينتظرك في مكتبه حتى الساعة الثانية بعد الزوال". ركبت سيارتي فورا وبعد نصف ساعة كنت عند باب الوزير فوجدته مفتوحا على مصراعيه. طرقت الباب ودخلت وقبل أن أسلّم عليه قلت له: "قال فيك صديقَاي وطلبتُك سابقا, أستاذ التربية المدنية مراد جرادي وأستاذ العربية رضا بركاتي, رئيس فرع الرابطة التونسية لحقوق الإنسان بالزهراء ورادس وحمام الأنف, أنك يساري ومثقف جدا وقد كانت قاعة محاضراتك في الجامعة تغصّ بطلبتك وغير طلبتك. أما أنا فعِلمِيُّ التكوين, يساريُّ الأهداف, ديمقراطي الوسيلة, علماني الهوى ونقابي قاعدي لا أصدّق كل المحترفين والمحترفات في النقابة أو الدين أو السياسة أو الرياضة أو الغناء أو حتى في حقوق الإنسان ولا أصدّق أيضًا كل الخبراء المقاولين والمحللين السياسيين نجوم الفضائيات العربية لكنني أحترم ابنتي المحجبة (أتمنى فقط أن لا تتنقب) وأخوتي وأخواتي وأبناء أخواتي وبنات أخواتي وأصحابي وأقاربي وقريباتي المتدينين والمتدينات والمحجبات منهن وغير المحجبات حتى لو اختلفتُ معهم أو معهن حول موقف العلمانية [بفتح العين] من الدين عموما". قال لي الوزير: "ظننتك كندي" (Canadien). لا أعرف لماذا حشرني في زمرة الكنديين, المتعلمين المدنيين المتحضرين واللطفاء الكرماء الطيبين وأنا في الأصل من الكنعانيين لا أحمل أي صفة من صفات  الكنديين ولا أشبهم إلا في عدد الكروموزومات الـ46. دخلتُ وجلستُ قبالته وهو يدخّن "المارس ليجير" ثم بدأتُ الحديث: "سيدي الوزير هل تعرف نظرية "ما بعد أو ما فوق الوراثي المخي" ؟ قال بكل تواضع العالِم وصراحته: "لا". قلتُ له: "سأشرحها لك" وتوسّعت في الشرح وقدّمت له نسخة من البرنامج الرسمي الفرنسي الذي ينصّ على تدريس هذه النظرية في الثانوي وطلبت منه ما جئتُ من أجله وهو إدراج هذه النظرية في برنامج العلوم. أخذ مني الوثائق بكل لطف وانبهار وقال لي: "أول مرّة يأتيني نقابي بمثل هذا الطلب العلمي المجرّد من كل أغراض مادية في الزيادة في الشهرية". حين لمست تجاوبه وإعجابه بطرحي وفكري تماديت وأطلقت العنان لجنوني وهمومي البيداغوجية والتعلّمية وبدأت أحدّثه في مواضيع لا علاقة لها بغرض الزيارة لا من بعيد ولا من قريب. حكيت له عن آخر تكوين في الإعلامية وعلوم الحاسوب تلقيته في مدينة نانسي بفرنسا ووصفت له قاعات الدرس في فرنسا المجهّزة بالحواسيب لتدريس العلوم. نقلت له تطبيق "بيداغوجيا المشروع" في فرنسا على تلامذة الثالثة ثانوي وكيف رأيتهم بأم عيني يعرضون مشروعهم المتمثل في "دراسة تأثير الأمطار الحامضة على النباتات" ويدافعون عنه حتى خِلتهم طلبة المرحلة الثالثة عندنا يعرضون أطروحاتهم أمام لجنة الامتحان. عرضت عليه أيضا ودون مقدمات وجهة نظري في عملية الغش في الامتحانات وقلت له أن للغش حلولٌ علمية ونحن نطبق الحلول التأديبية فقط وأضفت: "سأتجرأ سيدي الوزير وأقول رأيي في الموضوع بصراحة". أجابني باحترام وفضول: "قل". قلت له: " سيدي الوزير, لو ضبطنا تلميذا يغش في الامتحان فأنت أوّل مَن يجب أن يَمثُلَ أمام مجلس التربية في المعهد لأنك أنت المسؤول الأول عن الأسباب التي دفعت التلميذ إلى الغش ومن بينها اكتظاظ الأقسام  كثافة البرنامج  طوله وعدم تسليح المدرس بالعلوم الضرورية لأداء مهمته مثل الابستومولوجيا وعلم التقييم وعلم نفس الطفل وتاريخ العلوم والبيداغوجيا والتعلمية". ابتسم وقال لي: "هذا رأيي, أردّده دائما". بقيت ساعتين تقريبا وأنا أهذي بكل ما يخطر على بالي من نظريات تعلّمية تعلمتها حديثا. أنصت إلي بكل احترام وتعاطف ولم يقاطعني حتى هدأت عاصفتي وخَفَتَ حماسي فودعني بعد ما وعدني بالنظر في طلبي. خرجت من عنده وأنا مزهو ومعتد بقدرتي على الإقناع, ألم أقنع وزيرا ؟

رجعت إلى حمام الشط وانتظرت على الجمر موعد جلسة المقهى حتى أروي لأصدقائي ما دار بيني وبين الوزير وأنفش ريشي كالطاووس طربا وأتباهى عليهم وأقول كما قال عبد المنعم مدبولي في مسرحية "ريّة و سكينة": "ناسبنا الحكومة".


بعد شهر تقريبا من المقابلة وأنا داخل صباحا إلى معهد برج السدرية بالضاحية الجنوبية بتونس العاصمة حيث أدرّس علوم الحياة والأرض, اعترضني المدير محمود الناصري مبتسما وقال لي: "تعال وشاهد ما أرسل لك الوزير". دخلت مكتب المدير فوجدت عشرة حواسيب. لم أصدّق في الوهلة الأولى حتى أكّد لي المدير أن الهدية تخصني شخصيا. كتبت رسالة شكر بسيطة باسمي الشخصي وبعثتها إلى الوزير عن طريق التسلسل الإداري. استدعاني المدير الجهوي السابق ببنعروس وطلب مني إعادة كتابة رسالة الشكر وقال لي: " الرسائل إلى الوزراء تُكتَبُ بالقلم الأخضر". أملَى عليّ نصّا فيه تنويه كبير بالتسهيلات الكبيرة التي قدمتها لي الإدارة الجهوية لتأسيس أول مخبر تدريس علوم الحياة والأرض بالحاسوب في الجمهورية التونسية. امتثلت لأوامره مجاملة وإنصافا لأن هذا المدير الجهوي رحّب بي ترحابا مبالغا فيه بعد ما عَلِمَ بعلاقتي مع الوزير وسأحكي لكم ما حدث بيني وبينه من وقائع. قبل أن أطلب مقابلة الوزير أردت أن أتبع التسلسل الإداري وطلبت مقابلة المدير الجهوي فرُفِضَ طلبي. استدعاني بعد ما أصبحت حسب تقديره من حاشية الوزير وكنت واعيا بهذا الضعف فيه فدخلت عليه مكتبه وتصرفت وكأنني رئيسه في العمل وعاتبته بشدة على رفضه السابق فقام من كرسيه واستقبلني بالأحضان واستدعى كل رؤساء الأقسام السابقين في الإدارة الجهوية وأوصاهم باستشارتي في كل ما يخص الإعلامية وعلوم الحاسوب وكأنني خبير في الميدان وأنا في الواقع لا أعرف إلا استعمال الحاسوب للكتابة والإبحار مثل أي مبتدئ في هذا المجال.


بسرعة غريبة وغير معهودة في وزارتنا, تجنّد كل أعوان الإدارة الجهوية وكل تقنيي المعهد الوطني للمكتبية والإعلامية وجهّزوا لي قاعة وركّبوا العشر حواسيب و"أصبح للعُرْبِ قمر" وكان أول مخبر حواسيب لتدريس علوم الحياة والأرض في إفريقيا والشرق الأوسط وممكن قبل الباكستان وبنغلاديش أيضا.


أثناء أشغال تجهيز المخبر الوحيد من نوعه كان الوزير يتصل بي شخصيا في المعهد للاطمئنان بنفسه على سير الأشغال وكان يرفض التحدث إلى المدير ليسمع مني مباشرة دون وساطات.


علا شأني وصعد طالعي وسطع نجمي عند موظفي وزارة التربية وكانت مديرة التعليم الثانوي تتصل بي هاتفيا في منزلي لتطلب مني مدها بقائمة متفقدي علوم الحياة والأرض الذين سيتم استدعاؤهم في الندوة التي ستقام في مركز التكوين المستمر بريانة وطلبت منّي إعداد محاضرة ألقيها في الندوة حول تجربتي الجديدة. كنت مغتاظا من متفقد قفصه لأنه أسقطني في امتحان ترقية عام 86 لخطأ علمي تافه فطلبت استدعاءه ليحضر ويعرف أن الخطأ ليس عائقا في سبيل التعلم وقد أخطأ كبار العلماء ومن أخطائهم استفادت البشرية وتقدمَ العلمُ.


أعددت نفسي جيدا كعادتي وقلت في نفسي: "اليوم يومك يا كشكار مع بعض المتفقدين الذين أهانوك واستنقصوا من قيمتك العلمية". كان جمهور المتفقدين صامتا وأنا أكيل لهم النقد والوصف الدقيق وقلت فيهم ما قال مالك في الخمر, لا أخشى في الحق لومة لائم ومَن كان الوزير سنده فمن سيتجرأ ويعانده، قلتُ عن المتفقدين: "جلهم لا يحمل أي شهادة في الاختصاص أعلى من شهادة الأستاذ وأغلبيتهم لم يحصلوا على تكوين أكاديمي في البيداغوجيا ولا التعلمية ولا الابستومولوجيا ولا علم نفس الطفل ولا علم التقييم, فكيف سيدي الوزير سيستفيد الأستاذ من حلقات التكوين التي يشرفون عليها ؟ كان أجدر بهم استدعاء أهل الاختصاص ليحضروا في الاجتماعات البيداغوجية وليس انتحال صفاتهم" وانتحال الصفة كما تعلمون جريمة يعاقب عليها القانون. كنت مسترسلا في الحديث وعينا الوزير المليئتان بالإعجاب تقولان لي زدهم وسمّعهم ما لم يسمعوه طوال حياتهم المهنية و اثأر لمئات الزملاء من بعض المتفقدين الذين أذلّوهم وأحبطوهم ولخبطوهم بوصفاتهم البيداغوجية الجاهزة وأرهبوهم بزياراتهم الفجئية والمخابراتية والانتقامية.
بعد المحاضرة, صافحني الوزير وشكرني. لامني متفقدي المباشر على ما قلت في حق زملائه فأجبته: "هل تستطيع وتتجرأ أنت أو أحد زملائك وتقول للوزير ما قلته أنا: "إذا غشّ تلميذ في الامتحان, نحيلك أنت على مجلس التربية قبل التلميذ" قال: "لا". قلت: "احترم نفسك إذن ولا تناقشني". مع العلم أن متفقدي هذا لا يشمله نقدي بل على العكس تتوفر فيه الشروط التي أطالب بها لأنه الوحيد "حسب علمي" من بين متفقدي علوم الحياة والأرض في الجمهورية التونسية الحائز على شهادة الدراسات المعمقة في علم الوراثة وعلى ديبلوم الدراسات المعمقة في التعلّميّة ولا مجاملة في الشهائد العلمية.


رجعت إلى بلدي حمام الشط وإلى أصحاب المقهى وأنا مزهو بانتصاري الأدبي على بعض المتفقدين المتنفذين والمسيطرين على التدرج المهني للأساتذة. احتفاءً بي, نظّم أصدقائي على شرفي جلسة أنس وضحك وفرح ومرح وفي مثل هذه المناسبات فقط يستقيم ويجوز جمع المفهومين معا وأثناء السهرة كان صديقي رضا بركاتي, الناشط الحقوقي المعروف على المستوى الوطني, مثقف المجموعة وقد كان أثقف من الوزير نفسه, كان يتحرك كثيرا فنهرته ساخرا منتحلا صفة الوزير شخصيا: "إلزم مكانك وإلا نقلتك نقلة عقاب إلى معهد
ببنـﭬردان في الجنوب التونسي".


كنت ضيف شرف في كل الاجتماعات الهامة حول مشروع "مدرسة الغد" الرائع في نصه والواعد في شعاراته مثل شعار تطبيق المدرسة البنائية لبياجي
وفيـﭬوتسكي التي تقول أن  التلميذ قادرٌ على معرفته بنفسه بمساعدة المدرس والأقران. لكن شتّان ما بين النظري والتطبيقي, رفعت الدولة شعارات تقدّمية ولم توفّر لها البني التحتية اللازمة لتنفيذها في المدارس والمعاهد والجامعات فبقي القرار حبرا على ورق وبقيت دار لقمان على حالها لا بل ازدادت سوءًا.


حضرت اجتماعا هاما حول التنشيط الثقافي في المعاهد, تدخل أحد المسؤولين الكبار في وزارة التربية وبالغ في تثمين مجهودات الوزارة في هذا الميدان وبدأ يعطي الإحصاءات المضخّمة ويعدّ النوادي بالآلاف في كل نواحي الجمهورية التونسية. أخذت الكلمة وقلت: "سيدي المسؤول, كل ما ذكرتموه صحيح, لكن مع الأسف على الورق فقط, كل النوادي تقريبا موجودة افتراضيا في تقارير المديرين حتى يوهموكم بكثرة نشاطهم وينالوا رضاكم بتوظيف التزييف والتملق أما أنا فرجل ميدان وأمارس هذا النشاط فعليا في معهدي فلا تركنوا سيدي إلى تقارير بيروقراطيتكم ولا تصدقوا الأوراق وانزلوا إلى الميدان حتى تراقبوا بأنفسكم أو عبر من يمثلكم". التفت كاتب الدولة يمينا وشمالا سائلا مساعديه: "مع من أتى هذا المتحدث بلسان غير خشبي ومن يتبع ومن استدعاه أصلا إلى الاجتماع ؟" تنصل كل الحاضرين من تبعيتي لهم حتى دخل في هذه الآونة بالضبط صديقي ومشجعي على التنطّع والنقد والهجوم على الرداءة، أعني به السيد الوزير، حيّاني من بعيد فاندهش كاتب الدولة. عندما يدخل الوزير المنتدى تنشرح الأسارير لا لطلعته البهية وهي بهية بالفعل لكن لسبب آخر. كان الوزير لا يصبر على التدخين حتى أثناء الاجتماع وعندما يأخذ سيجارة يقلده كل المدمنين فتمتلئ القاعة دخانا من كثرة التدخين.


دُعيت مرّة إلى اجتماع في الحمامات حول تدريس الإعلامية في الإعدادي والثانوي. أجلسونا كل أستاذ على حاسوب لاستقبال الوزير. جاء الوزير وبدأ يتجول بيننا متحدثا لكل واحد منّا على حده حتى وصل إليّ وكنت عابسا فقال لي: "ما بالك متجهما يا كشكار ؟" أجبته: "أنا مستاء جدا من تصرف بعض مديري المدارس الإعدادية الذين يخبِّئون الحواسيب ويغلقون قاعات الإعلامية ولا يتركون التلاميذ يستعملونها خوفا عليها من الإتلاف, فكيف سيتعلم هؤلاء التلاميذ الإعلامية إن لم نتركهم يستعملون الحاسوب". تعجّب من كلامي لكن صدّقه وأمر على الفور مساعديه أن يطلبوا من جميع المديرين فتح قاعات الإعلامية للتلاميذ وتحرّرت منذ تلك اللحظة آلاف الحواسيب من الإقامة الجبرية بقرار وزاري طبّق بحذافيره بعد أسبوع.


دعاني الوزير مرة إلى العشاء معه في "نزل النهضة" (
la renaissance) بضواحي تونس العاصمة ولأول مرة وآخر مرة في حياتي أكلت ملعقة قهوة من "الكافيار" (سرء السمك المحضّر أو بيضه). كان العشاء مقاما على شرف رجل أعمال والأخص على شرف مثقف كويتي كبير وتجاذبنا أطراف الحديث, نحن العشرين مدعوًّا, واقترحت على الوزير أثناء النقاش تدريس المنهجية في الثانوي (اختصاصه الذي كان يدرّسه بالجامعة) وقد كنت صادقا وجادّا في طلبي.

اشتهر مشروعي واشتهر مخبري وبلغ صيته الاتحاد الأوروبي وزارني في قسمي نائب من البرلمان الأوروبي فقدمت له نبذة عن نشاطي التربوي.


استضافتني قناة 7 للتلفزة التونسية في حصة "نسمة الصباح" أنا وزميل في الرياضيات له نفس المشروع. قبل الدخول إلى مبنى التلفزة وجدنا باكرا المدير العام للمعهد الوطني للمكتبية والإعلامية في انتظارنا ليحذرنا من مغبة الخروج على النص والتقيد بموضوع الحصة وهو تدريس الرياضيات وعلوم الحياة والأرض بالحاسوب. تمت الحصة الوحيدة بخير وأصبحت من نجوم التلفزة أو هكذا تراءى لي.


قدمت مطلبا للإدارة الجهوية للتعليم لتعييني مديرا في معهد أو مدرسة إعدادية وكتبت التماسا للوزير طالبا مساندته الشخصية. أجابوني بالموافقة وعينوني مديرا بالمدرسة الإعدادية بحمام الشط. كنت حينئذ أمرّ بأزمة نفسية حادة نتيجة تردّدي في مواصلة دراسة دكتورا التعلمية. تتالت عليّ التعاليق, نصحني أصحابي النقابيون مثل صديقي منذر غمام، الكاتب العام السابق للاتحاد المحلي بحمام الأنف وعضو النقابة الجهوية للتعليم الثانوي السابق ببنعروس, نصحني بترك المسؤولية وتقديم استقالتي لما تحمله الإدارة من تخل عن المبادئ النقابية وشجعني بعض الأصدقاء الحميمين على التشبث بالإدارة لما تحويه من منافع مادية مثل السكن المجاني والهاتف المجاني. قدمت استقالتي إلى السيد عادل عميرة، رئيس مصلحة التعليم السابق في الإدارة الجهوية للتعليم ببنعروس، وقال لي معاتبا حتى يثنيني عن قراري: "الوزير بنفسه وبقلمه الأخضر أشّر على اسمك". شكرته ورجوته تبليغ شكري للوزير وكتبت استقالتي ورجعت إلى منزلي خفيفا مرتاحا بعد ما نزعت هذا الحمل الثقيل عن كتفي. اتصل بي في الدار صديقان وطلبا مني بكل لطف ومحبة أن أسحب استقالتي
، وهما حبيب دغيم المتفقد الإداري والمالي في وزارة التربية ويحي خليفة الكاتب العام الحالي للنقابة الأساسية للتعليم المحلية المتنطعة بحمام الشط. سحبتها. جاءني شقيقي الكاتب العام السابق للاتحاد المحلي للشغل بطبرقة ونصحني بالتمسك بالاستقالة للتعارض الواضح بين العمل الإداري والنشاط النقابي. قلت في نفسي "سأعقلها وأتوكل" كما يفعل المجاهدون في فيلم عمر المختار للمخرج الأمريكي السوري العقاد عندما يعقلون ركبتهم بحبل متين وهم يواجهون العدو حتى يستحيل عليهم الفرار من ساحة المعركة. اتصلت بالأخ الكاتب العام السابق للاتحاد الجهوي للشغل ببنعروس وطلبت منه أن يتصل بالمدير الجهوي السابق للتعليم ببنعروس حتى يعفيني من هذا التعيين الثقيل على قلبي وضميري وفي الغد ذهبت إلى الإدارة الجهوية للتعليم وقدمت استقالتي الثانية والنهائية ورجعت إلى حمام الشط فرحا مسرورا وذهبت مباشرة إلى شط الجهمي بولاية نابل صحبة صديقي وزميلي يحي خليفة، المذكور أعلاه، حتى أغسل هواجس الخوف والهروب والتأفف من المسؤولية التي يتسابق على نيلها الآلاف وتُقدّم من أجلها القرابين. قال لي مرافقي في الشط, المشهور بإخلاصه وصدقه ونضاليته النقابية الشفافة: "لعب بك الوزير" فأجبته: "غنم أولاد الشعب بمعهد برج السدرية بالجمهورية التونسية عشرة حواسيب ستساهم في محو الأميّة الإعلامية وعلوم الحاسوب" وهذا ما تم فعلا و"سردكت" أنا عاما كاملا على بعض المتفقدين و بعض المسؤولين (فعل سردك مشتق من كلمة سردوك أي الديك بالعربية الفصحى) وقلت صراحة وعلنا ما أفكر فيه بمباركة وتشجيع أثقف وزير في الجمهورية التونسية.


بكت ابنتي البالغة من العمر ثمانية عشر سنة وحزنت عائلتي لفقدان المنصب المرموق في نظرهم. أحسست قليلا بالذنب حيالهم وقلت في نفسي, ما ذنبهم حتى أحمّلهم اعوجاج تفكيري ومثاليتي المبالغ فيها في هذا الزمن الرديء.


في آخر السنة الدراسية منحني الوزير "وسام الاستحقاق التربوي" جزاءًا على تنفيذ المشروع العلمي المتمثل في تدريس علوم الحياة والأرض بالحاسوب لكن بقي المشروع وحيدا ويتيما إلى يومنا هذا 2010 ورجعت أنا أستاذا نكرة في معهد برج السدرية ومنذ ذلك اليوم لم أدْعَ لأي اجتماع هام أو غير هام ولم أر الوزير مباشرة ولا في التلفاز لأنه أعفِي من مهامه الوزارية وعُيّن سفيرا.



ملاحظة 1: صدفة مريحة, بعد مدة من نقدي اللاذع لتكوين المتفقدين تأسس معهد المتفقدين بقرطاج الذي استجاب للتكوين البيداغوجي والتعلمي وبقي التكوين العلمي في الاختصاص ناقصا. أقترح أن لا يُقبل في هذا المعهد إلا "الأساتذة المبرزون" في اختصاصاتهم.












Haut du formulaire

Bas du formulaire

 


25. بنت تاجر سمك فرنسية، كيف أصبحت ملكة السويد والنورفيج ؟

 

بنت فرنسية جميلة، أبوها تاجر سمك من مرسيليا، أصبحت ملكة السويد: قصة واقعية طريفة حدثت منذ قرنين فقط لكنها أغرب من قصص ألف ليلة وليلة !

 

الظرف الزماني: حوالي سنة 1800ميلادي بعد الثورة الفرنسية بعقد أو عقدين.

الظرف المكاني: مرسيليا، باريس وستكهولم.

الشخصيات الأساسية: بطلة القصة البنت الجميلة واسمها دِيزِيرِي (المرغوبُ فيها).

Bernardine Eugénie Désirée Clary, née le 8 novembre 1777 à Marseille (Royaume de France), et morte le 17 décembre 1860 à Stockholm (Suède-Norvège).

خطيبها الأول هو الجنرال نابوليون بونابارت. جوزيف بونابارت، الأخ الأكبر لنابوليون، متزوج من جولي الأخت الكبرى لدِيزِيرِي. الجنرال برندوت، هو منافس بونبارت في الجيش والحب وزوج دِيزِيرِي الأول والأخير وأنجب منها ابنهما أوسكار.

الحكاية باختصار:

أراد أخو بونابارت خطبة ديزيري فأخذ معه أخاه. عشقها الصغير من أول نظرة وعرض أختها الكبرى الأقل جمالا على أخيه الأكبر فَرَضِي الأخيرُ. تزوج الأكبر من الكبرى وذهبا إلى باريس ثم لحقه أخوه الصغير تاركا وراءه بطلة قصتنا سجينة حسرتها ودموعها تُبلّل رسائلها الحارّة. التحقت ديزيري بأختها الكبرى في باريس وبسرعة تزوجت الجنرال برندوت، أحد أبطال الثورة الفرنسية، انتقاما من حبها الأول، الجنرال نابوليون بونابارت، التي لم تستطع يوما أن تنساه بل كانت في شيخوختها تعلق صورته في صالون زوجها برندوت.

كانت مملكة السويد والنورفاج الموحّدة في ذلك العهد تمر بهزات ثورية وانتفاضات شعبية مثل ما مرت به فرنسا وكان مَلِكُها شيخا عقيما ومريضا. اجتمع أعضاء البرلمان السويدي الموسّع (600 مشارك) في قرية سويدية صغيرة نائية لكي يختاروا له وريثا يملِك السويد بعد وفاته. ومن غرائب الدهر أنه تم اختيار ولي عهد فرنسي وكاتوليكي (البروتستانتية مذهب السويد) ومن سلالة شعبية "غير نبيلة" وفوق كل هذا ثوري ولا يتقن اللغة السويدية. وبين عشية وضحاها أصبح محظوظ قصتنا الجنرال برندوت ولي عهد مملكة السويد وهو الذي يُشاع عنه أنه كان مُوَشِّمًا على ذراعه شعار الثورة الفرنسية "الموت للملِك". ويُقال عنه أيضا أنه دفع رشوة لعضو في البرلمان السويدي حتى يضمن نجاحه من بين عدة مرشحين لنفس المنصب. ومن مهازل التاريخ أن الحجة التي قوَّت من جانبه أثناء مداولات البرلمان هي أن زوجته ديزيري بعثت بصورتها للبرلمان السويدي مرفوقة بصورة ابنها أوسكار الذي بالصدفة كان يحمل اسما شماليا (prénom nordique) وساعدته أيضا معاملته الحسنة السابقة لأسرى سويديين في فرنسا.

انتقلت العائلة الفرنسية المحظوظة، التي لا يتكلم جميع أفرادها اللغة السويدية، للإقامة في السويد. كان الزوج برندوت، ولي العهد وملك المستقبل، ينوب الملك المريض وكان الابن أوسكار، وريث العرش الوحيد، يقضي كل وقته في تَلقِّي التدريب والتكوين والتربية المَلَكِية الخاصة أما الزوجة فلم يعجبها الوضع ولم تُعجِب شخصيتَها حاشية الملك: كمتوسطية  (méditerranéenne كانت تكره بَرْدَ الشمال وتتثاءب بل ترقد في بعض المناسبات الرسمية وتفضل الأكل الفرنسي وتتناول الطعام بيديها دون شوكة. رجعت للإقامة مع أختها الكبرى وزوجها أخ نابوليون بباريس وعملت كجاسوسة لزوجها ولي عهد السويد وكانت تحيا حياة مستهترة إلى درجة أنها كانت تستقبل في قصرها نابوليون، حبها الأول، وتُغازلُ الوزير الفرنسي المشهور ريشيليو. رجعت للإقامة مع زوجها عندما اعتلى هذا الأخير رسميا عرش السويد ولُقِّبَ بالملِك الجمهوري (Le roi républicain)، فأصبحت هي ملكة السويد الرسمية. كانت مصِرّة على حياة التحرّر وكانت شُجاعة في تحدي قيود الأخلاق والشكليات الرسمية: كانت تخرج ليلا تهرول في حديقة القصر مرفوقة بوصيفتها المجبرة على ارتداء قميص نقيّ البياض (blanc immaculé) ظنًّا من الملكة أنه  يجنِّبها هجوم الخفافيش، وكانت ترتاد ليلا المطاعم والمسارح وتسكن قصرا صغيرا بعيدا عن القصر الملكي. خرجت مرة لزيارة مقاطعة في مملكتها فاستقبلها الفلاحون بهتاف سمعته هي وكأنه يقول بالفرنسية (vive la reine) وذلك لجهلها المطبق باللغة السويدية فأسرّت ببهجتها لحاجبها المرافق الذي لم يجرؤ أن يصارحها بمعنى الهتاف السويدي (vi vill ha regn) والذي يعني بالعربية "نريد المطر.

خلال حفل ملكي، سأل الملك مرة شخصا حاضرا لكنه لا يعرفه: ماذا تشتغل في القصر؟ أجابه: أنا العشيقُ الثالث للملكة لكنني الوحيد فوق الخدمة.

مات زوجها الملك سنة 1844، ماتت ديزيري ملكة السويد السابقة سنة 1860، أي عاما واحدا بعد وفاة ابنها الملك الذي خلّف خمسة أبناء، وبعد مرور ما يقارب القرنين على ضربة الحظ التاريخية الصدفوية الطريفة لا زالت ذرية ديزيري وزوجها برندوت الفرنسيَّي الأصل يعتلون عروش ممالك السويد والنروفيج والدنمارك واللكسمبورغ وبلجيكا و"خُرَّافَتنَا هَابَا هَابَا وكل عام اتجينَا صابَة".


26. أتابع مقالاتك وأفهمها جيدًا إلا كلمة "إبستمولوجيا" !

 

جملة قالها لي في جمنة صديقي عبد المجيد بالحاج منذ سنوات. عبد المجيد فلاحٌ مثقفٌ، وثقوا أنني لا أجامله بنعته بالمثقف والدليل على موضوعية كلامي تجدونه موثقًا بالصوت والصورة في وسائل الاتصال الاجتماعي التي أرّخت ملحمة (La geste) نشاطه البارز في الدفاع عن قضية جمنة "هنشير ستيل"، وهو أحد الأعضاء المؤسسين لـ"جمعية حماية واحات جمنة".

بعد مرور سنوات على هذه الجملة-الحادثة، سمعتُ الفيلسوف ميشيل سارّ على اليوتوب يقول الآتي: "أكثر الناس يجهلون معنى كلمة إبستمولوجيا. المفارقة أن أكثر الناس أصبحوا فعلا إبستمولوجيين، أي أصبح لهم رأيٌ ونقد حول المعرفة العلمية :

Le savoir savant comme la vaccination anti-Covid-19 et ses opposants, les médicaments et leurs effets secondaires, la pollution et ses catastrophes sur le climat régional comme le Groupe Chimique de Gabès (GCT-ICM).

 

بعد سماع هذا الشرح لكلمة "إبستمولوجيا" على لسان الفيلسوف ميشيل سارّ، هاتفتُ مباشرة صديقي عبد المجيد، الفلاحٌ المثقفٌ، وقلتُ له: "ابشِرْ يا صديقي فقد أصبحتَ أنتَ نفسك "إبستمولوجيًّا" دون أن تشعر وهذا بشهادة عالِم الإبستمولوجيا نفسه الفيلسوف ميشيل سارّ". ضحك وقال: "لن أقول لك بعد اليوم أنني لا أفهم كلمة "إبستمولوجيا" !"

 

حسب الفيلسوف ميشيل سارّ إذن،  أصبح كل الناس أو جلهم على الأقل مثقفين وإبستمولوجيين لكنهم  "مثقفون وإبستمولوجيون في المهد" (des intellectuels et des épistémologues en herbe)، وذلك بفضل تكاثر وسائل التواصل الاجتماعي وتنوعها (فيسبوك، تويتر، يوتوب، ﭬوﭬل، ويكيبيديا، إلخ.) في القرن 21، قرن انتشار المعرفة العلمية في العالم أجمع،  المعرفة التي أصبحت اليوم في متناول كل من يطلبها، متعلّمٌ أو أمّي، مبصر أو بصير، غني أو فقير، كبيرٌ أو صغير، داخل أسوار الجامعة أو خارجها، في المدن أو في الأرياف.

 

ولشرح وجهة نظري أكثر حول المثقف والإبستمولوجي، أعطي بعض التعريفات المتنوّعة لكلمة "إبستمولوجيا" وكلمة "مثقف":

1.    تعريفات متنوّعة لكلمة "المثقف":

2.    المثقفُ عندي هو العالِمُ المثقف والمثقفُ غير الجاهل بالعلم الذي يبحث وينشر في اختصاصه وفي غير اختصاصه. يعيش عادة على هامش المجتمع.

-         المثقف يُعرَّف عندي بمدى إلمامه باختصاصه وبغير اختصاصه.

-         المثقّفُ هو المطَّلِع على ثقافاتٍ أخرى: الرسول صلى الله عليه وسلم كان أمّيًّا لكنه كان مثقّفًا، والأمة الإسلامية اليوم خليطٌ من الثقافات.

-         المثقفون نوعان، المنتج والمستهلك، النزيه والانتهازي، والصغير فيهم مثلي يرى بعيون الكبير فيهم مثل معلوف وسارّ وأتلان وأنفري وجاكار.

-         السياسي والمثقف، الأول يبيع الأوهام والثاني يحطمها، واحد يمدح سلعته مهما كانت رديئة والآخر ينقد إنتاجه مهما كان جيدا. خطان متوازيان غالبًا ما لا يلتقيان ونادرًا ما يلتقيان.

-         السياسي والمثقف، الأول يتكلم لغة خشبية أو لا يكون، والثاني يتكلم لغة عقلانية أو لا يكون، واحدٌ يُغلّف الحقائق الموجعة والآخر يُعرّيها.

-         أعجبُ من مثقفٍ يُعجَبُ بسياسي مهما كان لون هذا السياسي. المثقف "لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب"، لا لأنه متكبّرٌ بل لأنه طموحٌ.

-         ويلٌ للسياسي إن لم يَرْضَ عن نفسه، وويلٌ للمثقف إن رضي عن نفسه. السياسي يعيش في قلب المجتمع والمثقف على هامشه.

-         السياسي شر إذا فكر في مصلحته فقط وخير إذا فكر في مصلحته والمصلحة العامة. المثقف شر إذا فكر مكان الآخرين.

-         الفيلسوف سارتر، 1967: "يبقى الباحثُ يُسمى باحثا ما دام يساهم في تطوير القنبلة الذرية، يصبح مثقفًا حالَما يبدأ يحتج ضدها (أينشتاين نموذجًا، عالِم ثم مثقف)".

-         L’Intellectuel, c’est une création du XIXe siècle qui disparaîtra à la fin du XXe ou du XXXe parce qu’il est fait pour disparaître. L’homme qui pense pour les autres, cela n’a pas de sens. Tout homme qui est libre ne doit être commandé par personne que par lui-même.

-         مات المثقف الذي يدّعي أنه يفكر للآخرين. مات النائب الذي يدّعي أنه يمثل ناخبيه. كل إنسان حر، عليه أن يفكر بنفسه ولا يمثل إلا نفسه متفاعلاً إيجابيًّا مع الآخرين.

-         مالك بن نبي عرّف الثقافة بأنها ما يميّز أمّة عن أخرى، وذلك تمييزا عن العلم: داخل العيادة، طبيب فرنسي أو تونسي، لا فرق، لكن خارجها هنالك فرقٌ ؟

-         مثقفون حداثيون تونسيون يجهلون تاريخ الإسلام/يحفظون تاريخ المسيحية، يحقّرون لغتهم/يمجدون الفرنسية، يزدرون تقاليدهم/يقلدون الغربيين.

-         بفضل التعليم الانفصالي، أصبحت نخبة العالَم مقسّمةً بين "مثقفين جهلة بالعلم" (خرّيجي كليات العلوم الإنسانية والفلسفة والقانون، حُكّام العالَم) و"علماء غير مثقفين" (خرّيجي كليات العلوم الصلبة، "الصحيحة" والتجريبية، مغيّرو العالَم) !

-                    من الكبائر التي يرتكبها المثقف مساندته للسلطة ! عرّفه سارتر: "على هامش المجتمع أو لا يكون". عرّفه سارّ: "ضد الرأي العام أو لا يكون !".

-         المثقف، أعرّفه أنا: لا يعجبه العجب ولا صيام رجب، لا لأنه عنيد بل لأنه يتمتع بذهن ناقدٍ، ثاقبٍ، واستشرافي ويَطمح دومًا إلى الأفضل.

-         واهمٌ، المثقف الذي يعتقد جازمًا أن إيديولوجيته -ماركسية قومية أو إسلامية- قادرة على الإجابة على كل تساؤلاته. أكيد يحتاج إلى غيرها.

-         المثقفُ الذي يقرأ لإيديولوجية واحدة، كالفلاح الذي يزرع كل عام نفس النوع في نفس الأرض. الثاني يُفقِّرُ أرضَه، والأول يُفقّرُ مُخَّه !

-         المثقف هو شخصٌ (désintéressé) أو لا يكون، أي لا يخدم أجندة على حساب أخرى، ولا يدّعي أنه جاء ليثقف الآخرين بل يتعلم من تجاربهم. مَثَلُه كمثل مَن يعشق امرأة مستحيلة المنال، يضحّي من أجل إرضائها بِجد وإخلاص دون طمع منها في جزاء أو شكور. هو الذي يعتبر غير المثقفين مشاريع مثقفين (des intellectuels en puissance) ويحسن الظن بهم ويخاطبهم كمثقفين ولا ييأس منهم. هو الذي لا يردّ على الشتيمة بشتيمة، تجنبا للعنف اللفظي. هو الذي يحرص على عدم المساس بشعور محاوره دون التخلي عن جوهر الخلاف العلمي. المثقف يجامل والعلم لا يجاملُ.

-         المثقف هو الذي يَعرِف أن لا وجود لفكرة صائبة 100% وأخرى خاطئة 100% فلا يطلب إذن من مخالفه التخلي عن فكرته بل يدعوه إلى تجريبِ وجهة نظر أخرى.

-         لا وجود لمثقف عابر للمكان والزمان، هو ابن بيئته أو لا يكون، والمُنبتّ لا يمكن أن يكون مثقفًا.

-         المثقفون صنفان، الكبار (معلوف، النقاش، أونفري، إلخ) والصغار، منتجون ومستهلكون، صنفٌ أول يرى العالَم بـ"جومال" وصنفٌ ثانٍ يرى العالَم بعيونِ الصنف الأول  !

-         أنا ملتزم بالثقافة   فهي الوسيلة الوحيدة القادرة على ما لم يقدر عليه داروين، ألا وهو تحويل الحيوان فينا إلى إنسان.

-         إنما الأمم المثقفون ما بَقُوا، فإن  هُمُ  ذهب مثقفوهم ذهبوا، ذهبوا في تونس إلى وجهتين، الانتهازيون في الواجهة والنزهاء مهمَّشون.

 

3.    تعريفات متنوّعة لكلمة "إبستمولوجيا":

-         الإبستومولوجيا (نقد المعرفة أو معرفة المعرفة أو فلسفة العلوم أو تاريخ العلوم): معناها أن تخرج من جلدك وترى جلدك من الخارج بواسطة مكبّر اسمه النقد، ونقد المعرفة يحتاج إلى معرفة معمقة.

-         "النقدُ هدّامٌ أو لا يكونْ " ونقدنا في مجلس الشعب لم يهدمْ الفساد لأن نوّابنا ليسوا نزهاء والنقد عندهم مطية للوصول إلى السلطة لا غير.

-         قرار عدد 1 للحاكم المنتظر لتونس "إدراج تدريس الإبستومولوجيا في كل الجامعات وفي كل شعب العلوم الصحيحة والتجريبية والإنسانية".

 

ملاحظة عابرة: من المفروض أن لا يُنتدَبَ في التعليم الثانوي والعالي أي أستاذ علوم لم يدرُسْ أكاديميّاً إبستمولوجيا اختصاصه. لماذا ؟ دون إبستمولوجيا، "لن يفهم الأستاذ لماذا تلامذته لا يفهمون"، كما قال ﭬاستون باشلار، الإبستمولوجي الفرنسي العظيم، صاحب المفهوم-المفتاح المسمَّى "القطيعة الإبستمولوجية". لو طُبِّقَ هذا الشرط سنة 1974 (تاريخ انتدابي أنا كأستاذ علوم الحياة والأرض)، لَما انتُدِبتُ أنا نفسي، لأنني درّست 24 سنة دون معرفة إبستمولوجيا اختصاصي، لم أدرُسها أكاديميّاً إلا سنة 1998، تاريخ تسجيلي بالجامعة مرحلة ثالثة سنة أولى دراسات معمقة (DEA, la didactique de la biologie qui a failli s’appeler épistémologie de l’enseignement).

 


27.  شاحنتان تسيران في اتجاه معاكس عملتا حادث مرور على الحدود التونسية-الجزائرية.

واحدة محمّلة دﭬلة من تونس إلى الجزائر والأخرى محمّلة دﭬلة أيضًا لكن من الجزائر إلى تونس.

تبعثرت تونس والجزائر على الطريق.

نزل السائقان غاضبَين وتساءلا في نفس الوقت وقال كل واحد منهما للآخر: "لماذا تستوردون دﭬلة وأنتم منتجون للدﭬلة ؟".

نطقت الدﭬلة من جنبَيها وأجابت السائقَين: "حتى يرتفع سعري على المستهلك في تونس والجزائر لا أكثر ولا أقل".

 

NB : idée inspirée d’une conférence de Pierre Rabhi (1938-2021), essayiste, romancier, agriculteur, conférencier et écologiste français d’origine algérienne.


يوم 14 فيفري، لماذا سُمِّيَ يوم "ﭬِرَّة العنز" ؟



عن الإعلامي لطفي لَعماري (Radio Med)، وحسب التراث التونسي البربري الأمازيغي:

خلال شهر جانفي قارس البرودة، كان الفلاح الأمازيغي يَحْبِسُ عنزاته شهرًا كاملا خوفًا عليها من الصقيع. وفي يومٍ من أيام فيفري خرجتْ عنزةٌ صغيرةٌ تقفز فرحًا شماتة في شهر العزل (confinement)، فاستشاط جانفي غضبًا وفكّر في الانتقام منها. طلب من زميله فيفري أن يسلّفه يومًا من البرد وكان له ذلك، ولذلك سُمِّيَ أيضًا "يوم السّلَفْ". وفي ذلك اليوم المشؤوم، شن جانفي حربًا شعواءً عل العنزة الصغيرة فماتت من البردِ وهي ترقص !


إنتاجي بداية من سنة 2010 إلى سنة 2016

صَدَرَ لِي أربعةُ كُتُبٍ:

  1. Enseigner des valeurs ou des connaissances ? L’épigenèse cérébrale ou le "tout génétique" ? (PUE: Presses Universitaires Européennes, Edition électronique, 2010)


2. Le système éducatif au banc des accusés ! «Les professeurs ne comprennent pas que leurs élèves ne comprennent pas» (2014)


3. جمنة وفخ العولمة
(2016)

4. الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي سفر في الديداكتيك وعشرة مع التدريس (1956 – 2016)

 

 

 

 

 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire