samedi 16 juillet 2022

الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي سفر في الديداكتيك وعِشرة مع التدريس (1956 – 2016)

 


 

 

 

 


 

 

الإشكاليات العامة

في

النظام التربوي التونسي

سفر في الديداكتيك وعِشرة مع التدريس

(1956 – 2016)

 

 

 


 

 


 

 

 

الإشكاليات العامة

في

النظام التربوي التونسي

سفر في الديداكتيك وعشرة مع التدريس

(1956 – 2016)

 

مواطن العالَم د. محمد كشكار، أصيل جمنة ولادةً وتربيةً


 

 

 

 

 

 

 


 

 

 

"مرِّرْ إلى الطفل متعة التعلم وأي طريقة تربوية بعد ذلك سوف تكون ناجعة"

(جان جاك روسو، إيميل، 1762)

« Donner à l`enfant le désir d`apprendre et toute méthode sera bonne »

Jean Jacques Rousseau, L`Émile, 1762.

(André Giordan, Apprendre !, Ed. Belin, 1998, p. 95)


 

 

 

"يجب تسخير المدرسة لخدمة المجتمع

وليس تسخير المجتمع لخدمة المدرسة"
المؤلف مواطن العالَم

 

Gaston Bachelard : « II faut mettre la société au service de l'école et non pas l'école au service de la société ».

 

ونحن في تونس - للأسف الشديد - سخَّرنا المجتمع لخدمة المدرسة ورضخنا للسباق المحموم

La sélection par les concours : sixième, neuvième, bac, CAPES, CAPA, etc.

 والتنافس اللائنساني

 La compétition inhumaine en classe et dans les amphithéâtres

 وتعاطي المنشطات الذهنية

 Le dopage intellectuel par l`Étude

 وحشو الأدمغة حشوًا

 Le bachotage

Haut du formulaire

Bas du formulaire

 


الإهداء

إلى تلامذتي الذين درّستهم علوم الحياة والأرض في إعدادية ميدون (جربة 74-76) وفي إعدادية غار الدماء (76-80) وفي إعدادية زيروت يوسف (الجزائر 80-81) وفي إعدادية جامعة (الجزائر 81-88) وفي معهد غار الدماء (88-90) وفي معهد بومهل (90-92)  وفي إعدادية برج السدرية (92-94) وفي إعدادية حمام الشط (94-96) وفي معهد برج السدرية (96-2012).

 

أشكر أصدقائي الآتية أسماؤهم

الخطّاط عمر الجمني على تصميم الغلاف، والأستاذ عفيف ساسي والدكتور علية علية على مراجعة النص، والمتفقدَين بلڤاسم عمامي والتهامي الشايب والمعلم الهادي بن جابر وفيلسوف حمام الشط حبيب بن حميدة على مشاركتهم في تأليف هذا العمل الحر وغير الخاضع للإكراهات والمعايير الأكاديمية.


 

 

 

"الأفكار الجديدة لا تُفرضُ بالمنطق وحده"

أندري جيوردان، مُنَظِّرٌ في البيداغوجيا وفي إبستمولوجيا التعليم

 

« Les idées nouvelles ne s`imposent jamais rationnellement »

André Giordan, Didacticien et pédagogue


فهرس الكتاب

مقدمة..................................................................14

تعريف علم "التعلّميّة "...............................................37

محور 1: حول التعليم في تونس....................................47

محور 2: حول الأستاذ...............................................76

محور 3:حول التفقد والمتفقد........................................104

محور 4: حول تقييم التلميذ.........................................149

محور 5: حول إصلاح المنظومة التربوية التونسية...............161

محور 6: حول التعليم في تونس الخمسينيات والستينيات.........200

محور 7: الديداكتيك أو فلسفة التعليم...............................230

محور 8: أحلام اليوم حقائق الغد!.................................321

محور 9: لماذا لا نستلهم من التجارب الناجحة؟..................372

محور 10: شهادة على العصر.....................................390

لماذا وكيف ولِمَن أكتب..............................................427

خاتمة.................................................................445

مُلحق، ليس من تأليفي وفي مجالات ليست من اختصاصي......450

 

 

 


مقدمة

بقلم فيلسوف حمام الشط، حبيب بن حميدة

 


انتظارات الفلسفة من النظام التربوي التونسي (جزء 1). فيلسوف حمام الشط، حبيب بن حميدة (مقدمة كتابي "الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي"، 2016)

 

مِن خصائص الحداثة اقترانها بالعلم والفلسفة. فبعد صراعٍ طويل بين النقل والعقل، بين التقليد والتجديد، أعني بين اتجاهات سلفية واتجاهات عقلانية تجريبية، تأسست المدرسة الحديثة مقابل المدارس التقليدية السكولاستية (جامع الزيتونة في العاصمة وفروعه في بعض الجهات) وذلك بوضع مبادئ وقيم تؤكد على التجديد والإبداع وتحرص على المطابقة مع العالَم الحيوي من أجل فهمه وتغييره...

كحدث تاريخي، تمثل المدرسة الحديثة أول ثورة حقيقية في مجتمعاتنا الإسلامية السلفية. ثورة تأكدت نتائجها على كل المستويات إذ حررت الإنسان العربي المسلم من اغتراب عمّق في وعيه الاتباع والتقليد ورسّخ في شعوره الثبات والعطالة والانغلاق وحوّل وجوده إلى كائن مطيع وخاضع وخانع للوضع الغيبي والنظام السائد، فلا وجود لذاتٍ حرة قادرة على تأمّل العالم الخارجي للكشف عن قوانينه... لقد كسّرت المدرسة الحديثة زجاجة التقليد وكانت بمثابة المحرك الأول الذي حطّم الهيكل القديم وفجّر البُنى التقليدية التكرارية المنغلقة. ليست القطيعة التي أحدثتها هذه الثورة مجرد ترميم للقديم بقدر ما هي تأسيس لنظام تربوي جديد ينفي ما مضى، نظام متحرك باستمرار، متحول ومبدع ومنفتح على الحياة ومتطلباتها المادية والنفسية والفنية.

تمثل المدرسة الحديثة فضاءًا ماديًّا ورمزيًّا ومَعبَرا ندخل من خلاله إلى أقاليم إنسانية شعارها الكونية والعمل على تحقيق نمو وتقدم لامتناهي في إطار حركة تاريخية تنظر إلى حاضر الإنسان انطلاقا من تصورها لمستقبله.

المدرسة الحديثة من التأسيس إلى الإصلاح

يمثل الإصلاح حركة ثورية جديدة، ثورة داخلية للترميم وإعادة البناء من خلال صهر العناصر المكونة للمشروع التربوي الأصلي في صيغ جديدة تنظم البرامج والمؤسسة وفق متطلبات العصر. فالمدرسة لا يمكن أن تتجاوز التاريخ وما يحدث فيه من تغير وتجديد وتنوع على المستوى المادي والعلمي... وذلك لأن المدرسة منذ البدء ليست جسما متكاملا يستحيل وجود ما أكمل منه، بل هي تنظيم يتأثر سلبيا وإيجابيا بالسيرورة التاريخية باعتبارها الإطار الحقيقي لكل تجربة إنسانية.

إن الدعوة للإصلاح هي تعبير أولي عن وعينا بوجود أزمة داخل المؤسسة التربوية التي تبدو على مستوى برامجها ونتائجها متأخرة ومتخلفة عن واقعنا ومهددة بالسقوط واللامبالاة. إننا ندعو اليوم إلى ضرورة استعادة المدرسة لمكانتها الطبيعية كقوة طلائعية تقدمية تغذي باستمرار النسيج الاجتماعي الحداثي. وفي هذا الإطار نفهم أهمية الحركة الإصلاحية في مراحلها المتتالية والمتنوعة، فهي من ناحية دعوة لترسيخ الأسس والمبادئ الثورية الحداثية حتى تصبح تراثا حضاريا نومن به حق الإيمان ونعرفه حق المعرفة. ومن ناحية أخرى هي تجديد لإعادة البناء، تجديد تفرضه حركة التاريخ المعاصر. فمن الطبيعي أن يرافق "الربيع العربي" السياسي ربيعٌ في مجال التربية والمؤسسة التعليمية. ويمكن إيجاز مبادئ هذا الإصلاح في فكرة الديمقراطية كفكرة ناظمة ومقياس مشروع لكل تقييم أو تغيير للوسائل والغايات.

إن الإصلاح لا يعني الشك والرفض الكلي لما أنجزته المدرسة الحديثة منذ تأسيسها (في تونس، منذ تأسيس مدرسة الصادقية سنة 1875 على يد خير الدين باشا، الوزير الأكبر للصادق باي)، من تكوين مستمر للأجيال العربية الصاعدة المتمردة على واقعها والمتحركة باستمرار نحو مستقبل أفضل.

لن نحاكم مدرستنا منطقيا أو أخلاقيا بل سنوجه نقدنا لمواطن الغموض والضياع التي تهدد بصفة مباشرة أو بأشكال مقنعة سلامتها وحركيتها القِيمِية والعلمية.

إن الإصلاح لا يقبل التوظيف الإيديولوجي، ولا يمهد لإفشال حركة التنوير لأنه يهدف إلى إثبات العقلانية وتطوراتها بما هي السبيل الوحيد للتحرر من المنحى الانغلاقي لمؤسساتنا التربوية.

ففي مدرسة تأسست على العلم والعمل لا يمكن أن يكون النقد فيها نقدا لذاته، النقد وسيلة لتحقيق الهدف الأسمى: انعتاق الإنسان من اغترابه انعتاقا جذريا وكاملا. وهكذا فإن المدرسة محكوم عليها بالاستجابة فورا لمتطلبات العصر وذلك بإعادة صهر عناصرها. إن التعليم هو تنوير مستمر لا يقبل أبدا الانتظار أو التراجع.

المَنحَى الانتقائي للمدرسة

لقد مثلت المدرسة الحديثة الطريق الأمثل لكل رُقِي اجتماعي وثقافي وقد أعطتنا صورة واضحة للصراع القائم بين القديم والجديد، بين الشيوخ والشباب، بين التخلف والتطور... فمنذ البدء استقطبت المدرسة كل القوى والطاقات التي تنزع إلى بناء مستقبل أفضل يحررها من نُظُمٍ تقليدية سلفية مُعَطِّلة جعلت من السكون شعارها الأبدي. لكننا نلاحظ أن لكل حركة حتى وإن كانت ثورية فهي قد تتعرض بطبيعتها إلى التعثر أو الرِّدّة أمام تراكم العوائق الداخلية والخارجية التي قد تفرضها السيرورة التاريخية لكل مجتمع. وبقدر ما كانت الحياة تتحول وتتطور، كانت مدرستنا تتراجع وتبتعد جزئيا وتدريجيا عن أهدافها الأصلية، وتنحرف عن طريقها السوي، وتتأخر في تحقيق مشروعها التربوي، وتتخلف عن مواكبة حركة زمانها.

سيادة المدرسة أصبحت مهدَّدة بظهور قِوى منظمَة تتطور بسرعة وتؤثر في الحياة العامة وقادرة أن تفعل في المدرسة ما فعله النظام التقليدي من قبل.

إن المجتمع الذي تحرر من الهيمنة السلفية أصبح اليوم يعيش أشكالا جديدة من التسلط، أشكالٌ منظمة ومعقلنة ولها القدرة على التوجيه والتوظيف والإرشاد وممارسة أساليب خاصة إلى حدود التحكم. وهكذا ستدفع المدرسة ضريبة التطور ذي النزعة الليبرالية الذي أفرز مجتمعا طبقيا عمّق بصفة واسعة وكلية كل مظاهر التفاوت واللامساواة.

إن مبدأ التنافس الحر على المستوى الاقتصادي انتقل إلى المدرسة ذاتها وتحولت هكذا إلى حلبة للصراع والتنافس والتناظر والسباق المجنون لبلوغ أقصى الحدود التي تقننها شكليا مقاييس ومعايير وسلالم تقييمية تبدو في ظاهرهها منطقية سليمة وعادلة ومشروعة. ولكن كل الدراسات تؤكد اليوم أن هذه الصورة الجديدة للمدرسة سلبت المدرسة الجمهورية (L`école républicaine) وظيفتها التنويرية وسلبتها أيضا استقلاليتها وأخرجتها من مهدها الإنساني وجعلت منها مقياسا نموذجيا للانتقاء حسب ترتيب تصاعدي يكون حده الأقصى رقما قياسيا مجردا يشرّع للفصل بين مجموعات مستقلة لكنها متفاوتة على مستوى التكوين والمردودية وعلى مستوى النجاح والفشل، وكانت النتيجة الإقصاء والتهميش وتعمَّق الشعور لدى العامة بأن المدرسة أصبحت لا تنتج إلا النخب وهي الشكل المعاصر للتمييز الفئوي المولد لليأس والكراهية، والطالب لتضحيات لا معنى لها تحول الأطفال والشباب إلى كائنات مغتربة مسلوبة الإرادة همها الوحيد الاستجابة إلى مطلب واحد ألا وهو النجاح والتفوق حسب ما يفرضه السُّلم الانتقائي التصاعدي. ومن أجل ذلك أصبح التعليم قضية حياة أو موت ومجال لكل التضحيات وبلغ التوتر أقصاه لدى الجميع وانتشرت داخل المجتمع طرق لامشروعة أخلاقيا وعلميا اقترنت بالممارسة التعليمية وتحولت المدرسة إلى فضاء نشكك في مصداقيته ونتهمه بفقدان براءته وبانحرافه عن مبادئ العدل وهذه حقائق لا ينكرها أحد لأن العدل هو أساسا اعتدال ينفي كل تطرف.

إن المدرسة أصبحت انتقائية في نتائجها ومتطرفة في أهدافها وتصوراتها لأن القياسات التصاعدية (عدد الناجحين)  يقابلها قياسات تنازلية (وصل عدد الفاشلين والمنقطعين إلى حوالي مائة ألف سنويا)، لكن كلها مجردة أي تتعلق بموضوعات قابلة لهذا التقييم الكمي الرياضي والإحصائي. فالمعدلات المدرسية أبعدت من حساباتها الذات البشرية بل اختزلتها في بُعد واحد يجعلها مجرد كائنٍ هشٍّ ضعيفٍ مُطيعٍ لا علاقة له بالبنائية الذاتية للفرد وحرية ضميره. لقد بلغ الانتقاء إلى درجة تجعل البعض يومن بأن الموت أفضل من الحياة. فكل انتحار لمواطن تونسي هو نتيجة لغياب وعي إنساني حقيقي يرفض فكرة الإنسان ذي البُعد الواحد وهو عبارة عن صرخة استغاثة وأمل في استعادة الفرد لحريته ليحيا ويقاوم كل أشكال الاغتراب ليعيش حياته من جديد.

المدرسة الافتراضية هي مستقبل التربية التونسية

ثمة ظاهرة حضارية معاصرة أحدثت تغييرات جذرية داخل المؤسسات التربوية وخارجها، فقد خرج الشباب وحتى الأطفال من حدود المدرسة إلى أقاليم جديدة بسبب الثورة الرقمية الافتراضية. إن هذا الخروج الجماعي التلقائي أدى إلى اتساع سريع لحركة التواصل والتعبير والانفتاح على الآخر ومنذ البدء كانت هذه الحركة كونية إذ ذابت فيها كل الفروقات العِرقية والجهوية والقومية والطبقية والجنسية والدينية والعُمرية. وهكذا تحرر الجيل الصاعد وحتى الشيوخ المواكبين من كل أشكال الهيمنة والقمع خاصة على مستوى التعبير والتفكير، فلم يعد بإمكان أي سلطة أن تحتكر لنفسها وسائل التواصل وأن تعيد أشكالا من الهيمنة واللامساواة في مجال الإعلام. إن سلسلة اللذائذ التي تتمتع بها هذه الشريحة المستفيدة من الثورة الرقمية تفسر تحمسها للتحرر من سجن المدرسة.

إن انتشار التكنولوجيا الرقمية يؤسس لمرحلة انتقالية بدأت تضفي على شبابنا المدرسي خصائص نفسية قد تجعل منه جيلا نموذجيا، جيل متمرد على بعض التقاليد البالية المُقيدة للحرية. إننا أمام حدث تاريخي، أمام ولادة إنسان جديد يمتلك وسائل إنتاج الإعلام وآلياته، وسائل قد تحقق له استقلالية سوف يشعر من خلالها بحرية لامتناهية يتحرك بها داخل هذا العالم بصفة مباشرة دون انتظار أي رخصة من أحد ودون أي نوع من القيود أو الشروط ودون مشقة التعلم المطوّل أو حفظ ما لا يجب حفظه إذ بِنقرة واحدة على فأرة الحاسوب تنفتح أمامك بنوك المعرفة العالمية من بداية تاريخ الإنسانية إلى اليوم.

لذلك نرى شبابنا تستهويه المدرسة الافتراضية وينفر من المدرسة التقليدية، إنه اليوم في وضع بين بين. إن هذه الازدواجية تجعل التعليم يتأرجح بصفة مرَضية بين عالمين: عالم سهل وسريع وممتع، وآخر ممل وثقيل وفي بعض الأحيان محبط ومقرف، وهذا ما يفسر الواقع المأساوي الذي تعيشه مؤسساتنا التربوية حيث تفجرت صورتها من الداخل والخارج. إننا نعيش اليوم شبه ثورة كوبرنيكية لأن الفضاء التعليمي التقليدي لم يعد مركزا مشعّا ثابتا يفرض جاذبية على العناصر المحيطة به، جاء مَن ينافسه، جاء الفضاء الافتراضي ذو الإشعاع الأكبر والأفق الأوسع والأرحب والأفضل والأسهل والأسرع.

فضاء جديد، سرعان ما استغله الشباب لكل أنواع التمرد والثورة والمتعة إلى حد المجون في بعض الأحيان لمحاولة الخروج على النظام الأخلاقي المتكلس السائد ولا دواء لأمراض الحرية المطلقة إلا مزيد من الحرية. هذا الفضاء الساحر جعل من مستعمليه أطفالا وشبابا وشيوخا، نساءَ ورجالا، فقراء وأغنياء، يخطون خطوات عملاقة في التمتع بحياتهم وكأنهم في حلم ويحققون بالتالي ذواتهم في ما يشبه النشوة الدائمة. إن الثقافة الرقمية ليست فقط طريقا للمعرفة بقدر ما هي طريقة للانعتاق من رقابة العائلة والمجتمع، طريقة تحول الآخرين إلى أصدقاء تسعد بلقائهم في تحدٍّ للجغرافيا والتاريخ والدين والأعراف وكل أنواع الحواجز المكبلة لحرية الفرد من أجل تجاوز المواطنية القومية العنصرية الضيقة إلى المواطنية العالمية الرحبة.

خاتمة

يتمحور الإصلاح التربوي حول ثلاث نقاط هامة:

تتعلق الأولى بالقطيعة المعرفية (La rupture épistémologique selon Bachelard) مع الماضي وعدم الرضوخ لسراب الحنين النفسي إلى مرحلة الطفولة والشباب حيث كل شيء جميل.

والثانية تؤسِّس الإصلاح على صورة جديدة للإنسان تتمثل في عدم اختزاله في بُعد واحد وذلك بتعديل المقاييس حتى تكون الوسطية (Le juste milieu d`Aristote) هي المقياس النموذجي المناسب بحق لوضع الإنسان في هذا الوجود.

أما الثالثة والأخيرة فتتلخص في السعي الحثيث لتحقيق وحدة المدرسة المعاصرة وذلك بتجاوز الانفصام والازدواجية اللذان نعيشهما اليوم بين واقع مدرستنا النقلي السلوكي التلقيني (Le transmissif, le béhavioriste, le scolastique) ومستقبلها العقلاني البنائي الديداكتيكي (Le rationnel, le constructiviste, le didactique).

 


تصدير

بقلم بلڤاسم عمامي

 



في العلاقة بين الدّولة والتّعليم في تونس:

رصد لسياقات التّحوّل ومهمّات الإصلاح التّربوي[1]

(بلڤاسم عمامي ـ  باحث متخصًّص في تعلّميّة البيولوجيا ـ ومتفقّد أوّل للمدارس الابتدائيّة)

 

التّقديم

تشهد المنظومة التربوية التونسية حالة سيئة من التدهور ومن رداءة الخدمات بما يؤشّر إلى أزمة خانقة تعيشها تونس على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإيكولوجية،  بسبب تخلي الدولة عن الإيفاء بالتزاماتها مع مواطنيها لارتباط اقتصادها بالسوق العالمية وفق تبني توصيات البنك العالمي في ما عُرف بسياسة التفويت أو الخصخصة، وفتح سوق الاتجار في المعرفة (تسليع المعرفة) والعقول أمام الخواص تحت شعارات "التعليم عن بعد" و"التعليم مدى الحياة" و"المدرسة الافتراضية"، نتج عن ذلك تفكيك التعليم العمومي ورداءة خدماته وتراكم مشاكله وتعقيدها مع عجز القطاع الخاص على ملء الفراغ وقيادة المجال التعليمي. وقد شهدت السنوات الثلاث الماضية تسارع وتيرة تراجع خدمات المدرسة التونسية متخذة أبعادا عميقة وأشكالا أكثر وضوحا جعلت "السبورة سوداء"[2]

لقد لحق التدهور كامل مكونات الفعل التربوي البيداغوجي، ففقدت المدرسة هيبتها وهُتكت حرمتها وآلت بناياتها للسقوط، وتآكلت التجهيزات وفرغت المكتبات وغابت الوسائل. ومثّل غلق مدارس الترشيح ثم المعاهد العليا للمعلمين ضررا فادحا مسّ من نوعية المدرسين المنتدبين. وتكتمل الصورة بتواتر قرارات ارتجالية كفرض مقاربات غريبة لا تراعي خصوصية الذهنية التونسية، وتحوير البرامج والمناهج وفق خيارات تنموية مستندة إلى أرقام وردية تسوّق لخطاب سياسي يبحث عن توازنه، مع ما رافق ذلك من تخبط ظهر خاصة في حذف الامتحانات الوطنية وزيادة في مواد التدريس وإقرار زمن مدرسي مثقل لكاهل التلميذ، وتعريب غير مكتمل وترويج قيم جديدة كيّفت محتوى النصوص والمحاور. لقد عرفت المدرسة العمومية أسوأ فتراتها منذ التسعينات فعجزت الدولة على تطوير التعليم نتيجة تسلط السياسات المملاة على الشأن التربوي وتخلي التنظيمات المدنية والمهنية عن دور الرقابة والتدخل في "الحياة المدرسية".

      I.            تاريخيّة المدرسة العمومية التونسية:

أ‌-       يعود تاريخ المدرسة العمومية في تونس إلى العصر القرطاجني حيث  كان التعليم عموميا ومهيكلا إلى تعليم ابتدائي ويسمى بارقولا "Pergola" منتشر في المدن وأيضا في القرى والمناطق الريفية، أما المستوى الثاني ويسمى لوداس "Ludas" ويخص الأطفال بداية من ال 12 عاما حيث يعنى بتدريس شرح النصوص والنحو ونظام المعايرة (مبحث مقادير الأدوية) والعلوم الطبيعية والرياضيات... أما المستوى الثالث فيعنى بعلم البلاغة والبيان ضمن مدارس مخصصة لأبناء الذوات والنبلاء، وأخيرا التعليم الجامعي في اختصاصات متعددة منها الآداب واللغات والحقوق والموسيقى والطب والطبيعيات (ماغون القرطاجني الذي يعدّ أب الفلاحة والذي ترك موسوعة "كتاب الفلاحة" في 28 مجلدا اعتبرها مجلس شيوخ روما المنتصرة أهمّ غنيمة حرب) لقد كانت جامعة قرطاج منافسا جديا لجامعتي روما وأثينا [3]

ب‌-   كما اهتمت الدولة الحفصية بالتعليم وكان تعليما تحت إشراف الدولة من حيث المحتويات والفضاءات والأجور، إذ لم تمض ست سنوات فقط بعد تأسيس دولته، حتى تولى أبو زكرياء الحفصي بعث أول مدرسة سنة 1234 وهي "المدرسة الشماعية" [4] بسوق الشماعين ثم المدرسة التوفيقية سنة 1252 قرب جامع الهواء وأسستها الأميرة عطف زوجة أبو زكرياء، وكان عدد المدارس العمومية في تلك الحقبة قد بلغ الخمسة عشر مدرسة في مدينة تونس لوحدها. 

ت‌-   لقد اهتمت سلطة الاحتلال بعيد انتصابها في تونس بالتعليم باعتباره وسيلة لنشر ثقافتها فبنت المدارس العصرية كنوع من الترويض الثقافي والمعرفي وفتحتها أمام التونسيين بالتوازي مع الإبقاء على التعليم الزيتوني (حظيت قريتي المكناسي بالوسط التونسي بمدرسة عصرية منذ 1903)، ولقد استفاد التونسيون من التعليم العصري وتعاطوا معه "كغنيمة حرب" مثله مثل المواصلات والسكك الحديدية والمسارح.

ث‌-  اهتمت دولة الاستقلال بالتعليم فأصدرت أول قانون ينظم التعليم [5] بتونس سنة 1958 وجعلت من غائياته الضبط الاجتماعي، بالتركيز على بناء الشخصية التونسية وتحميل المدرسة "تزكية هذه الشخصية" مثلما حددها الشيخ عبد العزيز الثعالبي منذ 1928 في كتابه "l’esprit libéral du coran  الروح التحررية للقرآن" كالتالي: "أن يستمدّ المسلم العناصر القادرة على تغيير عقليته وتحويله إلى إنسان جدير حقيقة بهذا الاسم، أي إنسان حرّ ومتعلّم ومتأثّر بكلّ ما له علاقة بالإنسانية والرّقيّ والحضارة"[6]،  وهي ذات المبادئ التي نصّ عليها الفصل 39 من دستور 2014، وتحصين التعليم من "إمكانية العودة إلى النّمط الزيتوني"بجعله تعليما عصريا وموحّدا، وضمان استمرارية الإدارة والدواوين وتزويدها بالإطارات الوطنية تعويضا للأجانب المغادرين، واعتبار أن التعليم عامل ترقّ اجتماعي  فتعزّزت مكانته  في التّمثلات الاجتماعية للتونسي.

ولقد تمثل هذا الاهتمام  خاصة في سَنّ التشريعات ورصد التمويلات (ثلث الميزانية يخصص للتعليم) وضبط التوجهات الكبرى والمحتويات وبناء الفضاءات في كامل أنحاء البلاد وتأمين تكوين المعلمين والأساتذة (بعث دور ترشيح المعلمين) مع قدرة تشغيلية عالية لخريجي المدارس. هكذا لعبت الدولة دورا تنمويا شمل قطاعات واسعة من المجتمع وأنشطته وعلى رأسها التعليم.

   II.            ملامح أزمة النظام التونسي، التعليم نموذجا:

اتخذت الأزمة التي تعيشها تونس مظاهر متعددة مست النسيج الاجتماعي والاقتصادي والتنموي وتدهور الوضع المعيشي والصحي إذ بلغت نسبة الفقر مستوى عال سنة 2014  حيث يعيش ربع سكان البلاد حالة من الفقر المدقع منهم 20 %  تحت خط الفقر، كما تفشت ظاهرة البطالة ليصل العدد إلى ما يقارب 700 ألف بطال تمثل النساء منهم ثلاثة أخماس في حين بلغ عدد البطالين من حاملي شهادات جامعية 160 ألفا والعدد في تزايد سنويا أمام تخرج ما يقارب الـ80 ألفا، وتزايد عدد المتسربين من المدارس والمعاهد (بلغ عددهم سنة 2013 فقط الـ100 ألفا) مقابل ضعف وتيرة الانتداب وخلق مواطن شغل حقيقية، مع ارتفاع جنوني في الأسعار وتدهور المقدرة الشرائية وتراخي الدولة في تقديم الخدمات الصحية والبريدية والتعليمية والبلدية وتخريب البُنى التحتية، وإهمال تام لقطاعات الشباب والثقافة والمرأة،  والتغاضي على ما أصاب الأنظمة الإيكولوجية من دمار (محميات مهملة، نفايات، تلوث البحر والصحراء..) تصبح الصورة أكثر بؤسا مما أدى إلى تفشي ظاهرة العنف والانحراف وتعاطي المخدرات والتفكك الأسري.

ولعل من أسباب تخلّي الدولة عن التزاماتها إزاء مواطنيها قلّة مواردها وارتباط اقتصادها كليا بالدوائر المالية العالمية مما سارع في وتيرة التّداين إذ بلغت الديون الخارجية للسنة الحالية  48 % من الناتج الخام وتمثل كلفة سدادها سنويا 18 % من ميزانية الدولة، وكنتيجة لذلك، أجبِرت الدولة على فتح السوق المحلية أمام منتوجات الدول الكبرى دون قيود وكذلك تشجيع الاستثمارات الأجنبية بشروط مجحفة ضد مصالح الدولة، ضمن علاقة غير متكافئة مع دوائر المال والأعمال العالمية تحولت من "استشارات إلى نصائح فتوجيهات ثمّ إملاءات " في شكل برامج لإعادة "هيكلة الاقتصاد" وفرض منوال تنمية تابع.            

ولم يبق قطاع التعليم في منأى عن تأثير الأزمة العالمية على تونس، إذ دخلت العلاقة بين الدولة والتعليم حقبة مغايرة مع نهاية السبعينيات، ففُرضت  على تونس شروطا مجحفة مقابل الحصول على قروض لعل من أهمها "تخفيف عبء المصاريف العمومية" والتعليم في مقدمتها، الذي شهد تسارعا في عملية التراجع والتفكك ليبلغ أوجه بإقرار "مشروع مدرسة الغد" في 2002 تحت شعار "تعزيز الهوية" ضمن خصومات سياسية للنظام السابق مع "فكر الإسلام السياسي"، فحظي التعليم الخاص بتشجيعات كبيرة وزحفت الجامعات الخاصة محمية بترسانة من التشريعات ومرونة كبيرة في اعتماد شهائدها.

رضخت الدولة لشروط المانحين وأعلنت "مرحلة التقشف" للتخفيف من أعباء الإنفاق العمومي، وتمّ تدريجيا تحرير السوق وخصخصة المنشآت العمومية حتى الاستراتيجية منها، وفُتح قطاع التعليم أمام المستثمرين وهو ما مثّل تحوّلا في موقع التعليم الخاص في علاقته بالتعليم العمومي من دور "الإسناد" إلى دور"الرّيادة" خاصة في الابتدائي، انجرّ عنه تراجع  لمكانة التعليم في التمثلات الاجتماعية. وتزامن ذلك مع مرونة في شروط معادلة الشهائد الجامعية، ففقدت الجامعة التونسية مكانتها عالميا (الجامعة التونسية لا توجد ضمن 70 جامعة الأولى بإفريقيا ولا ضمن الـ500 جامعة الأولى في العالم)، وتفاقم فشل المدرسة واستفحلت ظاهرة التسرّب المدرسي، وسقطت كل الأوهام حول "التشغيلية بارتباط بسوق العمل الأوروبية"، فارتفعت نسب البطالة مع هبوط في المستوى الفكري، وتفشت ظواهر اجتماعية غريبة مثل الانحراف والعنف والغش والهجرة السرية والتكسب السهل وغير المشروع والإرهاب والتهريب.  وتكتمل الصورة برفع الدولة يدها عن التعليم العمومي وذلك بـغلق مدارس الترشيح والمعاهد العليا للمعلمين وتقليص ميزانية التربية (من ثلث الميزانية إلى 17%  فقط) وتكريس مبدأ عدم المساواة بإقرار التعليم النموذجي واعتماد مقاربات ومحتويات بشكل اعتباطي  والإحجام عن القيام بأي إصلاح جدي.

III.            المدخل إلى إصلاح المنظومة التربوية:

إن الوضع الراهن للتعليم العمومي مرتبط وثيق الارتباط بخيارات الدولة السياسية والاقتصادية وبالتحولات الاقتصادية العالمية كنتيجة لارتهان القرار السيادي بيد الدوائر المانحة، وهو وضع استفحل منذ ما يزيد عن عشريتين، وبالتالي فإن كل إصلاح لا يتوجه نحو تغيير شامل لمنوال التنمية الحالي حيث يتبوّأ العامل الاجتماعي أولوية مطلقة في اهتمامات الدولة، هي محاولات فاشلة والحديث عن مقاربات وبرامج وهيئات عليا تمثيلية هو من باب الترقيع الذي لن يزيد المشكل إلّا تعكيرا.

حين يتم الفصل في مناويل التنمية وتبجيل الثروة البشرية، سنعرف كيف نضع الحجرات الأساسية لمجتمع السعادة تعضده مدرسة تنويرية متأصلة في تربتها قادرة على مساءلة التفكير والعلوم واللغات والفلسفة والفنون والتربية على المواطنة والانتماء وعلى تحديد موقع التربية من النهوض الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمعرفي والاستثمار في ذهنية البشر وتفكيرهم وحسّ المواطنة فيهم والتّجذّر التواق إلى التنوير والحداثة والاكتمال والحرية والقيم الإنسانية واحترام الحياة والبيئة، وتوظيف الثروات للإشباع والسعادة للأجيال الراهنة واللاحقة، حينها يصبح يسيرا الخوض في مسائل - على أهميتها - ذات علاقة بالزمن المدرسي والمحتويات والمقاربات والانفتاح على التجارب العالمية الرائدة للاستئناس بها و"صناعة" نماذج ناجحة في علاقة بجوهر مكونات الفعل التربوي والتعليمي لا بنواتجه كنظام الرسوب واعتماد الغرابيل (الامتحانات الوطنية) وتطوير نظام التقييم.

 لقد حان وقت مراجعة فلسفة التربية والتعليم في تونس بما هي مطلب حياتي من أجل إرساء معرفة تنويرية بهدف تحقيق السعادة، وهذه لها شروطها: منها الاستقلال بالقرار حول التعليم ورفع القرار السياسي عن الشأن التربوي ورفض توصيات البنك العالمي بما يعني تخصيص ميزانيات كبيرة للتعليم بفروعه حتى ينجح في أداء مهمته،  وهي قرارات مصيرية تتطلب حوارا وطنيا  عميقا نتيجة ما يستتبعه من تضحيات المجموعة الوطنية في سبيل توفير الموارد اللازمة، حوار وطني يضمّ كل المتدخلين في التربية ومكوّنات المجتمع المدني والأحزاب والأولياء، حوار يكون فيه للنقابيين وللاتحاد العام التونسي للشغل دور مهم في صياغة مشروع يُعرض للنقاش الجدي تمثل "الندوة الوطنية حول إصلاح المنظومة التربوية" المنعقدة بالحمامات أيام 24-25-26 نوفمبر 2014 انطلاقته. ولعل توفر هذا الإطار للتداول حول مسألة إصلاح التعليم يتوصل إلى ضبط خطتين واحدة آنية تبحث في مهمة إيقاف النزيف، والثانية تضع أسس إصلاح واع ودائم لعل من مشمولاته البحث حول:

1.    انتداب المدرسين من بين خرّيجي كليات ومعاهد عليا للتربية واللغات.

2.    منظومة التكوين والتفقد والمساعدة البيداغوجية وتكوين المكونين.

3.    المحتويات والكتب المدرسية بما يؤسس لمواطن منغرس في وطنه ومنفتح ومحب لبيئته.

4.    الزمن المدرسي بما يوفر وقتا معقولا لممارسة الهوايات وتمتين العلاقات بالعائلة والنوادي. 

5.    الفضاءات  اللازمة للتدريس والمراجعة والتغذية والنوادي الثقافية والمخابر والمكتبات.

6.    إطار التسيير الإداري من قييمين وإداريين وعملة وهيئات التأطير النفسي والصحي والاجتماعي.

 

لقد عاشت كوريا الجنوبية وضعا شبيها بما عاشته تونس، غير أنها اتخذت في بداية الثمانينات من القرن الماضي موقفا سياديا وطنيا حين قررت صرف كامل مقدار القرض الذي منحه إياها البنك العالمي في تطوير التعليم، فخصصت أعلى الأجور للمدرسين وهيأت الفضاءات والمطاعم وأمّنت نقل التلاميذ، وضبطت نظاما صارما على الدوام المدرسي ووضعت برامج تعليمية دقيقة ترتكز في السنوات الأولى على تدريس اللغات والتربية المدنية في علاقة بالانتماء وحب الوطن وثقافة حقوق الإنسان والتسامح والتشارك وقبول الآخر، كما وضعت هياكل صحية وهيئات إنصات وخبراء علم نفس الطفل ووفرت ميادين الرياضة ونوادي لممارسة الفنون... كوريا الجنوبية الآن تغزو العالم بفضل استثمار الدولة في الثروة البشرية... في تلك السنة، نالت الدولة التونسية قرضا بنفس القيمة، ولكنه وظّف في تمويل مشاريع وهمية من نوع "التنمية الريفية" وجزؤه الأكبر تلاشى رشاوى.

اليوم، تدفع المجموعة الوطنية ما يقارب خمس ميزانيتها لأداء خدمة الدين الخارجي وهو ما يفوق نصيب فروع التعليم الثلاثة، وبعملية بسيطة يمكن تخيل واقع التعليم لو تم توجيه تلك المبالغ للقيام بثورة حقيقية في قطاع التعليم ضمن مخطط  واقعي على مدى عشرة سنوات، الأمر الذي يتطلب قرارا سياديا من سلطة تحترم مواطنيها.     

إن المدرسة التي يتم الترويج لها هي مؤسسة لإعادة إنتاج الطاعة وضحالة الفكر وتوفير احتياطي بشري يستجيب لبرامج المانحين ومخططاتهم وإدارة أعمالهم القذرة وتهيئة "أسباب إثراء أغنيائهم" وتلبية حاجيات شعوبهم، ومدرسة بهذه الملامح ليست مدرستنا وبالتالي لا تعنينا.

وعلى النقيض من ذلك، فإن ملامح مدرسة تكافؤ الفرص الشعبية والديمقراطية، المدرسة التي نطمح إليها يجب "أن تقدّم للشباب كل الشباب المعارف والقدرات النشطة التي تسمح بالمساهمة في تحويل هذا العالم الجائر"[7]. فيجب إعادة بناء المدرسة وجعلها مكانا نلتقي فيه كي نتعلم ونفكر ونعبّر ونتذوق الفنون  ونكتشف معا وجود عوالم أخرى في رؤوسنا وفي حياتنا، مدرسة تؤسس للسعادة وللإشباع وتنحاز للحياة،   وهي المدرسة التي يحدّد ملامحها فيليب ميريو[8]: "المهم في الوقت الراهن هو خلق مدرسة تكون فضاءًا للتفكير ولتجريب عمل جماعي (...) لا يجب أن تقتصر مهمة المدرسة على اكتساب جملة الكفايات رغم أهميتها، بل تكمن المهمة في النفاذ إلى التفكير. فبواسطة العمل الفني والعلمي والتكنولوجي يتهيكل التفكير ويكتشف متعة قابلة للمشاركة (...) إنها مسألة مجتمعية تتطلب حوارا ديمقراطيا حقيقيا".

إننا لا نستطيع بناء هذه المدرسة وفق هذه الشروط المجحفة والاستغلال المتزايد والارتباط المتعمق سنة بعد أخرى بتوصيات البنك العالمي وأوامر الدول الغنية المانحة وضعف ممارسة الدولة المحلية لسيادتها على قرارها وعلى مقدّراتها وثرواتها وعلى التخطيط لمستقبل أجيالها.

إننا لا ننتظر حلولا عاجلة لمشكلات التعليم في تونس حين يقوم منطق  الميزانية العامة [9] على الترفيع في نفقات البوليس (بـ 72.2 %)   والجيش (بـ 48.8%) ووزارة الشؤون الدينية (بـ 44.3 %) مقابل زيادة في نصيب التربية بـ 8.9 % فقط،  في حين يتم تخفيض نصيب الثقافة بـ9.8 %  والنقل بـ 4.4 %  وذلك في مقارنة بين ميزانية 2011 وميزانيتي 2012  و2013.

إنه على نقيض هذه العلاقات القائمة على احتكار الثروة واحتكار الحاضر والمستقبل ومصادرة الحلم،  نقرأ ضرورة إصلاح المنظومة التربوية والاجتماعية والصحية والثقافية والبيئية. إنّ إنقاذ المدرسة العمومية وتحريرها من هيمنة مقررات الجهات المانحة بالتوجه التدريجي نحو "خصخصة التعليم" ومن هيمنة المشاريع البدائية بالتوجه نحو إحياء التعليم الديني "الحلال" هو واجب وطني وإنساني وحياتي ستحاسبنا عليه الأجيال القادمة... وهي دعوة للوعي بخطورة التدهور الممنهج للمدرسة العمومية وللتعليم بفروعه الثلاثة ولاستنباط طرق جديدة للمقاومة تتجاوز الانتظارية والمطلبية وتحميل الآخر مسؤولية تهرئة التعليم العمومي.. نقاوم بالاحتجاجات وبتوعية المتدخلين وبشراكة ضرورية وحاسمة مع المجتمع المدني وبالتشجيع على المبادرات وعلى البحث في مجال التعليم... نقاوم بالحرص على تقديم تعليم مفيد وعلى تعزيز الثقة لدى التلميذ وعلى تغذية الحلم لديه في مستقبل يجب أن يكون جميلا.

يجب أن نعود إلى كتب التاريخ لنقرّ بإمكانية حصول تغيير جذري لصالح الأغلبية المسحوقة من أجل مجتمع حيّ واع محب للحياة وطامح للسعادة.  لا خيار أمامنا غير أن نقاومَ ما يتم التحضير له ونرفضَ هذا الواقع الأسود المبشّر بالبؤس والتخلف والدمار وننخرطَ في بناء واقع الألوان أين سيكون في النهاية للكلّ متعة التعلّم، ولعله يكون للتعليم الخاص دور يلعبه في الإسناد والانتشال.

مراجـــــــــــــع:

[1] هذا النص عبارة عن محاضرة ألقيت خلال "الندوة الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية" بالحمامات في 24-25-26 نوفمبر 2014 من تنظيم قسم الوظيفة العمومية بالاتحاد العام التونسي للشغل.

[2] "السبورة السوداء" رؤية نقدية لمشروع خوصصة التعليم قدمها البلجيكيان "جيرار ديسليس (صحفي) ونيكو هورت (مدرّس) في 1998 حاولا من خلالها تقديم الأسباب الحقيقية لمشاريع خوصصة التعليم بكشف الأهداف الخفية لها باعتبارها مشروعا تجاريا كونيا للتعليم الخاص يجب أن يُفتح  بكل الطرق: إن بالضغوط الديبلوماسية والتجارية والرشوة والخنق الاقتصادي والتّهرئة المتعمدة لمؤسسات التعليم العمومي أو بالسلاح (فلسطين، العراق، أفغانستان، ليبيا، سوريا..) تولّى تعريب هذا الكتاب "محمد عمامي" ونشر بدار "التقدم" للنشر – تونس سنة 2002    

[3] هنري إيريناي مارو، تاريخ التربية في العصور القديمة، 1951 دار نشر سوي SEUIL

[4] محمد بلحاج عمر، صفحات من تاريخ التربية في تونس، 2008، دار دمدوم للنشر تونس، ص 48 

[5] قانون رقم 118 لسنة 1958 المؤرخ في 4 نوفمبر 1958 يتعلق بالتعليم

[6] الشيخ عبد العزيز الثعالبي، روح التحرر في القرآن، دار المغرب الإسلامي، بيروت، ص118 

[7] "السبورة السوداء" انظر المرجع (2)

[8] فيليب ميريو- جريدة لوموند- 2 سبتمبر 2011

[9]عن دراسة للدكتور فتحي الشامخي حول ميزانية 2014


تعريف علم "التعلّميّة "

(La Didactique de la Biologie)

تعريف الإبستمولوجيا:

الأصل اللغوي الإغريقي للمفهوم: الإبستِمِي (علم)، لوڤوس (دراسة). هي دراسة فلسفية نقدية للعلوم، تهدف إلى معرفة منشئها المنطقي وقيمتها وجدواها. الإبستمولوجيا تدخل في نظرية المعرفة وإبستمولوجيا التعليم (La Didactique) تدخل في مجال علوم التربية.

Source: Dictionnaire “Le Petit Robert”, 1981, p 674.

ÉPISTÉMOLOGIE [epistemͻlͻʒi]. n. f. (1907 ; de l`angl. (1856) ou l`all. ; du gr. epistêmê « science », et logos « étude »). Philo. Étude critique des sciences, destinée à déterminer leur origine logique, leur valeur et leur portée. L`épistémologie entre dans la théorie de la connaissance.


بطاقة تعريف علم "التعلّميّة " (أو الديداكتيك أو إبستمولوجيا التعليم أو فلسفة التعليم)

 

برز هذا العلم  في فرنسا في السبعينات من القرن الماضي كردّة فعل على فشل التلاميذ في تعلّم الرياضياّت الحديثة فتأسّست "تعلّميّة الرياضيّات"، أوّل اختصاص. دخلت تعلّميّة المواد (La didactique des disciplines) إلى تونس في التسعينات من القرن الماضي على يد بعض الروّاد, أذكر من بينهم على سبيل الذكر لا الحصر الأستاذ أحمد شبشوب رئيس الجمعية التونسية لـ"التعلّميّة" والأستاذة عَطْفْ عزّونة المشرفة على قسم تعلّميّة البيولوجيا بجامعة تونس والأستاذ سالم عبّاس (المشرف التونسي على أطروحتي) والأستاذ منذر عبروقي أوّل دكتور تونسي في تعلّميّة البيولوجيا. احتضن المعهد الأعلى للتربية والتكوين المستمر بباردو (Ancien ISEFC - يسمى الآن الجامعة الافتراضية) هذا الاختصاص الجديد في علوم التربية ووفّر له الأرضيّة اللوجستيّة وأفضل الأساتذة من تونس أمثال نور الدّين ساسي ومحمد بن فاطمة ومهدي عبد الجوّاد ومن فرنسا أمثال  بيار كليمان وكوكيدي وأستولفي وأورانج وجيوردان غيرهم وها نحن نواصل   نشر تعليم التعلّميّة, الجيل المخضرم من كهول وشباب.

سأحاول تقريب الصورة في أذهان القرّاء مقارِنًا بين هذا العلم الجديد وعلم سبقه وما زال ينافسه وهو علم البيداغوجيا:

البيداغوجيا   (la pédagogie)

-         اختصاص جامعي يدخله حاملو الباكلوريا.

-         يخوض المختصّ في البيداغوجيا في تمشّيات "تعليم" كل المواد فهو بمثابة الطبيب العام.

-         يسلّط المختصّ في البيداغوجيا الضوءَ في المثلّث البيداغوجي (مدرّس-متلقّ-معرفة) خاصة على طرق التدريس وأداء المدرّس مع عدم إهمال الركنين الآخرين.

 

التعلّميّة (la Didactique)

-         اختصاص مرحلة ثالثة لا يدخله إلاّ المجازون.

-         يهتم المختصّ في التعلّميّة بتمشّيات "تعلّم" مادّة معيّنة فقط كاللغة أو التاريخ أو البيولوجيا فهو بمثابة الطبيب المختصّ.

-         يسلّط المختصّ في التعلّميّة الضوء في المثلّث التعلّمي (مدرّس – متلقّ – معرفة) خاصّة على طرق التعلّم وأداء المتلقّي (تلميذ أو طالب أو متكوّن) وعلى نقد المعرفة المدرَّسَة في علاقتها بتعلّم المتلقّي وأداء المدرّس.

 

مقارنة بين البيداغوجيا والتعلّميّة

-         يشتركان في الجمهور المستهدف المتكون من رجال التعليم ونسائه و التكوين والتلامذة والطلبة ومصممي البرامج وغيرهم.

-         يشتركان في جلّ المفاهيم المستعملة مثل "تصوّرات المدرّسين" و"تصوّرات التلامذة والأساتذة" و"العوائق الإبستومولوجيّة والنفسيّة" و"الصراع الإجتماعي-المعرفي" (le conflit socio-cognitif)  و"الوضعية-المشكل"  (la situation-problème) وغيرها.

-         يشتركان في العلوم المرجعيّة مثل علم النفس وعلم الإجتماع وعلم الإحصاء والإبستومولوجيا وعلم التقييم وتاريخ العلوم وغيرها.

-         يتصارعان على النفوذ في الجامعة وفي وزارة التربية.

-         يتنافسان لكنهما يتكاملان في رفع مستوى التعلّم والتعليم.

-         في بعض الأحيان يلتقي الإختصاصان في شخص واحد مثل العالِمين الفرنسيّين جيوردان وأستولفي (Les deux sont pédagogues et didacticiens à la fois).

 

 

حتّى أعرّف أكثر بـ" تعلّميّة المواد"، أعطي نبذة حول بعض المفاهيم التي يشتغل عليها هذا العلم الجديد:

-         تصوّرات المتلقّي (les conceptions de l’apprenant):  يأتي التلميذ أو الطالب إلى القسم وهو يحمل تصوّرات غير علميّة في أكثر الأحيان حول موضوع الدرس : مثلا يعتقد أنّ النبتة الخضراء تتنفّس عكس الإنسان والعلم يقول أن النبتة تتنفس مثل الإنسان, تأخذ الأكسجين وتطرح ثاني أكسيد الكربون نهارا وليلا لكنها تقوم بوظيفة أخرى تسمى  التركيب الضوئي (Photosynthèse)  حيث تأخذ ثاني أكسيد الكربون وتطرح الأكسجين بحضور الضوء. تنبثق هذه التصوّرات من التّفاعل الذي يقع بين ما يحمله المتلقّي من معرفة وقيم وسلوكيات وبين ما يدرسه في المعهد.

-         العوائق (les obstacles):  منها التصوّرات غير العلميّة أو المعرفة العامّة البسيطة المكتسبة لدى المتلقّي والتي قد تعوق اكتسابه لمعرفة جديدة. يبدو أنّ للعوائق  ثلاثة مصادر : العوائق الإبستومولوجيّة, مثلا العائق المتمثّل في الإعتقاد غير العلمي القائل بتوريث الذكاء أو العائق غير العلمي القائل بثنائيّة البيولوجي والنفسي في جسم الإنسان. العوائق التعلّميّة الناتجة عن المدرّس نفسه, مثلا عندما يغرس في التلميذ معرفة غير علميّة كأن يقول له أن المخّ يسيّر أعضاء الجسم كما يسيّر قائد فرقة موسيقيّة أفراد الفرقة. العوائق المتعلّقة بنمو الفرد منذ ولادته ومنها الإعاقات النفسيّة-العضويّة.

-         تغيير التصورات من تصور غير علمي إلى تصور علمي:  وهو التحوّل المرجوّ بعد التعلّم (le changement conceptuel).

-         الصراع "الاجتماعي-المعرفي" (le conflit socio-cognitif): هو الصراع الذي يقع في مخ المتلقّي عندما يجد نفسه في وضعيّة تعلّميّة أمام معرفة جديدة بحضور الأقران والمدرّس.

-         "الوضعية-المشكل"   (la situation-problème)  : وضعيّة تعلّميّة يتوفّر فيها كل مايحتاجه التلميذ. تُبنى فيها اشكاليّة وعلى المتلقّي فكّ رموزها بمساعدة مدرّسه و/أو أقرانه وهذه الطريقة تُعتبر ثورة على الطريقة التلقينيّة التقليديّة.

-         تحليل ونقد الكتب المدرسيّة  (l'analyse des manuels)  :  يحلّل المختص في التعلّميّة كل محتويات الكتاب من نصوص وصور وبيانات. يهدف من بحثه الدقيق والمفصّل رصد كل ما قد يمكن أن يجرّ المتلقّي إلى الخطأ أو يعيق عمليّة التعلّم لديه.

-         "إدراك عملية الإدراك" (La Métacognition) :  تتمثل هذه العملية في التفكير في آليات التفكير وفي معرفة أننا نعرف وفي اختيار الطريقة الأنسب لحل المشاكل، وكما قال بيار قريكو: " لو أن الإنسان الذي يقول لا أعرف, عرف لماذا يقول لا, لكان قادرا على تحديد نعم المستقبلية" أو كما يقول المثل الصيني المشهور " لا تعطني سمكة بل علمني كيف أصطاد"  والسمكة في التعليم هي المعلومة وتعلّم الصيد هو "إدراك عملية الإدراك". أثناء "إدراك عملية الإدراك" ينشط التلميذ ذهنيا وليس تطبيقيا وقد ثبت أن هذا النوع من النشاط الذهني البحت يسمح بالوعي والشعور بالإجراءات والطرق والسيرورات الذهنية الموظفة لحل المشاكل ويرسّخ اكتسابها.

 

عندما تهتم التعلّميّة بنقد الأركان الثلاثة للمثلّث التعلّمي (مدرّس ومتلقّ ومعرفة) فهي قد تستعدي بعض الأطراف  دون قصد منها ممّا قد يجلب لها عداوة شرسة غير شرعية وغير علمية (تلامذة ومدرّسون وأولياء ومؤلّفو كتب مدرسيّة ومصممو برامج ومتفقّدون وسياسيون).

يبدو للمختصين في التعلمية أنّ الدراسة الأكاديميّة لـ" التعلّميّة " ضروريّة لممارسة مهنة المدرّس في التعليم الإبتدائي والثانوي والجامعي, كلّ في اختصاصه. يتفرّع علم "التعلّميّة" لعدّة اختصاصات مرتبطبة بالموادّ المدرجة في برنامج التعليم أو التكوين مثل  تعلّميّة البيولوجيا, تعلّميّة الفرنسيّة, تعلّميّة الرياضيّات, تعلّميّة العربيّة, تعلّميّة الفيزياء والتكنولوجيا, تعلّميّة التربية البدنيّة, تعلّميّة التاريخ, تعلّميّة الجغرافيا. في النهاية, أستسمج أصحاب التفكير الديكارتي الصارم في التعبير عن شعوري الذّاتي نحو علم  "التعلّميّة" : أنا عشقت هذا العلم الذي أمضيت في دراسته  سبع سنوات من عمري بين جامعة تونس وجامعة كلود برنار بفرنسا صحبة زملاء وزميلات من أروع ما يكون. فتح لي هذا العلم أبواب المعرفة على مصراعيها وحرّرني من سجن العلوم التجريبيّة فاندفعت أسبح في العوالم الرحبة للعلوم الإنسانيّة الراقية مثل  تاريخ العلوم والابستومولوجيا وعلم النفس وعلم الإحصاء وعلم التقييم وعلم المناهج وعلوم التربية. عشت خلالها جلسات صوفيّة من اللذّة الذهنيّة في حضرة علماء ميتين، احتلوا فيّ الشرايين والخلايا. ماتوا ولكن أعمالهم لم تندثر من أمثال العالم "بياجي" مؤسّس "علم النفس المعرفي" (La psychologie cognitive)  وعلم "إبستيمولوجيا النمو عند الطفل"  (l'épistémologie génétique de l’enfant)   ومخترع مفهوم "البناء التدريجي والمعقّد للمعرفة لدى الطفل"   (le constructivisme)  والعالم "فيقوتسكي" (عالم النفس والبيداغوجيا وصاحب  نظريّة "المنطقة الأقرب للنمو الذهني"   (La ZPD: Zone Proximale de Développement) والعالم "باشلار" مكتشف  مفهوم "القطيعة الإبستومولوجيّة" في تطوّر العلوم   (La rupture épistémologique).

أتمتّع اليوم بصداقة علماء أحياء من أمثال "بيار كليمان" (المشرف الفرنسي على أطروحتي)  من جامعة كلود برنار و"أندري جيوردان" مؤلّف ثلاثين كتابا والحامل للشهائد من كل زوجين اثنين (2 إجازة و2 دراسات معمّقة و2 دكتورا) وكان أول مدير يخلف بياجي على رأس مخبر ابستومولوجيا وتعلميّة العلوم بجامعة جنيف في سويسرا.  أسفي الوحيد أنّني  تحصّلت على الدكتورا في الخامسة والخمسين من عمري لأسباب يطول شرحها والباحثون في العلم يعرفون أنّ هذه الشهادة العليا في التعليم ليست إلا بطاقة دخول لعالَم البحث العلمى.

 


 

 

محور 1

حول التعليم في تونس



التعليم في تونس: هل هو هرم مقلوب؟

 

استوحيت هذه الخواطر من معاناتي في القسم كأستاذ تعليم ثانوي في ضواحي تونس. كنتُ أدرّس علوم الحياة والأرض بالفرنسية للسنة الأولى من التعليم الثانوي. في الثلاثي الثاني من السنة الدراسية 2009-2010, طلبتُ من تلامذتي واجبا منزليا يتمثل في انجاز تمرين عدد 3 صفحة 73 من الكتاب المدرسي الوحيد بعد ما شرحتُ لهم كتابيا في القسم تمرين عدد 1 صفحة 62 من نفس الكتاب. تشجيعا وترغيبا لهم و رفعا لمعنوياتهم المتردية لتدني معدلاتهم في علوم الحياة و الأرض في الثلاثي الأول, وعدتهم بإسناد 20 على 20 في فرض الأشغال التطبيقية لكل تلميذ يقوم بواجبه المنزلي، نعم وللأسف الشديد يقوم بواجبه المنزلي فقط. في الحصة الموالية, وكما هو منتظر في هذا الزمن الردئ، لم يقم بالواجب إلا 36 تلميذا من مجموع 180 تلميذ (عدد تلامذتي في ستة أقسام). لم يتفطن إلا تلميذ واحد منهم (صاحب معدل 17 من 20) أن التمرينين, المشار إليهما أعلاه, متشابهان تماما. قلت لهم معاتبا: لن تجدوا أستاذا يشجعكم ويرغّبكم في العمل أكثر مني ولن أجد أنا, تلامذة أذكى منكم في الضرر بأنفسهم.

لماذا لا يعمل التلميذ التونسي؟ هل هو كسول بطبيعته؟ لماذا يلجأ التلميذ التونسي إلى العنف اللفضي وفي بعض الأحيان المادي؟ لماذا يلجأ التلميذ التونسي إلى الغش؟ هل هو عنيف بطبيعته؟ هل هو غشاش بطبيعته؟ هل هو المسؤول الوحيد على عنفه وغشه وتردي مستواه التعليمي؟

 

هل الأساتذة يفهمون أن تلامذتهم لا يفهمون؟

أغلب الأساتذة مجازون في اختصاصاتهم، فهم إذن يملكون معرفة علمية جامعية، لكن أغلبهم أيضا لم يتكونوا في علوم التربية وعلى سبيل الذكر لا الحصر، أذكّر ببعضها: البيداغوجيا، الديداكتيك، الإبستمولوجيا، علم نفس الطفل، علم التقييم، علوم التواصل، علوم الحاسوب، تاريخ العلوم، معالجة الصورة وتفسيرها، إلخ.

هل الوزير مطّلِعٌ على المستوى العلمي الصحيح للتلميذ؟

هل الدولة تستشرف مستقبل التعليم في تونس؟

تخصّص الدولة ميزانية ضعيفة جدا للمرحلة الأولى من التعليم الابتدائي، أول مرحلة من التعليم الأساسي: أقدم لكم هذا التقرير التقريبي في أكثر المدارس الابتدائية: أقسام مكتظة, تلامذة لا يلعبون الرياضة, لا يستعينون بالحاسوب, لا توجد مخابر ووسائل إيضاح ومجسّمات لتدريس العلوم, لا يوجد معلم مختص في مجال معين, لا توجد في بعض المدارس آلة ناسخة ولا أنترنات ولا قاعة معلمين ولا بيت راحة للمعلمين, لا يوجد مقياس علمي للنجاح فالارتقاء أصبح تقريبا آليا. ألغِي امتحان "السيزيام", الغربال الوحيد في الابتدائي. ينجح التلميذ إلى السابعة أساسي وهو لم يتملّك بعدُ كفاءات الابتدائي الأساسية الثلاث وهي التعبير الشفوي والتعبير الكتابي بالعربية والفرنسية والحساب. يفشل أكبر عدد من التلامذة في السنة الأولى إعدادي (أو السابعة أساسي) لعدم تأهيلهم في الابتدائي لهذه المرحلة.

ترتفع ميزانية المدرسة الإعدادية والمعهد كثيرا بالمقارنة مع المدرسة الابتدائية لكن يُصرف أغلبها في استهلاك الإضاءة والماء والطباشير والطباعة وتسخين مكاتب الإداريين. ألغِي امتحان "النوفيام", الغربال الوحيد في الإعدادي. ينجح التلميذ إلى الأولى ثانوي فيتعرض لأول عائق تعلمي (Obstacle didactique: obstacle créé par le systeme éducatif lui-même) ألاَ وهو تدريس كل المواد العلمية بالفرنسية بعد ما كان يدرسها بالعربية طيلة تسع سنوات تعليم أساسي.  في السنة الأولى ثانوي, ألاحظ أن النجاح الآلي وتدريس العلوم بالعربية أوصل إلينا أكثرية من التلامذة لا يستوعبون الدرس  باللغة الفرنسية ولا يفهمون منه شيئا وفي هذه الحالة يلجأ بعضهم إلى تعطيل سير الدرس والتشويش والعنف والغش الواضح والفاضح والوقح حتى يفرضوا أنفسهم في القسم. هنا يندرج تشكي الأساتذة من عنف وغش تلامذتهم ويتهمونهم بشتى التهم من غباء وعدم تربية وقلة انضباط واستهتار بالقيم. أنا لا أنزّه التلميذ بل أحاول فقط تسليط نظرة شاملة على المشكل وقد تبين لي أن التلميذ ضحية ومسؤول في نفس الوقت. التلميذ هو نتاج ما صنعت أيدينا من سياسة تربوية فاشلة سَنَّها وطبقها كهول وليس مراهقين, فقبل أن نلوم التلميذ والولي, علينا إذن أن ننقد أنفسنا ووزارتنا والمبرمجين والمتفقدين والإداريين. أنا لا ألوم تلميذا لم يتأقلم مع هذا الوضع السيئ.

بقي امتحان "الباكلوريا" شكليا وألغِي فعليا  وذلك باحتساب المعدل السنوي بنسبة الـ25% في معدل النجاح في الباكلوريا. قد يتحصل التلميذ عل شهادة "الباكلوريا" بـ 8 معدل فقط في الامتحان الرسمي، لكن مع احتساب المعدل السنوي بنسبة الـ25%  في المعدل النهائي للنجاح في الباكلوريا، قد يصل إلى معدل 9 من 20 مما يؤهله للنجاح بالإسعاف. يرتقي التلميذ إلى الجامعة وهو لم يستعد لها علميا تمام الاستعداد في الثانوي. في باكلوريا 2015، ألغِيَ العمل بهذا النظام الجيد في أهدافه والسيء في تطبيقاته.

ترتفع، على حد علمي، ميزانية الجامعة كثيرا بالمقارنة مع الابتدائي والإعدادي والثانوي لكن للأسف فهي لا تُنفق في البحث العلمي وتجهيز المخابر. رغم بناء عشرات الكليات والمعاهد العليا في كل الولايات التونسية، ما زالت جامعات السبعينات تستوعب بنفس الفضاءات آلاف الطلبة في 2010 ككلية العلوم وكلية الحقوق وكلية الهندسة بالمركب الجامعي وكلية 9 أفريل بتونس العاصمة.

 

خلاصة القول

حسب وجهة نظري المحدودة جدا كغير مختص في تقييم أداء وزارة التربية, أرى أن فشل التلميذ التونسي في الدراسة مسؤولية يتحملها البنك العالمي والوزير والمدير والأستاذ والمعلم والولي والتلميذ. تهتم الدولة بالتعليم الجامعي أكثر من اهتمامها بالثانوي والإعدادي والابتدائي. حسب اجتهادي المتواضع, لو عكست لأصابت، أي عليها أن تهتم أكثر بالمرحلة الأساسية.

سُمّي التعليم الابتدائي تعليما أساسيا لأنه يمثل قاعدة الهرم ونقط ارتكازه. توفر الدولة لتلامذة الثانوي  أساتذة أصحاب شهائد عليا وتجهز القاعات ببعض الحواسيب وبعض السبورات البيضاء وبعض وسائل الإيضاح وتبخل بكل هذا على تلامذة الابتدائي وهم أحوج الناس لمثل هذه القدرات ولمثل هذه التجهيزات. في أمريكا يطالَب المعلم بشهائد أعلى من شهائد الأستاذ. إذا أهملنا التكوين في الابتدائي فلا نستطيع تدارك الخطأ في الثانوي لأن التصورات غير العلمية التي رسخناها في أذهان التلاميذ لن تزول بسهولة لكن إذا أكسبنا التلميذ مهارات متعددة وكفاءات علمية في الابتدائي فبإمكاننا أن نظيف ونبني على أساسها المتين في الثانوي والجامعي وإلا نكون كمن يبني عمارة على الرمال المتحركة.

أذكّر دائما بمثال التعليم في كوريا الجنوبية أين استقر الهرم التعليمي وثبت على قاعدته العريضة فدولتهم عكس دولتنا تخصص ميزانية اكبر للتعليم الأساسي. نهضت كوريا الجنوبية وأقلعت في ظرف عشريتين فقط وأصبحت من الدول المتقدمة بعد ما كانت تصنف كثالث أفقر دولة في العالم. حققت نجاحا بفضل استثمارها الوطني في التعليم والعبرة لمن يعتبر.

 

أريد أن أوضّح لجل القراء الأعزاء أنني, و إن كنت ضد الارتقاء الآلي وضد توسيع ثقوب الغرابيل في الامتحانات, لست مع الرسوب المجاني ولا أؤيد سياسة الانتقاء المجحفة. تابعت أخيرا برنامجا تلفزيا مهمّا, بالفرنسية طبعا, لأن كل البرامج بالعربية تقريبا تشترك في اللغة واللسان الخشبيين. يتحدث هذا البرنامج عن المدرسة "الفنلندية" حيث لا يرسب التلاميذ ومع ذلك حققت نجاحا باهرا بفضل الدعم والتشجيع الفعال للتلاميذ المحتاجين لذلك. أما المدرسة "الفرنسية" حيث يرسب 50 في المائة من التلامذة خلال مسيرتهم الدراسية, عاما واحدا على الأقل [والعهدة على الراوي], وهي أسوأ المدارس في أوروبا ورغم ذلك نعتبرها قدوتنا وقبلتلنا. كنا في السبعينيات، نحن الأساتذة النقابيون  نعارض سياسة الانتقاء التي طغت آنذاك في تونس و حَرَمَت العديد من أبنائنا من مواصلة تعليمهم واليوم نعارض النجاح الآلي الذي أراه سببا للعنف والتسيب في معاهدنا بجانب أسباب أخرى من بينها تردي القدرة الشرائية لدى المدرس وتدني التمويل الحكومي في التعليم العمومي. أنا لا أملك البديل التربوي لهذه السياسة الديمقراطية في ظاهرها والفاشلة في داخلها ولا أملك أيضا البديل البشري لتعويض جمهور الأساتذة والمعلمين غير المؤهلين للقيام بواجبهم (لا أستثني شخصي طبعا رغم اجتهادي العصامي لتكوين نفسي علميا وثقافيا) وعلى سبيل الذكر لا الحصر أذكّر ببعض عيوب تكويننا: لم نتلق تكوينا أكاديميا في علم نفس الطفل ولا في علم التقييم ولا في علوم التواصل ولا في الأبستمولوجيا (أو فلسفة المعرفة أو معرفة المعرفة أو نقد المعرفة) ولا في تاريخ العلوم والبيداغوجيا ولا في التعلمية (إبستمولوجيا التعليم أو الديداكتيك) ولا في المنهجية ولا في إدراك عملية الإدراك, فكيف تطلب منا النجاح في مهمتنا ونحن لا نفقه منها إلا الجانب المعرفي وهذا لا يكفي. البنك العالمي و زمرة الخبراء والمبرمجين لا يملكون البديل أيضا ولن يستطيعوا استنباطه لوحدهم مهما استعانوا بخبراء أجانب مرتزقة مأجورين.

مهما نقدتُ زملائي ونقدت نفسي فلن نستطيع أن نستغني عن الخبراء الحقيقيين, أعني الفلاسفة والمختصين في علوم التربية والأولياء والمعلمين والأساتذة والتلامذة وقد يتعلم الإنسان الوطني الصادق من أخطائه وأخطاء الآخرين ويتطور نحو الأفضل.

أوجه ملاحظة أخيرة إلى بعض القراء الذين قد يلومونني على إغفال بعض الجوانب أو عدم ذكر بعض الأسباب: كل علم وكل خطاب هو علم أو خطاب مُختزَل (Réduit) بطبيعته لأنه ينظر إلى المسألة المعقدة والمتشعبة (التعليم مثلا) من زاويته الدقيقة والضيقة. لذلك أرى أن المقاربة الشاملة (Approche systémique)  هي أفضل من المقاربة التحليلية (Approche analytique) في تناول أي مسألة مهما كانت بسيطة. يبدو لي أنه من الأفضل تضافُرُ كل العلوم مجتمعة وتكاملها لتوضيح أي أي ظاهرة وتفسيرها. لذلك أطالب بتكوين شامل للمدرس ولا نقتصر على المعارف فقط (Les connaissances) بدعوى حياد العلم  والعلم لم يكن ولن يكون يوما محايدا بل علينا أن نركز أيضا على القيم (Les valeurs) والممارسات الاجتماعية المرجعية (Les pratiques sociales de référence).

لم يكن العلم يومًا محايدا ولن يكون، مثله مثل صانعيه العلماء البشر. تهتم برامج تعليمنا في كل مراحله بالمعرفي النظري أكثر من اهتمامها بالتطبيقي لأن التكوين النظري لا يكلف الدولة كثيرا وتركز على تلقين المعارف وتهمل تدريس  القيم الإنسانية ولا تثمن السلوكات الاجتماعية المدنية السليمة.


هذا ما كنتُ أقوله لتلامذتي في الحصّة الأولى؟

 

أطرح عليكم هذا الاجتهاد الشخصي حول طرق التدريس و أعرضه عليكم للنقد لأن النقد يصقل ويطور الفكرة أما الشكر فهو يخدّر العقل ويقتل الإبداع.

في الحصة الدراسية الأولى في أول السنة، أقول لتلامذتي ما يلي:

أهلا وسهلا بكم في قسمكم ومعهدكم وأتمني لكم عاما سعيدا سوف يتوج بالنجاح إن شئنا وشاء الله وعملنا وتعاونا لتحقيق ذالك.

بعد التحية, أعرّف بنفسي: أنا أستاذ علوم الحياة والأرض, عينوني منذ 37 سنة أستاذا لتدريس هذه المادة ومنحوني بكل مجانية "ترخيصا للتدريس مدي الحياة دون قيد أو شرط" ولا زلتُ أمارس هذه المهنة بكل رغبة في العلم ولذة في التدريس. آليت علي نفسي أن أحسّن مستواي العلمي والبيداغوجي والتعلمي،  لذلك لا زلتُ حتى اليوم أتعلم مثلكم وأتعلم منكم أيضا وأنا علي قاب قوسين أو أدنى من التقاعد.

نمر الآن إلي المهم وهو "العقد التعلمي" (Contrat didactique) الذي يربط بيني وبينكم وهو عقد ضمني غير مكتوب ومسكوت عنه للأسف من جل مدرسي الابتدائي والثانوي والعالي.

 

سأحاول شرح هذا العقد حتى تتبين الحقوق من الواجبات

v    سنبدأ ببعض الحقوق التي كفلها لكم القانون ولا تتمتعون بها فعليا إما لِتقصير منكم أو بسبب تعسف غيركم:

§                   أولا، حقكم في الاحترام الكامل من قِبل المدرس والإدارة والعملة، يعني ممنوع اللمس والضرب والسب والشتم والإقصاء المجاني وتخفيض العدد والتدخل في الشؤون الخاصة والتشهير بالأخطاء.

§         ثانيا حقكم في فهم الدرس حتى وإن أدى الأمر إلي ساعات إضافية مجانية دون تأخير في البرنامج.

§        ثالثا حقكم في نقاش العدد الذي يسند إليكم ومقارعة الحجة بالحجة ومراجعة الأستاذ بكل أدب ولياقة.

v    وعليكم  أيضا بعض الواجبات:

§        أول واجب هو احترام المدرس وليس تقديسه لأنك لو لم تحترم المدرس فلن تتركه يقوم بواجبه ولن تستفيد من علمه، ولو قدسته فلن تستفيد أيضا لأنك ستصدق كل ما يقوله وأنت مسلوب الإرادة. العلم لا يطلب التقديس بل يطالب بالنقد فهو مبني علي الخطأ والصواب ويعرض نفسه للدحض والتكذيب ولكن لن يقوم بهذه المهمة الأخيرة الصعبة إلا الراسخون في العلم من عباقرة العلماء.

§        ثاني واجب هو عدم التأخر في الحضور وعدم تعطيل سير الدروس والانتباه لكل ما يقوله الأستاذ أو التلاميذ المتدخلون في القسم.

§        الواجب الثالث هو مراجعة الدروس في المنزل ليس لأن المدرس كلفك بها فقط بل لأن المعلومات لا تُفهم ولا تستقر في الذاكرة إلا بالمراجعة والهضم المعرفي الشخصي المتأني والقيام بالتمارين واعلموا أن الذكاء يُكتسب ولا يُورّث.

v    أتطرق الآن إلى طريقتي الخاصة في العمل والتعامل مع تلامذتي وهي طريقةٌ وليدةُ تجربةٍ وعلمٍ، حيث أقول لهم:

§        لن أستعمل سلاح العقوبات المدرسية التأديبية مهما فعلتم حتى وإن وصل الأمر لا قدّر الله إلي التعرض لي في الشارع رغم إيماني الراسخ بأن انعدام الانضباط في المعهد قد يمثل صورة من صور إهمال تربية التلميذ. اشطبوا إذا بالأحمر كلمة " عقوبة" معي أنا علي الأقل، أنا لستُ مسؤولا عما يأتيه زملائي ولا عن الإدارة ولا عن الوزارة. إن موقفي هذا من العقوبة ليس نتيجة طيبة أو كرم مني بل هو موقف مبدئي علمي مبني علي اطلاع - نسبيا واسع - علي تجارب تربوية في مجتمعات أخري راقية كالبلدان الأسكندنافية. وكلامي هذا لا يعني البتة التشجيع علي التسيب لهذا سأقترح عليكم بعض الإجراءات، إن وافقتم عليها فستقوم مقام القانون بيننا: يُقصي من القسم كل تلميذ  يعطل سير الدرس ولا يستجيب لتحذيرات المدرس المتكررة وكل من يقل أدبه علي زميله أو علي المدرس والحكمة من هذا الإجراء هو حماية الأكثرية من أخطاء الأقلية وتجنيب التلامذة الوضعيات غير الحضارية وغير التربوية كالمواجهة الكلامية بين المدرس والتلميذ في القسم. بعد إقصاء التلميذ المعني قد يهدأ المدرس ويواصل درسه وقد يهدأ التلميذ خارج القسم. فإذا كان المدرس مخطئا، يدعو التلميذ إلي الرجوع للقسم ويعتذر له أمام الملأ وإذا كان التلميذ مخطئا، يرجع للقسم بعد دقائق ويطلب العفو من المدرس ويواصل التعلّم. يُسند واحد علي عشرين لكل مَن يُضبط في محاولة أو عملية غش في الامتحان لأن هذا الأخير قد يتفوق علي زملائه دون وجه حق لو أسنِد له عدد مرتفع لا يدل على مستواه العلمي الحقيقي وقد يعلمه هذا السلوك غير التربوي الكسلَ والاعتماد على الحيلة لتحقيق النجاح. ولن أحيله على مجلس التربية لئلا يُعاقب على جرم دفعته إليه الظروف المحيطة على ارتكابه مثل الضغوطات الخارجة عن نطاقه كاكتظاظ القسم أو كثافة البرنامج أو عدم ملائمته لاهتمامات التلميذ.

§        سأقترح عليكم بعض الأدوات المدرسية وأترك لكم حرية اختيار النوعية الغالية منها أو الرخيصة حسب إمكانياتكم المادية إلا الكتاب المدرسي الرسمي فهو إجباري وضروري وسنستعمله في القسم و في المنزل للاستفادة من المعلومات والتمارين الموجودة فيه ولَكَم تمنيتُ لو كان الكتاب اختياريا ومتنوع النُّسَخ في المستوى التعليمي الواحد، لكي يختار القسم نسخة مثل ما هو موجود في البلدان المتقدمة.

§        لاحظتُ في السنوات الماضية مستوي متواضعا في اللغة الفرنسية لدي تلاميذ السنة أولى الثانوي بسبب التعريب الكامل في التعليم الأساسي [في تونس يدوم التعليم الأساسي تسع سنوات من الأولى أساسي إلى التاسعة أساسي يعني مرحلة الابتدائي ومرحلة الإعدادي, يدرس التلامذة خلالها الرياضيات و الفيزياء و التقنية و علوم الحياة و الأرض باللغة العربية] لذلك ألفتُ انتباهكم إلي أهمية هذه اللغة في تكوين مستقبلكم الدراسي والدليل أنكم في مرحلة الثانوي تدرسون بالفرنسية الرياضيات والفيزياء والكيمياء والتقنية وعلوم الحياة والأرض والإعلامية وفي مرحلة الجامعة  سوف تدرسون بالفرنسية أيضا الطب والهندسة والطيران وكل الشعب العلمية دون استثناء. لا تتجاهلوا إذن اللغة الفرنسية لأن لا يتجاهلكم العلم الحديث. وأحسن طريقة لتحسين مستواكم فيها هو استعمالها في القسم وخارج القسم. لا تغفلوا أيضا عن تعلم اللغة الأنقليزية فهي اللغة العالمية الأولى. أما اللغة العربية فهي هويتكم ولغتكم الأصلية وأوصيكم بها خيرا لأن اللغة يفرضها رجالها ونساؤها وتقدم بلدانها وتراثها.

§        أرى أن "خطأ التلميذ في القسم" أصبح يُعتبر إيجابيا وهو محرك الدرس. كان وضع الخطأ سلبيا في المنظومة التربوية القديمة وأصبح اليوم إيجابيا. فكلما أخطأ التلميذ أكثر، استفاد هو وزملاؤه أكثر، ونجح الدرس أكثر.

 

 

§        أما تقييم الامتحانات فيخضع إلى ضوابط علمية : لديكم ثلاثة فروض كل ثلاثة أشهر, فرض في الأشغال التطبيقية داخل القسم وفرض مراقبة بنصف ساعة يحتوي علي أسئلة مباشرة حول الدروس الثلاثة الأخيرة وفرض تأليفي في آخر الثلاثي يتكون من أسئلة تخص الذاكرة والفهم والرسم والملاحظة وخاصة توظيف المعلومات والتأليف بينها.

§         أرى أن من حق التلميذ المطالبة بمقياس الإصلاح في بداية الامتحان حتى يستفيد منه أثناء الإجابة على الأسئلة وعند إصلاحها بعد الفرض.

§        يوجد -كما تلاحظون داخل القاعة- مخبر إعلامية خاص بعلوم الحياة والأرض، وهو الوحيد في المدارس الإعدادية والمعاهد غير النموذجية في الجمهورية التونسية. سنحاول استغلال الحاسوب والاستفادة من  مزاياه المفقودة عند المدرس وفي الكتاب المدرسي التونسي وهي كثيرة نذكر منها علي سبيل الذكر  لا الحصر : الحاسوب لا يضرب ولا ينهر. الحاسوب لا يتعب ولا يكل ولا يمل من الإعادة والتكرار. الحاسوب يوفر  أستاذا افتراضيا تحت الطلب في المعهد والشارع والمنزل وفي القطار إن شئتم. يوفر أستاذا افتراضيا يختاره التلميذ التونسي من تونس أو من الصين. الأستاذ الافتراضي في الحاسوب يملك من المعلومات ما لا يملكه كل أساتذة العالم مجتمعين. يقدم الأستاذ الافتراضي في الحاسوب صورا علمية تفوق ألف مرة في الدقة والوضوح والألوان ما يقدمه الكتاب المدرسي التونسي الوحيد والإجباري. الأستاذ الافتراضي يجعل القلب ينبض في الحاسوب أمام أعينكم ويُحيِي افتراضيا العظام وهي رميم فتري الديناصور يقفز ويطير.

 


سلوكيات بيداغوجية بسيطة ساعدتني كثيرا في التدريس

 

ملاحظة: لقد سبق لي ونقدتُ أدائي كمدرس في مقالات تربوية سابقة واليوم أعرض على زملائي الجدد بعض السلوكيات البيداغوجية البسيطة التي ساعدتني كثيرا في التدريس (خاصة في السنوات 1992-2011 التي قضيتها بمعهد برج السدرية).

1.    كنتُ أدرّس في مخبر مجهز بعشرة حواسيب وسبورة خضراء بالطباشير وأخرى بيضاء بالقلم الجاف (Tableau magique). ردًّا على ادعاءات بعض الزملاء: لم أحتكر هذه القاعة لنفسي وهل أقدر حتى ولو أردتُ؟ مخبر العلوم الأول والوحيد والأخير -على حد علمي- في الجمهورية التونسية، وفره لي وزير التربية السابق منصر رويسي سنة 2002 وحكايتي معه تجدونها مفصّلة على صفحات هذا الكتاب.

2.    هذه القاعة-المخبر كانت نوافذها البلورية مطلية باللون الأزرق لحجب الرؤية عن الساحة المجاورة مما قد يساعد التلاميذ على التركيز في الدرس.

3.    كنتُ أفتحها بالمفتاح وكنتُ أول مَن يدخلها وآخر مَن يغادرها ثم أغلقها بالمفتاح ولذلك كانت أنظف قاعة بالمعهد.

4.    كنت دومًا أحمل في محفظتي الطلاسة والطباشير والأقلام اللبدية (stylos-feutres) ومنديلا أمسح به الكرسي والمكتب ولم أبعث يومًا تلميذًا يفتش على أدوات عملي في الإدارة أو قاعة الأساتذة.

5.    بعد راحة العاشرة صباحًا أو راحة الرابعة مساءًا، كنت دومًا ألتحق بقاعتي دون تأخير، أنا وبعض الزملاء.

6.    كنت أستاذا جديًّا، والطبع غلاّب، وهذا لا يُعتبرُ شكرًا عند لدى مَن يفقه البيداغوجيا الحديثة.

7.    كنت لا أطالب بمثول التلميذ المخطئ في حقي أمام مجلس التأديب إلا مرة واحدة وهي التالية: تلميذ سب الجلالة في قاعة الدرس ثم غادر مقعده ورفع كرسيّا في وجهي وكاد أن يضربني به لولا تدخل زملائه الذين أخرجوه من القاعة. ذنبي أنني طلبتُ منه غلق النافذة لتجنب الضوضاء السائدة في الساحة أيام الثورة فلم يستجب. قلتُ له: "هذا سلوك متخلف". رُفِتَ نهائيا من المعهد والتحق بمعهد حمام الأنف القريب من معهدنا.

8.    كنت لا أسْنِدُ صفرا لأي تلميذ. كنت أعاقب مرتكب عملية الغش بإسناد عدد واحد على عشرين ولم أكتب يومًا تقريرًا في تلميذٍ غشّاشٍ اقتناعًا مني بأن للغش حلول علمية وليست تأديبية.

9.    كنت لا أدخّن ولا أستعمل جوّالي أثناء الدرس وأطالب تلاميذي بنفس السلوك. أمنحهم خمس دقائق راحة غير رسمية في التاسعة لكي يهاتفوا مَن يشاءوا أو يأكلو ما يشاؤوا أو يذهبوا إلى دورة المياه إن شاؤوا.

10.                       كل هذه السلوكيات البسيطة أتت أكلها مع جل تلامذتي و ساعدتني كثيرا في التدريس.

مشروع بيداغوجي شخصي واعد ، شرعت في تنفيذه في مدرسة خاصة وللأسف الشديد لم يكتمل !

 

المكان: مدرسة مونتيسوري الدولية بحمام الأنف.

الزمان: دامت التجربة شهرين، فيفري ومارس 2015.

الخطة التي شغلتها في هذه المدرسة النموذجية: مدير بيداغوجي.

 

فكرة المشروع البيداغوجي الشخصي الواعد

"مَن تَعَلَّمَ نَقَصَت تَبَعيتَه." بونوا بونيكو، الرائع في بساطته، زاد للنشر، 1989.

“Apprendre est une diminution de la dépendance.” Benoît Bunico, Le Merveilleux dans sa banalité, Z`Editions, 1989. (André Giordan, Apprendre !, Belin, 1998, p. 75).

 

فكرة المشروع البيداغوجي الشخصي الواعد تحمل عنوانا: "التكوين البيداغوجي الذاتي المبنِي على البحث العلمي الميداني (Recherche-Action)"، وهو مجال بحثٍ علمي مهمل بل مغيّب تماما في التعليم التونسي العمومي والخاص داخل المدارس والإعداديات والثانويات ومراكز التكوين المهني وخاصة في الجامعات حيث تغيب بيداغوجيا المدرسة البنائية الاجتماعية (Le socio-constructivisme de Vygotsky et Piaget) وتحضر مكانها بيداغوجيا المدرسة السلوكية (Le béhaviorisme de Watson et Skinner ) فتسود المحاضرات الفوقية (Cours magistral). يبدو لي أن مجال البحث العلمي الميداني لم يأخذ حظه من ميزانية الدولة للبحث العلمي مثل ما حصل في مجالَيْ البحث العلمي الأساسي ( Recherche Fondamentale certifiée par un Master ou un Doctorat) والبحث العلمي التطبيقي (Recherche appliquée certifiée par un Master professionnel sans une issue vers un Doctorat).

انطلقت الفكرة من الملاحظة البديهية التالية التي استقيتها من تجربتي كأستاذ في التعليم العمومي لمدة ثمان وثلاثين سنة: لاحظت وجود تهميش مبيّت لدور المدرس التونسي في عملية التكوين البيداغوجي وأوكَلت وزارة التربية مهمة التكوين لمتفقدين غير مختصين في علوم التربية وأخص بالذكر منهم المتخرجين قبل تأسيس معهد تكوين متفقدي الابتدائي والثانوي بقرطاج. لاحظت أيضا تغييب المعلم وأستاذ الثانوي في بلاتوهات الفضائيات التي تناقش إشكاليات النظام التربوي التونسي وتعويضهم بخبراء وأساتذة جامعيين لم يمارسوا التدريس في التعليم الأساسي ولا الثانوي مع التذكير أن أهل مكة ليسوا دائما أدرى بشعابها ومدرّسونا اليوم للأسف ليسوا أعلم بإشكاليات التعليم والتربية. تعامِل وزارتنا الموقرة مدرّسيها وكأنهم قُصّر غير قادرين على تقديم حلول علمية للنهوض بقطاعهم التربوي. تفتقد الوزارة لمؤسسة تُعنى بالبحث العلمي الميداني.

محاولة شخصية مني ودرءًا لهذا النقص الفادح، ارتأيت أن أحمّل مسؤولية التكوين البيداغوجي في مدرسة مونتيسوري الدولية بحمام الأنف للمربين العاملين فيها دون انتظار الوصفات الجاهزة للسادة المتفقدين غير المختصين في علوم التربية أو محاضرات الأساتذة الجامعيين غير المختصين أيضا في علوم التربية. نجحتُ في تنظيم أول ملتقى في طريق تحقيق أهداف هذا المشروع وذلك يوم الاثنين 16 مارس 2015، حضره جل مربي المدرسة حيث ألقى ثلاثة منهم ثلاث محاضرات متبوعة بنقاش. على سبيل الذكر لا الحصر، أسرد عليكم بعض أهداف التكوين الذاتي: يُدرَّب المدرس على اكتساب بعض المهارات والسلوكات المفيدة في مهنته مثل مواجهة الجمهور، وتحسين الإلقاء، ومقارعة الحجة بالحجة، وقبول الرأي الآخر، والتدرّب على استعمال الوسائل التكنولوجية الحديثة (Les T. I. C. E.) والاستفادة من فوائدها في عملية التعلّم، واكتساب مَلَكَة النقد العلمي الهدّام بطبيعته للتصورات غير العلمية السائدة في نظامنا التعليمي المهزوم والمأزوم من أجل البناء العلمي على قاعدة علمية صلبة.

للأسف الشديد لم تُتَح لي فرصة مواصلة مشروعي وأوقِفت عن مباشرة العمل في المدرسة لأسباب خارجة عن صلاحيات الأسرة التربوية المونتيسورية بحمام الأنف بما فيهم باعث المدرسة نفسه والذين أحمل عنهم انطباعا أوليا ممتازا ( Ma première impression est bonne, mais attention : « il faut se méfier de la première impression »): في قانون وزارة التربية التونسية لا توجد خطة اسمها "مدير بيداغوجي" لذلك دعاني الباعث لطلب ترخيص من الإدارة الجهوية للتعليم ببنعروس لتسميتي رسميا كمدير للمدرسة (ثمانية أقسام ابتدائي وقسمان إعدادي) مع الإشارة أنني لا أرغب ولا أصلح لشغل مثل هذا المنصب الإداري غير البيداغوجي المتعب وقد سبق وتحصلت عليه مرتين في التعليم العمومي، مرة قبل الثورة وأخرى بعد الثورة وقدمت استقالتي في المرتين، حصل ذلك بعد التسمية وقبل التنصيب. رُفض مطلبي للسبب الوجيه التالي: سبب قرأته بنفسي في كراس الشروط للمدارس الخاصة المنشورة على النت والتي تشترط في المدير أن يكون معلِّما قد مارس التعليم في مدرسة ابتدائية عمومية على الأقل لمدة خمس سنوات. من سوء حظي لا يتوفر فيّ هذا الشرط المعقول جدا، لذلك أنا أجهل تماما مشاكل التعليم الابتدائي وقد اكتشفت خلال شهرين أنها تمثل عالَما مستقلا بطقوسه، عالَما لا يعرفه أستاذ التعليم الثانوي في علوم الحياة والأرض من أمثالي، حتى لو كان حاصلا على شهادة الدكتورا من جامعة كلود برنار بليون 1 في علوم التربية ومتخرج حديثا سنة 2007 ودرّس طيلة ثمانية وثلاثين عاما في الإعدادي والثانوي، في تونس والجزائر.

أتمنى أن تتواصل تجربة التكوين الذاتي داخل  مدرسة مونتيسوري الدولية بحمام الأنف من بعدي وفي غيابي وهذا هو الهدف الأساسي والرئيسي من التجربة فهي لا تعتمد على مجهود شخص واحد مهما كان مستوى تكوينه الجامعي بل هي مجهود جماعي وعمل فريق. أذكّر بواجب قد يتغافل عنه بعض المدرّسين غير المغرَمين بمهنة التدريس: المدرّس باحث ميداني بطبعه، يبحث في التطور العلمي والذهني لكل تلميذ من تلامذته (Développement scientifique et mental de l`apprenant) ويحاول  دعم قدرات المتعلم  وسد ثغراته المعرفية حتى يجتاز بمفرده العوائق التعلمية والإبستومولوجية والبسيكولوجية. ودّعتُ المدرسة وأنا راضٍ عما فعلته وتقاضيت مقابلا ماديا مُرضِيا لنرجسيتي الأكاديمية-ألف دينار في الشهر-وخرجت منها مستفيدا باكتشاف شخصية ماريا مونتيسوري، حسب رأيي هي أعظم عالمة ميدانية في تاريخ المعرفة الحديث (L`épistémologie) ومؤسسة الطريقة البيداغوجيا البنائية بامتياز وعن جدارة واقتدار.

 


إضافة بيداغوجية رائدة قد تفيد المسؤولين في وزارة التربية التونسية

 

تجربة بيداغوجية رائدة اكتشفتها أيضا في مدرسة مونتيسوري الدولية بحمام الأنف، تجربة غائبة تماما في التكوين والتعليم العمومي التونسي في جميع مراحله. تتمثل هذه التجربة في إنشاء "مجالس المواد" (Conseil-Matière)، مثلا: في هذه المدرسة توجد أربعة مجالس، لكل مجالٍ مجلسه، عربية وفرنسية وأنڤليزية وتنشيط (تربية بدنية، تربية تشكيلية، موسيقى و مسرح). سأكتفي بالحديث عن مجلس العربية الذي شاركتُ فيه ثلاث مرات: يحضره مرشد بيداغوجي عمومي متعاقد صحبة كل أساتذة المواد المدرّسة بالعربية المتربصين المنتدبين خصيصا للتدريس بهذه المدرسة الخاصة. يتعلمون البيداغوجيا ويتشاورون في كل ما يهم التلميذ والعلم المدرَّس في حصصهم.

تصوروا معي لو عُمِّمت هذه التجربة على التعليم العمومي عوضا عن الوصفات الجاهزة والتوصيات الشكلية المفروضة فوقيا دون نقاش، أعني بها التوصيات المسنودة بسلطة المتفقد الإدارية الزجرية البيهافيورية المتمثلة أساسا في الجزاء والعقاب بواسطة العدد البيداغوجي المسند اعتباطا للمدرس (Le béhaviorisme ). خلال ثلاثين سنة تدريس في تونس، زارني المتفقد ست مرات، أي بمعدل زيارة تقييمية كل خمس سنوات. أبعدَ هذا الاعتباطُ اعتباطٌا ؟

 

تتلخص نظرية مونتيسوري في تربية الأطفال قبل بلوغ الست سنوات في الشعار التالي على لسان الطفل: "ساعدني على أن أتعلم بنفسي" (“Aide-moi à faire seul”). نحن أطفال جمنة وعموم الأرياف التونسية لم ننتظر اكتشاف النظريات التربوية الحديثة وطبقنا، منذ أجيال وبطريقة موروثة ثقافيا، شعارا قد يكون أفضل تربويا من شعار مونتيسوري وهو التالي: "أتركني أتعلم بنفسي". كنا نلعب وحدنا دون رقيب كهل مختص أو غير مختص،  نصنع لُعبنا بأيدينا ونتعلم من لَعِبِنا ومحيطنا وأقراننا. عندما أقول " طبقنا شعارا قد يكون تربويا أفضل"، أنا أعي ما أقول، قلت "تربويا أفضل" ولم أقل "علميا أفضل" ولهذا انقرضت تقريبا طريقتنا البيداغوجية غير العلمية من جمنة وعوضتها رَوضات أطفال تجارية غير تربوية. كادت تجربتنا أن تكون علمية صِرفة لو توفرت عينُ رقيبٍ باحثٍ عالِمٍ ميداني، عينٌ مسندة بعقل  يلاحظ ويسجّل ويدوّن ويطوّر طريقتنا في التعلم الذاتي ويستنتج ويقارن وينشر، لو فعلنا ذلك لَكنا ربما سبقنا علماء الغرب من أمثال مونتيسوري وفيڤوتسكي وبياجي ولَاكتشفنا "نظرية التعلم البنائي الذاتي" قبلهم جميعا.


Il parait que notre école cultive une seule forme d`intelligence sans se soucier des effets néfastes de la monoculture !

 

La monoculture, c`est la culture d`une seule espèce dans un espace écologique bien déterminé, exemple : au sud-ouest de la Tunisie (Tozeur et Kébili), et pour un but purement lucratif, nos agriculteurs zélés cultivent l`espèce « Degla Ennour » aux dépens des autres variétés de palmiers (ammari, hissa, gars-souf, kenta, etc.). Ce genre de culture ne favorise pas la diversité biologique et peut même augmenter le risque de faire disparaitre certaines espèces qui commencent à devenir rares dans notre oasis. Un agriculteur solitaire ne peut pas concevoir ce risque qui plane au dessus de nos têtes et qui pourrait causer l’appauvrissement de notre sol et même dilapider notre richesse culturelle donc la responsabilité toute entière incombe à l`état et c’est de l’état qu`on attendrait clairvoyance et prévoyance.

Je retourne vite à mon sujet principal qu`est la monoculture de l`intelligence. Il me parait que notre école tunisienne n`est pas plus clairvoyante qu`un agriculteur solitaire. Notre école a fait un hara-kiri le jour ou elle a supprimé l`enseignement professionnel de nos collèges et lycées (en Allemagne, 70 % de leurs élèves de l`école de base sont orientés vers l`enseignement professionnel). Notre école s`est vidée de tout son sang en croyant que le cerveau pourrait s`en passer de ses mains et le théorique du pratique. Je pense que la dévalorisation de l’intelligence manuelle provient de très loin, de nos racines culturelles, de notre civilisation arabo-musulmane. Une civilisation du verbe-non de la main (fikh, poésie, prose et rhétorique-l'art du bien-dire, de l'éloquence).

L`intelligence humaine n`est pas unique, elle est multiple : une multitude d’intelligences, artistique, corporelle, manuelle, etc. L’intelligence humaine est la seule faculté intellectuelle la mieux partagée entre les individus. Elle émerge de l`interaction des facultés  individuelles comme l’intelligence d’une ruche d’abeilles qui émerge de l’auto-organisation de ses locataires. Elle ne peut pas être accaparée par une seule personne ou un seul individu, fût l’érudit Einstein. Elle est collective, plus intelligent que l`être humain est l`ensemble des êtres humains. Tu es intelligent en mathématiques, un ou une deuxième l`est en biologie, un troisième l`est en théâtre, une quatrième l`est en athlétisme et ainsi de suite. Malheureusement notre école serait une fossoyeuse d`intelligences, elle a balayé toutes les facettes multiples de l`intelligence et n`a cultivé qu`une seule forme, l`intelligence intellectuelle, où la théorie prime la pratique et où l`investissement de l’état est réduit à un tableau et quelques boîtes de craie blanche et de couleur. Notre école est tellement cupide à un point qu`elle a oublié de subvenir aux besoins éducationnels de ses enfants-élèves et au lieu d`équiper de nouveaux ateliers et laboratoires, elle a fait démolir ceux qui existaient (je fais allusion aux centaines d`ateliers bien équipés de machines-outils et qui ont été abandonnées à la rouille après la suppression de l`enseignement professionnel).

Sans le savoir, notre pauvre école a porté durant des décennies la mauvaise graine et enfanté d’un monstre. Un monstre muni d`un gros cerveau sans mains. Un monstre qui a failli nous engloutir sans nous mâcher : des centaines de milliers de chômeurs-diplômés qui ne savent rien faire sauf rouspéter. Des soi-disant diplômés, on dirait des oisillons qui ne sont capables que d`ouvrir la bouche et attendre leur mère-nourrice.

Heureusement que l`intelligence est un caractère intellectuel non génétique et non héritable donc on a toujours la chance de la récupérer et la développer à l’aube de chaque nouvelle génération. Elle est évolutive et non figée. Elle est constructible et non innée. Elle ne fait pas l’apanage des humains, on la rencontre aussi chez les animaux et les végétaux même à des dimensions rudimentaires.

Notre école a enfoncé encore le clou dans la plaie, elle a commis l’erreur irréparable, elle s’est ingéniée à catégoriser l’intelligence de ses élèves en plus et moins intelligents, en premier de la classe et deuxième, en notes arbitraires traumatisantes et avilissantes. C’est le comble du ridicule : l’échelle d’intelligence est la plus stupide des supercheries du 21è siècle ! Cette erreur fatale a conduit à l’abêtissement et l’abrutissement de centaines de milliers de nos jeunes écoliers dès la septième année de base (100 mille d’exclus chaque année). Nos responsables de l’éducation n’ont pas encore compris que le QI (quotient intellectuel) est un faux ami qui nous mène souvent en erreur. Ils n’ont pas encore adopté la ZPD de Vygotsky, la Zone Proximale de Développement mental. Un modèle pédagogique qui préconise que l’intelligence instantanée mesurable (QI) en cache une autre plus prometteuse, l’intelligence potentielle. Cette dernière est comme un germe qui vit en ralentie dans le cœur de la graine qu’il lui suffit un environnement favorable pour qu’il éclose, se développe et fructifie. Nos enseignants sont des jardiniers aveugles qui ne voient pas ce qui couve sous la terre. Ils ne voient que la partie émergée de l’iceberg. Ils traitent nos enfants de cancres. Enfin « Ils n’ont pas compris que leurs élèves n’ont pas compris » !

 


 

محور 2

حول الأستاذ


 

 

 


"لن نثير رغبة أحد في التعلم من خلال خطاب علمي جافّ!"

(أندري جيوردان، تعلَّمَ! نشر بولان، 1998، صفحة 49)

 

« On ne passionnera jamais quelqu`un à partir d`un discours rationnel ! »

(André Giordan, Apprendre !, Ed. Belin, 1998, p. 49.

 

 

 

 


أتمنى على زميلي المدرّس التونسي أن يستقيل عن التدريس داخل القسم !

 

لم أقل يتغيّب أو يتكاسل أو يتغافل أو يتحايل أو يتخلى عن واجبه في تربية النشء. على العكس أطالبه بأن يعمل أكثر ويجتهد أكثر قبل الدرس دون أن يحرِم التلميذ في القسم من فرصة التعلم البنائي الذاتي.

فَلْيعذِرني زميلي في نقده والنقد هدّام أو لا يكون مع احترام شخص المَنقود فبعد هدمِ نظرية علمية لم تعد صالحة يأتي عادة البناء لنظرية علمية جديدة ثم هدمٌ وبناءٌ وهكذا دواليك يتقدم العلم. نسمي هذا التمشي نظرية الهدم والبناء  (Construction/Déconstruction) للعالم البيداغوجي-الديداكتيكي، أستاذي وصديقي الفرنسي السيد "أندري جيوردان".

 

كيف يستقيل ؟

-         أن لا يستعرض عضلاته في القسم لأن التلميذ أوْلَى باستعراض عضلاته العلمية. فالقسم ملكه وليس ملك المدرس. التلميذ هو محور العملية التربوية ولا محور غيره وما أوجِدَ المدرس إلا لخدمة التلميذ.

-         أن لا يحتكر الكلمة في القسم وخاصة مدرِّسي اللغات. فإذا لم يتكلم التلميذ في القسم ويخطئ في القسم، فأين سيتعلم البلاغة والنطق السليم في ثلاث لغات أجنبية على بيئته بما فيهم العربية الفصحى.

-         أن لا يحتكر استعمال المُعِدّات المخبرية العلمية أثناء حصة الدرس وخاصة مدرِّسو العلوم التجريبية. فإذا لم يستعمل التلميذ هذه المعدات في القسم ويخطئ في القسم، فأين سيتعلم استعمالها، وإذا تكسر بعضها فقد جُعلت أصلا للاستهلاك. أذكّر أن عُشر ميزانية قصر قرطاج يساوي سبعة مليون دينار أي ثمن عشرة آلاف مجهر عادي (ثمن المجهر الواحد سبع مائة دينار تونسي). "التلميذ إكسِّر والوزارة تعوِّض" على حد قول الفنانة الخالدة صليحة "هو إبيع وَانَا نِشريه".

ليعلم المدرس أن المُعِدّات المخبرية العلمية لم تُوفّرْ لتسهيل مهمته البيداغوجية بل جُعِلت لتيسير مهمة التعلّم لدى التلميذ والدليل أنه لو نُقِلت مهمة اكتساب المعرفة من المدرس وأوكِلت إلى التلميذ في علاقة تفاعلية مباشرة بينه وبين وسائل التعلم العلمية لصَنَعَ هذا الأخير معرفته بنفسه دون مساعدة المدرس المباشرة في عديد الوضعيات التعلمية (La situation didactique).

-         على المدرس التونسي المجدِّد بيداغوجيا أن يكتفي بتحضير الوضعية التعلمية المناسبة ويجلب المعدات والمواد الكيميائية اللازمة ويطرح الإشكالية بصورة واضحة ويستقيل كليا عن التدريس ويتنحى جانبا مشكورا ويتخلى عن اعتبار نفسه محور العملية التربوية ويترك مهمة التعلم الذاتي  البنائي للتلميذ لأن هذا الأخير ليس فرخ طير ينتظر في عشه ما تجلبه له أمه.

-         أن لا يحتكر حل المسائل في القسم وخاصة مدرسي الفيزياء والرياضيات. فإذا لم يتمرّن التلميذ على حل المسائل المعقدة في القسم ويخطئ في القسم. فأين سيتعلم الذكاء الرياضي يا تُرى ؟

-         أن لا ينهر التلميذ الذي يخطئ في القسم مع الإشارة إلى أن العلماء هم أشهر الخطّائين. يُعتبر الخطأ في علوم التربية مُحرّك القسم. فإذا لم يخطئ التلميذ في القسم فأين سيخطئ ولا يُعاقبَ يا تُرى ؟

-         أن لا يقتل المبادرة الذاتية الجنينية لدى التلميذ في القسم. فإذا لم يبادر التلميذ في القسم ويخطئ في القسم. فأين سيتعلم الشجاعة الأدبية وحرية الرأي مع احترام الخصم الفكري ؟ لذلك يبدو لي أن جل تلامذتنا المتفوقين هم مقلِّدون فاقدو الشخصية المستقلة المتوازنة. لذلك نلاحظ أيضا أن جل التلامذة المتمردين يُطرَدون من التعليم أو يكملون دراستهم المتعثرة في سن الخامسة وخمسين مثلي !

 

.
دعت وزارة التربية التونسية إلى تكوين المدرسين في الإعلامية قبل أن تدعوهم إلى تكوين في الإبستومولوجيا وعلم نفس الطفل، ففعلت مثلِ مَن يهدي نظارات  طبية إلى ضرير

 

أنزَلت وزارة التربية والتعليم التونسية أخيرا منشورا يحث مدرسي الابتدائي والاعدادي والثانوي على التكوّن في مجال الإعلامية واستعمال الحاسوب والبرمجيات والسبورة التفاعلية لأغراض التدريس في القسم ( .Les T.I.C.E). احتج المدرسون النقابيون على الوزارة وعارضوا كعادتهم التكوين في العطل المدرسية وطالبوا بأجر مناسب للمدرس المكوّن (بكسر الواو).

سبق لي أن عملت مكونا لأساتذة علوم الحياة والأرض لمدة عامين. يستغرق إعداد حصة التكوين نصف شهر تقريبا. أعرضها وأناقشها مع الزملاء خلال أربع ساعات. أتقاضى على كل ساعة دينارين ونصف (ما يقابل دولار تقريبا). هل أجرُ عشرة دنانير يقابل جهد نصف شهر من البحث والتنقيب؟ أما عندما تستدعي الوزارة محاضرا جامعيا لتكوين أساتذة الثانوي أو معلمي الابتدائي تغدق عليه في الحصة الواحدة من 100 إلى 200 دينار. أنا أحترم العلم والعلماء والأساتذة الجامعيين والناس أجمعين وأطالب بمساواة المكونين في الأجر خاصة أن الكثير من المكونين من أساتذة الثانوي حاصلون على شهائد مرحلة ثالثة مثل الماجستير والدكتورا.

أعود الآن إلى موضوعي الأصلي الذي من أجله أكتب هذا المقال والذي يتمثل في تذكير الزملاء والوزارة أن التكوين في الإعلامية مهم ولكن الأهم منه هو التكوين في العلوم الضرورية لأداء وظيفة المدرس على أحسن وجه. ما هي هذه العلوم الضرورية؟: هي التعلّمية (La Didactique) وعلم التقييم (L'Évaluation) وعلم نفس الطفل (La psychologie de l'enfant) والإبستومولوجيا (L'Épistémologie)  وتاريخ العلوم (Histoire des sciences) وإدراك عملية الإدراك (La Métacognition)  والسيميائية بالنسبة لمدرسي اللغة بجميع ألسنتها وعلوم التواصل والتقنيات الرقمية المستعملة في التعليم (Les TICE).

 الإعلامية (L`informatique) ليست علما بل هي أداة للعلم. أداة عاجزة بمفردها عن تحقيق أي هدف تعلمي ولا يمكن الاستفادة منها دون استعمال علوم التربية الضرورية والمنسية في التكوين. تحرص الوزارة على التكوين في الإعلامية فقط وتهمل العلوم الأخرى فهي كمن يهدي نظارات طبية إلى ضرير.

 

ما هي الاختصاصات العلمية المنسية في تكوين الأساتذة والمعلمين ؟

 

1.    التعلّمية (La Didactique) تهتم بالمعرفة وعلاقتها بالتلميذ والمدرس أكثر من اهتمامها بطرق التدريس (البيداغوجيا). يركّز هذا العلم خاصة على كيفية تعلم المتلقي ويعلّمه كيف يتعلّم. عدم إلمام المدرسين بهذا العلم يبرّر مقولة العالم الابستومولوجي الفرنسي باشلار "المدرسون لا يفهمون أن تلامذتهم لا يفهمون".

 

2.    علم التقييم (L'Évaluation) هو علم قائم الذات يدرّس في الجامعات. تسمح آليات هذا العلم بتقييم مكتسبات التلميذ قبل وأثناء وبعد الدرس. تساعد نتائجه على تحسين مردود المعلم والمتعلم. المدرس الذي لم يدرس أكاديميا التقييم مثله كمثل تاجر يزن سلعة دون ميزان.

 

3.    عِلم نفس الطفل (La psychologie de l'enfant) هو علم يفتح عيون المدرسين على عالم الطفولة والمراهقة ويكشف لهم ما خفي من جبل الجليد النفسي عند التلميذ، لعل الرؤيا تتوضّح لديهم ويظهر لهم أن اللامعقول في تصرفات التلميذ هو من صلب المعقول النفسي, فربما يعذرون حينئذ ويفهمون أسباب وعمق بعض السلوكات التلمذية العنيفة أو الخارجة عن المألوف ويكفّون عن التعامل مع التلميذ كما يتعامل عالم النفس السلوكي مع فأر التجارب عندما يحدد له مسبقًا مدخل المتاهة ومخرجها (Le labyrinthe).

 

4.    الإبستومولوجيا (L'Épistémologie) هي "مبحث نقدي في مبادئ العلوم وفي أصولها المنطقية" وتهدف إلى الكشف عن الآليات والمفاهيم التي تعتمدها الثقافة في إنتاج المعرفة ونقدها. هي "معرفة المعرفة أو نظرية المعرفة العلمية". يحتاج لهذا العلم كل من يدرّس العلوم معلما كان أو أستاذا.  عندما يعرف المدرس أن العلم لم يولد كاملا بل تكوّن على مراحل وبعد أخطاء جسيمة ارتكبها العلماء العظام, حينئذ قد يعذر ويتسامح ويفهم أخطاء التلميذ ولا يحمّله ما لم يقدر عليه كبار العلماء، أعني به الفهم المباشر والسريع للمسائل المعقدة في الرياضيات والفيزياء وعلوم الحياة والأرض وغيرها...

 

5.    "إدراك عملية الإدراك" (La Métacognition)  هو علم ينظر "في التفكير في آليات التفكير وفي معرفة أننا نعرف وفي اختيار الطريقة الأنسب لحل المشاكل" وكما قال بيار ريكو: " لو أن الإنسان الذي يقول لا أعرف, عرف لماذا يقول لا, لكان قادرا على تحديد نعم المستقبلية" أو كما يقول المثل الصيني المشهور " لا تعطني سمكة بل علمني كيف أصطاد"  والسمكة في التعليم هي المعلومة وتعلّم الصيد هو "إدراك عملية الإدراك". أثناء إدراك عملية الإدراك "ينشط التلميذ ذهنيا وليس تطبيقيا وقد ثبت أن هذا النوع من النشاط الذهني البحت يسمح بالوعي بالإجراءات والشعور بالطرق والسيرورات الذهنية الموظفة لحل المشاكل ويرسّخ اكتسابها".

 

6.    السيميائية (La Sémiologie ) وهي حسب تعريف فردناند دو سوسور (1857-1913)، مؤسس علم الألسنية (La Linguistique ): السيميائية هي علم دراسة العلامات (Les signes) داخل الحياة الاجتماعية. يحتاجها جدا مدرسو اللغات في التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي وللأسف لم يتلق أكثرهم تكوينا جامعيا في هذا الاختصاص الضروري لتحليل النصوص (أنا لم أدرُسها).

 

 

خلاصة القول

جل الأساتذة لم يدرسوا هذه العلوم في الجامعة أما أنا فقد اكتشفتها متأخرا أي بعد أربعة وعشرين عاما من التدريس. يبدو لي أن الأستاذ كان أقل حظا من المعلم في هذا المجال. وحتى من علم وتعلم فلن يستطيع أن يطبق النظريات الجديدة في نظام تعليمي يَعتبر الارتقاء الآلي فيه ديمقراطية والتقشف في استعمال الطباشير حكمة. مدرسة ابتدائية دون ميزانية وميزانية المعهد تصرف في تسخين مكاتب الإداريين وطباعة الامتحانات والمناشير. أما السبورة التفاعلية (Le tableau interactif) فلن تكون العصا السحرية التي ستُخرج تعليمنا من المحلية إلى العالمية ولن تغير بين عشية وضحاها وضعا متخلفا وتسيبا عاما وتجهيزات مهترئة وأجورا زهيدة وبيروقراطية متكلسة وقرارات فوقية وإملاءات خارجية وخرّيجين عاطلين عن العمل لمدة سنوات.

لديّ تجربة بسيطة مع توظيف التكنولوجيا الحديثة في التعليم: منذ ثمان سنوات وبضربة حظ, جهّز لي وزير التربية التونسي السابق منصر رويسي مخبرا بعشر حواسيب لتدريس علوم الحياة والأرض في معهد برج السدرية ومنذ  تاريخ مغادرة الوزير للوزارة في 2001 نسوني وتركوني أتخبط وحدي دون فأرة ودون برمجيات ودون صيانة ودون تجديد الحواسيب حتى هرمت ولم تعد صالحة للاستعمال.

في فرنسا لا تدرّس الإعلامية كمادة مستقلة بل تستعمل كأداة تدريس في كل المواد منذ عام 2000.


هل ما زال تعليمنا التونسي العمومي يشغِّل التلميذ في نقل ما يمليه المدرس ؟

 

في عصر السبورة واللوحة الرقميتين التفاعليتين (Tablette pour chaque élève et tableau interactif dans chaque salle de classe )، ما زال المدرس التونسي -التقليدي رغم أنفه- يهدر وقت التلميذ ويشغله في عمل غير ذهني. يتمثل هذا العمل غير الذهني في الكتابة السلبية (لا يشارك التلميذ في إنتاجها) لِما يمليه المدرس أو نقل ما يكتبه على السبورة. مع الإشارة أن هذا العمل قد يكون فيه للمدرس أهداف بيداغوجية وجيهة، لكن هنالك في القسم أهداف أوْلى وأهم مثل القيام بمشاهدات أو تجارب علمية لا يمكن للتلميذ القيام بها خارج المخبر أو دون مساعدة مدرسه. أما خلاصة الدرس المسقطة، فالمدرس يستطيع توفيرها للتلميذ مكتوبة في نسخ ويكفيه عناء نقلها حتى يتفرغ الاثنان لأنشطة ذهنية أجدى.

أنا لا أقصد بنقدي هذا حصص الإنتاج الكتابي المفيدة جدا والصعبة جدا والمهملة جدا من قِبل مدرسي اللغات ولا أقصد أيضا الإنتاج الشفوي، فهذان النشاطان هما من أهم الأنشطة الذهنية التكوينية لمستقبل أجيالنا القادمة. نردد أحيانا ونتهم المتخرج الجامعي الحالي بالعجز عن تحرير مطلب شغل أو إنتاج خطاب شفوي متماسك منطقيا وننسى أن المتهم الرئيسي هو مدرسه أما التلميذ فهو ضحية نظام تعليمي متخلف نسبيا، لمْ نعلّمه فلم يتعلم لأن اكتساب المعرفة لا يخرج من التربة كالفِطر ولا ينزل من السماء كالغيث. التعلم مهنة وجهد مشترك بين المعلّم والمتعلم والأقران، العلم ليس موهبة يمنحها القدر لمن يشاء، العلم بناء ذاتي-اجتماعي طويل النفس ومُضنٍ ومعقد.

لو وفرت وزارة التربية سبورة تفاعلية في كل قاعة درس ولوحة تفاعلية لكل تلميذ لَجنّبْنا التلميذ عناء النقل من السبورة لأن كل ما يخطه المدرس على السبورة الرقمية طوال الحصة يُسجّل أوتوماتيكيا على لوحة التلميذ الرقمية. وهذا ليس مطلبا تعجز حكومتنا الموقرة عن توفيره لتلامذتها المحتاجين. حكومة نراها لا تفرّط في امتيازات وزرائها ونوابها في البرلمان وتفرّط بسهولة في مستقبل أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة أما أبناء الوزراء والنواب والأغنياء فلهم مدارس خاصة تُؤويهم وتحميهم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، مدارسهم عادة ما تكون مجهزة بأحدث الوسائل التعلمية الرقمية إلا في أمريكا  حيث مدارس أولاد المشاهير عادة ما تكون قصدًا غير مجهزة بأحدث الوسائل التعلمية الرقمية وذلك لأسباب بيداغوجية وجيهة.


رأي ضد السائد: كأستاذ متقاعد لا أحبّذ مشاركة المديرين في إضراب الأساتذة

 

أعني مشاركة المديرين حضوريا في إضراب الأساتذة ومرابطتهم داخل قاعة الأساتذة كامل اليوم. تبدو لي هذه المشاركة وكأنها حركة  غير مسؤولة. قد يهدف من ورائها أصحابُها إلى التقرب من زملائهم الأساتذة وأراها من وجهة نظري تهرّبا غير لائق من تحمل المسؤولية وتخليا إراديا عن أداء الواجب التربوي في أوقات الشدّة، وذلك -على سبيل الذكر لا الحصر- للأسباب التالية:

-         دون توفيق وسخيف، أعتبر أن المدير ليس أستاذا وذلك لأنه ببساطة لم يعد يباشر التدريس بل يقوم بمهمة إدارية بحتة. والدليل أن في فرنسا قد يُنتدب المدير من بين خريجي المدرسة العليا للإدارة أو جامعة الاقتصاد والتصرف. المدير يراقب إداريا عمل الأستاذ وقد يكتب تقريرا ضده لو أخل بواجبه وقد يصل به الأمر إلى أن يخصم أجرة يوم عمل من مرتب الأستاذ المتغيب لأسباب غير قانونية.

-         المدير هو ممثل وزير التربية في المعهد وهو المسؤول الأول والأخير على سير العمل في المؤسسة، وهو المكلف بمهمة مراقبة  أداء الأساتذة والإداريين والقيمين وأعوان المخابر والعملة والتلامذة، وهو الحارس المستأمَن على البناء والجدران والسور والتجهيزات المخبرية وغير المخبرية. وبناء على ذلك يتوجب عليه استنفار جميع قدراته للسهر على السير الحسن للعملية التربوية كامل أيام السنة الدراسية وخاصة يوم الإضراب لِما قد يحدث في مثل هذا اليوم  من تجاوزات من الداخل أو الخارج. لنضرب مثلا كاريكاتوريا لكنه معبر: لو كان مدير المستشفى طبيبا، فهل يُعقل أن يشارك حضوريا في إضراب أطباء الصحة العمومية ويهمل المرضى المقيمين عنده وإدارة المؤسسة بما فيها من عملة وإداريين وممرضين، إلخ...

-         المدير هو المنفذ الفعلي والمباشر لسياسة الدولة في الحقل التربوي أما الأساتذة فهم مضربون احتجاجا على هذه السياسة نفسها. فهل يُعقل أن يضرب المدير ضد سياسةٍ هو الساهر والمسؤول الوحيد على احترامها وتنفيذها ؟ من حقه كفرد أن يكون له رأي خاص لكن ليس من حقه كمسؤول أن يتخلى عن صفته الإدارية وينضمّ إلى فئة الأساتذة المضربين ويهمل في الوقت نفسه حق الأطراف الأخرى المكونة للأسرة التربوية. المدير المشارك حضوريا في إضراب الأساتذة والمرابط داخل قاعة الأساتذة صباحا مساءً، مثله كمثل رُبّان سفينة يترك سفينته تغرق بحجة التعاطف مع مطالب البحارة، أو قائد عسكري ينحاز يوم المعركة إلى جنوده غير المنضبطين عسكريا. 

-         اختلطت الأمور بعد الثورة وتداخلت المسؤوليات وغابت التراتُبية الإدارية الضرورية (لا أقصد البيروقراطية التسلطية) لتسيير المؤسسات وأصبح شعار "ديڤاج" يُرفع في كل الحالات دون رَويّة أو تَثبّت. وإذا بلغ الشيء حدّه انقلب إلى ضده. تحضرني هنا الحادثة الأليمة والمؤسفة التي وقعت في أحد معاهد الأحواز الجنوبية للعاصمة: مدير محترم وضميره حي مات كمدا بسكتة قلبية بعد تعرضه لصاروخ "ديڤاج"، صاروخ فتاك من صنع تلامذته.

-         قبل التقاعد، كنت أشارك شخصيا في تنظيم وتنشيط إضرابات الأساتذة صباحا ومساءً لكنني في الوقت نفسه كنت أقول لمدير معهدنا ما يلي: لو وقع أدنى مشكل يهدد المعهد أو الأسرة التربوية من الداخل أو الخارج، أنا مستعد أن أوقف الإضراب وأنضمّ إلى الإدارة - عكس كما يقع اليوم - من أجل المصلحة العامة ومن أجل الحفاظ على الأمانة المُناطة بأعناقنا، ألا وهي سلامة التلامذة وسلامة المعهد، وهو الواجب المقدَّم على غيره من الواجبات وتهون حقوقنا أمام واجباتنا.


موقف من ظاهرة تعنيف التلاميذ من قِبل المدرسين

 

À mes yeux, un professeur ne peut jamais être lésé par son élève.

أعي جيدا أن زملائي المدرسين (ابتدائي وإعدادي وثانوي وعال) يتعرضون أيضا إلى ظاهرة العنف اليومي من قِبل بعض التلامذة أو الطلبة أو بعض الأولياء، لكنني اقتصرتُ اليوم منهجيا على تناوُلِ ظاهرة تعنيف التلامذة من قِبل المدرسين:

أولا العنف لا يُعالج بالعنف والخطأ لا يُصلح بخطأ أفظع منه.

ثانيا يبدو لي أن التجاء المدرس لتعنيف التلميذ هو أكبر دليل على فشله البيداغوجي في تبليغ رسالته. وفاقدُ الشيء لا يعطيه في هذه الحالة، أعني أن المدرّس لم يدرُس جامعيا البيداغوجيا (كيفية التدريس) ولا التعلمية (كيفية تقبّل المعرفة من قبل التلميذ) ولا أعتبر الندوات البيداغوجية التكوينية في مراكز التكوين الجهوية تحت إشراف المتفقدين كافية لأن المتفقد نفسه لم يدرُس جامعيا البيداغوجيا ولا التعلمية ولا علم التقييم ولا علم نفس الطفل ولا علم التواصل ويصح على المتفقد ما يصح على المدرس: "فاقد الشيء لا يعطيه" باستثناء المتفقدين خريجي معهد قرطاج لكن عام واحد تكوين في معهد قرطاج لا يكفي (CENAFFE). ماذا بقي إذن للمعلم غير المجتهد ذاتيا ؟ للأسف الشديد بقي له سلاح الضعفاء لكي "يسيطر" على قسمه، سلاح العنف.

ثالثا، هذا الموقف التي اتخذته من ظاهرة تعنيف التلميذ من قِبل المدرس، لا يعني البتة أن المدرس لا يخطئ وأنا أقرّ أنني أخطأت عديد المرات لكن هذا لم يمنعني من تدارك نفسي ومحاولة إصلاح أخطائي ولم يمنعني أيضا من إدانة ظاهرة تعنيف التلميذ من قِبل المدرس (أدين أيضًا تعنيف المدرس من قِبل التلامذة أو الأولياء) إدانة شديدة لأنها تتنافى مع قداسة الحرمة الجسدية للإنسان ( وخاصة الطفل لأنه يمثل الحلقة الأضعف بدنيا وذهنيا). يردّ عليّ بعض المدرسين مبرّرين العنف بقولهم: "وكيف نسيطر على قسم فيه ثلاثون عفريتا ؟". من طبيعة التلميذ أن يشوّش لكن من غير الطبيعي أن نعاقبه بالضرب. ما هي الحلول المطروحة للسيطرة التربوية على القسم ؟ أولا، المدرس ليس مُطالبا بالسيطرة على القسم كما يَفهم السيطرة بعض المربين. ثانيا، وقبل البحث عن الحلول والبدائل، علينا تجريم العنف وتحريمه بكل وضوح وهذا ما كنت أقوله لبعض زملائي الذين يبدأون بتعنيف التلميذ وعندما يردّ التلميذ عنفا بعنف، يقدّمون فيه تقريرا مطالبين بتأديبه، كنت أقول له: "يا زميلي العزيز، لو بدأت بالاعتداء على تلميذ، يسقط حقك في تأديبه حتى لو ردّ عنفك بعنف مثله أو أشنع منه، بل يصبح من واجبك الاعتذار للتلميذ والولي وللأسرة التربوية عموما، وعليك أن تخفض لهم جميعا جناح الذل من الرحمة فلعلك تستفيد من خطئك ولا تعود إليه البتة". 

 


أحداثٌ طريفة حدثت أثناء ممارستي لمهنة التدريس

 

أحداثٌ وَقعت لِي ولبعض زملائي أثناء ممارستنا لمهنة التدريس، ندمتُ على بعضها وأعتزُّ بـبعضها واستغربتُ من بعضها:

1.    في معهد بومهل عام 1990، التحق بقسمي سابعة أساسي تلميذٌ متأخرٌ بعد شهرين. سألته لماذا تأخرتَ ؟ قال: طُرِدتُ من معهدي السابق. قلتُ: ما السبب ؟ قال: ضربتني أستاذتي الجميلة بكفها على خدّي فقلت لها "كفٌّ من إيديك كِ العسل". ضحكتُ في قلبي ورحّبتُ به في حصتي.

2.    في معهد برج السدرية في التسعينيات، أخطأتُ في حق  تلميذ و"ضربتُه" بكف صغير على خده وما أقبحه من فعل  وخاصة الضربَ على الوجه، وهو من أسوأ أنواع الإذلال لأنه قد يعطِّل شغف التلميذ بالعلم وقد يحطم شخصيته والأسوأ من كل ما سبق أنه يصيب التلميذ بجرحٍ نفسي لا يندمل بمرور الزمن، ومَن منّا نسي صفعةً على وجهه تعرّض لها في حياته حتى وإن جاءت من أمه أو من أبيه ؟  يا تلامذتي السابقون، تعدّدَت أخطائي، وعزائي الوحيد أن تتقبلوا اعتذاري وتصفحوا عن أخطائي وهي ولله الحمد ضئيلة. والله لقد خجِلتُ من التلميذ ومن نفسي ساعتها ولا زلتُ إلى اليوم وبعد التقاعد أخجلُ من الاثنين معًا، ولن يزول خجلي حتى أحاسَبَ وأعاقَبَ على ما اقترفتْ يدِي اليُمنَى. وبعدها تكررت أخطائي رغم قلتها مقارنة ببعض ما يقترفه زملائي ممن هم أكثر مني تعنيفًا لتلامذتهم. ومن سوء حكمتي وتدبيري، كنتُ أظن وقتها أنني أؤدبه رغم أنني أعرف أن العقاب البدني ممنوع في القانون التربوي منعًا باتًّا. وهل يؤدبُ الطفل بالعنف ؟ لا أظن ! توجدُ ألف طريقة تربوية لتأديبه من غير استعمال العنف، لكن غابت بصيرتي حينها في لحظة غضب وأجرمتُ في حقه والغريب أنني كجُل الأساتذة  أبرّر عجزي التربوي بالقول أن نيتِي حسنة. لا أعرف كيف اتصل المُعتدَى عليه بأمه فورا وأعلمها بخطيئتي الكبرى. بعد رُبع ساعة تقريبا قرعتْ أمه بابَ القاعة فوجدتها في وجهي تلومني. قدّمت لها اعتذاري دون تردد. قالت: "غَلَبْتَنِي" وانصرفت. نادرًا جدا ما كنتُ أمارس الضرب رغم أنني كنتُ واعيًا تمام الوعي ومقتنعًا نظريا بعدم جدوى العقاب البدني وكنت أقول لزملائي ناصحًا: تسقط جميع حقوقكم الأدبية إن بادرتم بالاعتداء على أي تلميذ لفظيا أو ماديا وكنتُ ألوم كل زميل يظلم تلميذا ويكتب فيه تقريرا ويحيله على مجلس التأديب. فمَن أولَى بالتأديب في مثل هذه الحالة ؟ التلميذ أم الأستاذ ؟ 

3.    في معهد برج السدرية في التسعينيات، في الحصة الأولى أي حصة التعارف، قام تلميذ وفاجأني قائلا: "أنا أكره مادة العلوم وأستاذ العلوم". لا أعرف كيف نزلتْ عليّ سكينة لم أعهدها فيّ من قبلُ وقلتُ له هادئا: إن شاء الله معي أنا سوف تحب مادة العلوم وأستاذ العلوم. وكان الأمر كما وعدتُ. كبُرَ الشبل وأصبح مهندسًا "أدْ الدنيا" وحيث لاقاني حيّاني.

4.    في معهد غار الدماء في السبعينيات، جاءني تلميذ محتجًّا على تدنِّي أعداده وقال لي بالحرف الواحد: "موسِيو اهْرَدْتني في النُّوتْ". مسكتُ نفسي وقلت في نفسي "كل بلاد ورطالها" لأن كلمة " اهْرَدْتني"، لها مدلولات أخرى ولا نلفظها في مجتمعنا الضيق بموطني جمنة.

5.    في معهد غار الدماء في السبعينيات أيضا، وفدتْ علينا زميلة علوم جديدة وأخذت قسم الثالثة ثانوي "أ" (التاسعة أساسي اليوم)، وهو قسمي السابق في السنة ثانية ثانوي "أ". دخلتُ مع الزميلة في أول حصة لها مع هذا القسم ظنا مني أن تلامذتي يحبونني ويصعب عليهم فراقي وظنا مني أيضا أنني أقدّم خدمة كبيرة لزميلتي. قدمتُ زميلتي الجديدة إلى قسمي السابق وعند مغادرتي القاعة فرحًا بما صنعتُ وقبل أن أغلق الباب خارجا، سمعت تلميذا من تلامذتي السابقين يودّعني بكل حب قائلاً: "ارْتحْنَا من رَبَّكْ" (أعتذر للقرّاء على نقلها كما قِيلت). حينها عرفتُ أن التلامذة قد يظهِرون لك  مودة ويبطنون العكس. لم أنسَ ذلك الدرس القاسي من تلميذي القاسي في بداية مهنتي، تعلمتُ من تلميذي الكثير ولو أنه كَسَرَ كبريائي إلى الأبد "وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم".

6.    في معهد من المعاهد بالجمهورية التونسية، جاء متفقد علوم ليتفقد الأستاذ "أ" فلم يجده، فتفقد صديقي الراوي الأستاذ "ب". غادر المتفقد المعهد وبعد أسبوع بعث تقرير التفقد باسم الأستاذ "أ" الغائب أثناء زيارته للمعهد وأسند له 14 على 20. احتج صديقي الأستاذ "ب" لدى المتفقد ولدى الإدارة الجهوية ولا حياة لمن تنادي وبقي تقرير التفقد وعدد التفقد باسم الأستاذ "أ" الذي لم يزره المفقد حينها إلى يومنا هذا. ونحن نردد ونقول "لا يضيع حق وراءه طالبٌ" ولو حصل كل مطالبٍ في بلادنا على حقه لأصبحنا نرويج إفريقيا.

7.    في معهد من المعاهد بالجمهورية التونسية، أستاذة علوم متدينة أسرّت إلى زميلها وهو صديقي الراوي وقالت: "لن أدرّس تلامذتي وسائل الوقاية من الإصابة بالسيدا". قال لها مستغربًا: لماذا ؟ ردّت قائلةً: "لأن الإصابة بالسيدا هي عقابٌ يسلطه الله على عباده الزناة والشواذ". تعليقي: هذه الأستاذة جمعتْ بين الجهل بالعلم والجهل بالدين: تجهل العلمَ لأن فيروس السيدا قد يصيب إمامًا متعبدًا عند حقنه خطأ بإبرة ملوثة، وقد يولدُ الطفل البريء مصابًا من أم مصابة، وقد حدث في فرنسا وتونس الثمانينيات أن أصِيب عشرات الأطفال الأبرياء بالسيدا أثناء تلقيهم لدم متبرعٍ من أجل علاجهم من مرض الناعورية (hémophilie)، وتجهل الدينَ أيضًا لأن القرآن يحثُّ على طلب العلم، واللهُ يعاقب العالِمَ الذي يحجب علما قد تكون فيه منفعة للناس. وأي ناس في حالتنا هذه ؟ أطفالٌ في عمر الزهور، حرامٌ وألف حرامٍ يا زميلة يا ناقصة علمٍ ودين (لو كان المخطئُ رجلا لقلتُ له نفس الشيء: يا ناقص علمٍ ودين)، حرام عليك أن تحرمي تلامذتك من الاطلاع على وسائل الوقاية من الإصابة بالسيدا وما ذنبهم يا تُرى؟ ألا يكفيهم إصابتهم بنقصِ عِلمِكِ ونقصِ دِينِكِ !


يبدو أنّ مهنة الأستاذ المباشر في القسم تسير في طريق الانقراض

 

يبدو أنّ الأستاذ المباشر (الأستاذ الذي يحضر في القسم ويباشر التدريس لتلامذة حاضرين معه) ينفّذ سياسة تربويّة لم يشارك هو في إعدادها ويبدو أيضا أنّه يتعرّض يوميّا لمشاكل عديدة منها على سبيل الذكر لا الحصر : كثافة البرنامج وضيق الوقت المخصّص لإنجازه واكتظاظ القسم وعدم انضباط  التلاميذ ونقص وسائل الإيضاح التعلمية. لذلك ما زال هذا الأستاذ يستعمل السبّورة العاديّة ويكتب بالطباشير ومازال يمتثل لتوجيهات متفقّد مجاز مثله ولا يتميّز عنه بأيّ شهادة جامعيّة في المجالات الأخرى مثل علوم التربية والإبستمولوجيا وعلم نفس الطفل وعلم التقييم وآليات التواصل (أستثني المتفقدين المتخرّجين الجدد لكن عام واحد تكوين في معهد المكونين بقرطاج لا يكفي). لذلك آليت على نفسي أن ألفت نظر زملائي وأنا أستاذ مباشر مثلهم إلى بروز منافس خطير على السّاحة التربويّة يُدعى الأستاذ غير المباشر (الأستاذ الذي يمارس التدريس عن بُعد عن طريق الأنترنات أو عن طريق الوسائط الرقميّة الأخرى).  منافس يتميز بأشياء أساسيّة في الحياة ما فتئ الأستاذ المباشر يناضل من أجل تحقيقها: التكوين الأكاديمي في علوم التربية زيادة عن التكوين في الاختصاص والحرّية في اتخاذ القرار والأجر المشجّع على الخلق وتوفير التجهيزات لتأدية رسالته وفق الطرق التربويّة العصريّة.

 

بعد هذا التمهيد القصير, سأحاول تقديم مقارنة بين الأستاذ المباشر والأستاذ غير المباشر:

الأستاذ المباشر

-         يحبّ ويكره ويكلّ ويملّ ويغضب وفي بعض الأحيان يخرج عن موضوع الدرس حتّى يروّح عن نفسه وعن تلامذته. وفي حالات نادرة قد يعشق الأستاذ تلميذته أو طالبته ويتزوجها على سُنّة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى حد علمي، لم يحصل أبدا الشيء نفسه مع أستاذة وتلميذها إلا نادرًا.

-         يختصّ في مادّة معيّنة فقط ولا يلمّ في جل الأحيان بكل معارفها.

-         يقدّم للتلميذ بعض وسائل الإيضاح التعلمية القديمة.

-         يقوم بالتجارب عوضا عن التلميذ لنقص في التجهيزات.

-         ينفّذ سياسة تربويّة واحدة ويرتبط ببرنامج سنوي موحّد.

-         لم يدرس أكاديميّا علوم التربية ولا علم نفس الطفل ولا الابستومولوجيا ولا علم التقييم.

-         يعتمد في القسم على نفسه فقط.

-         لا يجد عادة الوقت لإنجاز التمارين التطبيقيّة.

-         يوفّر للتلميذ وضعيّة تعلّميّة مباشرة فيها تفاعل مع أقران قارّين ومفروضين عليه.

-         يدرّس في القسم بمرتّب زهيد.

-         التلميذ لا يتمتع بحرية اختيار أستاذه المباشر بل يُفرض عليه.

 

الأستاذ غير المباشر أو الأستاذ الافتراضي المتواجد في الأنترنات أو الجاهز في الأقراص المضغوطة

-         يقدَر على إعادة الدرس ألف مرّة إن شاء المتلقّي. يحترم ويشجّع ولا يكره ولا يعشق ولا يغضب ولا يُقصي التلميذَ من القسم.

-         يُتقن كلّ الاختصاصات لأنه يوفر عدة أساتذة مختلفين في اختصاصاتهم يقومون بإعداد الدرس المعروض في الأنترنات.

-         يعرض صورا رائعة ومتحرّكة ذات ثلاثة أبعاد.

-         التلميذ يقوم بنفسه بالتجارب الافتراضية.

-         يختار التلميذ برنامجا يتناغم مع قدراته ومستواه الذهني ونسقه الشخصي في التعلم والفهم.

-         يعدّ الأسئلة عن دراية وبدقّة مختص في علم التقييم.

-         يستطيع التلميذ أن يستشير عدّة أساتذة افتراضيين.

-         ينجز التلميذ تمارين فرديّة و تفاعليّة كما يشاء ومتى يشاء.

-         يوفّر للتلميذ تفاعلا افتراضيّا مع أقران من اختياره يستطيع تغييرهم حسب الوضعيّة.

-         جاهزٌ دومًا  تحت الطلب في كل زمان ومكان وتقريبًا دون مقابل أو بمقابل زهيد.

-         يختار التلميذ أستاذه الإفتراضي حسب حاجته وذوقه الجمالي أيضا.

 

بعد هذا العرض السريع وغير الشامل لمزايا التعليم غير المباشر, أسوق لكم على سبيل الذكر لا الحصر أمثلة منه في تونس:

-         أوجدت وزارة التربية جامعة افتراضيّة في موقع على الأنترنات. تقدّم جامعة تونس الافتراضية (كانت تسمى سابقا المعهد الأعلى للتربية والتكوين المستمر بباردو) "تعليما عن بعد" قد يفوق بكثير "التعليم المباشر" في الجامعات الأخرى. يمتاز هذا المعهد بانضباط طلبته من أساتذة ثانوي ومعلّمين وينفرد بقلّة عدد الحاضرين في الحصص المباشرة مع الأستاذ المحاضر (في مدرّجات الجامعات الأخرى قد يحضرها المئات من الطلبة) ممّا يزيد التعلّم جودة وفائدة. يختار المعهد أفضل الأساتذة من الجامعات التونسيّة والفرنسيّة. يختار الطالب فيه نسق تعلّمه بنفسه حسب قدراته وتفرّغه، مثلا ثلاث وحدات تعليمية كل ستة أشهر عوض خمسة. من شروط النجاح في هذا المعهد، التحصّل على معدّل عشرة في كل وحدة تعليمية (Unité de valeur)  يدرسها الطالب ولا أهمية للمعدّل العام ممّا يجبر المتلقّي على عدم إهمال أيّ مادة فيتخرّج مُلِمّا بجميع فروع اختصاصه. ينظّم المعهد إقامات مغلقة (séjours bloqués)  للقيام بالأشغال التطبيقيّة لصالح طلبة العلوم التجريبيّة. ونتيجة سوء تخطيط وزارة التعليم العالي لا يتمتّع هذا المعهد بميزانيّة محترمة ولا بدعاية كافية رغم الخدمات الجليلة التي يقدّمها للتعليم بجميع مراحله في تونس من بنـﭬردان إلى بنزرت. قبل سنة 2000 ساعَدَ هذا المعهد "الأساتذة-الطلبة" المنتسبين إليه على الإرتقاء المهني عن طريق التحصيل العلمي وليس عن طريق الأقدميّة في الرتبة المتوفر لجميع الأساتذة. كان أستاذ التعليم الثانوي أو التقني يرتقي مباشرة إلى رتبة أستاذ اوّل فور حصوله على ديبلوم الدّراسات المعمّقة (DEA ) وهذا الإجراء ساهم في تحفيز الأساتذة على اكتساب العلم والمعرفة. حوالي سنة 2000, نقابتُنا العامة فرّطت في هذا المكسب واتّفقت مع وزارة التربية  على شرط قضاء سبع سنوات كاملة في الرتبة الواحدة قبل الإرتقاء إلى ما هو أعلى منها حتّى لو تحصّل الأستاذ على شهادة الدكتورا. في الاتفاق الجديد, تمسّكت الوزارة، بموافقة النقابة، بالارتقاء المهني على أساس الأقدميّة في الرتبة مع تنفيل الشهادة العلميّةُ (DEA) بثلاث نقاط فقط والدكتورا بخمس عشرة نقطة.

-         نظام "التعليم عن بعد" بدأ قبل اكتشاف الحاسوب وتطوّر بعد عصر الأنترنات فأصبح يضاهي تقريبا نظام التعليم المباشر. وأنا من خرّيجي النظامين, 15 عام تعليم مباشر و11 عام تعليم مختلط، مباشر وعن بعد.

-         يتابع مئات الملايين من طلبة المرحلة الثالثة (في كل الاختصاصات وفي كل البلدان من العالم المتطوّر إلى العالم الثالث)  تكوينهم عن طريق الأنترنات ولا يقابلون مؤطّريهم مباشرة إلاُ في مواعيد قليلة ورغم ذلك يبدعون كلّ في مجاله.

 

رسالة طمأنة أوجها إلى زملائي:

 هل اطمأنّ زملائي إلى أن وظيفتهم التربوية لن تنقرض أبدا مع التعليم عن بُعد ؟ لا بل  على العكس, سيُخلّدون كمُبرمِجي الذكاء الصناعي  للحاسوب وكركن أساسي مع الركنين المكمّلين وهما التلميذ والمعرفة  وستتحسّن صورتهم عند التلميذ ويزيد عطاؤهم ويتخلّصون من مضارّ الطباشير وعبء الاكتظاظ والتنقّل وملاحظات المدير وتوجيهات المتفقّد واحتجاجات الأولياء.

 

خلاصة القول

"التعليم الافتراضي" أو "التعليم عن بعد" نوعان من التعليم غير المباشر يتمتّعان بخاصّيات متعدّدة منها الحضور السّريع  في كل مكان وزمان  والتأقلم مع القدرات الذهنيّة المختلفة لدى المتعلّمين، أي البيداغوجيا الفارقية (La pédagogie différenciée) لذلك نجحا وانتشرا بسرعة في كل أنحاء العالم.

 


محور 3

حول التفقد والمتفقد


 

 

 


"علينا التوقف عن البحث عن وصفات جاهزة صالحة للتربية. حتمًا لا تُوجَد. وعلينا الكف عن تصوّر طُرُقٍ مثالية لا وجود لها في الواقع"

(أندري جيوردان، نشر بولان، 1998، هامشة صفحة 216)

 

“ Cessons de chercher des recettes en matière d`éducation. Il n`y en a pas irrémédiablement. Arrêtons d`envisager des voies royales, il n`y en a pas… »

(André Giordan, Ed Belin, 1998, n. b. p. 216)

 

 


محاضرة لـ"أنتون ﭬراو" بعنوان "التفقد البيداغوجي في مختلف الأنظمة التربوية في العالم". ترجمة وتأثيث مواطن العالَم  

 

Conférence d’Anton DE GRAUWE, spécialiste des programmes, Institut International de la planification de l’éducation, UNESCO.

Titre de la conférence : L’inspection dans différents systèmes éducatifs à travers le monde.

 

تمهيد

إن استشارة متفقدي وزارة التربية في الندوة الوطنية حول منهجية إصلاح المنظومة التربوية، تونس من 29 إلى 31 مارس 2012، ليست هي الحل كما توهم بعض البيروقراطيين غير الملِمّين بالأزمة التربوية في تونس، أو كما أمِلَ بعض السياسيين الجدد. وإنما وجود مؤسسة التفقد البيداغوجي في حد ذاتها هي العلامة التي لا تخطئ على الأزمة، على حِدّة الأزمة. التفقد البيداغوجي ليس العلاج أو الدواء وإنما هو من أعراض المرض.

 

سأحاول أن أترجم إليكم بكل أمانة علمية - رغم مقدرتي المتواضعة في الترجمة - مضمون المحاضرة التي وجدتها على الأنترنات حول التفقد البيداغوجي في العالم بعنوان "التفقد في مختلف الأنظمة التربوية في العالم"، تقديم "أنتون دو قراو"، اختصاصي برامج، المعهد العالمي للتخطيط التربوي، اليونسكو. ومَن يفضّل سماع المحاضرة مباشرة باللغة الفرنسية سوف يجد في آخر المقال "رابطها" وعندئذ يستطيع الاستغناء عن قراءة هذا المقال باللغة العربية.

ملاحظة

تجدون إضافاتي القصيرة جدا دائما بين قوسين حتى لا يختلط عليكم الأمر خاصة وأن المحاضر من الوزن الثقيل علميا رغم رشاقة جسمه.

كلمة صغيرة لكن لطيفة وحازمة ومعبّرة وعبرة في الوقت نفسه لمن يعتبر من أولي الأمر والألباب التربويين:

أوجّهها خصيصا إلى المتفقد الذي هاتفني في منزلي وأثناء عطلتي وحرمني من الإحساس بالأمان وهدّدني بتقديم شكوى ضدي إلى التفقدية العامة للتعليم الثانوي محاولا شلّ عزيمتي وحرماني من حقي الشرعي والقانوني في حرية التعبير. وعلى كل مقال سيئ أرد بمقال علمي جيد لا بالعنف اللفظي أو التهديد، أردّ على التهديد اللفظي بمزيد من النشر، نشر البراهين العلمية التي تعزز وجهة نظري النقدية العميقة لنظام التفقد في العالم وخاصة لنظام التفقد في تونس بصيغته الحالية في 2011 دون المساس بالحرمة الأدبية والشخصية لمتفقدينا التونسيين الأكفاء الذين أكنّ لهم كل التقدير والتبجيل ولا أحمّلهم وحدهم مسؤولية تخلّف نظام التفقد في تونس وأعتبرهم بمثابة أساتذتنا المحترمين بعد أساتذة الجامعة والسلام على من اتبع الهدي، هدى العلم والمعرفة، هدى حرية التعبير دون قيد أو شرط، هدي الابستومولوجيا. شكرا للتكنولوجيات الحديثة وشكرا للأنترنات وخاصة الفايسبوك الذي منحني مجانا هذه المساحة الرحبة من حرية التعبير والنشر وجعلني أستغني باستعلاء وتكبّر عن خدمات جرائدنا التونسية التي رفضت نشر مقالاتي المتنوعة والمتعددة في نقد النظام التربوي التونسي بجميع جهاته الفاعلة بداية من صانعي البرامج إلى المتفقدين إلى الإدارة إلى الأساتذة والتلامذة والأولياء والبنك العالمي وصندوق النقد الدولي. أذكّر من نسي أن التهديد لم يثنني عن مواصلة مشواري والإصداع بالـ"حقيقة العلمية النسبية" وأنا في سن الثلاثين من عمري فكيف سيثنيني اليوم وقد اشتدّ عودي وغزا الشيب مفرقي ولم أعد أنتظر من وزارتنا الموقرة عددا بيداغوجيا ولا إداريا ولا ترقية، أنتظر منها فقط أن تعطني حريتي وتطلق قلمي لوجه الله وأنا في سن الستين حتى أتخلص من تسلط بعض المتسلطين وأتفرغ لمهمتي الأساسية في الحياة ألا وهي النقد، نقد كل فكر غير علمي في تونسنا الجميلة. النقد مؤسسة مستقلة وقائمة بذاتها ولا يُنقِص من قيمتها العلمية عدم تقديمها للبديل.

 

مخطط المحاضرة

1.    المقدمة

2.    نموذج التفقد الكلاسيكي

3.    نموذج التفقد المركزي

4.    نموذج التفقد الذي يعتمد طريقة الدعم عن قرب

5.    النموذج الخالي من التفقد البيداغوجي والمراقبة الإدارية

 

1.    المقدمة

تعتمد جل البلدان على جهاز التفقد البيداغوجي في نظامها التربوي إلا قلة منها استغنت تماما عن هذا النوع من التفقد وهذا لا يعني أنه لا توجد فيها مراقبة من نوع آخر.

تتناقض مهمة التفقد الطموحة مع الإمكانات المتواضعة.

 

ما هي المهام الأساسية للتفقد؟

-         أداة مراقبة  بيداغوجية وإدارية في الوقت نفسه. يركّز المتفقدون على المهمة الثانية أكثر من الأولى.

-          أداة دعم، لذلك يسمى في بعض البلدان مشرف أو مرشد بيداغوجي (في الجزائر يسمى مفتش).

-          تحميل المدرسين مسؤولية  نتائج تلامذتهم رغم أن للعائلة والمدرسة كمؤسسة دور في هذه النتائج (في الكويت يدخل المرشد البيداغوجي ويستمع إلى الأستاذ حوالي ربع ساعة ثم يستأذنه ويشرع في طرح أسئلة معرفية على التلاميذ ليدرك مستواهم ومقدار تقدمهم في المنهج حتى يحكم على المدرّس من خلال مستوى تلاميذه).

-          تحسين مستوى التربية بصفة عامة.

-         توحيد الثقافة الوطنية: نفس المقاربة البيداغوجية ونفس البرنامج ونفس المواد في جميع أنحاء  القطر.

-         أداة ربط: يبلّغ المفقد أوامر الوزارة إلى المدرسين ويرفع تقاريره البيداغوجية إلى الوزارة.

 

ما هي إشكالية التفقد؟

من يتفقد؟: هل يتفقد المدرس؟ هل يتفقد المدرسة؟ هل يتفقد النظام التربوي؟

 

ما هي بدائل المتفقد الكلاسيكي المتاحة؟

-         الجهات الفاعلة والمخولة لتفقد المحترفين هم المحترفون أنفسهم، خذ مثلا  الأطباء، هم مراقَبون من قِبل عمادة الأطباء نفسها.

-         المدرسون الأكفاء يستطيعون تفقد زملائهم.

-         في إفريقيا الجنوبية: يتكون فريق التفقد من ممثل للإدارة وممثل لنقابة المدرسين ومدرّس يعيّنه زميله المعني بالتفقد. بهذا الصنيع الديمقراطي يكتسب التفقد مصداقية، قد يفتقدها المتفقد الكلاسيكي.

-         قد يُراقَب المدرسون من قبل المستفيدين أو الزبائن أو المستعملين مثل الأولياء والتلامذة. في بعض البلدان النامية حيث تضعف أو تغيب الدولة، تخلق المدرسة شبكة حولها، متكونة من تجمّع الأولياء. يموّل   الأولياء المؤسسات العمومية من الضرائب التي يدفعونها سنويا للدولة التي تعيش عادة من هذه الضرائب. ومن يموّل المدرسة يستطيع ممارسة حق المراقبة والتوجيه على المدرسين، يراقب تغيّبهم مثلا أو يحاسب المدرسة على النتائج. وفي هذه الحالة، يختار الولي المدرسة حسب نتائجها وهذه سوق رائجة في فرنسا مع كل انعكاساتها الضارّة.

 

فيما تتمثل مِهَنِية المدرس؟

المدرسون مهنيون بطبيعتهم. ليس الهدف من التعليم هو البحث عن الرزق بل التعليم هو رسالة متكاملة في حد ذاتها. يبدو أن للمدرسين الأكفاء الحق في شيء من الاستقلالية في مراقبة عملهم لكن من الضروري إجراء مراقبة خارجية لتقييم كفاءتهم.

 

من يقيّم من؟

-         التقييمات العالمية مثل تقييم "بيزا" التي تكشف نقاط الضعف في النظام التربوي بمقارنته بأنظمة عالمية متفوقة.

-         التقييم الذاتي وهو مشروع المدرسة مع العلم أنه ليس من السهل طرح نفسك موضوعا للنقاش والنقد والمساءلة. قد يخلق هذا النوع من التقييم صراعات بين المدرسين وقد يثبط عزائم البعض منهم.

-         من الأفضل الجمع بين الأدوات الثلاثة للتقييم وهي تقييم المتفقد والتقييم الذاتي والتقييمات العالمية. لا يجب الاستئناس بطرف واحد فقط، مثلا، قد لا يأخذ المفقد الكلاسيكي في الاعتبار عمل أو مشروع المدرسين أنفسهم ولا يهتم بالتقييمات العالمية. بهذا الصنيع الأحادي، يفقد الطرفان الآخران شرعيتهما ومصداقيتهما.

 

سأعرض عليكم أربعة نماذج نمطية مثالية من التفقد في العالم حتى تقارنوا بينها:

2.    نموذج التفقد الكلاسيكي

-         يُعدّ النموذج الأكثر شعبية في فرنسا والدول الفرنكوفونية والأنغلوفونية مثل فيتنام والسنغال وتنزانيا والمكسيك وتونس والمغرب والجزائر وموريتانيا ولبنان.

-         المدرس هو متعاقد مع الوزارة، من حقها إذن مراقبته عن طريق المتفقد.

-         تعتمد الوزارة في مراقبتها للمدرسين على تقرير المتفقد وعلى نتائج التلامذة.

-          لا تعير الوزارة اهتماما كبيرا للتقييم الذاتي في المدرسة ويبقى المتفقد يمثل لديها الأداة الأساسية للمراقبة.

-         يتمتع سلك التفقد بنوع من الاستقلالية عن الإدارات الأخرى في الوزارة.

-         يتمتع مدير المؤسسة التربوية بحق تفقد المدرس.

 

ما هي نقاط القوة في نموذج التفقد الكلاسيكي؟

-         يُغطّي التفقد جميع مدارس البلاد فهو موحِّد ثقافي للشعب وناشر للثقافة الوطنية في كل أرجاء الوطن.

-         يوفر التفقد دعما للمدرّسين ويفرض عليهم مراقبة مستمرة.

 

ما هي نقاط الضعف في نموذج التفقد الكلاسيكي؟

-         بيروقراطية  مُكلفة لأن التفقد يشمل كل المدارس (قال مدير إعدادية نلسن مانديلا في فنلندا عندما سُئل: لماذا تكون تكلفة التلميذ الفنلندي أقل من تكلفة التلميذ الفرنسي رغم أنكم لا تأخذون مقابلا للتسجيل والدراسة وتوفرون وجبة غذائية ساخنة مجانية بالمدرسة وتتكفلون بمصاريف نقل التلاميذ من البيت إلى المدرسة؟ أجاب: لأننا ألغينا سلك التفقد والميزانية المخصصة له.

-         بيروقراطية ثقيلة لأن عدد المتفقدين لا يكفي فتكون زياراتهم للمدرّسين متباعدة زمنيا وبالتالي غير ناجعة بيداغوجيا.

-         تنسيق معقد بين الولايات والمعتمديات وبين المتفقدين أنفسهم وبين المدرسين المستفيدين من عملية التفقد.

-         تناقض بين المهمة الكبيرة والواعدة للتفقد وبين الإمكانات المحدودة والمتواضعة المتوفرة خاصة في البلدان النامية حيث توسّع التعليم ولم تتبعه نهضة اقتصادية (مثل ما يقع في تونس 2011). ينتج عن هذه الزيادة السريعة في عدد المدرسين، انخفاض في عدد المتفقدين المخصصين لتفقدهم. لذلك يستوجب هذا الوضع التربوي الجديد مراجعات وإصلاحات جذرية.

-          صراع حول الأدوار: صراع بين دور المتفقد كمراقب إداري ودوره كمرشد بيداغوجي  جاء ليدعم المدرس في أداء عمله مما يجعل النجاح في المهمتين صعب جدا أو شبه مستحيل. لو تقمّص المتفقد دور المقيِّم فالأستاذ لن يثق فيه ولن يتكلم عن المصاعب الحقيقية التي تعترضه يوميا ولن يبوح له بنقاط ضعفه خوفا من عدد تقييمه ومحاسبته. لو تقمّص المتفقد دور المرشد البيداغوجي فهو في هذه الحالة  لن يقوم بدور المراقب للمدرس، لذلك يكون من الأفضل أن يتخلى المتفقد عن دور الزجر والتقييم  ويلتفت فقط لدور الدعم البيداغوجي. أما إدارة المدرسة فيجب أن لا تراقب نفسها بنفسها لذلك وجب خلق جهاز مراقبة مستقل نوعا ما عن الإدارة وهذا سيحيلنا على النموذج الثاني وهو نموذج التفقد المركزي.

 

3.    نموذج التفقد المركزي

-         يطبق هذا النموذج حاليا في انقلترا وبلاد الغال والبلدان الأنقلوسكسونية وزيلندا الجديدة وأستراليا.

-         يتكون فريق التفقد من إثني عشر متفقدا. تُراقَب المدرسة كل ثلاث سنوات. يتفقد فريق التفقد التجهيزات وطرق التعليم والنتائج وغيرها ويبعث بتقريره إلى الوزارة وينشره على الأنترنات دون ذكر أسماء المدرسين  المعنيين (كما فعلت أنا عندما قمتُ بنقد سلوكيات  بعض المتفقدين الذين زاروني خلال حياتي المهنية الطويلة (سبع وثلاثون سنة) ونشرت نقدي على صفحات الفايسبوك. هؤلاء المتفقدون أصبحوا جزءا من حياتي كأدوار وليس كأشخاص لذلك يجوز لي ذكرهم ونقدهم ما لم أتعرض لحياتهم الشخصية التي ليست لها علاقة مباشرة بحياتي المهنية وهذه الأخيرة هي  ملك لي وحدي فقط ولي حق التصرف فيها بكل حرية). يرتب فريق التفقد المدارس على النت حسب نتائجها. قد يخلق هذا التمشي منافسة بين المدارس مما قد ينجرّ عنه تحسن الأداء التربوي في بعض المدارس المتخلفة نسبيا أو ينتج عنه غلق بعض المدارس الفاشلة لأن الأولياء سيختارون المدرسة الأكثر تفوقا.

-         ما دام الأولياء هم الذين يموّلون المؤسسات العمومية فمن حقهم معرفة مصير تمويلاتهم.

-         يُطلَب من المدرسة تقديم تقييم ذاتي قبل مجيء التفقد بشهرين لذلك تقوم المدرسة المقصودة بـ"بروفة" تقيّم فيها نقاط قوتها لعرضها وإبرازها ونقاط ضعفها لتحسينها.

-         بعد نشر التقرير المنشور على الأنترنات، قد تكتسب المدرسة المتفوقة سُمعة طيبة لدى الأولياء ويزداد  مدرسوها ثقة بالنفس، أما المدارس الأقل تفوقا، فهي مطالبة بإعداد خطة للدعم والعلاج حسب توجيهات فريق التفقد: مثلا لو كانت المدرسة المعنية تشتكي من مشكل العلاقات مع الأولياء قبل التفقد ويكتشف فريق التفقد خللا آخر فيها، مثلا مشكل في تدريس الرياضيات فعليها إذن الإسراع بإصلاح مشكل الرياضيات قبل مشكل الأولياء تماشيا مع توصيات فريق التفقد الموافِقة لتعليمات الوزارة.

-         يتمتع سلك التفقد ببعض الاستقلالية في إصدار قراراته.

-         يحتكر الجهاز المركزي للتفقد مهمة التفقد في الوطن فلا وجود إذن لمتفقدين على المستوى الجهوي أو المحلي.

-         تتمتع المدارس بنوع من التسيير الذاتي مع توفر ميزانية خاصة لتمويل مشاريع التكوين لإطاراتها الخاصة كتكليف جامعة أو شركة تكوين خاصة للقيام بهذه المهمة.

 

ما هي نقاط القوة في نموذج التفقد المركزي؟

-         توزيع المهام الواضح: تقتصر مهمة فريق التفقد على المراقبة فقط وتُترك مهمة الدعم والعلاج للمدرسة نفسها. ألغِي الدعم البيداغوجي  وبقيت المراقبة الإدارية.  ولو اجتمع الدوران في شخص واحد، فقد يفقدان نجاعتهما مثل ما هو جارٍ به العمل في النموذج الكلاسيكي الأول المطبق في فرنسا وتونس.

-         التخفيف من ثقل البيروقراطية: يمتاز هذا النموذج بأقل عدد من المفقدين على المستوي الجهوي والمحلي لأن فريق التفقد مجمّع في وحدة مركزية تراقب كل مدارس الجمهورية.

-         يحمّل هذا النموذج كل مدرسة مسؤولية إيجاد حلول ملائمة لمشاكلها.

 

ما هي نقاط الضعف في نموذج التفقد المركزي؟

-         تعاني المدارس الضعيفة من غياب الدعم المقدم لها: مثلا مدرسة لا تتمتع بمساندة الأولياء لأنهم مهاجرون جدد مثلا ولا يعرفون اللغة أو مدرسوها يرغبون في مغادرتها لضعف نتائجها لذلك يصعب على هذه المدرسة اختيار وتطبيق الحلول الناجعة لتخطي أزمتها وتحسين النظام التربوي داخلها. تحتاج هذه المدرسة لدعم خارجي يقود خُطاها لشاطئ السلام. أضِف إلى هذه المشاكل ما ينجرّ عن الرتبة السيئة التي تحصلت عليها المدرسة بعد التفقد فقد تُخفَّض ميزانيتها لضعف مساندة محيطها وقد تهجرها أفضل الأدمغة التلمذية بحثا عن مدارس أفضل.

-         ينتج عن هذا النموذج من التفقد المركزي كثيرٌ من التوتر المسلط على المدرسة وعلى مديرها. يأتي هذا التوتر من الشعور بالنقص ومن الوعي بانعدام الإمكانات للخروج من المأزق في بعض المدارس المحرومة.

-         قد يساهم هذا النموذج من التفقد المركزي بصفة سلبية في تحديد مستقبل المدارس الضعيفة مما قد يخلق فروقا كبيرة بين المدارس المتفوقة والأقل تفوقا. قد يخدم هذا النموذج المدارس المتفوقة على حساب المدارس الضعيفة: يجلب للأولى عددا أوفرا من التلامذة المتفوقين مما يجعلها في وضعية مريحة جدا تمكّنها من اختيار الأفضل وتحصل على تلامذة متجانسين مما قد يحسّن نتائجها بصفة سريعة وملحوظة. وفي المقابل، قد تتفاقم مشاكل المدارس الضعيفة وتتراكم لأن هذا النموذج من التفقد المركزي يكتفي بكشف عيوبها ولا يساعدها على تخطّيها.

 

4.    نموذج التفقد الذي يعتمد طريقة الدعم عن قرب

-         يُطبق في الشيلي بعد رحيل "بينوشيه" لأن الدولة الجديدة تبحث عن شرعية في الحكم من خلال اعتماد خطة  لإلغاء الفوارق الجهوية في التنمية. ويُطبق أيضا في بعض مقاطعات سويسرا وفي بعض البلدان النامية كـ"سيرلنكا" مثلا من قِبل بعض المنظمات غير الحكومية.

-          هذا النموذجُ ينتقد النموذجَ الأول والثاني: كل مدرسة تمثل حالة فريدة من نوعها وعلى نظام التفقد عن قرب أن لا يعامل كل المدارس بنفس الكيفية مثلما هو جارٍ به العمل في نموذجَي التفقد الكلاسيكي والتفقد المركزي.

-         يعتمد هذا النموذج على المراقبة عن بعد والدعم و العلاج عن قرب. يترك المدارس المتفوقة نسبيا تتصرف بحرية واستقلالية وتسيير ذاتي. يهتم هذا النموذج خاصة بالمدارس المتدنية والتي تعاني من مشاكل وتحتاج إلى دعم.

-         اختار نظام التفقد في الشيلي تسعمائة مدرسة متدنية النتائج من بين تسعة آلاف مدرسة الموجودة في البلاد وقرر مساعدتها ودعمها للنهوض برسالتها التربوية على أحسن وجه.

-         لم يَعُد يُسمى القائم بمهمة التفقد متفقدا بل يُسمى "مشرفا تقنيا بيداغوجيا".

-         يتكفل كل مشرف بمدرستين أو ثلاث مدارس فقط. لا يقتصر دوره على المراقبة فقط مثل متفقد النموذج المركزي بل يقوم بالعمل مع إطارات المدرسة في ورشات على مدى ثلاث سنوات لتحسين النظام التربوي داخلها. مهمة المشرف ليست بسيطة بل معقدة وهي توفر حلولا أكثر من أن تخلق مشاكل. يقوم المشرف بدوره كممثل للإدارة المركزية وفي الوقت نفسه كمرافق للمدرسين يشرّكهم في تحمّل المسؤولية التربوية ويحثهم على الاجتهاد لإيجاد حلول من صنعهم تكون ملائمة لهم ولمدرستهم. يتكون فريق العمل من المشرف والمدرسين والمدير وهذا الأخير هو الذي يرأس الفريق وله الحق في تفقد المدرسين العاملين في مدرسته.

-         يتكون سلك التفقد في الشيلي من نواة مركزية قليلة العدد، متركبة من خمسة أو ستة مشرفين تقنيين بيداغوجيين يحددون سياسة نظام التفقد وجهاز جهوي يتكفل بتكوين المشرفين التقنيين البيداغوجيين المحليين وجهاز قريب من المدارس حيث يوجد العدد الأكبر من المشرفين التقنيين البيداغوجيين.

-         قلل النظام التربوي في الشيلي من عدد المدارس المحتاجة حتى يستطيع توفير مشرف تقني بيداغوجي عن قرب لكل مدرستين أو ثلاثة مدارس  ضعيفة.

-         لا يهتم المشرف التقني البيداغوجي بالمسائل المالية الخاصة بالمدرسة حتى يتفرغ لمهمة الدعم والعلاج البيداغوجي.

 

ما هي نقاط القوة في نموذج التفقد الذي يعتمد طريقة الدعم عن قرب؟

-         نظام تفقد هرَمِي حيث يوجد عدد قليل من المشرفين التقنيين البيداغوجيين في القمة والعدد الأكبر من المشرفين يتواجد في القاعدة قرب المدارس يعني في المكان المناسب الذي نحتاجهم فيه. بيروقراطية قليلة ورجال ميدان كُثر.

-         طاقم عمل قادر على تقديم خدمة مرنة للمدرسة والمجتمع، يركّز على المدارس الأكثر ضعفا من غيرها.

-         تخلّص هذا النموذج من التفقد من عبء التفقد الإداري وركز على الدعم والعلاج عن قرب للمدارس الضعيفة.

 

ما هي نقاط الضعف في نموذج التفقد الذي يعتمد طريقة الدعم عن قرب؟

-         لا يشمل هذا النموذج كل المدارس الضعيفة في البلاد.

-         عند تطبيق هذا النموذج، قد تتحسن المدرسة لكن ببطء شديد.

-         يتطلب هذا النموذج قاعدة بيانات رقمية مفصلة جدا قد لا تكون متوفرة في البلدان النامية.

-         يتطلب تغييرا جذريا في ثقافة التفقد: لا نطلب من المفقد تغيير مقاربته الذاتية فرديا لأنه خاضع إلى جهاز تفقد يعتمد على المقاربة القديمة التي تنظر بنفس العين إلى كل المدارس وكأنها متساوية وهي في الواقع متفاوتة حتى في بلدان النموذج الكلاسيكي أوالمركزي المتقدمة كفرنسا أو النامية كتونس والمغرب والجزائر وموريتانيا ولبنان.

-         من حسن حظ الشيلي أين يُطبق هذا النموذج أن عدد مدارسها الضعيفة قليل نسبيا لذلك قد يصعب تطبيق هذا النموذج في جل البلدان النامية حيث تحتاج تسعين في المائة من مدارسها للدعم والعلاج عن قرب. لكن يبقى دائما من الأفضل أن نقدّم الدعم والعلاج عن قرب بصفة جدية مثلا لثلاث مدارس متدنية فقط عوض أن نقدمه بصفة سطحية لـخمس وعشرين.

-         المدرسة التي تمتعت بمساعدة المشرف لمدة ثلاث سنوات فقط، قد تنتكس بعد مدة قصيرة وتعود من جديد لمجابهة مشاكل جديدة لذلك يفكر المشرفون على هذا النموذج في الشيلي في تمديد مدة الإشراف على المدرسة والدعم عن قرب إلى خمس سنوات عوض ثلاث.

-         استعانت الوزارة في هذا البرنامج  بالمتفقدين القدامى الذين عملوا في فترة حكم "بينوشيه" بعد ما أقنعتهم بالمقاربة الجديدة وهي الدعم والعلاج عن قرب عوض التفقد الكلاسيكي المعمول به قبل 1990 أي في عهد "بينوشيه".

 

5.    النموذج الخالي من التفقد البيداغوجي والمراقبة الإدارية

-         يُطبق في البلدان الأسكندنافية مثل فنلندا والنرويج والدنمارك.

-         في سنة إحدى وتسعين وتسمائة وألف، قرر الفنلنديون إلغاء العمل نهائيا بنظام التفقد بنماذجه الثلاثة السابقة (أحيّيهم وأشدّ على أياديهم بصدق وإخلاص وسوف يأتي يوم-في تونس العزيزة-نلتحق بركبهم رغم مقاومة المحافظين الجدد والمتكلسين فكريا وعلميا والمحنطين من سياسيين وصانعي برامج ومتفقدين وأساتذة).

-         يمتاز التعليم الفنلندي بمدرّسين أكفاء. لا يدرّس في الثانوي ولا في الابتدائي، إلا حامل شهادة جامعية تساوي الماجستير في الاختصاص. يتمتع المدرس في فنلندا بوضع مميّز بين الموظفين الآخرين والدليل أنه في استفتاء لدى الشباب حول أفضل مهنة ترغب في ممارستها بعد التخرج، كان الجواب بأكثرية ساحقة: مهنة التدريس.

-         يتجمع الأولياء ويكوّنون جمعيات مساندة لمدرستهم التي تشغّل أولا أولاد منطقتهم وكلّهم يعتبرون المدرسة ملكهم الشخصي ويحافظون عليها كما يحافظون على منازلهم وممتلكاتهم الخاصة.

-         يراقب المدرسون أنفسَهم بأنفسِهم وقد تتدخل لجنة المدرسة المتكونة من المدير والأولياء والمدرسين بالمراقبة الإدارية وتوجِّه مثلا، لوما لأستاذ كثير التغيّب عن العمل.

-         تتمتع فنلندا بشعب متجانس الثقافة والتراث والدين والعرق ولا توجد فيه أقليات ذات تأثير محسوس. لذلك لا يحتاجون إلى جهاز تفقد يكون من أبرز مهامه التوحيد بين الثقافات المختلفة في  الجهات والبلديات في جميع أرجاء الوطن فهي موحدة بطبيعة سكانها المتجانسين.

-         تتمتع المدرسة الفنلندية باستقلالية في التسيير والدعم والعلاج والمراقبة الإدارية والبيداغوجية. تطبق المدرسة  الأسكندينافية نظاما تربويا متكاملا ومستقلا لكنه متجانس مع ما يقع في المدارس الوطنية الأخرى بطبيعته وبطبيعة شعب فنلندا المتجانس ثقافيا.

-         توجد مراقبة مركزية عن بعد قد تتدخل عند اللزوم في شؤون أي مدرسة في القطر.

 

 ما هي نقاط القوة في النموذج الخالي من التفقد البيداغوجي والمراقبة الإدارية؟

-         تحميل المسؤولية للأولياء والمدرسين في تسيير مدرستهم. يرتكز هذا التحسيس بالمسؤولية  على فكرة أن التغيير لا يأتي إلا من الداخل (قرآن: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم". أطلب الإذن وأنشد العذر من المليار ونصف مسلم المحترمين وأنسج على منوال الآية لغويا وليس عقائديا ما يلي: "إن التفقد لا يغيّر ما بمدرسة حتى يغيّر مدرّسوها ما بأنفسهم").

-         يمتاز هذا النموذج الخالي من التفقد البيداغوجي بخلوه من أسوأ مظاهر البيروقراطية.

 

ما هي نقاط الضعف في النموذج الخالي من التفقد البيداغوجي والمراقبة الإدارية ؟

-         قد يُمتَّعُ بمزايا هذا النموذج المدارس المتفوقة فقط على حساب المدارس الأقل تفوقا رغم ندرة هذه الأخيرة في البلدان الإسكندنافية.

-         لو استوردنا هذا النموذج في البلدان النامية فقد لا يُكتب له النجاح لتدهور المستوى العلمي والبيداغوجي والتعلّمي لدى المدرسين ولانعدام الوعي التربوي الداعم للمدرسة عند جل الأولياء خاصة وأن هؤلاء الأخيرين يهابون سلطة المدير وسلطة المدرّسين تُجار العلم ومحتكري المعرفة، أعني مقاولي الدروس الخصوصية الذين لا يحترمون ضوابط الدروس الخصوصية ومنها توفير مكان مناسب للتعلّم وليس "ڤاراجا" ضيقا وغير صحي. والمدرسون عمومًا يهابون بدورهم المتفقدين وهؤلاء الأخيرون يطبقون ما صممه واضعو البرامج وما قرره الساهرون على السياسة التربوية التابعة أحيانًا لإملاءات صندوق النقد الدولي.

-         لو أوكلنا للمدرسة جانبا كبيرا من التسيير الذاتي في بلدان ذات شعوب غير متجانسة ثقافيا، قد لا تصل نفس الرسالة الثقافية الوطنية الموحِّدة والمجمِعة لكل تلميذ مواطن ولهذا السبب بالذات نجح هذا النموذج أيما نجاح في فنلندا دون غيرها من البلدان غير المتجانسة ثقافيا.

 

الخاتمة

-         أستشرف سؤالا، قد تسألونه بعد قراءة المحاضرة: هل نستطيع تمييز أو تفضيل نموذج على نموذج آخر من بين النماذج الأربعة المذكورة أعلاه؟

-         الجواب: هي أمثلة متعددة لواقع متنوع في العالم وكل نموذج منهم يتعرّض إلى مصاعب وقد يتأقلم مع بلاد أكثر من بلاد أخرى.

-         السؤال الآخر المهم: ما هي العوامل التي قد تؤثّر على نموذج من هذه النماذج الأربعة؟

-         الجواب: خمسة:

-         نجاعة و كفاءة الإطار التربوي وإمكانات البلاد المعنية: نأخذ مثلا بلدان العالم الثالث، حتى ولو أرادت تبنّي برنامج طموح فلن تقدر على تطبيقه لقلة مواردها المادية والبشرية.

-         المستوي العلمي والبيداغوجي والتعلّمي ومهنية المدرسين.

-         نقص الاهتمام بالشأن التربوي وعدم إعطائه الأولوية لدى الأولياء ولدى الرأي العام في البلاد.

-         وجوب إرساء طريقة التسيير الذاتي داخل المدرسة.

-         مستوى وطبيعة الفروقات الاجتماعية والثقافية في بعض البلدان حيث تسعى السلطة السياسية إلى تخطي هذه العوائق الحضارية والتاريخية. انتهت المحاضرة

 

سأضيف فقرة قصيرة مترجمة، لم ترِد في المحاضرة، وجدتها في الأنترنات أيضا وأعجبتني: قالت متباهية، أستاذة التاريخ والجغرافيا في معهد "فرنسي- فنلندي"، "إيستال فوهر بريجانت": "هنا لا يُسَلّطُ علينا تفقد وهذا الوضع الجديد ساعدني على التجديد البيداغوجي. في فرنسا، يحاول المدرسون بكل ثمن أن ينالوا إعجاب المتفقد وأن لا يثيروا استياءه على الأقل والتفقد يشلّ حركتهم ويعيق تعاونهم مع بعضهم في صلب فريق التدريس. هذه الحرية التي أتمتع بها الآن قد تمثل مع ذلك خطرا على الأساتذة الذين يحاولون التحرّر من سلطة البرامج أو الذين يبالغون في التخفيف من عبء رسالتهم التربوية".

 

تستطيعون تشغيل رابط المحاضرة التالي:

http://www.esen.education.fr/fileadmin/user_upload/Modules/Ressources/Conferences/flash/09-10/de_grauwe/de_grauwe_a_inspection/de_grauwe_a_inspection_FlashLD_784x500.html

أنهي مقالي بطرح إشكالية كما يطالبنا بإلحاح متفقدونا الأفاضل وهم على صواب: لماذا لا تُعرَض هذه المحاضرة على كل المدرسين في جميع الاختصاصات في يوم بيداغوجي مشترك وتحت إشراف متفقدينا المحترمين ّ لتعميم الفائدة؟

 

 

 


التفقد البيداغوجي في تونس: هل هو الحل أم هو المشكل؟


الإهداء: إلى بطلة قصتنا، المعلمة الصامدة، التي لم يحبطها الفهم الخاطئ والاستعمال السيئ لمهنة التفقد من قِبل بعض المتفقدين ولم يثنها ظلمهم لها عن أداء رسالتها التربوية كما يجب.

من الصعب جدا أن تخوض في موضوع شائك ومعقد وحساس مثل علاقة المدرس بالمتفقد والأصعب أن تكتب فيه دون بحث علمي ميداني مسبق (La recherche-action). مع العلم أن وزارة التربية تعرقل الأستاذ التونسي المباشر في المعاهد التونسية والباحث العلمي في علوم التربية حين يحاول، دون ترخيص، إجراء بحوث علمية تربوية داخل المؤسسات التربوية، أما إذا أراد الباحثُ دخول الأقسام فيجب عليه الاستظهار بترخيص رسمي من وزارة التربية. لكنني لست خاويَ الوفاض، لقد درستُ علم التقييم أكاديميا لمدة سنة في بداية المرحلة الثالثة، أعددتُ ماجستير و دكتورا في تعلمية البيولوجيا خلال سبع سنوات بجامعة كلود برنار بليون 1 في فرنسا وبجامعة تونس، أمارس مهنة التعليم منذ ست وثلاثين سنة، اختلفتُ مع المتفقدين سنينا طويلة وتصالحت معهم سنينا أطول ولي بينهم أصدقاء أعزاء كثر ومنهم رفاق مرحلة ثالثة، عملتُ معهم مكونا في مادة علوم الحياة والأرض، كما سبق لي وأن أشرفت على حصة تكوين يتيمة موجهة لمتفقدي التعليم الابتدائي، قمتُ بتربص بيداغوجي قصير في نانسي بفرنسا حيث شاركتُ في يوم بيداغوجي وزرتُ مخابر معهد ثانوي وحضرتُ درسا نموذجيا في علوم الحياة والأرض وواكبتُ مناقشة بحث قام بها فريق من تلاميذ المعهد في إطار بيداغوجيا المشروع. سأحيّدُ منهجيا الأشخاص في مقالي هذا ولن أعمّم استنتاجاتي وبكل وضوح في الرؤيا سأنقدُ بكل شفافية وجرأة لكن في كنف الاحترام ودون الخروج عن حدود اللياقة والأدب ودون تجريح في أشخاص نعزّهم ونكرّمهم ونعتبرهم أساتذتنا بعد أساتذة الجامعة. أبدأ بشهادة من أهل مهنة التفقد: مِن بين المفقدين أنفسهم يوجد مَن وافقني على النقد الوارد في هذا المقال عندما طرحته في منابر عدة. سأشرح نظام التفقد اللاعلمي وغير الموضوعي المسلط على المدرس من قِبل سلطة الإشراف فالمتفقد بطبيعته إذن، شاء أم أبى، علم أو لم يعلم، هو أداة نظام التفقد اللاعلمي وغير الموضوعي ما دام هو نفسه يفتقد للتكوين الأكاديمي. أقصد بالتكوين الأكاديمي التكوين الذي يُتوّج عادة بشهادة جامعية معترف بها كالتبريز أو الأستاذية أو الماجستير أو الدكتورا ولا أقصد وحدات التكوين النظري القصير والسريع ولا التربصات التطبيقية مع احترامي لهذا النوع الأخير من التكوين. لم يتلق المتفقد التونسي تكوينا جامعيا في علم التقييم ولا في علوم التربية ولا في فلسفة وتاريخ العلوم ولا في علوم التواصل ولا يملك شهادة علمية أعلى من شهادة المدرس الذي يتفقده. سبق لي وإن وجهتُ هذا النقد إلى متفقدي علوم الحياة والأرض خلال ندوة حضرها الوزير منصر رويسي في مركز أريانة للتكوين المستمر عندما دعتهم مديرة التعليم الثانوي ليلى البوزايدي (سنة 2000)، بعد استشارتي شخصيا حول قائمة المتفقدين المدعوين. كنتُ حينذاك في أيام العز و"السردكة الفكرية" (فعل سردك مشتق من كلمة سردوك أي الديك بالعربية الفصحى ويعني "نفخ الديك ريشه مزهوّا ومضخِّما جسمه الضئيل والنحيل"). اقتصرت أيام العز وهي قليلة جدا على فترة صداقتي العلمية وليست الذاتية مع وزير التربية السابق والمثقف المحترم، الأستاذ الجامعي القدير الدكتور منصر رويسي. وجّهتُ هذا النقد مباشرة للمتفقدين الحاضرين دون مجاملة ودون نفاق بل بصدق مَن يغار على مهنة التفقد ويريد النهوض بها. من الصدف المنعشة أن الوزارة أسست بعد هذا التدخل، أو قد تكون خططت له منذ سنين، معهد تكوين متفقدي الثانوي والأساسي في قرطاج ولي فيه رفاق مرحلة ثالثة كثر أيضا، فيهم رجال ونساء، نساء جميلات جدا يدخلن على المدرس الابتسامة والرقة واللطف الذي لم نعهده في متفقدينا القدامى ذكورا وإناثا. أود جلب انتباهكم أنني لا أقول هذا الكلام من باب النكتة فابتسامة المتفقد صدقة ورحمة وجواز عبور وقرص أو "حربوشة" تزرع الثقة بالنفس والاطمئنان والأمن والأمان في قلب المدرس فيؤدي درسه ويبدع أمام متفقد متعاون متعاطف ومتفهم لظروف العمل القاسية التي يمارس المدرس التونسي تحت قساوتها أشرف مهنة في الوجود بأقل أجر موجود. استجاب معهد المتفقدين بقرطاج لشروط التكوين البيداغوجي والتعلمي وبقي التكوين العلمي في الاختصاص ناقصا. لسد هذا النقص، أقترح أن لا يُقبل في هذا المعهد إلا "الأساتذة المبرزون" في اختصاصهم وهذا الإجراء معمول به في فرنسا. يمتاز الأستاذ المبرز على الأستاذ العادي بسِعة اطلاعه على معارف اختصاصه وتملّكها والقدرة على توظيفها توظيفا جيدا ومفيدا، لكن في الوقت نفسه يفتقد الأستاذ المبرز إلى التكوين في فلسفة وتاريخ العلوم ولم يدرس أكاديميا "إدراك عملية الإدراك" ( La métacognition) وهي أعلى درجات المعرفة وتتمثل مهمتها في "التفكير في آليات التفكير وفي معرفة أننا نعرف وفي اختيار الطريقة الأنسب لحل المشاكل" وكما قال بيار قريكو: " لو أن الإنسان الذي يقول لا أعرف, عرف لماذا يقول لا, لكان قادرا على تحديد نَعَمْ المستقبلية". عندما أشترط التبريز لدخول معهد المفقدين بقرطاج، أشعر أنني ظلمت زملائي أساتذة علوم الحياة والأرض الطامحين إلى خطة مفقد لأن اختصاصنا هو الاختصاص العلمي الوحيد، على ما أذكر، المحروم من اجتياز مناظرة التبريز غير الموجودة في تونس منذ الاستقلال. بهذه المناسبة أوجه سؤالا مفتوحا إلى وزير التربية التونسية: لماذا يُحرم أساتذة علوم الحياة و الأرض من نيل أهم كفاءة علمية يفتخر بها أستاذ الثانوي؟

 

سأعتمد في طرحي التالي على المثلث التعلّمي (ثلاثة أقطاب: المدرس، التلميذ والمعرفة) (Le triangle didactique ou pédagogique) وسأنحت من رحمه المثلث التقييمي (Le triangle d’évaluation) إن لم يكن موجودا، وسأحدد أقطابه الثلاثة وهي المتفقد والمدرس والتقييم. من المؤسف جدا أن المفقد والمدرس لم يدرسا أكاديميا علم التقييم ومن يقيّم دون علم تقييم كمن يبيع سلعة دون ميزان وفاقد العلم لا يعطيه. يطالبنا المتفقدون بتقييم إجمالي جزائي وتقييم تكويني وتقييم استباقي وسَمِّ ما شئت من الأنواع وهي كلها مفيدة للتلميذ والمدرس لكن من المتناقضات أن المتفقدين لا يطبقون علينا، نحن الأساتذة، إلا نوعا واحدا من التقييمات السابقة وهو التقييم الإجمالي الجزائي. الخطير أن وراء هذا النوع الأخير من التقييم تكمن نظريات وايدولوجيا المدرسة السلوكية. برز هذا النموذج في أمريكا الستينات على أيدي العالِمين، مؤسسي المدرسة السلوكية، "واتسون" و"سكينر". يتعامل المتفقد مع المدرس بأسلوب الإثارة ورد الفعل مثلما يدرّب "بافلوف" كلبه، يجازيه عند الإجابة الصحيحة ويعاقبه إن أخطأ. يطالبنا المتفقدون وبإلحاح رب العمل وأوامره بمدّ التلميذ بمقياس الإصلاح (Barème de correction) مع ورقة الامتحان. يا أساتذة علوم الحياة والأرض، هل مدّكم يوما مفقد بمقياس تقييمه قبل التفقد؟ لقد بلغني أخيرا أن مثال مقياس التفقد متوفر على النات. يوصوننا بل ويمنعوننا بالقانون بعدم إجراء فرض مراقبة فجائي احتراما للتلميذ واجتنابا لوقوعه في الخطأ، بارك الله فيهم وفي تفهّمهم لحقوق التلميذ ومشاعره باعتباره محور العملية التربوية، ويباغتونا، هم، بزياراتهم الفجائية بِنيّة القبض على المدرس متلبسا! فهل بعد هذا التناقض تناقظا؟

 

لقد شاركتُ مرة في مؤتمر علمي في المنستير من 15 إلى 18 ماي 2006 نظمته "الجمعية العالمية للبيداغوجيا الجامعية" فاسمحوا لي قرائي الكرام أن أعلمكم أن الأساتذة الجامعيين لا يخضعون للتفقد وكأنهم رضعوا علوم التربية في الحليب أو ورثوها في جيناتهم وهم لا يمدّون طلبتهم بمقياس الإصلاح ولا يرجعون ورقة الامتحان ولا يناقشون العدد مع الطالب كأن تقييمهم قرآن وهُم، مع الأسف الشديد، مثلهم مثل الأساتذة والمعلمين لم يدرسوا علم التقييم ولا علوم التربية (ما عدا المدرّسين الجامعيين الذين يدرّسون هذه الاختصاصات). هل الأساتذة الجامعيون يتمتعون بثقة عمياء إلى درجة كونهم يعفون من التفقد ولا تطالبهم الوزارة بتطبيق القواعد الأساسية في التقييم؟ وهل نحن مدرّسو الأساسي والإعدادي والثانوي متهمون بالقصور البيداغوجي وعلينا إثبات براءتنا وولائنا لشخص المتفقد الذي لا يفوقنا علما ولا تجربة؟ ما هي مقاييس انتداب المتفقدين؟ وهل هي علمية وموضوعية؟ وهل قرار المتفقد هو قرارٌ مستقل تماما عن إملاءات الوزارة؟ أقصد بالإملاءات أن لا يوظف المتفقد لخدمة أغراض إدارية غير بيداغوجية مثل إخضاع الأستاذ المتنطع والمشاكس نقابيا أو إداريا وأن لا يُستغل تقريره السلبي لأهداف تأديبية لا علاقة لها بالبيداغوجيا.

أنا لا أشك في الأشخاص ولا اقرأ النوايا ولا أحاكمها، لكن نقدي موجّه لنظام التفقد الذي يفتقد للتكوين الأكاديمي في علوم التربية وعلم التقييم. مع العلم أنه ليس من السهل الفصل التعسّفي بين المهنة وأصحابها وقد سمعت مرات عديدة بعض المفقدين المستنيرين رفاقي في المرحلة ثالثة علوم التربية، اختصاص تعلمية البيولوجيا، يتذمّرون من الأساليب البالية والمتخلفة واللاعلمية وغير الموضوعية في مهنتهم وينتقدونها بغيرة المحب لمهنته وإتقان المحترفين.

 

نمر الآن إلي المهم وهو "العقد التقييمي" (Le contrat d’évaluation) الذي يربط المتفقد بالمدرس وهو عقد ضمني غير مكتوب ومسكوت عنه من جل متفقدي الابتدائي والثانوي عن قصد أو دون قصد. يبدو لي انه من الأفضل أن يتولى المتفقد شرح هذا العقد في أول ملتقى بيداغوجي بمركز التكوين حتى يتبين المدرس حقوقه من واجباته كما أفعل شخصيا في أول حصة مع تلامذتي وأشرح لهم "العقد البيداغوجي" الذي يربطني بهم ضمنيا. هل سمعتم يوما متفقدا يشرح للمدرسين الذين يشرف عليهم طريقة عمله أو يقرأ لهم مقياس تقييمه حتى يحذّرهم من الوقوع في الأخطاء الإجرائية البسيطة؟ نعم، سمعنا وأطعنا ويا ليتنا ما سمعنا ولا أطعنا وطبقنا بتبعية وعمى تربوي، سمعنا بعض المتفقدين يبدعون في الاتجاه المعاكس ويملون على المدرسين الخائفين الوجلين المبهورين وصفاتًا بيداغوجية جاهزة باهتة.


نصل الآن إلى طرح الإشكالية التي يحتوي عليها عنوان المقال: كيف يستطيع المتفقد تغيير تصورات المدرس غير العلمية حول عملية التفقد؟

نبدأ بتعريف مفهوم التصورات عموما: يعرّف مدير أطروحتي السابق "كليمان" (1998, 2004) تصورات التلميذ على النحو التالي: تنبثق التصورات غير العلمية (Les conceptions non scientifiques) والعلمية من التفاعل بين معارف التلميذ وقِيَمِه والممارسات الاجتماعية المرجعية حسب نموذجه المشهور "م ق م" ذي الأقطاب الثلاثة (KVP : K, Knowledge en anglais ou connaissances ; V, valeurs ; P, pratiques sociales de référence). أستعير هذا النموذج من أستاذي و أكيّفه مع موضوعنا الحالي و أقول: تنبثق تصورات المدرس غير العلمية حول عملية التفقد من التفاعل بين معرفته بعلم التقييم وقيمه المرجعية وممارسات المتفقد حياله وحيال زملائه أثناء الملتقيات البيداغوجية وخلال زيارات التفقد. يفتقد المدرس إلى علم التقييم كما أكدنا سابقا، إذن، يبقى في جعبته قيمه الموروثة حضاريا والمكتسبة اجتماعيا وتمثّله للسلطة المجسّمة في شخص المتفقد.

 

هل يستفيد المدرس من الملتقيات البيداغوجية في مراكز التكوين؟

إنني أشك كثيرا في جدواها وذلك للأسباب التالية: المتفقد هو الذي يقوم بالتكوين في هذه الحصص وفي بعض الأحيان قد يقوم بها أستاذٌ مكوّنٌ. الاثنان يفتقدان للتكوين الأكاديمي النظري في علوم التربية وكما هو معلوم، كل تطبيق سليم تسبقه نظرية سليمة تتفاعل بدورها مع نتائج التطبيق وتطور نفسها بنفسها. أرى أنه بتوفّر التكوين الأكاديمي للمتفقد والاستاذ المكوّن،  قد تكتسب الملتقيات البيداغوجية في المستقبل جدوى؟ لقد مارستُ خطة أستاذ مكون لمدة عامين، ومن حسن حظي أنه صادف في تلك السنة وجود برنامج تكوين في التعلمية، اختصاصي الثاني، وعندما كلفني المتفقد بتكوين زملائي في كيفية استعمال الكتاب، اعتذرتُ وقدمت استقالتي فورا لأنني أعي أنني لن أقوم بهذه المهمة على أفضل وجه بسبب عدم إلمامي بموضوع التكوين هذا وفاقد العلم لن يعطي إضافة علمية. زد على هذا أن أجر الأستاذ المكوّن زهيد جدا، ديناران وخمس مائة مليم الساعة، يعني يعد الأستاذ حصته لمدة 15 يوما ويعرضها على الحاسوب ويناقشها مع زملائه لمدة أربع ساعات وأجر الحصة عشرة دنانير لا غير في سنة 2000، أقل من الأجر الأدنى الصناعي ليوم عمل! وفي المقابل، عندما يَستدعي المتفقد أستاذا جامعيا ليلقي محاضرة بساعتين، يغدقون عليه أجرا محترما من مائة إلى مائتي دينار الحصة الواحدة. أليس هذا حيفا كبيرا واحتقارا مهينا وإحباطا مقرفا لمجهودات أستاذ الثانوي، لَكأن الأستاذ الجامعي التونسي عالم ومنتج علم، والحقيقة أننا نحن أساتذة الثانوي وأساتذة الجامعة "في الهواء سواء"، نحن وهم لسنا إلا ناقلي علم ولسنا منتجي علم، أما منتِجِو العلم فهم عادة أساتذة جامعة أجانب يقيمون وراء البحار، وعند استقدامهم يُكافؤون بمئات أو آلاف الدولارات. كان الأجدر بوزارتنا أن تثمّن عمل أستاذ الثانوي وترفع من شأنه، لأنه هو الوحيد الخبير بشعاب التعليم الثانوي ومشاكله وإشكالياته ويوجد في النهر ما لا يوجد في البحر. يحمل المئات من أساتذة الثانوي أو الآلاف (لا أعرف الرقم الدقيق) شهائد عليا من ماجستير إلى دكتورا في كل الاختصاصات وعلى العكس يوجد حوالي عشرة آلاف أستاذ جامعي لا يحملون شهادة الدكتورا في الاختصاصات التي يدرّسونها (حوالي نصف العدد الجملي لأساتذة العالي سنة 2000) مع العلم أنني لا ألوم هؤلاء الأخيرين ولا أستنقص من قيمتهم العلمية ففيهم أساتذة أكفاء أجلاء. لكن الخور يبرز عندما يكون الدكتور متوفرا في الاختصاص نفسه كحالتي أنا ولا تنتدبه الجامعة لأسباب مالية غير بيداغوجية وأسمع من زملائي وأصدقائي طلبة معهد المتفقدين بقرطاج أن من يدرّسهم التعلمية هم مفقدو ثانوي لم يدرسوا أكاديميا ولو عاما واحدا هذا الاختصاص الصعب والمعقد.


سؤال يلحّ عليّ غالبا:

لماذا لا يُعلِم المتفقد مسبقا المدرس بزيارته؟ لقد سبق وناقشتُ هذه المسألة مع صديق متفقد علوم الحياة والأرض ورفيق مرحلة ثالثة تعلمية البيولوجيا فقال لي بالحرف الواحد: أنا موافق على الإعلام المسبق للمدرس وما الضرر لو حضّر درسه وهيأ تلامذته وبذل مجهودا أكبر في البحث والتمحيص؟ أليس هذا هو هدفنا في التكوين وقد بلغناه بأيسر السبل وبطريقة بنائية ذاتية؟ واستطرد يقول: تصور وقل لي حسب رأيك من عارض هذه الفكرة أثناء نقاشها في اجتماع المتفقدين؟ الشباب أم الكبار في السن؟ قلتُ: الكبار طبعا. قال: آسف! عارضها الشباب للحفاظ على هالة سلطتهم وسطوتها وبَهرجها وناموسها، جنون العظمة الذي من أجله دخلوا المهنة. شهادة الزميل عفيف ساسي، مجاز في الآداب العربية وهو الذي راجع لغويا كتابي هذا: "المتفقدون الأجانب (وبالذات الفرنسيون) كانوا-أو جلهم لا أدري- يعلمون الأستاذ مسبقا لأن هذا الأمر عشته شخصيا عندما كنت أدرّس الفرنسية في السبعينيات في ڤبلي مع متفقدة فرنسية لا زلت أذكر اسمها (Tatiana Orsini) وأذكر عدد الترسيم الذي أسندته لي (B). كانت تعلمنا أنا وأساتذة الفرنسية من زملائي بالهاتف يومين أو أكثر (نسيت). يا له من ماضٍ جميل!

 

لماذا لا يتم التفقد عبر لجنة متكوّنة من المتفقد والمدير وزميلين قديمين؟ قد تُضفي اللجنة على التقييم قليلا من التعددية والديمقراطية والعدل والإنصاف وتُبعد عن المتفقد الشريف أخطار المهنة التي يتعرض لها والمتمثلة في شبهات المحسوبية و"البنعمية" والرشوة والانتقام والتحرش الجنسي.

 

كيف يكون التقييم علميا وموضوعيا وأنا كأستاذ لم يزرني المتفقد إلا سبع مرات فقط خلال ثمانية وثلاثين عاما في مهنتي. ثمان سنوات منها في الجزائر، زارني خلالها المتفقد مرة واحدة وكنت حينذاك ادرّس في غير اختصاصي (اللغة الفرنسية)، بقي معي ربع ساعة أمضاها في الشكر والإطراء على مدرس في غير اختصاصه! في الجزائر، يسمون المتفقد مفتشا لأنه ما جاء إلا ليفتش عن نقاط ضعف المدرس حتى يذله ويحبطه. يستمد المفتش قوته من ضعف المدرس وانعدام مقاومته وغياب صموده وافتقاده للثقة بالنفس. وفي مصر أيضا يُسمى المتفد مفتشا.

سنة  1976، زارني متفقد فرنسي في جربة في آخر عامي الثاني تربص (دائما الأستاذ الجديد يقول في نفسه : هذه مهنة وقتية وسوف أكمل تعليمي وأنتقل إلى التدريس في العالي وفي أكثر الحالات يبقى في الثانوي طوال عمره أستاذا كما دخل أو أقَل، بحكم العمر والمرض) فرفضتٌ قبوله في قسمي لعدم توفر درس أقدمه في حضوره بعد أن أتممتُ البرنامج. عاقبتني الوزارة على عدم قبول المتفقد في قسمي واستغنت عن خدماتي نهائيا. من حسن حظي توصلتُ إلى استرجاع عملي في نفس السنة عن طريق النقابة مع نقلة عقاب من جربة إلى غار الدماء.

سنة  1978، زارتني متفقدة فرنسية في غار الدماء وأنا أعيد التربص بعد الرفت في جربة، قالت لي أثناء النقاش: لقد ارتكبت خطأ علميا. أقنعتُها أنني لم أفعل فاقتنعت ورسّمتني بعدد 16على 20.

سنة  1988، زارني متفقد في غار الدماء و خفّض لي العدد من 16 إلى 10 ورجع بعد شهر وأوصل العدد إلى 9 عقابا لي عن تجربة طريفة ومقنعة قمتُ بها وهي ليست موجودة في البرنامج الرسمي وعلى معلومة علمية صحيحة علمتها لتلامذتي ومن سوء طالعي ونحسي كان المتفقد يجهلها في ذلك الوقت ولم يقتنع بعلمي كما اقتنعت المتفقدة الفرنسية وشكرتني. ليس العيب في جهل المعلومة في حد ذاتها، وهذا وارد لدى أعلم الأساتذة، ولكن كل العيب يبرز عندما يعتبر المتفقد المعلومة الصحيحة خطأ لأنه يجهلها والأغرب أن يسجلها في تقريره مع العلم أن هذا المتفقد بالذات كان يفوقني حينها علما وتجربة وهو من أكفأ المتفقدين وأنزههم وأعلمهم وهو متحصل على شهادة الدراسات المعمقة في علم الوراثة على ما أذكر (AEA).

سنة  1994، زارني متفقد في برج السدرية، طرق الباب قبل الدخول وطلب مني الإذن بالدخول، فتحتُ له الباب ورحبتُ به ترحيبا كبيرا وقلتُ له: أول مرة في حياتي يحترمني متفقد! زادني أربع نقاط ونصف فأصبح عددي البيداغوجي 13.5.

سنة 2000 وبعد عشر سنوات من مروري بغار الدماء، لحقني صدفة إلى ولاية بن عروس متفقد غار الدماء المذكور أعلاه فوجدني أستاذا مكونا مع زميله الذي عوضه. جاءني في حصة تكوين وطلب مني بكل لطف وروح رياضية أن أنسى المشكلة التي وقعت بيننا في غار الدماء، فاستجبت لطلبه فورا من فرط أدبه و سلوكه الحضاري. تشاء الأيام كما يشاء كشكار، زارني هذا الأخير في برج السدرية وأنصفني أيما إنصاف بعد ما ظلمني في غار الدماء أيما ظلم وأسند لي عددا بيداغوجيا محترما (20\17), عدد ما زلت أفتخر به حتى الآن.

كيف يكون التقييم علميا وموضوعيا و المتفقد يزور المدرس بمعدل مرة كل خمس سنوات ويقيمه خلال ساعة واحدة بعد أن يُفقده توازنه النفسي بطلته البهية وتكبره وتجهمه (أتحفظ ولن أعمم تجربتي الشخصية على كل المتفقدين). ينهار المدرس منذ البداية وهو لا يرى في عينَي زائره إلا الترصد لأخطائه وتدوينها بحضور المدير أحيانا.


سأروي لكم سبع طُرف واقعية حول التفقد في تونس:

الطرفة الأولى: جاء متفقد لزيارة الأستاذ عمار، أستاذ علوم الحياة والأرض، فلم يجده لأنه متغيب لسبب نجهله فتفقد مختار أستاذ العلوم الجديد والمتواجد بنفس المعهد. تم كل شيء بخير ونجح الدرس ورجع المتفقد إلى قواعده سالما. بقي مختار أسابيع ينتظر التقرير والفرحة تغمره مسبقا. جاء التقرير مذيّلا بعدد 14 على 20 لكنه باسم عمار الغائب وليس باسم مختار الحاضر يوم التفقد. شكى مختار مرارا وتكرارا ورغم ذلك لم يتغير التقرير وبقي إلى يوم الناس هذا باسم عمار، هنيئا لعمار بعدد مختار: منتهى الفوضي (وكما يقال شاشية هذا على رأس هذا).


الطرفة الثانية: حدث أن زارني في توزر متفقد في إطار الترقية المهنية. كان الدرس عاديا حتى وصلنا إلى تجربة هضم النشا داخل الأنبوب وتحويله إلى سكر العنب أو الجليكوز تحت تأثير اللعاب. فشلت التجربة لعدة أسباب كيميائية لا ذنب لي في فشلها. امتعض سيدنا وقام وغادر القاعة مسرعا وأمرني بالالتحاق به فورا. دون تعليق.


الطرفة الثالثة: حدثت لي الحادثة الطريفة التالية في يوم تكوين أنجزتُه في مركز التكوين ببنعروس لفائدة متفقدي الابتدائي: كنتُ اشرح لهم أسباب الحركات التنفسية عند الإنسان وقلتُ: يأتي التلميذ إلى الإعدادي وهو يعتقد جازما أن الهواء يدخل إلى الرئتين وينفخهما فيرتفع الصدر. هذا جواب غير علمي والجواب الصّحيح هو الآتي: تتقلّص عضلات الصدر وعضلة الحجاب الحاجز فتتبعها الرئتان الملتصقتان بهما فيزيد حجم القفص الصدري مما يخلق فراغا في الداخل، فراغٌ يجذب الهواء من الخارج عن طريق الفم والأنف. دخول الهواء إذن هو نتيجة وليس سببا في حركات التنفّس. يتشبث التلميذ صاحب التصورات غير العلمية ويدافع عن نفسه بقوله أن المعلّم في الابتدائي لم يدرّسه المعلومة الصّحيحة وهذا مخالف للواقع لأن بعض التلامذة يحتفظون بهذا التصوّر غير العلمي رغم تصحيحه من قبل المعلم أو الأستاذ ويعيدون استعمال هذا التصور في الثانوي و في العالي رغم بطلانه. رويتُ للمتفقدين المشاركين ما وقع لي عندما كنتُ أشرح هذا الموضوع (حركات التنفس عند الإنسان) في معهد برج السدرية بعد نقلتي من إعدادية حمام الشط: نهض تلميذ مدافعا عن تصوراته غير العلمية و قال لي: أستاذ الإعدادي هو الذي علمنا خطأ. من سوء حظ هذا التلميذ أنني ما زلت أذكره من بين تلامذتي في الإعدادية و أنا نفسي الذي درسه حركات التنفس بطريقة صحيحة طبعا. ضحكتُ وقلت في قرار نفسي، يظلم أستاذ الثانوي المعلم و يظلم الأستاذ الجامعي أستاذ الثانوي بتحميل كل طرف الطرف الآخر وزر تصورات التلاميذ غير العلمية التي لا تريد أن تزول بسهولة من أذهانهم! النكتة هي التالية: في آخر الحصة التكوينية جاءني متفقد قديم و قال لي: قل ما تريد يا أستاذ فلن أقتنع بشرحك رغم احترامي لشخصك ولن أغير تصوري غير العلمي حول حركات التنفس وأنا على قاب قوسين من التقاعد المبكر وسأواصل الاعتقاد بأن الهواء يدخل وينفخ الرئتين فيرتفع القفص الصدري. أجبته بالجملة المفيدة والمحببة عندي: أنا أتيتُ هنا، لا لإقناعكم بالبراهين أو الوقائع، بل بكل تواضع لأعرض عليكم وجهة نظر أخرى.

 

الطرفة الرابعة: روتْ لي مرة أستاذة متربصة في علوم الحياة والأرض ما يلي: كنت أخاف المتفقد والمدير، تصوّر يا زميلي العزيز، لقد هجم علىّ الاثنان في وقت واحد وعندما فتحا الباب دون استئذان طبعا، من هول ما رأيت تراجعتُ إلى الوراء حتى انكسر كعب حذائي العالي الأيسر ومن كثرة الرهبة والخوف بقيت أدرس وأنا محافظة على توازني طيلة ساعتين وكلما رأيتهما يتهامسان و يبتسمان، أقول في قرارة نفسي ضاع مرتبي وقد يضيع معه خطيبي الطامع في مرتبي.


الطرفة الخامسة: كنا في مؤتمر علمي حول تعلمية علوم الحياة والأرض في سوسة وكنت أترأس الجلسة وكلما صعدتُ إلى منصة الرئاسة كنت أستغل الفرصة الفرصة لنقد المتفقدين المتسلطين. لكن قبل كل هجوم أعتذر من زملائي المتفقدين و زميلاتي المتفقدات (
Les inspecteurs didacticiens et les inspectrices didacticiennes) الحاضرين والحاضرات، كل باسمه أو اسمها، وأستثنيهم أو أستثنيهن من النقد إلا متفقدة واحدة لم أسمّها ضمن المستثنيات وهي صديقة لي ورفيقة مرحلة ثالثة، كانت صديقتي صغيرة السن والجسم ورقيقة الملامح وخفيفة اللباس يستر سفورها خمار العلم والصدق والعمل. جاءتني بعد الجلسة ولامتني بلطف وابتسامة على عدم ذكر اسمها في كل اعتذار أوجهه لزملائها المتفقدين وقالت: أوَ لست متفقدة؟ قلت: بلى، لكنك جميلة وترقصين جيدا وأنا لم أشاهد في حياتي متفقدا يرقص! فأنت في مخيلتي لا تنطبق عليك مواصفات المتفقد ولو أصبحتُ وزيرا لفصلتك عن العمل كي لا تمسّي من هيبة المتفقدين ووقارِهم.


الطرفة السادسة: ذهبتُ يوما  إلى ساحة محمد علي فالتقيتُ صدفة بمجموعة من المعلمين النقابيين وبما أنني لا أومن بالشعار الزائف والمحنّط القائل أن "لكل مقام مقال" بل أرى أن كل مقال يصلح في كل مقام على شرط أن يكون علميا يستفيد منه الناس. ولا أعتقد أيضا في بعض مقولات اليسار حتى ولو كنت منهم. لا أستوعب ولا أفهم تعاملهم الدائم مع التناقضات المجتمعية أو المادية باعتماد المقاربة التحليلية (
Approche analytique) وإهمال أو تجاهل المقاربة الشاملة (Approche systémique) .
يرتبون هذه التناقضات عادة ترتيبا ميكانيكيا حسب الأولوية، من تناقض رئيسي إلى تناقض ثانوي. أنا أعتقد جازما أن كل التناقضات تتمتع بنفس القدر من الأهمية ولا ولن أرتبها ميكانيكيا، لا حسب الزمن ولا حسب الوزن والأهمية بل أتعاطى معها حسب تفاعلها الجدلي فيما بينها فقد تتطور التناقضات الثانوية إلى رئيسية في زمن آخر وفي وضعية أخرى وقد تبدو الرئيسية ثانوية من وجهة نظر فكرية معاكسة. أثناء التفاعل الجدلي أظل أنتظر النتيجة غير المعروفة مسبقا التي ستنبثق من هذا التفاعل المادي الجدلي بعقلية الباحث العلمي لا بعقلية الباحث الحامل لإيديولوجية معينة أو الباحث الحامل لفكرة مسبقة والذي يهدف إلى تبريرها وإثبات صحتها حتى ولو استوجب الأمر صُنع نتائج بحثه بنفسه قبل إجراء تجربته بهدف توظيفها خدمة لإيديولوجيته الساكنة منذ زمان في باطنه. بعد هذا الهذيان النظري أمرّ لنقل أحداث القصة الواقعية التالية التي سمعتها اليوم بعد ما طرحتُ وجهة نظري حول نظام التفقد البيداغوجي التونسي على مسامع المجموعة المذكورة آنفا. تدور أحداث هذه القصة في أواخر الثمانينات في ولاية من ولايات الشمال الغربي، بطلة القصة معلمة تبلغ من العمر إحدى وعشرين سنة في ذلك التاريخ (بعد أن استأذنتها في نشر ما روت وأخذت موافقتها شفويا، وخوفا من التتبعات العدلية بتهمة الثلب، طلبت مني عدم ذكر اسمها ولا أسماء من ظلموها ولا أماكن عملهم)، لم يمر على تعيينها سوى ثلاث سنوات، مرسمة بعدد 9 على 20، ناشطة نقابية قاعدية. عقابا لها على نشاطها النقابي، حسب ظنها، جاءها ليتفقدها المدير الجهوي المساعد، المسؤول عن التعليم الابتدائي بالجهة. امسكوا أنفاسكم واربطوا أحزمتكم لأن ما سأرويه عن لسانها قد يفقدكم توازنكم التربوي. زارها متفقد من نوع لا أعرفه، زارها وتفقدها وبعث لها تقريرا بيداغوجيا (ما زال في حوزتها حتى الآن). صحيح أن هذا المسؤول الإداري كان يشتغل متفقدا بيداغوجيا قبل أن يتحول إلى موظف إداري كبير لكن، هل يسمح له القانون بتغيير جبته وصفته كما يشاء ومتى يشاء وهو المؤتمن والساهر على تطبيق القانون في الجهة؟ هل يحق له انتحال صفة المتفقد االبيداغوجي وهذا الأخير متواجد بدائرة التفقد المعنية بشحمه ولحمه؟ أنا أعتبر أن هذا التصرف الصادر عن المدير الجهوي المساعد إقرارا ضمنيا من مسؤول كبير بأن التفقد البيداغوجي سيف يسل فيشهر عند اللزوم لردع المدرسين الناشطين نقابيا وقمعهم! نسي هذا المسؤول الكبير أو تناسى أن الهدف الأساسي والنبيل المرجو من التفقد البيداغوجي هو إرشاد وتوجيه المدرس بيداغوجيا وتربويا حتى يؤدي رسالته التربوية المقدسة على أحسن ما يرام! أثناء النقاش بعد انتهاء الحصة وبحضور مدير المدرسة، طلب المدير الجهوي المساعد من المعلمة أن تقوم وتتمشى أمامه ذهابا وإيابا حتى يقيّم هندامها ولباسها! بعد أسبوع جاء التقرير البيداغوجي لهذا المدير الجهوي المساعد محبطا لآمال وطموحات معلمة شابة ابتعدت عن أهلها في العاصمة لأداء رسالة نبيلة كادت أن تساوي رسالة الأنبياء، جاء وفيه توصية مرفقة بتخفيض للعدد من 9 إلى 4 على 20 مع الملاحظة التالية: "الرجاء إعادة التكوين الجذري لهذه المعلمة". أتساءل أنا هنا وبكل براءة: من أحوج منهما إلى إعادة تكوين جذري، المعلمة أم المدير الجهوي المساعد؟ ردّت المعلمة الشجاعة على هذه الإهانة بتقرير مضاد. بعد هذه الحادثة، زارتها لجنة من ثلاثة متفقدين من العاصمة و أنصفتها بعدد 11 على 20. هذا الإنصاف لم يرضِ سيدنا ومولانا المدير الجهوي المساعد فأصرّ وألحّ على مواصلة إذلال المعلمة وإحباطها وطلب إحالتها على مجلس التأديب متهما إياها بالمس من هيبة الدولة في تقريرها المضاد وكان له ذلك بسلطة "كن فيكون". أتساءل وللمرة الثانية وبكل براءة أيضا: مَن مِن الطرفين في النزاع مسّ بهيبة الدولة؟ قرّر مجلس التأديب الموقر والمستقل نقل المعلمة نقلة وجوبية مع تغيير محل الإقامة ونُفذت العقوبة في شهر ماي من نفس السنة الدراسية فانتقلت مناضلتنا للتدريس بمدرسة ريفية نائية بولاية من ولايات الوسط. دون تعليق. لا تنزعجوا على مصير بطلتنا وزميلتنا المناضلة فهي الآن معلمة تطبيق في العاصمة. أما بطلنا السلبي فلا أشك أن زملاءه قد يكونون كرموه بمناسبة إحالته على التقاعد وقد يكونوا قالوا عنه: خَدَمَ السياسة التربوية للدولة التونسية على أحسن وجه. ولا أشك، لو ما زال حيا يرزق أنه ينعم بتقاعد سعيد في كنف ضميره المرتاح و لو توفي فرحمة الله عليه وأسكنه الله فراديس الجنان وعفا الله عما سلف.


توضيح قد لا يفسد للنقد قضية:

كعادتي دائما وبكل صدق ولطف وتواضع أحوّل كل مقهى أجلس فيه إلى مقهى ثقافي ولا تعنيني التوجهات الفكرية أو الانتماءات السياسية أو الرتب الإدارية لجلسائي وأطرح همومي الفكرية والتربوية بكل شفافية قصد تعريضها للنقد بهدف تهذيبها أو تصحيحها أو تطويرها قبل النشر على النت وبعده. طرحتُ موضوع الطرفة الواقعية رقم 6 فعلق علىّ صديقان حميمان مسؤولان، أحدهما مدير معهد و الآخر مدير في وزارة التربية بالقول التالي: من صلوحيات وزير التربية أن يكلّف المدير الجهوي المساعد المذكور أعلاه بمهمة التفقد البيداغوجي للمعلمة المعنية لأسباب نجهلها خاصة وأن هذا المسؤول الإداري كان يشغل وظيفة متفقد بيداغوجي قبل أن يلتحق بسلك الإداريين. لا يمكن حسب اجتهادهما أن يسلك هذا المدير الجهوي المساعد سلوكا قد يحاسب عليه إداريا وقضائيا خاصة وأنه ترك وراءه دليلا ماديا على تفقده يتمثل في التقرير البيداغوجي الذي أرسله إلى المعلمة عن طريق التسلسل الإداري.


الطرفة السابعة: وهي شهادة ذاتية على العصر: كنت وأنا أستاذ شاب في غار الدماء، كلما علِمتُ بقدوم المتفقد إلى معهدنا ينتابني إسهال فظيع وأذهب عَدْوًا إلى بيت الراحة واليوم (1994) شُفيت من هذا الخوف والحمد لله.

 

للمتفقدين نقابتهم و للأساتذة نقابتهم والاثنتان منضويتان تحت لواء الاتحاد العام التونسي للشغل فلماذا لا ينسّقان لحل المشاكل العالقة والطارئة نقابيا بين الشريكين في العملية التربوية؟

 

أنهِي مقالي بطرح السؤال التالي على زملائي المدرسين، إن سمحت الوزارة بذلك: ما هي تصوراتكم حول نظام التفقد وممارسات المتفقد؟ وكباحث علم لن أستنتج شيئا قبل إجراء البحث وأترك نكهة اكتشاف النتيجة لزملائي المتفقدين الأعزاء حتى يتعرفوا على صورتهم الحقيقية في مرآة المدرسين وأتمنى أن تكون صافية وجميلة ويستفيدوا منها في أداء وظيفتهم النبيلة على أحسن وجه. لا تظنوا أنني أكره التفقد والمتفقدين، بل بالعكس، ما تمنيتُ يوما في حياتي أكثر من أمنية ممارسة هذا الدور الابستمولوجي النقدي لما له من إشعاع على أكبر عدد من المدرسين والتلامذة. يكفي المتفقد شرفا علميا أنه يحاول جر المدرس إلى "إدراك عملية الإدراك" في البناء الذاتي للمعرفة لديه ولدى تلامذته.

 

لم أشارك في مناظرة التفقد لأني في بداية حياتي المهنية لم أكن مجازا و في الـ41 من عمري تحصلتُ على الإجازة وتوجهتُ مباشرة للبحث العلمي وإعداد دكتورا في تعلمية البيولوجيا بين جامعة تونس وجامعة كلود برنار بفرنسا، مسيرة علمية أخذتْ من عمري ووقتي سبع سنوات عِجاف ماديا لكنها حُبلى فكريا.

أعتذر لكل المتفقدين المحترمين، وككل مهنة، تضم هيئة المتفقدين الغث والسمين. أؤكد لكم يا سادتي المتفقدين أنني أنطلق من غيرتي على التعليم التونسي المهدد من الداخل والخارج ومن وعي تربوي خالٍ من الخلفيات السياسية والإيديولوجية وليست لي حسابات قديمة أصفيها لأن نظام التفقد أنصفني في الآخر بإسناد العدد 17 على 20 وأنا راضٍ كل الرضا. أحبكم وأعشق مهنتكم وأغبطكم عليها وللمرة الألف أعتذر إن جرحتُ شعوركم أو خدشتُ كبرياءكم دون قصد مني. ألف تحية والسلام عليكم جميعا بغثكم وسمينكم.


ملاحظة: لم أتحدث عن التفقد في التعليم الابتدائي لأنني أجهل نظامه. لكن رغم عدم إلمامي بتفصيلاته سأدلي بدلوي في عمقه: سبق لي وإن اقترحتُ في بعض مقالاتي السابقة إحداث خطة معلم مجال مثل معلم مختص في الرياضيات وآخر في اللغة العربية وآخر في الإيقاظ وآخر في الفرنسية وآخر في الأنقليزية وآخر في التربية كما أرجو بالمثل إحداث خطة متفقد مجال في الابتدائي.


ملاحظة مضافة إلى المقال حول التفقد بتاريخ 9/10/10:

بعد مسيرة مهنية طيلة ستة وثلاين عاما، ولأول مرة في تاريخي المهني، عرض علينا اليوم متفقدنا المحترم -في أول اجتماع بيداغوجي- مقياس التفقد وقرأ جميع بنوده وشرحها بالتفصيل. وأعلمنا اليوم أنه لا يوجد تفقد في دولة كندا ولا تُسند لأساتذة فرنسا أعدادا بعد التفقد.


أتساءل ببراءة الباحث: لو كان التفقد البيداغوجي ضروريا، لماذا ألغِي جزئيا في كندا وكليا في فنلندا وغيرها من الدول المتقدمة وفي كل جامعات العالم؟

 



Haut du formulaire



محور 4

حول تقييم التلميذ


 

 

 


"من المؤكد أنه ليس سليما أن يكون نفس المدرّس هو الذي يعلّم التلميذ وهو الذي يقيّم نفس التلميذ"

(أندري جيوردان، نشر بولان، 1998، هامشة صفحة 216)

 

« Il n`est sans doute pas sain que ce soit la même personne qui facilite le travail de l`élève et celle qui note »

(André Giordan, Ed Belin, 1998, n. b. p. 216)


قاهر وزارة التربية الفرنسية: أستاذ ثانوي يسند دوما لكل تلامذته 20 على 20

 

الزمان: العشرية الأولى من القرن 21

المكان: معهد ثانوي عمومي بباريس

البطل: أستاذ ثانوي مختص في تدريس التاريخ

Pascal Diard

Lycée Suger à Saint Denis

Site:

http://lesempecheursdenseignerenrang.over-blog.org/article-pascal-diard-1ere-partie-stage-sud-education-creteil-liberalisme-et-management-a-l-ecole-102524050.html

 

الخبر كما وصلني بالسماع و ليس بالمعاينة

أستاذ أقام وزارة التربية الفرنسية منذ سنوات و لم يقعدها حتى الآن لأنه قرر فجأة أن يسند لكل تلامذته دوما 20 على 20 في كل الامتحانات الرسمية وغير الرسمية داخل المعهد الذي يدرّس فيه بباريس. حجته في ذلك أن الأعداد الجزائية المسندة إلى التلامذة هي بالأساس أعداد تقييميه اعتباطية و قد تصدم التلميذ أو تؤلمه أو تحبطه أو تخيفه أو تفزعه، لذلك رأى بطل قصتنا و ارتأى أن واجبه يحتم عليه عدم إرباك أحبته التلاميذ.

تجدر الإشارة إلى أن هذا الأستاذ المتنطع والثائر على قوانين وزارة التربية الفرنسية يرى أن لا وصاية على الأستاذ في المسائل البيداغوجية ومن بين هذه الأخيرة حرية إسناد الأعداد كما يشاء هو لا كما يشاء وزير التربية. حتى ولو لم أجرؤ طوال حياتي المهنية على فعل ما فعل لكنني تمنيت في داخلي أن أفعل ما فعل، فأنا متعاطف مبدئيا مع زميلي الفرنسي وأؤيد تبريره المنطقي دفاعا عن سيادة وحرية الأستاذ داخل قسمه واقتناعا مني باعتباطية الأعداد  (تظهر هذا الاعتباطية أساسا في أن مَن يسند الأعداد ويقيّم التلاميذ لم يدرس أكاديميا و لو شهرا واحدا "علم التقييم" فمدرّسنا إذن مثَلُه كمَثَلِ "تاجر يقدّر وزن سلعة دون ميزان"، أتوجد اعتباطية أكثر من هذه الاعتباطية؟

حاولت الوزارة ثنيه عن صنيعه هذا فلم تفلح في ردعه، لا بالجزرة ولا بالعصا. قاموا بتفقده قصد إرهابه 8 مرات خلال 11 عاما تدريس. عرضت عليه الوزارة الاستقالة من التدريس والقيام بعمل إداري فرفض. "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن"، أرادت الوزارة إسكاته وإخماد صوته فذاع على العكس صيته في كامل التراب الفرنسي وتأسست من أجل حمايته ومساندته لجنة قومية وتكوّن حول هذه الأخيرة حزام نقابي يضم الآلاف من المتعاطفين الفرنسيين و غير الفرنسيين  وحصل لي الشرف أن أكون واحدا منهم و لو بالإيمان بقضيته فقط و قد بلّغته فعلا تحياتي عن طريق ابن أختي، زميله في نفس المعهد. عن ابن أختي قال: أن زميله تنازل أخيرا قليلا لصالح الوزارة وأصبح يسند لتلامذته أعدادا أقل من 20 لكن تفوق 17 على 20.

 

مع العلم أن بطل قصتنا الواقعية هذه، هو أستاذ تاريخ كفء وقدير ومن تجلياته أنه عندما يدرّس تاريخ حركة المقاومة الفرنسية في الحرب العالمية الثانية، يستدعي إلى القسم بطلا من أبطالها الناجين ومن إنجازاته أيضا أنه يؤطر ويحث تلامذة الباكلوريا على البحث العلمي وبواسطة علاقاته الثقافية والصحفية والجمعياتية يسهّل لهم نشر إنتاجهم الفكري في مجلات مختصة ويساعدهم على إخراج أقراص رقمية مضغوطة تروي التاريخ بأسلوب بيداغوجي وبطريقة تعلّمية إلى تلامذة المعهد وتلامذة المعاهد الأخرى.

 

 


هل يستفيد التلميذ من كثرة الامتحانات المفروضة عليه في المدرسة التونسية ؟

 

على سبيل الذكر لا الحصر، سوف أعرض عليكم أيها المنشغلون بالشأن التربوي الأعزاء ثلاث عشرة نقطة مقتضبة تُشكك في جدوى الفروض التأليفية والامتحانات الوطنية (الباكلوريا والسيزيام والنوفيام والنموذجي):

1.    المقوِّم أو المقيِّمُ التونسي عموما (l`évaluateur: معلم أو أستاذ ثانوي أو أستاذ جامعي أو متفقد) لم يتلقَّ أي نوع من التكوين الأكاديمي (يعني متحصل على شهادة جامعية وليس شهادة مشاركة في تربص) في علم التقييم (science de l`évaluation) لذلك أشبِّهه بتاجر يبيع سلعة دون ميزان. هو لا يتقن طرح الأسئلة ولا يقدّر الوقت الكافي لإجراء الامتحان ولا يحسن إعداد مقياس موضوعي لإسناد الأعداد (barème ).

توجد في العالم أربعة نماذج لنظام التفقد البيداغوجي: نموذج التفقد الكلاسيكي (مطبّق في البلدان الفرنكوفونية ومنها تونس)، نموذج التفقد المركزي (مطبّق في البلدان الأنڤلوسكسونية ومنها بريطانيا)، نموذج التفقد الذي يعتمد طريقة الدعم عن قرب (مطبّق في الشيلي)، النموذج الخالي من التفقد البيداغوجي والمراقبة الإدارية (مطبّق في البلدان الأسكندنافية ومنها فنلندا). ومن سوء حظنا في تونس اختار خبراؤنا الأشاوس أسوء نظام فيهم.

2.    هل يُعقل أن يقيّمَ المقيِّمُ عملَه ويصلِح فروضَ تلاميذه مكتوبة عليها أسماؤهم؟ من الأفضل أن يأتي المقيِّمُ من خارج المدرسة ويصلح أوراقا مخفية الأسماء حتى نضمن أكبر قدر من الموضوعية ونقلّل قدر المستطاع من الاعتباطية في تحديد العدد (تجربة علمية وقعت في فرنسا: نفس الفرض نال تنقيطا مختلفا بعد ما أصلحه عدة أساتذة وقد وصل الفارق في المواد العلمية إلى خمس نقاط) ونتجنب التأثير السلبي لحسن النية والعاطفة الأبوية أو الأمومية عند المدرس أو المدرِّسة واستغلال المحاباة والقرابة والمحسوبية والرشوة المقنعة بالدروس الخصوصية (étude) عند إسناد النقاط لتلامذة المقيِّمِ  نفسه وكأنه يسندها حسب هواه:

Albert Jacquard a dit: “il ne faut pas catégoriser l`intelligence des apprenants”.

3.    كان تلميذ الإعدادي والثانوي وأظنه ما زال يخسر سنويا ستة أسابيع من ساعات التكوين ليخصصها للتقييم: كل ثلاثي تخصص الوزارة أسبوعا مغلقا لإجراء الامتحان وأسبوعا ثانيا لإصلاح الامتحانات في القسم، الأول يضيع في تكرير ما حفظه التلميذ دون تفكير كالببغاء أما الثاني فلا يحضره إلا النجباء منهم وهم قلة بالرغم من أن  إصلاح الامتحان يفيد ويكوّن التلميذ أكثر من إجراء الامتحان نفسه.

4.    وبعد هذا المجهود البشري الكبير والتبذير في المال العام وفي الوقت المقتطع من التكوين لصالح التقييم: ألا تصطدم الوزارة برفض قبول باكلوريتها التونسية في الجامعات الأجنبية والجامعات الخاصة التونسية (جميعها تجري تقييما داخليا خاصا لقبول طلبتها من بين المترشحين الحاصلين كلهم على الباكلوريا)؟ ألا تنزعج من رفض معادلة شهادئدها من قبل جل الجامعات الغربية؟ ألا يخجلها ترتيبها في المسابقات العلمية العالمية؟ ألا يدعوها هذا التقييم العلمي الخارجي إلى مراجعة نظامها التقييمي؟

5.    يتعامل المقيِّمُ (l`évaluateur: معلم، أستاذ) عندنا مع التلميذ كما يتعامل عالم النفس السلوكي مع فأر المخبر: إثارة فَجواب. لا يعلّم الأستاذُ التلميذَ صياغة السؤال بل يلقنه فقط حفظ الجواب ويبدو لي أن تعلمَ صياغة السؤال من قِبل التلميذ قد يفيده أكثر من ترديد جواب الأستاذ.

6.    يطوّر ويقيّمَ المقيِّمُ عندنا نوعا واحدا من الذكاء لدى التلميذ (الذكاء الفكري intellectuel) ويهمل الأنواع الأخرى كالذكاء العملي والفني وغيره.

7.    يبدو لي أن الامتحانات ليست ضرورية أو ملازِمة للتكوين والدليل: بعض الميكانيكيين وبعض البَنَّائين المهرة وبعض النساء التونسيات الطباخات الماهرات في الأفراح وبعض الرياضيين (les pratiques sociales de référence sans savoir savant) وبعض الفلاسفة والأدباء العظام والرسّامين والممثلين والموسيقيين والنحّاتين  لم يدخلوا مدرسة ولا جامعة ولم يجتازوا في حياتهم أي امتحان.

8.    عديد الدول المتقدمة تخلت أو قللت من إجراء الامتحانات ونحن على العكس نطالب -عن جهل بالنظريات التعلمية الحديثة- بإرجاع امتحانات السيزيام والنوفيام وتشديد في الباكلوريا (حذف الــ25 في المائة) بعد ما كنا في السبعينات نطالب بحذفها لأنها تكرس سياسة الانتقاء وتمنع دمقرطة التعليم وتعرقل التحاق أكثر أبناء الفقراء بالجامعة.

9.     في امتحان الفيزياء والرياضيات وعلم الوراثة، نمتحن ونحاسب التلميذ على مدى قدرته على توظيف المعلومات لحل مسألة لم تُطرَح عليه من قبل وليس على حفظها. فلماذا إذن لا نسمح له بإدخال ورقة تحوي كل القواعد التي قد يحتاجها لحل المسألة العلمية (fausse copie légalisée par l`évaluateur en place وفي امتحان الإنشاء، نمتحن ونحاسب التلميذ على مدى قدرته على توظيف الاستشهادات الشعرية والنثرية لتأليف نص أدبي لم يُطرَح عليه من قبل وليس على حفظها. فلماذا إذن لا نسمح له بإدخال ورقة تحوي كل الاستشهادات التي قد يحتاجها لتأثيث وإثراء موضوعه؟ الهدف من التعليم ليس اصطياد الخطأ بل الاستفادة منه وأشهر العلماء تعلموا من أخطائهم وأخطاء مَن سبقوهم في العلم.

10.                       بيداغوجيا المشروع العلمي تكوّن التلميذ وتدرّبه مبكّرا على البحث العلمي وتجنّب الأستاذ امتحانه ومراقبته طوال السنة الدراسية وفي آخر العام يقدم التلميذ  عرضه أمام لجنة وكأنه مرشح لنيل شهادة الماجستير أو الدكتورا.

11.                       في فنلندا، التي تُعَدُّ من أنجح النظم التربوية في العالم: يأتي التلميذ إلى الامتحان، يدخل قاعة الامتحان، يقرأ الأسئلة، وإذا لم يكن جاهزا لإجراء الامتحان لأي سبب كان، يستأذن من المراقب ويغادر فيُعيَّنُ له موعدٌ لاحقٌ لاجتياز امتحانه في ظروف أفضل دون سؤاله عن السبب.

12.                       يبدو لي أن التقييم التكويني (l`évaluation formative) هو أفضل تكوين ويستطيع الأستاذ هنا أن يقوم بدور المكوّن و المقيّم في آن (le formateur- évaluateur) لأن هذا التقييم ليس تقييما إشهاديا (الامتحانات الوطنية و الفروض évaluation certificative). التقييم التكويني يُوظف فيه التقييم من أجل التكوين الأساسي وليس التكوين الظرفي الانتهازي لتحضير التلميذ للتقييم وكأنه حصان يُهيأ للسباق. ليس من أهداف التعليم أن يتفوق تلميذٌ على تلميذٍ ويأتي قبله في المعدل أو الترتيب بل الهدف أن نهيئ للجميع فرص التكوين الجيد ولكلٍّ حسب مكتسباته وموروثاته.

 

 

خلاصة القول

في تونس حرِصت الدولة والأولياء على التقييم الإشهادي للتلامذة فأهملنا التكوين دون قصد وفقدت شهاداتنا الثانوية والجامعية الكثير من قيمتها العلمية في بورصة العلم والكثير من قيمتها التشغيلية في سوق الشغل في الداخل والخارج. وكل إصلاح تربوي لا يخدم التلامذة الذين يتعرضون إلى صعوبات في التكوين لأسباب تعلّمية أو مادية أو اجتماعية ليس إصلاحاً جذرياً!


محور 5

حول إصلاح المنظومة التربوية التونسية



الإصلاح التربوي: بأي واقع بيروقراطي ثقيل ستطبِّق وزارةُ التربية "الحَوكَمة الرشيدة" داخلها ؟



تعريف المفهوم:

مفهوم "الحوكمة الرشيدة" (La bonne gouvernance) هو مفهوم أنڤلو-ساكسوني حديث من أصل إغريقي ولا يمت لحكم الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم- بِأي صِلَة.

Selon la Banque Mondiale, la bonne gouvernance est la manière par laquelle le pouvoir est exercé dans la gestion des ressources économiques et sociales d'un pays au service du développement.



الواقع البيروقراطي الثقيل

- تَضُمُّ الإدارات المركزية لوزارة التربية الموجودة بالعاصمة قرابة 1600 موظف عمومي، منهم حوالَي 50 متفقدا بيداغوجيًّا عامًّا مرسّمًا لا شغل لهم سوى قبض مرتباتهم العالية نهاية كل شهر مع الإشارة إلى أن وزارة التربية السويدية فيها وزير وكاتبة واحدة فقط على مساحة 300 م2.

- تَضُمُّ المندوبيات الجهوية لوزارة التربية الموجودة بالولايات الـ24 قرابة 2400 موظف عمومي مرسم بمعدل مائة موظف لكل مندوبية.

- تُشغِّلُ الوزارة في كل الجمهورية ما يقارب 624 مفقدا بيداغوجيًّا في التعليم الإعدادي والثانوي بمعدل 2 لكل مادة من مجموع 13 مادة تدريس في 24 مندوبية جهوية، أضِفْ إليهم نفس العدد أو أكثر في التعليم الابتدائي. لن تتعطل الدروس دقيقة واحدة ولن يتضرر تلميذٌ واحدٌ لو غابوا كلهم في يوم واحد مع العلم أن أنجح نظام تعليم في العالم، النظام الفنلندي خالٍ تماما من المفقدين البيداغوجيين ولذلك -حسب رأيي- فاز وتفوّقَ.

- تُشغِّلُ الوزارة في كل الجمهورية ما يقارب 240 مرشدًا للتوجيه (يعادل رتبة ومرتب متفقد) بمعدل 10 لكل مندوبية جهوية، جل عملهم يقوم به مئات الأساتذة المكلفون بالتوجيه.

الحصيلة: 50 متفقد بيداغوجيّ عامّ + 1248 متفقد بيداغوجيّ + 240 مرشد للتوجيه = 1538 مرتب مرتفع نسبيا مقابل شغل موسمي محدود.



لو طبقنا في تونس نموذج تفقد "المراقبة عن بعد و الدعم و العلاج عن قرب" الذي يُطبَّق في الشيلي وبعض مقاطعات سويسرا: تختار وزارتُنا 1538 مدرسة تونسية تعاني من صعوبات بيداغوجية. تعيّن الوزارة في كل مدرسة ضعيفة متفقدا بيداغوجيًّا واحدا أو مرشدًا للتوجيه. يسكن فيها ويرافق المدرّسين طيلة السنة ويشرّكهم في تحمّل المسؤولية التربوية ويحثهم على الاجتهاد لإيجاد حلول لمشاكلهم تكون من صنعهم. وفي نهاية السنة الدراسية تجمعهم الوزارة وتجنّدهم للإشراف على اجتياز الامتحانات الوطنية وعلى التوجيه الجامعي بعد الباكلوريا. وهكذا حسب رأيي المتواضع تكون "الحوكمة الرشيدة" أو لا تكون.



مصدر الأرقام: متفقد إداري-مالي عام بوزارة التربية لا يرغب في ذكر اسمه.


ماذا تعني "المقاربة بالمنهاج" التي يَعِدُنا بها إصلاحُنا التربوي ؟

 

 

المصدر: محاضرة قدمتها متفقدة أنڤليزية، المشاكسة الرائعة نجوى السوداني، التي لم تعجب إلا واحدٌ فقط من بين حوالي خمسين مشاركًا، وهو عبدكم الفقير.

 

إليكم ملخص المحاضرة:

- "المنهاج للنظام التربوي، كالدستور للبلاد"

Un curriculum est à un système éducatif ce qu`une constitution à un pays.

- هي مقاربة تشمل كل المقاربات التربوية، البيداغوجية منها والديداكتيكية والإبستمولوجية والفلسفية والسوسيولوجية والبسيكولوجية والعاطفية والبنائية

Une approche qui jongle avec toutes les autres approches.

- هي مقاربة تعتبر "التلميذ الذي يتعرض إلى صعوبات تعلمية" محورًا لكل إصلاح تربوي ولكل العملية التربوية برمتها، لكنها لا تهمل الفاعلين التربويين الذين يحومون حوله ومن أجله وعلى سبيل الذكر لا الحصر، نذكّر بأهمهم: المربون والأولياء والإداريون والمتفقدون والقيمون والمشغِّلون.

- هي مقاربة تصمّم وتكتب وتراجع وتعدِّل البرامج

Programme d`une discipline # curriculum.

- هي مقاربة تُصمّم الكتب المدرسية وتُكتب وتُراجع وتُعدِّل وتَنشر.

- هي مقاربة تنظم التكوين المستمر للمربين أجمعين (معلمون وأساتذة ومتفقدون وقيمون وإداريون).

- هي مقاربة تحدد السياسة التقييمية لمكتسبات التلميذ ومراجعتها وتعديلها وملاءمتها مع ميولات التلميذ وتوجّهاته.

- هي مقاربة تصيغ منهاجًا جديدًا (المدة التقريبية: عام) وتحدد مرحلته التحسيسية والتواصلية (المدة التقريبية: عام) ومرحلته التجريبية (المدة التقريبية: عام) بهدف إنجاح تبنّيه عن طواعية وسعيًا لكسب التعاطف معه من قِبل التلميذ والمربي والولي والمشغِّلين، والإداريين، وعمال التربية  والمنظمات العالَمية الحكومية وغير الحكومية، إلخ.

- هي مقاربة تعمل على الرقيِّ بالمتخرّج التونسي (نهاية الأساسي أو نهاية الثانوي أو نهاية العالي) وضمّه عن حب ورغبة إلى عالَم أرحب، عالم القيم الكونية، ومساعدته على الخروج من عالَمه المنغلق الضيق، عالَم الهويات المنفصلة والقاتلة

Les identités meurtrières: arabe, musulman, sunnite, chiite, kharidjite, bahaïste, catholique, protestant, orthodoxe, copte, juif, communiste, trotskiste, stalinien, léniniste, conservateur, progressiste, libéral, laïque, capitaliste, socialiste, nationaliste, salafiste, djihadiste, révolutionnaire, réactionnaire, moderniste, etc. À mon avis, il vaut mieux jongler avec toutes ces identités pour s`évader une fois pour toute de leurs paradigmes-prisons.





 


مقارنة طريفة بين المقاربة بالمناهج (Réforme du  curriculum)  ونظرية المافَوقَ وراثي  (L`épigénèse)؟

 

نظامنا التربوي التونسي يعتمد حتى اليوم المقاربة بالبرامج وليس المقاربة بالمناهج. تتمثل المقاربة المستعملة حاليا في تصميم برنامج دقيق لكل مادة (Discipline) وكل مستوى تعليمي (Niveau scolaire) والسير على نهجه دون انحراف وكأنه الصراط المستقيم ودون الأخذ بعين الاعتبار المحيط التربوي الذي يشمل المستوى الذهني المحتمل للتلميذ (Développement mental potentiel ou la ZPD de Vygotsky-La Zone Proximale de Développement) وحالته الاجتماعية والمادية، كما يشمل أيضا المدرّس والتجهيزات والخدمات المتوفرة داخل المؤسسة التربوية ومكانها الجغرافي. 

أما بعد الإصلاح الموعود فالحوار التربوي يتطلع إلى العمل بالمقاربة بالمناهج. تتلخص هذه الأخيرة في تصميم برنامج متحركٍ، مَرِنٍ، أي يأخذ بعين الاعتبار كل مكونات المحيط التربوي. برنامج قابلٍ للتغيير والتعديل والتأقلم مع المتغيرات التي قد تعترض تطبيقه. وقد تصل مرونة هذه المقاربة الجديدة إلى أقصاها في تربية الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة (Les handicapés moteurs ou mentaux) وتخصص برنامجا انفراديا خاصا لكل طفل على حِده.

 

أسوق لكم مثالا أولا يبيّن مدى انعدام المرونة في المقاربة بالبرامج من خلال إجراء مقارنة بين مقاربة ببيداغوجيا الأهداف  (PPO: Pédagogie Par Objectifs)  ونظرية الكل وراثي (Le tout génétique)، سيئتي السمعة، الأولى سيئة تربويا والثانية علميا: تقوم هذه البيداغوجيا المتروكة (PPO) على رسم أهداف الدرس قبل إنجازه. بيداغوجيا لا تأخذ بعين الاعتبار جميع مكونات المحيط التربوي. وعلى أساس هذه المقاربة الأخيرة (PPO)، يتعامل المدرس التونسي الحالي مع التلميذ كما يتعامل عالم النفس السلوكي مع فأر التجارب: يرسم المدرّس مسبقا للتلميذ مُدْخَلاتِ الدرس ومُخْرَجَاتِه، وينظر إليه وكأنه إناء فارغ يملؤه بما يريد أو صفحة بيضاء يخط فيها ما يشاء، ويعتبره شيئا سلبيا (Objet) عوض أن يعتبره ذاتا حرة مستقلة (Sujet)، ويركّز على تحقيق الأهداف المسبقة التي رسمها هو لدرسه، ولا يعير اهتماما للأهداف الأخرى التي قد تتحقق في الدرس خارج إرادته القاصرة والخالية من الخيال (Manque d`imagination). 

كذلك تبدو لي أيضا نظرية الكل وراثي التي تعتبر الـADN برنامجا متكلسا ينفي إمكانية انبثاق صفات ذهنية كالذكاء نتيجة تفاعل الوراثي (L`inné) مع المكتسب (L`acquis) كما ينفي البرنامج في المقاربة بالبرامج أي جديد (L`intelligence potentielle) قد ينبثق (L`émergence) نتيجة تفاعل المبرمَج مع الطارئ (Le contingent) .

 

أسوق لكم مثالا ثانيا يبيّن مدى المرونة الكامنة في المقاربة بالمناهج وفي نظرية مافَوقَ الوراثي: على عكس نظرية الكل وراثي تعتبر نظرية مافَوقَ الوراثي برنامج الـADN برنامجا قابلا للتفاعل مع المكتسب، تفاعلٌ قد تنبثق منه صفاتٌ ذهنية غير منتظرة كالذكاء المحتمل كما قد ينبثق من العمل بالمقاربة بالمناهج تلميذٌ جديدٌ واعدٌ يتقن مهارات القرن الوحد والعشرين (المبادرة، النقد، التواصل، إلخ).

 

 

 

 


إصلاحُ التعليم لا يمكن أن يأتي من رجال التعليم وحدهم وقطعا لن يأتي من المتفقدين


حضرتُ اليوم "الندوة الوطنية لدراسة مُخْرَجات الحوار الوطني حول إصلاح المنظومة التربوية".

المكان: المركز الوطني للغات بالبُحيرة 2.

الزمان: 16-17-18 نوفمبر 2015.

المنَظِّمون: وزارة التربية والاتحاد العام التونسي للشغل والمعهد العربي لحقوق الإنسان.

الحضور: 270 مشارك (معلمون وأساتذة ومتفقدو ابتدائي وثانوي ومرشدو توجيه ومسؤولون كبار من الوزارة وباعثو مؤسسات تربوية خاصة وبعض الأساتذة الجامعيين)، وُزِّعوا على اثنتي عشر لجنة. وزير التربية ناجي جلول افتتح الندوة وحضر الحصة الصباحية وتناول وجبة الغداء معنا.



إصلاح التعليم لا يمكن أن يأتي من رجال التعليم المباشرين وحدهم ولن يأتي قطعًا من المتفقدين المباشرين وذلك لسبب منطقي: جلهم محافظون (Des conservateurs) أو ممتثلون للمقاربات البيداغوجية السائدة (Des conformistes). جلهم أعداء التجديد. هم غير مغرَمين ولا يؤمنون برسالة التعليم وغير مستعدين لبذل أي مجهود إضافي في القسم ولا خارجه وهم قوم لا يقرؤون المراجع العلمية ولا المجلات العلمية المختصة. هم غير متكونين في علوم التربية ولم يدرسوا في الجامعة البيداغوجيا ولا التعلمية (Didactique ou épistémologie de l`enseignement) ولا الإبستمولوجيا ولا علم نفس الطفل ولا علم التقييم (L`évaluation) ولا علوم التواصل ولا الإعلامية (L`informatique est un outil d`apprentissage normalement utilisé dans toutes les disciplines). يَغارون من التلميذ ولا يعترفون بمركزيته كـمحور للعملية التربوية، يستكبرون ويتوهمون أنهم هم محور العالم. وليعلم مَن لا يعلَم بعدُ أن أعظم المنظِّرِين في مجال التربية ليسوا رجالَ تعليم بداية من الفيلسوف روسّو (Émile ou De l'éducation) إلى الطبيبة مونتيسوري (Aide-moi à faire seul) وعالِمَيْ النفس فيڤوتسكي (Le socioconstructivisme et la ZPD) وبياجي (Le constructivisme).

نرجع إلى ما حدث في الندوة: يبدو لي أنه من سوء حظي أنني درستُ سبع سنوات علما يُسمَّى "إبستمولوجيا تعليم البيولوجيا". لماذا؟ لأن الإبستمولوجيا تشتغل على نقد المعرفة، إذن أنا لا أملك إلا النقد ولا شيء غير النقد والنقد كما لاحظتُ من خلال الممارسة لا يتقبله ولا يتحمله إلا الراسخون في العلم وهم قلة النخبة أما أكثرية المباشرين من المدرسين والمتفقدين والإداريين فهم سجناء إطار تفكير قديم متكلس. أكثر المدرسين يخلِطون ولا يميِّزون بين موضوع النقد وشخص الناقد ويترجمون خَلْطَهم عنفا لفظيا ضد شخصي كناقد وهذا ما حدث اليوم: أثناء نقاش البرامج المدرسية في لجنة المقاربات التربوية التي ترأستُها صحبة زميل، تدخلتُ وقلتُ أن جل الأساتذة يسرعون لإنهاء البرنامج ولو على حساب قدرة الاستيعاب والفهم عند التلميذ خوفا من سلطة المتفقد المزدوجة البيداغوجية والزجرية. ردّت عليّ مقرِّرة الجلسة وهي متفقدة عربية وقالت: أنتَ عندك عقدة مع المتفقد و"ابْلاسْتَكْ" في برنامج علاء الشابي "عندي ما انْقُلِّكْ". رددتُ عليها بأدب يليقُ بجنسها اللطيفِ وقلتُ: وأنتِ عندك عقدة مع النقد. انتظرت كامل الحصة المسائية علها تندم على إساءتها لي وتعتذر. لم تعتذر. في الغدِ ترأستُ الجلسة الصباحية. دخلت المعنية متأخرة. جلستْ. عندها توجهتُ إلى الحضور (16) وطلبتُ نقطة نظام وقرأتُ ما كتبته البارحة: أحرصُ على أن لا يمرّ ما حدث معي بالأمس بصمتٍ. باحترام أتوجه إليكم جميعا وأعلِن أنني تعرضت أمس إلى عنفٍ لفظي قاسٍ ورهيبٍ في هذه القاعة من قِبل مشاركة حاضرة معنا وذنبي أنني نقدتُ أداء بعض المتفقدين دون المساس بأشخاصهم فبادلتني النقدَ عنفًا لفضيًّا وقالت لي حرفيا: أنت عندك عقدة مع المتفقد و"ابْلاسْتَكْ" في برنامج علاء الشابي "عندي ما انْقُلِّكْ". انتظرتُ اعتذارًا لم يأتِ. أقول لها بكل لطف: عندما تدعونِي سيدتي رسميا إلى هذا البرنامج سوف أرد عليك كالآتي: أنتِ متخلفة علميا وقليلة تربية أخلاقيا. والآن كرامتي تمنعني من أن أواصل الجلوس معها ولو ثانية والسلام. هبَّ كل الحضور ضِدي. غادرتُ القاعة فورًا ثائرًا غاضبًا مشمئِزًا مزمجِرًا لكنني راضٍ عن نفسي. هَمَمْتُ بمغادرة المنتدى نهائيا. اعترضني مدير الندوة في الباب الخارجي الرئيسي. أعلمته بما حدث. هدّأ من رَوعي واقترح عليّ تغيير اللجنة فقبلتُ.

خلاصة القول

الظاهر أن "بُرجي بالنبزِ". رددتُ على الإساءة بمثلها أو أكثر منها قليلا ولستُ نادمًا على ما فعلتُ (قرآن: "لا يحب الله الجَهْرَ بالسوء إلا مَن ظُلِمَ") وأختم بالقول: يا ناس "ياهوه" "راهُو" العلم لا يجامِل أما ناقل العلم فهو مطالَبٌ بالديبلوماسية والمجاملة واللياقة والأدب حتى يُبلِّغ وجهة نظره العلمية بكل لطف وهذا ما دأبت على فعله يوميا إلى درجة أن بعض أصدقائي نعتوا هذا التمشِّي بالنفاق. هو تماهٍ وليس نفاقا (Faire avec pour aller contre les conceptions non scientifiques) ولن أتراجع عن منهجيتي، كلّفني ذلك ما كلّفني ولو بقيتُ وحيدا سجينًا في عالمي الافتراضي المسمَّى فايسبوك.


حضرتُ ندوة وطنية تحت عنوان "الحوار حول إصلاح المنظومة التربوية: من المخرجات إلى الأجرأة"

 

الزمان: 21 و22 و23 و24 أفريل 2016.

المكان: نزل هدى بالحمامات.

المنَظِّمون: وزارة التربية والاتحاد العام التونسي للشغل والمعهد العربي لحقوق الإنسان.

الممول الرسمي لكل الندوات على مدى عامين: جمعية فريدريش إبارت الألمانية "الخيرية".

الحضور: مِن 200 إلى 300 مشارك (أولياء وقيمون عامون ومعلمون وأساتذة ومتفقدو ابتدائي وثانوي ومستشارو توجيه وقلة من الأساتذة الجامعيين ومسؤولون كبار من الوزارة. الغائب الحاضر للأسف الشديد هو التلميذ، محور العملية التربوية، ولكم أن تتصوروا كيف سيستقيم إصلاحٌ لم يُستشر فيه التلميذ-المحورُ). وُزِّع المشاركون على ثلاث ورشات بداية من مساء اليوم الثاني. اختتم الندوة ناجي جلول وحسين العباسي وعند دخولهما معا لقاعة الاجتماعات، الأول لم يصافحه أي مشارك إلا أنا لأسأله عن كتابي الذي أرسلته له مجلدا مذهّبا، قال لي لم أقرأه بعدُ، أما الثاني فصافح هو بنفسه كل المشاركين نعم كل المشاركين فردا فردا، أول مرة ألاحظ هذا الحرص المصطنع.

 

1.    تدخلي الأول في الحصة الصباحية الجماعية بعد محاضرة المتفقد النقابي المحترف نور الدين الشمنڤي 

Vous avez parlé des doués et surdoués, permettez-moi de vous demander comment vous les avez reconnus et désignés ? Qui sont-ils ? À mon avis, il n`y a pas d`élève plus intelligent qu`un autre mais il y a un élève intelligent dans un domaine et un autre aussi intelligent que le premier mais dans un autre domaine. D`habitude, on mesure l`intelligence à l`aide du QI (quotient intellectuel), cette méthode de mesure est dépassée car elle mesure seulement l`intelligence instantanée et néglige l`intelligence potentielle. Cette dernière pourrait émerger d`un instant à l`autre si on change le cadre d`enseignement (prof, matériel, environnement, motivation, etc.). Malheureusement pour l`élève, on ne peut pas prédire cette forme d`intelligence et les profs en général ne favorisent pas son émergence. Le célèbre généticien et philosophe Albert Jacquard a dit : « On ne peut pas catégoriser l`intelligence ». On sait aussi qu`il n`existe pas de gène d`intelligence donc l`intelligence n`est pas héréditaire et encore notre cher Jacquard a dit : « L`intelligence est 100% acquise et 100% héréditaire », c`est à dire il existe une interaction permanente entre les gènes et l`environnement (l`apprentissage), entre l`inné et l`acquis, d`où émerge une forme d`intelligence non déterminée à l`avance.

Il me parait qu`il n`y a pas d`élèves moins intelligents mais il y a des profs qui ne comprennent pas pourquoi ce soi-disant moins intelligent n`est pas aussi intelligent que ses camarades considérés plus intelligents. Je disais souvent à mes élèves : si le fameux savant intelligent Einstein avait vécu au Sahara avec des nomades, il serait devenu dans les meilleurs des cas un excellent berger aussi intelligent qu`un savant mais dans son domaine particulier.

Malheureusement, dans notre école tunisienne, on ne cultive qu`une seule forme d`intelligence, c`est l`intelligence intellectuelle et on néglige ou on ignore l`existence d`autres types d`intelligence (manuelle ou artistique par exemple). On se contente de faire la monoculture de l`intelligence.

Le prof tunisien, comme tout ou chacun, possède deux yeux seulement et la réforme scolaire a besoin d`un troisième œil, l`œil de l`épistémologue, le seul personnage absent dans ce débat et dans les débats précédents.
Si l`intelligence est héréditaire, Einstein aurait donné un autre Einstein. Le pays de la Corée du Sud était dans les années cinquante classée troisième, avant la Tunisie,  parmi les pays les plus pauvres du monde ; et voilà en deux décennies, le miracle humain est réalisé, elle est devenue un pays industrialisé. L`intelligence se construit, elle n`est ni innée ni donnée, ça s`apprend après de durs labeurs et si nous, on n`a pas beaucoup de scientifiques intelligents c`est parce que on n`a pas réussi à les faire. Les intelligents ne sont pas des champignons qui poussent à la première pluie.

Je termine par un petit mot sur les soi-disant doués des lycées pilotes tunisiens : on leur a fourni un enseignement meilleur que celui qu`on a fourni à nos enfants, on les a choyés et privilégiés, et voilà quant ils terminaient leurs études, ils nous quittaient, migraient et préféreraient l`argent et délaissaient leur nation. Pour moi, un tunisien soit-disant «moins doué» qui reste en Tunisie et travaille dans le secteur public qui l`a aidé à s`auto-construire, vaut mille fois mieux qu`un soit-disant «doué», installé à l`étranger au service de capitalistes avides de profits.

 

تدخلي الثاني في ندوة "الحوار حول إصلاح المنظومة التربوية: من المخرجات إلى الأجرأة" (الحمامات في 21-24 أفريل 2016)

 

أبدأ بالتعبير عن احنجاجي على الشعار المعلق في قاعة الندوة والذي يقول: "غاية الإصلاح التربوي إعداد مواطنين متجذرين في هويتهم العربية الإسلامية منفتحين على القيم الكونية". يبدو لي أننا لا يجب أن نكون كذلك لأن داخل كل أصيل يوجد بالضرورة دخيل وكل دخيل سيصبح مع مرور الزمن حتما أصيل وقرآننا يعطينا أكبر دليل وما تضمينه كلمات أعجمية مثل "استبرق" و"جَدُّ" ربهم إلا جزء قليل، ولسنا منغلقين كما قد يتبادر في أذهان الكثير ولو أردناه انغلاقا تاما لهلكنا وما بلغنا غايتنا.

أليست هويتنا العربية الإسلامية منفتحة بحكم طبيعتها ونشأتها وتاريخها ؟ لا بل إن مفهوم الحداثة ليس مفهومًا وافدًا  في حضارتنا بل على العكس هو مفهوم متجذر فينا منذ العصر العباسي كما أكد ذلك الشاعر العظيم أدونيس. ألمْ تُبنَى الحضارة العربية الإسلامية في دمشق وبغداد وطشقند وقرطبة بسواعد وعقول مسلمين ومسيحيين ويهود من العرب والأكراد والأمازيغ والفرس والأتراك والهنود، تُوحِّدهم اللغة العربية نُطقا وتدوينَا رغم تعدد أعراقهم ودياناتهم ولهذا السبب الألسني بالذات وليس لغيره سُمِّيت حضارتنا الحضارة العربية مع أن حظ العرب عرقيا كان فيها قليلاَ.

نحن نشأنا منفتحين وإلا عمّن ورثنا بقايا الانفتاح نحن سكان قرية جمنة الستينيات ؟ كبرنا فأصابنا الوهن فأغلقنا الباب على أنفسنا من الداخل أو أحكموا الغلق علينا كما يُحكم الغلق عادة على البهائم. النتيجة واحدة: ما نحن فيه وعليه من تخلف ! الحل أو البديل ليس بيدي، البديل ليس للبيع ولا للمبادلة، والبديل لا يُهدى لأنه ببساطة ليس شيئا جاهزا مخفيًّا في جيب أحد مهما أوتِيَ من فقهٍ أو عِلمٍ أو سلطةٍ.

يبدو لي أن خيرُ فتحٍ تم هو الفتحُ دون سيف أي انتشار الإسلام ثقافيا عن طريق التجار في أكبر البلدان الإسلامية قديمًا، أندونيسيا، أو انتشاره حديثًا بنسبة أقل عدديا في أوروبا والأمريكيتين دون جهادٍ أو إكراهٍ. أليس هذا بدليلٍ على الانفتاح ؟ ثاني دليل حسب الطالبي هو تواجد 40% من مسلمي العالم اليوم في بلدان علمانية غير إسلامية، مواطنون يعيشون في سلام، يعملون ويشاركون في صُنع المعرفة وإنتاج العلوم وبناء الحضارة الإنسانية. ثالث دليل يتجسم في تجذر الفكر اليساري في جميع الدول العربية، فبعد ما كنا نعدّه دخيلاَ أصبح اليوم أصيلاَ وها هو يصادق على دستور 2014 "الضامن" و"الحامي" لهويتنا العربية الإسلامية التي لا خلاف حولها اليوم بين اليسار واليمين ولا بين أقلية وأغلبية ولا بين عروبة وأمازيغية ولا بين إسلام ومسيحية أو إلحاد أو يهودية أو بهائية أو شيعة أو سُنّة.

 

تدخلي الثالث في ندوة "الحوار حول إصلاح المنظومة التربوية: من المخرجات إلى الأجرأة" (الحمامات في 21-24 أفريل 2016)

 

سمعتكم دوما تأكدون على تملك اللغة العربية وتتغاضون على الواقع الذي يصرخ ويقول أن  لغة تدريس العلوم الأولى في الثانوي والعالي في تونس هي اللغة الفرنسية وليست للأسف الشديد اللغة العربية الأم. يبدو لي أنه يجب أن نتفق أولا على تحديد لغتنا العلمية الأولى (الفرنسية أم العربية ؟) ثم نركز على حث أولادنا على تملكها حتى يتمكنوا من تملك العلوم الحديثة. وإذا اخترنا اللغة العربية كأداة لتدريس العلوم في تونس فعلينا أن نوفر لها أسباب النجاح ونَقِيها الفشل المنتظر وذلك بترجمة المراجع العلمية الحديثة التي يحتاجها طالب الطب أو الهندسة مع العلم أن العلوم اليوم تتطور بسرعة مذهلة لا يقدر على ملاحقتها إلا العداؤون. وهل نحن منهم ؟ وإصدار مجلات علمية مختصة ذات قيمة عالية (Des revues spécialisées cotées) ناطقة بالعربية، ننشر فيها ما ننتجه من علمٍ وهو اليوم شحيح وقليل وننقل فورا ما ينتجه الغرب وهو كثير وغزير.

أضيف ملاحظة حول حال اللغة الفرنسية في المواد العلمية اليوم في الثانوي، هي أيضا لا تحظى باهتمام من قِبل أساتذة العلوم في معاهدنا الذين هم مطالبون بإتقانها وتوظيفها جيدا في القسم لأن مسؤولية تعليمها للتلميذ ليست منوطة فقط بأستاذ الفرنسية بل هي مسؤولية مشتركة يتحملها كل أساتذة العلوم الذي يدرسون بالفرنسية (الرياضيات، علوم الحياة والأرض، الفيزياء، التكنولوجيا، الإعلامية). للأسف نرى البعض من هؤلاء يستعملون اللهجة العربية الدارجة في مخابرهم المغلقة بدعوى أن التلميذ ضعيف في الفرنسية. كيف سيتحسن هذا التلميذ الضعيف وأنت تغشه من حيث أنك تظن أنك تنفعه ؟ تغشه مرتين، الأولى عندما تتخلى عن واجبك الذي يحتم عليك قانونيا استعمال الفرنسية في القسم وبصنيعك هذا تساهم في تدهور المستوى الألسني لدى التلميذ، والثانية عندما تمد التلميذ ورقة امتحان في ثلاث أو أربع صفحات مكتوبة بلغة فولتير وتطالبه بحل مسائلها اعتمادا على النص وأنت لم تدربه على فك رموز هذه اللغة الأجنبية.

لقد عانت الشقيقة الجزائر (درّستُ فيها ثمان سنوات 80-88) من هذه الازدواجية وانعدام الوضوح في الرؤيا عند تحديد لغة تدريس العلوم. رَفَعَ المسئولون السياسيون الجزائريون شعار التعريب ولم يهيئوا له أسباب النجاح، وبتعريبهم المتسرّع لتدريس العلوم جهّلوا أولاد الشعب وهم (المسئولون السياسيون) أرسلوا أولادهم للدراسة في الخارج بلغة يحاربونها في الداخل. طالِبُ الطب الجزائري القادم من شعبة علمية معربة تماما في الثانوي يجد صعوبة كبيرة في دراسة الطب بالفرنسية بالجامعة. يقع نفس الشيء عندنا عندما ينتقل تلميذ الإعدادي (يدرس البيولوجيا بالعربية) إلى الأولى ثانوي (يدرس البيولوجيا بالفرنسية). كان زملائي الجزائريين، أساتذة العلوم بالعربية في الإعدادي، خريجي التعريب الأوائل، يجدون صعوبة لغوية كبيرة في تصفح مجلة علمية فرنسية مثل (La Recherche ou Sciences & Vie).

 

تدخلي الرابع في ندوة "الحوار حول إصلاح المنظومة التربوية: من المخرجات إلى الأجرأة" (الحمامات في 21-24 أفريل 2016)

 

حول تكوين ملف لمتابعة النموّ الذهني للتلميذ: مَن سيمسك بهذا الملف المهم لو قُدِّر له الظهور؟ لقد سبق وكونّا عديد الملفات حول التلميذ، كلها تأديبية أو جزائية أو إشهادية ؟ حان الوقت أن نكوّن لفائدته ملفا علميا يقدم له خدمات بعد ما أبدعنا في رصد هفواته وتعقب أخطائه وتسليط أقسى العقوبات عليه.

يبدو لي أن مدرّسه المباشر هو أكفأ شخص مؤهل للقيام بهذه المهمة التي قد يستفيد منها المدرّس قبل التلميذ. الطبيبة الإيطالية ماريا مونتيسوري، رائدة البيداغوجيا والديداكتيك والنموّ الذهني للطفل قبل بياجي وفيڤوتسكي، قالت منذ سنة 1900: "المدرّس باحث ميداني أو لا يكون". وللأسف الشديد فإن البحث الميداني  (La Recherche-Action) مجالٌ أهملناه أو غيّبناه في مؤسساتنا التربوية في الأساسي والثانوي واكتفينا بالبحوث الجامعية (La Recherche Fondamentale: master, doctorat et post-doctorat) التي غالبا ما تكون نُسخًا باهتة لبحوث غربية سبقتها ولذلك بقيت مركونة في رفوف مكتبات الجامعات التونسية ولم ولن ترى النور ما دامت لا تدرس واقعنا.

تتمثل مهمة الماسك بملف النموّ الذهني للتلميذ في متابعة نتائج التلميذ ورصد عثراته التعلمية وتسجيل أخطائه المعرفية وتصوراته العلمية وغير العلمية وكشف العوائق التي قد تعرقِل نموّه الذهني (عوائق إبستمولوجية أو عضوية أو اجتماعية أو نفسية أو ذوقية ومزاجية أو ميولاته الفنية والفلسفية، إلخ).

 

إضافة

أعلمتني ابنتي عبير المقيمة بكندا أن مِثل هذا الملف موجود بكندا ويضم التطوع للقيام بأعمال مجانية خيرية يُطالَبُ بها تلميذ الثانوي وتُثري ملفه الدراسي (عَشرة ساعاتٍ في العام الأول في المعهد، تُضاف لها كل عام عَشرةٌ أخَرْ، ولا يتسلم الناجح في الباكلوريا شهادته إذا لم ينجز ساعاته كاملة)، مثلا: يقوم التلامذة الكنديون المسلمون وغير المسلمين بخدمة الكنديين المسلمين في أعيادهم الدينية ويمنح منظمو هذه الحفلات العامة شهادة مشاركة للتلميذ المتطوع، شهادة شرفية يستظهر بها في معهده وتُحفظُ في ملفه المدرسي للعِبرة والتاريخ، أي شعبِ هذا ؟ ما أبعدنا عنه لكننا قادرون على مثل ما فعل. تنقصنا الإرادة السياسية فقط، أي ينقصنا كل شيء ! 

 

تدخلي الخامس في ندوة "الحوار حول إصلاح المنظومة التربوية: من المخرجات إلى الأجرأة" (الحمامات في 21-24 أفريل 2016)

 

نقد مفهوم التقييم: يبدو أن التقييم ليس ضروريا للتكوين:

- يتعلم الطفل الكثير عن أمه دون تقييم ولا برامج، ، وكذلك الصانع (L`apprenti) عن "المْعَلَّمْ"، و وكذلك أيضًا تعلمَ قديما كل الفلاسفة والأدباء. في جل الأحيان يكون التقييم محبِطا ومرعِبا للتلميذ (La mauvaie note est traumatisante pour l`élève déjà en difficulté).

- هل يحق للمدرس أن يقيّم تلامذته الذين تربطه بهم عاطفة وعِشرة وهل هو مؤهل في علم التقييم ؟

- أقترح سَحْبَ عملية التقييم الجزائي والإشهادي (Evaluation sommative et certificative) برمتها من المدرس ونوكِلها إلى عين خارجية أي إلى مؤسسة مستقلة عن المدرسين مثلما هو معمول به في الامتحانات الوطنية ولا نترك للمدرس إلا عملية التقييم التكويني فقط (Evaluation formative).

- يبدو لي أن الأنظمة التربوية الناجحة ذاهبة في اتجاه التقليل من التقييم الجزائي والإشهادي لأن إسناد الأعداد (La notification) في حد ذاته يُعتبر اعتباطيا ويخضع لميولات المدرس ومزاجه.
- حول عقوبة عملية الغش في الامتحان: ما زلنا نطبق حلولا تأديبية ونتجاهل أن للغش حلول علمية مثل بيداغوجيا المشروع (
Pédagogie de projet).

- هل درّبنا تلامذتنا على إجراء فرض أبيض بقصد تأهيلهم للفرض التأليفي وهل دربناهم أيضا على صياغة أسئلة في الامتحانات ولماذا لا يُسمح للتلامذة استعمال بعض الوثائق أثناء بعض الامتحانات (Documents autorisés).

- في فنلندا، عندما يُعبّر تلميذٌ مّا عن رغبته في عدم إجراء الامتحان بعد تسلم ورقة الأسئلة، لا يُسأل عن السبب ويُعيّن له تاريخ جديد لامتحانه.

- لماذا لم نُشرّك التلميذ في مشروع الإصلاح التربوي هذا ولماذا لم نَدْعُه اليوم للمشاركة في ورشتنا هذه. في بعض الجامعات الألمانية يختار الطلبة أستاذهم الجديد من بين عدة مرشحين لكرسي شاغر في الجامعة.
- غالبا ما نُوجّه إلى الشعَب الجامعية العلمية تُهمة تخريج مُنفِّذِي العمليات الإرهابية وننسى أن أغلب قياداتهم المنظِّرَة هم من خريجي الشعَب الجامعية الإنسانية.

- أقترح التقليل من الفوارق بين ضوارب المواد (Les coefficients) لكن أرجو أن تحتفظ الرياضيات واللغات بضارب أرفع من المواد الأخرى (Car les mathématiques constituent un outil utilisé par toutes les autres sciences et les langues constituent le véhicule des savoirs scientifiques et non scientifiques).

- أطالب بحذف عملية التفقد البيداغوجي نهائيا أي لا يحق للمتفقد التطفل على المدرس في قسمه. في العالم أجمع لا يخضع الأستاذ الجامعي للتفقد البيداغوجي. فهل المعلم وأستاذ الثانوي ليسا أهلاً للثقة مثل زميلهم في العالي ؟

- أطالب بتعيين مدرس مرافق لكل تلميذ متعثر حتى يلتحق بالركب في دراسته عوض معاقبته بالرسوب.

- On dit que toute réforme qui ne favorise pas les élèves en difficulté n`est pas une réforme, mais une consolidation en faveur des déjà favorisés.
- أثناء استراحة القهوة بلغني استياء بعض المشاركين في الورشة من طريقة نقدي الانفعالية. عندما استأنفنا، طلبتُ الكلمة وقلتُ: أعتذر عن الطريقة وأتمسك بالنقد لأن النقدَ عندي هدام أو لا يكون. أنا أعي أنني حر في أفكاري، لكنني وفي نفس الوقت أعي أنني لستُ حرا في طريقة تبليغها للمشاركين في الورشة.

Haut du formulaire

 

تدخلي السادس والأخير في ندوة "الحوار حول إصلاح المنظومة التربوية: من المخرجات إلى الأجرأة" (الحمامات في 21-24 أفريل 2016)

 

- المدرسة هي المكان الوحيد الذي يُخطئ فيه التلميذ ولا يُعاقَب حتى يتعلم من أخطائه ويقلل منها في حياته العملية بعد التخرج. لا يُعاقَب لكن ينضبط للنظام الداخلي للمدرسة:

« Le manque d`autorité envers les enfants est une forme de maltraitance » Philippe Perrenoud

- أؤيد الرأي القائل بضرورة حضور ممثل عن التلاميذ (تلميذا منتخبا كان أو وليا منتخبا أيضا) في كل المجالس التربوية القديمة أو المُزمعِ إحداثها قريبا في المعهد مثل مجلس التربية أو التأديب والمجلس البيداغوجي ومجلس المؤسسة ومجلس التوجيه.

- يجب مراجة عقوبة الغش في الامتحان لأنها قاسية جدا (المحاولة الأولى، من 4 أيام إلى 15 يوم وفي المحاولة الثانية قد تصل إلى الرفت النهائي من الإعدادية أو المعهد) ولأن التلميذ لا يتحمل مسؤولية الغش وحده. الغش مسؤولية مشتركة، يتحملها الوزير ومصمم البرامج والأستاذ، فلماذا نعاقب أضعف حلقة من بين الحلقات المسؤولة عن الغش ؟

- أنهِي بقانوني الخاص الذي سبق وأن نصحتُ به عديد الزملاء ولا أتذكر أحدا منهم لم يعمل بنصيحتي، قانون قاسٍ على الزملاء، رحيمٍ بالتلاميذ الضحايا الأبرياء: كل مدرس يبدأ بتعنيف تلميذ لفظيا أو ماديا، يسقط حقه أوتوماتيكيا في تتبع هذا التلميذ ولا يحق لهذا المدرس أن يطالب بمثول هذا التلميذ أمام مجلس التربية أو التأديب مهما كان نوع رد فعل التلميذ المعتدَى عليه حتى ولو كان عنفا لفظيا أو ماديا والإشكال لا يُحلُّ إلا وديا مع التلميذ ووليه والإدارة.

Haut du formulaire

 

هل أصدق أو لا أصدّق ممثل وزارة التربية في الحوار الوطني حول إصلاح المنظومة التربوية (2016) ؟

 

إنها لَمسؤولية تئن لحملها الجبال لو صدّقتُ ما يقوله عنها ممثلو الوزارة: مسؤولية المشاركة في اللجان الفنية القيادية لإعداد برنامج مفصل يهدف إلى إصلاح المنظومة التربوية.

شاركت البارحة بمعهد اللغات في البحيرة 2 في أول جلسة للجنة البرامج والتقييم.

أسوق لكم أول ملاحظة أوحت لي بعدم جدية الوزارة في مشروعها الإصلاحي: جمّعوا ثلاث لجان في قاعة صغيرة (une salle de classe). فهل يُعقل أن يشتغل في فضاء ضيق قرابة العشرين فردا موزعين على ثلاثة فِرَقٍ، كل فريق يخطط لمستقبل مجتمع بأكمله ؟

في اللجنة التي انضممت إليها، تعطلت لغة الحوار منذ البداية بين ممثل الاتحاد وممثل الوزارة. عبر الأول عن شكوكه وهو محق في ما طرحه وقال: "أطلب من ممثل الوزارة أن يوضح لنا موقفه كتابيا مما بلغنا من أخبار تنسف الحوار من أساسه. سمعنا أن الوزارة كلفت لجنة خارج إطار الحوار بإعداد كتابين مدرسيين للسنتين الأولى والثانية ابتدائي، حصل هذا دون استشارتنا ونحن طرف في الحوار الثلاثي (الوزارة والاتحاد والمعهد العربي لحقوق الإنسان)، أي بمعنى آخر شرعت الوزارة في عملية الإصلاح بمفردها". وأصرّ المتحدث وهو مصيبٌ على مساءلة عادل حداد ممثل الوزير في الملتقى. استثدعِي عادل فحضر بعد ساعة تقريبا، انتقلنا إلى قاعة فارغة. قال عادل مبررا ومدافعا عن الوزارة فرسّخ الشك في ذهني عوض إزالته: "1. الحوار بطيء والأموال التي تُرصد للإصلاح قد تنفق أو ترجع للخزينة. 2. قدّرنا الكلفة الجملية للإصلاح التربوي بأربعة آلاف مليون دينار وبوّبنا بدقة مجالات صرفها. حققنا تقدما نسبيا فرُصِد لنا حتى الآن ألفين وخمس مائة مليون دينار وما زلنا نبحث على تجميع التمويل المتبقي. 3. الاتحاد الأوروبي المانح لن ينتظر قرارات الحوار ونحن الآن بصدد التفاوض معه على قرض أو منحة قدرها تسعون ألف دينار ولن نحصل عليها لو لم نقدم كشفا مفصلا عن سبل صرفها. 4. أما إعداد الكتابين فهي لا تعدو أن تكون إلا تجربة ولكم أنتم (الحوار) الكلمة الفصل في إعداد البرامج والكتب المدرسية" 5. لكن... لكن أعدكم أننا لن نخالف مخرجات الحوار التي اتفقنا عليها (صحيح أنك لن تخرج عن الخطوط الكبرى لكن الاختلاف يكمن في التفاصيل يا سيدي وأنتم -حسب قولك هذا- قد سبق لكم وأن انتهيتم من إعداد التفاصيل للحصول على موافقة المانحين أجانب وتونسيين)". أبلعها أو لا أبلعها ؟ آخذها أو لا آخذها ؟ مضلتي... أسمع أقوالك يا سيد عادل... أصدّقك... أرى أفعال الوزارة... أحتار في تحديد موقف نهائي منها ؟ 

قال ممثل الوزارة داخل لجنتنا شارحا المهام المنوطة بعهدتنا مستقبلا: "1. أنتم لجنة قيادة وتسيير (أعترف أنني شخصيا لا أرغب، لا في قيادة ولا في تسيير، ولست مؤهلا ولا قادرا على القيام بكليهما أو أحدهما، ولا أتحمل إلا مسؤولية أخطائي وأرفض أن أنجح بفضل السطو على مجهودات غيري). 2. أنتم الذين ستختارون وتزكون كفاءات متطوعة لمساعدتكم على القيام بأعمالكم (أنا لا أضمن إلا نفسي و"شُوفْ" ؟). 3. ربما تتطلب مهامكم المنتظرة الاجتماع اليومي في البحيرة 2 (أنا تطوعت بجهدي ولست مستعدا للتطوع بقوتِ عيالي ولا أقدر على دفع نفقات التنقل اليومي إلى مكان لا يصله النقل العمومي، والتاكسي من شارع بورڤيبة بستة دنانير ذهابًا). 3. عندما تحتاجون إلى دراسات أو استطلاعات أو بيانات، اطلبوها من المتطوعين الذين ستعيّنوهم (أنا متطوع فكيف أتجرأ وأطلب من غيري أن يتطوع ؟ ولماذا يتطوع ؟ لإعداد دراسة ! وأنتم الوزارة تدفعون آلاف الدنانير أجرة للاختصاصيين الذين تكلفونهم عادة بإعداد أي شغل مهما كان مهمّا أو سخيفا)". هذه المهام يا سيدي لم تقدر عليها وزارتكم المجهزة بجيش من البيروقراطيين الذين يقبضون ولا ينتجون، فكيف أقدر عليها أنا غير المؤهل، لا للقيادة ولا للتسيير؟ ولو كنتم جادين وليس على ذقني تضحكون وأنا في سن الرابعة والستين، فعليكم باختيار لجنة متكونة من مختصين في البرمجة والتقييم وعلى القيادة والتسيير مدربين ولعملهم هذا متفرغين وادفعوا لهم مقابلا محترما، أما أنا فدوري يتمثل في معارضة القياديين ونقد المسيرين ولست في عطاياكم من الطامعين !

 

ملاحظة: ترددت في نشر ما دار في الجلسة المضيقة لكنني تذكرت أنني لا أمثل نفسي في الحوار ومن حق النقابيين والناس أجمعين أن يطلعوا على كل صغيرة وكبيرة والحوار الذي دار بيننا لا يجب أن يُحجَبَ على أحد.

 

Haut du formulaire

Bas du formulaire

 


درِّبوا المدرسين (معلمين وأساتذة) وجازوهم على البحث العلمي الميداني ولسوف تَرَوُنَّ أنهم قادرون على المساهمة الفعالة في إصلاح التعليم بمعية المختصين في علوم التربية

 

-         ما هو البحث العلمي الميداني (La Recherche-Action) ؟

WIKIPÉDIA : En 1986, lors d'un colloque à l'Institut national de recherche pédagogique (INRP, Paris), les chercheurs sont partis de la définition suivante : il « s'agit de recherches dans lesquelles il y a une action délibérée de transformation de la réalité ; recherches ayant un double objectif : transformer la réalité et produire des connaissances concernant ces transformations ». 

-         ما هو البحث العلمي الأساسي  (La Recherche fondamentale) ؟

هو البحث الذي يقوم به المُجازون في اختصاصاتهم العلمية (Une licence universitaire) تحت إشراف الجامعات ويُتوّجُ بشهادتَيْ الماجستير (Master Fondamental) والدكتورا (Doctorat).

-         ما هو البحث العلمي المهني (La Recherche appliquée) ؟

هو البحث الذي يقوم به المُجازون تحت إشراف الجامعات ويُتوّجُ بشهادة الماجستير المهني (Master Professionnel) التي لا تُفضي عادةً إلى دكتورا.

 

نرجع الآن إلى البحث العلمي الميداني:

هو البحث الذي يقوم به أصحاب المهن الذهنية واليدوية من كل المستويات العلمية في أماكن عملهم (مدرسة، معهد، معمل، ضيعة، إلخ.) ولا يُتوّجُ بشهادة جامعية، لا ماجستير ولا دكتورا.

البحث العلمي الميداني في المدارس والإعداديات والمعاهد:

يقوم به أي مدرّس يرغب في تحسين أدائه تحت إشراف مؤطّرٍ من اختياره والأفضل أن يكون عالِما بالمنهجية (La Méthoddologieأستاذ جامعي مثلاً أو أستاذ أو معلم دَرَسَ أكاديميًّا المنهجية. لا يمكن أن تُوكَل هذه المهمة للمتفقد لما يمارسه على المدرّس من سلطة ، سَمِّها ما شئت إلا علمية.

التحفيز على البحث العلمي الميداني في المدارس والإعداديات والمعاهد:

على الوزارة اعتباره مقياسًا للترقيات المهنية وتحسين الشهرية (ولا مقياس غيره حتى ولو كانت شهائد البحث العلمي الجامعي الأساسي كالماجستير والدكتورا) عِوَضَ الاعتباطية السائدة اليوم. وعليها بعثُ مجلة علمية شهرية أين تُنشرُ جميع البحوث الميدانية. ولتشجيع البحث الميداني فعلى الوزارة تنظيم ملتقيات علمية أين يعرِض المدرّسون بحوثهم وعليها أيضا دعوتهم لإلقاء محاضرات في الجامعات واستضافتهم في الإعلام وتسفيرهم مجانا للخارج للمشاركة في ملتقيات أو تربصات عالمية.

ماذا يربح المدرّس الباحث؟

-         يرتقي مهنيّا عن جدارة ولا مزية عرْبي (الإدارة أو المتفقد).

-         يكسِب ثقة في نفسه وتزداد ثقة التلامذة والأولياء والإدارة فيه.

-         يجدّد طُرُقَه البيداغوجية بنفسه ويكيّفها مع مستوى تلامذته، فِعْلٌ علمي وتربوي لا يقدر عليه إلا هو.

-         يصبِح منتجًا للمعرفة (Un enseignant-chercheur producteur de savoir et non seulement transmetteur de savoir) فيتساوى مع العلماء والمنظّرين.

-         يتحرّر من سلطة محتكِري العلم وسماسرته ومقاولي المحاضرات من أصحاب الشهائد العلمية العليا، وبعلمه هو ومعرفته المكتسبة ميدانيًّا يصبِح مستقلا قادرا على المبادرة ولا ينتظر إذنًا أو وصاية من أحدٍ.

تمويل مشروع البحث العلمي الميداني في المدارس والإعداديات والمعاهد:

أقترِحُ إلغاء مؤسسة التفقد البيداغوجي في تونس وتحويل ميزانيتها الكبرى والعاملين فيها (السادة المتفقدون بجميع أصنافهم) وتوظيفهم كمنسقين لهذا المشروع الواعد بإذن الله.

وليعلم الجميع والحاضر يبلّغ الغائب: في فنلندا لا توجد مؤسسة تفقد بيداغوجي ولم يمنعها هذا أو بفضل هذا تتمتع بأفضل نظام تربوي في العالَم.

الخلاصة: المدرّس باحثٌ ميدانيٌّ أو لا يكون !

"لا تعطني سمكة، علمني كيف أصطاد"

 

 


أول مرة في حياتي المهنية كأستاذ أستفيد من محاضرة قدمها متفقد في ندوة "الحوار حول إصلاح المنظومة التربوية: من المخرجات إلى الأجرأة" (الحمامات في 21-24 أفريل 2016) !

 

هو السيد هشام الشابي، متفقد ابتدائي، قدمها بمشاركة السيد الطاهر الدرڤاع (CNIPER, Centre National d`Innovation Pédagogique et de Recherche en Education).

ملخص

حسب اليونسكو (UNESCO, l'Organisation des Nations Unies pour l'Education, la Science et la Culture)، ما هي مهارات القرن 21 التي ستُبنَى على أساسها المرجعية الوطنية للتعليم في الإصلاح التربوي الموعود ؟ قد يصل عددها إلى 16 والمحاضران لخصاها في الستة كفايات التالية:

1.    الإبداع والمبادرة والتجديد.

2.    التفكير النقدي وحل المشكلات واتخاذ القرار.

3.    التواصل والعمل التشاركي داخل فريق.

4.    توظيف تكنولوجيا المعلومات والتواصل في التعليم والتعلم.

5.    الوعي الثقافي والمواطني.

6.    تطوير الذات عبر التعلم الذاتي والتعلم مدى الحياة وتصوّر مشروع والتحلِّي بالمرونة.

تعليق

أطرح الإشكالية التالية: هل تتوفر هذه المهارات لدى المربين التونسيين (أساتذة ومعلمين) حتى يعلِّموها لتلامذتنا ؟ والله أشك !

 

 

 

 


بيان استقالتي من لِجانِ الحوار الوطني حول إصلاح المنظومة التربوية المجتمعة بالبحيرة 2 (نشرتها في الفيسبوك يوم 29 جوان 2016 قبل مقاطعة الاتحاد لهذه اللجان بنصف عام تقريبًا)

 

صدر أخيرًا بيانًا باسم قسم الوظيفة العمومية في الاتحاد العام التونسي للشغل يدعو ممثلي الاتحاد إلى مقاطعة لجان الحوار الوطني الثلاثي لإصلاح المنظومة التربوية (الاتحاد والوزارة والمعهد العربي لحقوق الإنسان). 

فوّضني الاتحاد للعمل داخل لجنة البرامج والتقييم، وأراحني الاتحاد من المشاركة في حوار غير واضح المعالِم أو مسرحية سيئة الإخراج.

أحترم قرار الاتحاد وسأنفذه.

وحفاظًا على استقلاليتي الفكرية سوف أنأى بنفسي مستقبلاً عن التجاذبات السياسية بين وزارة التربية والاتحاد. لم آتِ لهذا.

 

Haut du formulaire

Bas du formulaire

 


 

أي مدرسة أعددنا في تونس للأجيال القادمة سنة 2050 ؟ ترجمة المؤلف

 

قال أستاذي وصديقي، عالِم البيداغوجيا والديداكتيك الفرنسي (فلسفة أو إبستمولوجيا التعليم) ، الأستاذ أندري جيوردان في كتابه "تعلّمّ" 1998، صفحة 247: "في القرن الثامن عشر، كانت موسوعة واحدة تكفي للتوثيق لجميع معارف العصر. أما اليوم فعلوم المخ وحدها تنتج كل عام ما يعادل كمية من المنشورات العلمية بسُمك خمسين متر".

بعض الخبراء يقدّرون أن المعارف البيولوجية تتضاعف كل خَمس أو ست سنوات والمعارف التكنولوجيية كل سبع أو ثمان سنوات. أما في الروبوتيك أو تقنية المعلومات فصلوحية بعض المعطيات لا تصمد أكثر من ثلاث سنين، وكل ثمانية عشر شهر يُولد جيل جديد من الشرائح الألكترونية. ما هي المعارف التي ستبقى "صالحة" في 2020 أو 2040 ؟   وما هي المعارف الجديدة التي ستنبثق من رحم القديمة ؟

القراءة والكتابة والحساب، صحيح أنها كفايات أساسية، لكنها أصبحت غير كافية للتأقلم مع متطلبات الألفية الثالثة (2050). ألفية تتناقص فيها أهمية الأخبار المكتوبة (الجرائد) وتطغى فيها الصورة (التلفزة والأنترنات)، فبأي زاد معرفي سيحل تلميذ المستقبل شفرة تواترات الصور (L` enchaînement d`images dans les journaux télévisés et les documentaires) والنصوص الرقمية (Hypertextes) ويحدد مصدرها ونجاعتها ووجاهتها. عليه إذن أن يتعلم كيف يتعلم: "لا تعطني سمكة بل علمني كيف أصطاد". شيء يحتاج إلى بعض التفكير وإلا فَقَدَ المَثَل الصيني معناه. على الأفراد تحضير أنفسهم لإدارة المنَظَّم (L`organisé) وغير المؤكد (L`incertain) وغير المنتَظر (L`inattendu). تغيرت الأولويات ولم يعد مطلوبا من المدرسة أن تكتفي بتعليم محتوى المواد بل عليها إتاحة الفرصة والوقت للتلميذ للإلمام بجميع معارف عصره واكتشاف ما خفي منها ("أن الغباوة في اعتقاد الفرد فهم الأشياء، لا بكشف ما حجب منها، بل بتصديق ما كشف منها") وما ليس واضحًا أو مألوفا وتدريبه على طريقة استقصاء تجعله قادرًا على مجابهة التحديات الحالية والمحتملة.

يبدو أن تطويرَ ملكة التعلم عند التلميذ تُعدّ أهم من حشو دماغه بمعلومات قد تفقد قيمتها بسرعة جنونية.  يصبح من الأكيد إذن وقبل كل شيء أن نكوّن عقولاً قابلة للتساؤل حول العالَم وحول نفسها ونربي مواطنين قادرين على مناقشة الرهانات الاجتماعية المعاصرة. فلنرجّح إذن تملّك منهجية في التفكير ونمنحها مكانة هامة في التعليم. على التلميذ أن يضع موضع التنفيذ البحوث الوثائقية والتجريبية والشمولية (Systémiques) أو ممارسة النمذجة (La modélisation) والمحاججة (L`argumentation) والمحاكاة (La simulation). لم يعد المطلوب فقط تعلّم حل المسائل بل أصبح المُلِحُّ أكثر هو التوصّل إلى بسط المسائل بوضوح داخل وضعية تعلمية. ولم تعد الأولوية تتمثل في البحث عن المعلومات (Les connaissances) بل أصبحت الأولوية في فرزها وترتيبها ومناقشة وثاقة صلتها بالموضوع...

إن إعطاءَنا الأهمية لتملّكِ تمشيات في التفكير وتطوير شخصية التلميذ لا يجب أن يحجب عنا أهمية المعلومات. لكن وفي هذا الإطار بالذات فإن التغييرَ في علاقتنا بالمعارف (Les savoirs) يفرض نفسه هنا أيضا، وما زال للمعلومات سببٌ للوجود، ودونها لا نستطيع تطوير سلوكيات (Des comportements) أو معالجة منهجيات (Des méthodes). على شرط أن تكون معلومات قابلة للتلف البيولوجي (« biodégradables ») حتى لا تُحنِّط الفكر في لحظة يحتاج فيها إلى مرونة قصوى. لكن ومن ناحية أخرى يجب استغلال بعض المفاهيم "الكبرى" كعناصر منظِّمة أو ضابِطة للفكر. هذه المبادئ الأساسية يجب أن تُختار من أجل إيجاد رابط بين أخبار العالم ومن أجل تمكين الفرد من التموقع وتجديد ترسانته التخيلية (الزمن، الفضاء، المادة، الأخبار، التنظيم، الضبط، الذاكرة، التطوّر، إلخ).

وفي نفس الوقت يصبح من الضروري نقد المعارف التي نتناولها. والأهم من المعارف نفسها هو التفكير في الرابط بين المعرفة والثقافة والمجتمع أو بين المعارف والقِيم (Les connaissances ne changent pas automatiquement les valeurs). على التلميذ أن يتفطن لإمكانية تواجد عدة حلول لمشكل واحد، وكل حل منهم يُفهم في سياقه أو قد لا يوجد حل بالمرة أو قد تكون الحلول أسوأ من المشاكل نفسها ويصبح السؤال أهم من الجواب... أو يحيلنا الحل على إطار جامد متكلس، والسؤال على استقلالية التفكير لدى الفرد. وفي هذا الاتجاه تصبح المعرفة تساؤل وجيه في محله أو ربط وإبداع وبلورة لوجهة نظر. تصبح المعرفة أداة في خدمة مشروع: مشروع فرد يحضنه مجتمع".


 

 

 

محور 6

 حول التعليم في تونس الخمسينيات والستينيات



هل بيئتنا ومدرستنا تنمّيان ذكاءَنا ؟

 

لماذا نركِّز في تعليمنا على تنمية الذكاء المرتبط بالمخ فقط (رياضيات، آداب، هندسة، تاريخ، إلخ) ونُهمل أنواع الذكاء الأخرى المرتبطة بباقي أعضاء الجسم (الحِرف اليدوية، الرسم، الرقص، الموسيقى، الفلاحة، التمريض، المسرح، الطبخ، التعلم من اللعب بكل حرية مع الأقران، إلخ) وكأن ”الجسم لا يعدو أن يكون سوى وسيلة نقل للمخ“ ؟

بيئة "جمنة" الريفية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، علمتني ما يلي:

-         التدرب على النُطق السليم لللغة العربية الفصحى عن طريق تحفيظ جزء "عمّ" من القرآن الكريم في الكُتّاب الوحيد بالقرية.

-         التعلّم عن طريق الانغماس الكامل في اللعب مع الأقران دون مراقبة الكهول وتوجيهاتهم. كنا نصنع لعبنا بأنفسنا. كنا نُمسرِح عاداتنا في عيد عاشوراء ونجسّم في الليل وفي كل حيٍّ جملا بأرجل آدمية. كنا نسهر ليلا على الحكايات الخيالية من التراث وكانت كلها تستهوينا وكنا نصدقها ببراءة الأطفال. كنا ننوّع وسائل لَهوِنا حسب الفصول (خُوطَة، غُمِّيضَة، بِيسْ، مَشَّاية عند نزول المطر، دِرْڤِيلة، كَرُّوسة، بالُّون ابرِيزُونييه، نحَلْ، إلخ).

-         تعلّم فلاحة الأرض في الصّغر. وأنا تلميذ في سن 14، مارستُ القلب والسقي والزرع وتسلق النخيل للتلقيح أو قطع العراجين أو جني التمر "بِسْرًا أو رُطْبًا" .

-         تعلّم تربية الماعز من تشييع وحلبٍ وعَلفٍ.

-         تعلّم الرقص دون خجل على نغمات الحضرة العيساوية.

-         تعلّم صيد العصافير والجرابيع بواسطة أفخاخٍ من صنع أناملنا الصغيرة (أعترف أنني لم أكن بارعا في هذا المجال المعادي لحرية الحيوانات البرية).

-         تعلّم الاعتماد على النفس والسفر بعيدا للدراسة دون مرافقة الأولياء.

-         تعلّم تحمّل مشاقّ العمل اليدوي  12 ساعة "مرمّة" (مناول بناء) في اليوم تحت لهيب شمس الجنوب وكنت حينها تلميذًا في سن الرابعة عشرة.

-         تعلّم التكفل بمصاريف عائلتي أثناء عطلتي المدرسية وأنا في سن الرابعة عشرة عوض اللجوء إلى الراحة واللهو مثل أترابي.

ماذا تعلم البيئة الحضرية لأطفالنا في مدينة القرن الواحد والعشرين وفي مدينة حمام الشط تحديدا ؟

-         الذهاب يوميا إلى الروضة أو المدرسة أو إلى حصص المراجعة الخاصة (Etude) حيث يُستهان بالذكاء التجريبي والجسماني وتُقمع المبادرة الفردية ويُركّز فقط على الذكاء الذهني وكأن لا وجود لذكاء غيره: لا أعمال يدوية ولا رقص ولا نحت ولا رسم ولا مسرح ولا موسيقى ولا طبخ ولا خياطة، باختصار لا وجود حياة طبيعية حرة في الروضة ولا في المدرسة.

-         لا تسلية في الدار سوى تسلية المخ بالألعاب الافتراضية أما الجسم فلا عمل له سوى نقل سيده المخ من البيت إلى المدرسة أو في بعض الأحيان إلى مدينة ألعاب جامدة رغم حركتها الأوتوماتيكية المبرمجة سلفا لكل الأطفال رغم اختلاف مستوياتهم وميولاتهم.

 

 


جمنة الخمسينيات تعطي درسا في تطبيق التربية الحديثة في مرحلة ما قبل المدرسة

 

حسب مقاربته "البنائية" (Le constructivisme) في اكتساب المعرفة لدى الطفل, يقول "بياجي"، عالم بسيكولوجيا النمو الذهني عند الطفل (Épistémologue génétique de l’enfant)، يبدو أن الطفل يتملك المعرفة عندما يتفاعل مع محيطه المادي. ويقول "فيـﭬوتسكي" عالم البيداغوجيا الروسي, حسب مقاربته "البنائية الاجتماعية" ( Le socioconstructivisme )، يبدو أن عامل التفاعل مع المحيط المادي غير كافٍ لاكتساب المعرفة ويضيف عاملا ثانيا يتمثل في التفاعل البشري مع الآخرين أندادا وبالغين. أما الطبيبة الإيطالية ماريا مونتيسوري فتقول: "يجب تهيئة وسط خاص يُوضع فيه الطفل مع السماح له بالتفاعل مع محيطه التربوي المجهّز بأدوات التعلم المونيتسورية وتحريره من وصاية المربي حتى يتمكن من التعلم الذاتي (rôle de l’enseignant : observer et non juger)".

سكان قرية "جمنة الخمسينيات" لم يقرأوا بيداغوجيا "مونتيسوري" ("ساعدني على أن أتعلم وأكتشف بنفسي") ولا بنائية "بياجي" ("اتركني أعرف وأكتشف بنفسي") ولا سوسيوبنائية "فيڤوتسكي" ("اعطني معرفة أعلى قليلا من مستوايَ حتى أرتقي وأكتشف بنفسي") ولا يعرفون شيئا عن نظريات علوم التربية الحديثة لكنهم طبقوا ما جاء فيها أحسن تطبيق دون الادعاء الواعي بتملك النظرية البيداغوجية العلمية: كنا، أبناء الحي الواحد، أطفالا ذكورا صغارا لم نتجاوز سنّ السادسة، نغادر بيوتنا صباحا دون مرافق كهل. نتجمع بكل حرية في مكان فسيح غير بعيد عن أهالينا. بستان فيه نخل وظل دون زرع. نبقى فيه بالساعات, نلعب ونلهو كما يحلو لنا دون رقيب كهل. نتشاجر بعض الأحيان لكن سرعان ما نتصالح لكي يستمر اللعب. نصنع لُعَبَنَا بأنفسنا من علبِ سمك "السردين" و علبِ معجون الطماطم, نصنع سيارات وشاحنات مصغرة تنقل الرمل وتفرغه آليا. نتقمص أدوارا متنوعة بالتداول, البائع والشاري, السارق والحرس, الأب والابن, الفائز والخاسر, الغالب والمغلوب. لباسنا خفيف وأقدامنا حافية تدوس على أرضٍ حنون في مناخٍ حارٍّ. لمجتنا تنزل دون سابق إعلام من السماء تَمْرًا أخضر أو أصفر أو ذهبيا حسب فصول العام أو "نرمي من كان عن الأحقاد مرتفعا فتساقط علينا رطبا جنيا" (النخلة) وعندما نجوع, نعود إلى ديارنا فنجد أما حنونا في انتظارنا لا تلومنا ولا تنهرنا بل تقدم لنا ما جنت وطحنت وطبخت بيديها طعاما طبيعيا لذيذا دون استعمال وسائل الطبخ الاصطناعية العصرية, وجبة بيولوجية صحية خالية من الأغذية المصنعة المغشوشة و باهظة الثمن. وفي المساء, نُعيد الكرّة مع تغيير "وضعيات التعلم" التي نختارها بأنفسنا مثل صيد الطيور أو الجري وراء إطار حديدي لعجلة دراجة أو القفز داخل مربعات أو الاحتفاء بسحابة أمطرت في غير موضعها. بعد خمسين عاما من هذا التاريخ (عام 2000) وأنا أدرس دكتورا علوم التربية في جامعة كلود برنار بفرنسا، عرفتُ أن هذه الطريقة، في اكتساب المعرفة والمهارات والكفاءات، تُسمى "البنائية الاجتماعية". كبرنا قليلا (أربع سنوات), أخذونا للكتّاب (في جمنة نسمذيها الخلوة) لتعلم القرآن الكريم في الجامع الكبير. كان الفناء مظلما في النهار وكان المعلم-المؤدب جالسا وعصاه تتنقل فوق رؤوسنا برأفة وحنان. نردّد وراءه لساعات ما ينشد من كلام حلو وموزون. نحفظه عن ظهر قلب دون شرح أو تفسير ونستوعب حسن نطقه وبلاغته ونطرب لموسيقاه. بعد خمسين سنة، عرفتُ أن هذا النوع من التلقين يُسمى: "حمّاما لغويا" (Bain de langue)، هذا الحمّام يطهّرك روحيا من الداخل ويغمرك بالمفاهيم ويكسبك في مرحلة الاستيعاب زادا لغويا ثمينا ونطقا سليما تستثمره في مرحلة الفهم في شرح وتفسير أي أثر مكتوب, قرآنا كان أو نثرا أو شعرا.

هبّت علينا في التسعينيات ريح التحضر والتمدن المشوّه فانبطحنا لها دون مقاومة وفتحنا دكاكين، تبيع تربية مشوهة للملائكة، تربية ليست علمية وليست تقليدية، وسميناها رياضا للأطفال وسجنا فيها فلذات أكبادنا، سجنّاهم داخل فضاء ضيق وحرمناهم متعة حرية اللعب والتعلم مجانا في مساحات شاسعة. هل صادفتَ في حياتك مَن يغش أو يتاجر بالملائكة ؟ فهل مَن يغتصب حقوق الأطفال، طيور الجنة، يدخل الجنة يا تُرى؟ تخلى الأولياء عن دورهم التربوي وأوكلوه لـمربين غير مختصين في التربية, أوكلوه لمنشطين انقطع أغلبهم مبكرا عن مواصلة تعليمهم العالي, كلهم يتقاضون أجورا زهيدة, فهم إذن ناقمون على أنفسهم وعلى ظروف عملهم, منشطون يصبّون جام نقمتهم على أبرياء في بداية الطفولة والصبا. لا يعلّمونهم شيئا ولا يتركونهم يتعلمون بأنفسهم أو بمعية أترابهم. يفرضون على الصغار نوعا من الانضباط المحبِط للإبداع ليتجنبوا حركيتهم التلقائية. قتلوا فيهم الخلق والخيال وزرعوا في قلوبهم الخوف والجبن والامتثال للأوامر حتى ولو كانت نابعة من ظالم. يعلّمونهم لغة ركيكة فلا يستوعبها الأطفال في صغرهم ولا تنفعهم في كبرهم. يجهّزون روضاتهم بالرديء والرخيص والمضرّ صحيا من اللعب والأدوات المدرسية ويطعمونهم وجبة غير متوازنة مطهية على نار الربح الحرام. يدرّسونهم البرنامج الدراسي الرسمي للسنة الأولى أساسي وهم يظنون أنهم أحسنوا فعلا وقد صح فيهم قول "يفعل المربي غير المختص بتلامذته ما يفعل العدو بعدوه". في حمام الشط، أردتُ مرة مكرها (كانت زوجتي حينها تعمل 14 ساعة في اليوم، تقضيها بين المهنة وشؤون البيت) ترسيم ابني في روضة, سألتُ المروضة (ما أوحش هذه الصفة التي توحي بترويض الوحوش في السرك): هل تلقنون قرآنا ؟ هل تتركون الأولاد يلعبون بحرية ؟ أجابتني بالنفي بكل فخر واعتزاز وكأنها تتبرأ من تراثها وثقافتها ودينها. أبشّركم أنه من حسن حظنا ومن محاسن التخلف الاقتصادي في تونس أن الروضات لم تنجح ولم تتكاثر حتى الآن وهي الآن (عام 2016) لا تستوعب إلا القليل من أبنائنا، تقريبًا 10%.

 

خلاصة القول

أنا لا أدعو لرفض العلم الحديث بل أدعو إلى إحياء عاداتنا الجيدة وإعادة صقلها من جديد وغربلة تراثنا علّنا نجد فيه ما يتلاءم مع العصر. لم يأتِ عِلم الغرب من فراغ أو لم ينزل من السماء ولم يكتشفوه صدفة بل صنعوه بعقولهم وتجاربهم حسب حاجتهم ووفق ثقافتهم وتراثهم ودينهم فأصابوا وأخطؤوا ولم يتوقفوا عن التجديد والإبداع. وصل "بياجي" إلى نظرياته في "البنائية" عبر دراسة نمو أبنائه البيولوجيين وتوصّل "فيـﭬوتسكي" إلى "البنائية الاجتماعية" بعد تجارب عديدة في المدرسة السوفياتية، أما الطبيبة ماريا مونتيسوري فقد أسست نظريتها البيداغوجية النشيطة بعد دراسات ميدانية أجرتها في فضاءات الأطفال المعاقين ذهنيا.

وفي الختام، أدعو أبناء وطني لا سيما المتنورين منهم، أدعوهم للعودة إلى منابع ثقافتنا ونفض التراب عن تراثنا وتقاليدنا حتى نحيِّنها ونطورها ونستنبط منها نظريات في التربية السليمة تتناسب مع واقعنا الاقتصادي ومبادئنا وتتلاءم مع مناخنا الاجتماعي والطبيعي ولا تتناقض مع ديننا وثقافتنا.

ملاحظة هامّة: ما قلته أنا حول مسقط رأسي جمنة يستطيع أن يقول مثله أي مواطن تونسي من سكّان الأرياف التونسية.

 


هل يحق لي أو لا يحق أن أقارن بين نظامنا التربوي في الستينيات ونظام فنلندا الحالي ؟ (الجزء الأول)

 

عندما طالبتُ بتطبيق النموذج التعليمي الفنلندي (النموذج المجاني الأفضل والأنجع في العالم) في تونس بعد ثورة 14 جانفي 2011، رد عليّ أصدقائي الفيسبوكيين ووصفوني بالمثالية الأفلاطونية وحمّلوني خطأ الاستشهاد بالنماذج التربوية الخارجية وإهمال الخصوصية التونسية واستيراد البرامج المسقطة وغيرها من التهم الجاهزة مثل "هذا على الحساب قبل أن أقرأ الكتاب". أرجوكم، اقرؤوا تجربتي الذاتية إلى الآخر وتمعّنوا في حججي قبل أن تحكموا لي أو عليّ.

وُلِدتُ في 16 نوفمبر 1952 بقرية جمنة من أب تونسي وأم تونسية وأتممتُ دراستي بتونس وقليلا بفرنسا ولم أعش ولم أدرس يوما واحدا بفنلندا نموذج المقارنة سابقا.

1.    الابتدائي من سنة 1958 إلى 1965:

درَستُ سبع  سنوات ابتدائي (رسبت بالسنة الرابعة) بالمدرسة الابتدائية بجمنة التي بناها الاستعمار الفرنسي سنة 1952 وما زالت مربعات أرضية قاعاتها سليمة إلى اليوم (عام 2016) في حين انهارت جدران قاعات بُنيت بـ"كفاءات" تونسية بعدها بـ 50 سنة. كانت المدرسة آنذاك أجمل ألف مرة من منازلنا، مَنَحَتنا مجانا أقلاما وكتبا وكراريس. في سن السادسة، وفّرت لنا كل صباح كأسا من الحليب المجفف الممزوج بالماء الساخن وعند الغداء وجبة تتمثل في صحن مقرونة جارية، وجبة غير متوازنة لكنها لذيذة وقديما قالوا أن "الجوع هو أمهر الطباخين". كانت المدرسة قريبة من ديارنا ولم نكن في حاجة إلى وسيلة نقل. عوض المحفظة، كنا نستعمل كيسا من القماش الأبيض لنحفظ داخله أدواتنا القليلة، كيس ورثناه عن عمنا سام  الأمريكاني، كيس كان مملوءًا قمحا، كُتِب عليه باللون الأزرق "ليس للبيع ولا للمبادلة" ويحمل صورة علم أمريكا.

هل يحق لي أو لا يحق أن أقارن بين نظامنا التربوي في الستينيات ونظام فنلندا الحالي ؟ (الجزء الثاني)

 

2.    الإعدادي بـﭬابس من 1965 إلى 1968 والثانوي بصفاقس وتونس من 1968 إلى 1972

في أول غربة وسفرة لي خارج جمنة في آخر سبتمبر 1965، أعطتني أمي دينارا تونسيا واحدا، لتغطية نفقات الثلاثية الأولى، وأوصتني أن أقتصد في المصروف ولا أبذّر ! ركبتُ إلى مدينة ﭬابس في الحافلة العمومية بـ 600 مليم. وصلتُ بسلام ودخلت المبيت المجاني وبقيت أنفقُ كنزَ أمي المتبقي بحكمة كما أوصتني، كنا نحن "البيّاتَة" (التلامذة المقيمين بالمبيت) لا نخرج من المبيت إلا يوم الأحد: كنت أنفق دورو (5 مليمات) كل أحد لشراء قطعة "غْرَيْبَة" (نوع من الحلويات التقليدية) أو كأس "لاڤمي" (النسغ المحضّر المستخرج طبيعيا من النخلة) أو 20 مليما ثمن قطعة "هريسة" (نوع من الحلويات التقليدية). لم أكن قادرا ماديا على قطع تذكرة سينما بـ40 مليما أما البث التلفزي الذي بدأ سنة 1965 فكان حكرًا على الميسورين.

وفي نهاية الثلاثية وقبل تاريخ العودة إلى مسقط رأسي جمنة الحبيبة ، كانت أمي ترسل لي 600 مليم ثمن تذكرة الرجوع في الحافلة العمومية أو أركب "لوّاج" (سيارة أجرة خاصة) وهي تدفع الثمن المطلوب إلى السائق الجمني عند الوصول.

كنتُ تلميذا مقيما مجّانا بمبيت إعدادية "سيدي مرزوﭬ" بـﭬابس المدينة ثم بمبيت المعهد الفلاحي ببوغرارة بصفاقس ومبيت مدرسة ترشيح الأساتذة المساعدين بتونس.

2.1 كنا نأكل مجانا أربع وجبات صحية ومتوازنة وبيولوجية في اليوم، ثلاث ساخنة وواحدة باردة

فطور الصباح: قهوة حليب مع خبز ومعجون أو زبدة أو حلوى شامية.

الغداء أو العشاء: سَلَطَة خضراء طازجة، طبق رئيسي باللحم مثل الكسكسي أو اللوبيا (كانت من أحب الوجبات الدسمة إلى قلوبنا جميعا) أو الجلبانة أو المقرونة أو الملوخية أو الأرز الأبيض أو مرقة الڤناوية أو مرقة البطاطا أو غيرها من الأطعمة التي لم نكن نحلم بها وبعضها لم نكن نعرفها في بيوتنا الريفية في جمنة كالملوخية والأرز الأبيض ومرقة الڤناوية. كنا نعرف  فقط الكسكسي والمقرونة الجارية ومرقة البطاطا. أما خاتمة الطعام فعلى كل الألوان (dessert): برتقال أو موز أو خوخ أو برقوق أو تين أو دلاع أو بطيخ أو هندي أو رمان أو حلوى شامية أو 4 تمرات دڤلة (كنا نحن النفزاويون نضحك ونسخر من هذه "الفاكهة" الأخيرة لسببين اثنين لا ثالث لهما وهما: أولا نضحك من اعتبار الدڤلة في مصاف الفاكهة يُختم بها الطعام وثانيا نسخر من الكمية التي لا تتناسب مع إقبالنا  النفزاوي على الدڤلة فنحن متعودون على التهام كيلو دقلة أو اثنين في المرة الواحدة).

لمجة السادسة مساء: قطعة شكلاطة بُنّية لذيذة جدا مع قطعة خبز.

حادثة غذائية طريفة رقم 1

قد تبدو لكم الحادثة التالية ولأول وهلة وكأنها مركبة أو مبرمجة للهزل لكنها والله واقعية وذات دلالة خاصة بالنسبة لأهل الذكر والاختصاصيين في دراسة حاسة تذوق الأطعمة المتنوعة عند البشر وعلاقتها بحاسة الشم وبالمكتسبات الأنتروبولوجية الحضارية والثقافية أكثر من علاقتها بالوراثة والجينات: في مبيتات ڤابس وصفاقس وتونس، ثانوي وجامعي، لم أكن أقبل على الملوخية ولا مرقة الڤناوية ولا الأرز ولا الحوت ولا الموز، لا لشيء  إلا لأنني لم أكن أعرف هذه الأنواع من الأطعمة والأغذية ولم تصادفني في حياتي قبل سن الثالثة عشرة. من حسن حظي، بدأت آكل كل هذه الروائع الغذائية بعد الزواج وأنا في سن الثلاثين لأن زوجتي من مواليد العاصمة وتعرف طريقة طبخ هذه الأكلات بصفة جيدة.

   حادثة غذائية طريفة رقم 2 

في عطلة من عطل عيد الأضحى المبارك، عاد جل التلامذة المقيمين بالمعهد الفلاحي ببوغرارة بصفاقس إلى مدنهم وقراهم إلا قلة من المعوزين وكنت واحدا منهم. لكي لا يشعرنا بالفقر والغربة، أقام المدير مأدبة غداء على شرفنا وأمر طباخ المبيت بالحضور يوم العيد صباحا ليذبح لنا بالمناسبة نعجة. كان المدير حاضرا معنا، شَوَينا اللحم وأكلنا وضحكنا وعيّدنا على بعضنا وكأننا بين أهالينا وأقاربنا.

2.2 كنا نتمتع برعاية صحية كاملة مجانية، وقائية وعلاجية.

2.3 كانت إدارة المبيت تتكفل بتنظيف ملابسنا الداخلية والخارجية وأغطيتنا مجانا وكانت كلها مرقمة حتى يسهُل إعادة توزيعها علينا.

2.4  كنا نستمتع بحمام تركي أسبوعي مجاني خارج المبيت وكان النقل من بوغرارة كلم 35 إلى صفاقس مجانيا أيضا.

2.5 كان يوجد بكل مؤسسة تربوية قاعة مراجعة خاصة بمراجعة الدروس ومطالعة القصص نهارًا وليلاً، وكان يشرف عليها قيم جدي يساعدنا على أداء واجبنا المدرسي عند الطلب.

2.6 كل قاعات الدرس تصبح قاعات مراجعة ليلا، يشرف عليها تلامذة قيمون متطوعون يختارونهم من نجباء الأقسام النهائية، يساعدوننا على أداء واجبنا المدرسي عند الحاجة.

2.7  يوجد بكل مؤسسة تربوية قاعة رياضة مغطاة ومجهزة بمعدات رياضية عصرية.

2.8 كان جل أساتذتنا الكرام أجانب (فرنسيين، بلجيكيين، كنديين، أمريكيين) ما عدى أساتذة العربية والتقنية والتصوير الفني والتربية الوطنية المزدوجة (المدنية والإسلامية حاليا).

2.9           كنا نقوم برحلات دراسية مجانا تحت إشراف أساتذتنا الأجانب.

2.10 كان الانضباط  الحديدي يسود النظام الداخلي في كل المؤسسات التربوية.

هل يحق لي أو لا يحق أن أقارن بين نظامنا التربوي في الستينيات ونظام فنلندا الحالي ؟ (الجزء الثالث والأخير)

 

3       العالي من 1972 إلى 1974:

3.1 كنا نقيم مجانا أو بمقابل رمزي في مبيتات جامعية محترمة، غرفة لكل طالبين اثنين في مبيت حي الزهور بتونس العاصمة.

3.2 كنا ندفع 100 مليم لا غير، ثمن وجبة غذائية صحية متوازنة في الغداء والعشاء.

3.3 كانت إدارة المبيت الجامعي بحي الزهور تتكفل بتنظيف ملابسنا الداخلية والخارجية وأغطيتنا مجانا.

3.4 كانت الحافلة الخاصة تنقلنا مجانا، ذهابا وإيابا،  من المبيت الجامعي بحي الزهور إلى مدرسة الترشيح العليا للتعليم التقني بباب عليوة (ENSET).

3.5 كنا نتمتع بمنحة جامعية قدرها 35 دينارا تونسيا (كان مرتب معلم الابتدائي أو مرتب موظف بنكي في ذلك الزمن الرومنطيقي الجميل في الذاكرة لا يفوق 45 دينارا تونسيا). كنت أرسل من منحتي حوالة شهرية بـ10 دنانير تونسية مصروف أمي بجمنة حيث لا وجود وقتها لفاتورة ماء أو ضو ولا وجود لتلفزة في البيت ولا وجود لمشروبات غازية أو ياغورت أو حليب أو مرطبات في الحانوت ولا وجود في الطعام للحم أو دجاج ولا وجود لجزار من أصله لو لم تخني ذاكرتي المتعبة. كان  لي زميل طالب صفاقسي مشترك في الصندوق الوطني للسكن (ancien CNEL ou banque de l`habitat en 2016) بمبلغ خمس دنانير تونسية في الشهر وقد تسلّم منزلا محترما بصفاقس عند التخرج سنة 1974 وكان صديقي الآخر يتعلم السياقة بمقابل أما الأكثرية الغالبة من الشباب الجامعي فكانت تدخل الملاعب وقاعات المسرح والسينما أو تشتري كتبا ومجلات مثيرة أو تحتسي قهوة أو جعة أو تتسكع في بعض أنهج الأولياء الصالحين وأزقتهم الحادة وتسجد تقديسا لأيقوناتهم العارية الباردة الجميلة في أعينهم، عيون مراهقين حيارى عطاشى مساكين، عيون لا ترى إلا ما تريد أن ترى في صحراء المدينة.

خلاصة القول

هل تونس الستينيات كانت أفقر من تونس2011 ؟

نعم كانت أفقر ماديا لكنها أغنى ألف مرة في القِيم العلمية والإنسانية والدينية وأقوى في الإرادة السياسية وأكثر استقلالية في اتخاذ القرار الداخلي وأقل ارتباطا بالبنك العالمي والدول الرأسمالية المانحة والشركات متعددة الجنسيات و كانت أكثر إيمانا بالله وحبا في الوطن وأصدق في القول وأخلص في العمل.

كانت تونس الستينات تراهن على التعليم وتعتبره أساس التقدم والرقي ولو لم تتدخل القوى الأجنبية الامبريالية في شؤوننا لوصلنا إلى نفس ما وصلت إليه كوريا الجنوبية من ديمقراطية ورفاهية بحسن تدبير مسؤوليها ووطنية مواطنيها وعبقرية مفكريها وأدبائها ومسرحيّيها وسينمائييها وأساتذتها ومعلميها.

ملاحظة أخيرة

قبل نشرها على النت، من عادتي أن أطرح مواضيع مقالاتي للنقاش في الجلسات الثقافية بمقهى النت بحمام الشط الغربية صباحا وبمقهى البلميرا بحمام الشط الشرقية مساء.

قال لي أستاذ فلسفة سابقا، كاتب عام نقابة أساسية سابقا ومدير معهد حاليا، نقابي نُصب مديرا بالوفاق من قِبل زملائه، قال لي: "الستينات من القرن الماضي مرحلة، و2011 مرحلة أخرى، لقد ساد في الستينات وفي كل العالم تقريبا نمط تنموي وطني أما اليوم فيسود العكس، يهيمن على تونس نمط اقتصادي تابع مائة بالمائة للدوائر الامبريالية. زد على ذلك، نظام التعليم ليس نظاما معزولا عن بقية الأنظمة الإدارية في الدولة، يوجد نظام التعليم داخل نظام سياسي تنموي أشمل فلا تستطيع إذن-حتى ولو أردت-أن تصلح قطعة واحدة فاسدة في  سيارة كل قِطَعِها بالية ولن تستطيع أن تطلب من هذه السيارة "الخربانة" أن تنطلق بسرعة وتأخذك إلى موطنك العزيز جمنة وحتى وإن حدثت المعجزة وسارت السيارة دون بنزين فلن تجد جمنتك، جمنة الستينات.

رددتُ عليه بلطف وقلت له: "لقد حدثت مثل هذه المعجزات في أواخر القرن الماضي، في كوريا الجنوبية وتركيا وإيران وماليزيا، صمّمت هذه البلدان الأربعة على النهوض والإقلاع الاقتصادي واللحاق بركب الدول المتقدمة فبدأت أولا بتطوير نظام التعليم معتمدة على إرادة سياسية وطنية صلبة ويبدو لي أنها وُفِّقت في مسعاها، على الأقل نسبيا وبالمقارنة مع الدول العربية التي ما زال معظمها يتخبط في التخلف والفوضى.

قال متدخل آخر متوجها بالخطاب إليّ مباشرة: "تمتعتَ أنتَ بالمجانية لأنك فقير". أجبته: وهل طلبتُ، أنا شخصيا،  الحق  والعدل لغير المعوزين من الفقراء والموظفين أمثالي وأمثالك ؟ أما الأغنياء فهم قادرون على الاستغناء على النظام التعليمي التونسي المتخلف لأنهم يستطيعون تدريس أبنائهم في أفضل النظم التعليمية الجامعية في ألمانيا أو فرنسا أو أمريكا.

و قلتُ له أيضا: "يكمن العدل يا سيدي الكريم في عدم العدل في توزيع الثروات الوطنية على طبقات المواطنين وأنا أؤمن بالمبدأ الإنساني السامي والنبيل القائل، أؤمن بالحكمة الماركسية العادلة التالية: "من كل حسب جهده ولكل حسب حاجته". وأتمنى أن يكون هذا "الكل" إنسانا يأتم معنى الكلمة للإنسانية التي أتصورها في مخيلتي وأتمنى حدوثها في المستقبل القريب ولو بطفرة جينية نوعية ونادرة كالطفرة الجينية التي وقعت في الحمض النووي لأسلافنا ونقلتنا من "شبه شبه إنسان"  إلى شبه "إنسان".


من حق أبنائنا علينا أن نضحي من أجلهم كما ضحى من أجلنا آباؤنا وأمهاتنا ! (الجزء الرابع والأخير)

 

 

من حق أبنائنا علينا أن نضحي من أجلهم كما ضحى من أجلنا آباؤنا وأمهاتنا، ونوفر لهم نظاما تعليميا راقيا يوازي أو يفوق النظام التعليمي الراقي والمجاني في الدول الأسكندنافية !

 

سأبدأ اليوم بالجملة التالية التي كنتُ دوما أنهي بها مقالاتي: "لا أقصد فرض رأيي عليكم بالأمثلة والبراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى". اليوم -وعلى غير عادتي-سأحاول بكل ما أوتيتُ من حجج علمية ومنطقية وعاطفية ووطنية وأخلاقية ودينية أن  أحاول فرض رأيي عليكم بالأمثلة والبراهين بل وأدعوكم بكل مسؤولية إلى تبني وجهة نظري التالية التي تخدم عاجلا وآجلا تربية تلامذتنا وتضمن لهم وللأجيال القادمة مستقبلا أفضل مما ينتظرهم.

1.            الحجة الأولى: حجة منطقية وعاطفية وأخلاقية ودينية 

1.1.          قصة واقعية شخصية

سنة 1967، وصلني الخبر وأنا في السنة الثالثة إعدادي بـﭬابس: مات أبي، أبي كان غنيا في كهولته وفقيرا في شيخوخته، أبي علي بن صالح بن علي كشكار وما أدراك ! لم أبكه وقتها وكتمتُ دمعي مدة، وعند رجوعي إلى جمنة في عطلة الربيع انهمر المُخزّنُ أنهارا في حضن أمي الحنون. فارقنا الأب الأكثر قسوة على الناس وعلى أمنا وعليَّ وعلى أخواتي ما عدا أخي الأصغر المدلل. مات الأنيق الذي كان لا يصلي إلا يوم الجمعة في الجامع الكبير والوحيد، غفر الله له من ذنبه ما تقدم وما تأخر وأسكنه الرحمان فراديس جنانه. لا أعرف حتى اليوم مصدر غياب الحنين لديّ إليه، قد تكون قسوته الظاهرة، ولا أعرف أيضا مصدر ثروته الهائلة نسبيا في كهولته بالمقارنة مع الحالة المتواضعة لباقي سكان القرية في ذلك الزمن القاسي اجتماعيا، وسوف أخصه يوما بمقال يروي قصصه البطولية وكرمه الحاتمي. ورّثنا جينيا وتربويا إحساسا جامحا بعزة النفس وكرم الخلق. لم نرث من ماله إلا النزر القليل فأصبحنا نعيش في داخلنا تناقضا بين فضيلة الكرم "الساكنة في جيناتنا" وقلة ذات اليد السائدة في حياتنا ! ترك لنا منزلا نسبيا متواضعا لكنه محترم بالمقارنة مع باقي المنازل في القرية الجنوبية الفقيرة، مسقط رأسي جمنة العزيزة، وترك لنا أيضا بعض النخيل، نوع دڤلة النور وحمارا وبعض الماعز، نضع شيئا من حليبه في الشاي الأحمر الصباحي.

 

كانت أمي الكهلة تشتغل ليلا نهارا في المنزل في حياكة الحولي (البرنس الليبي) وكانت تكسب من عملها الشاق ثلاثة دنانير في الشهر (للمقارنة، لقد كان الطالب في الجامعة والمعلم في الابتدائي في ذلك الوقت يتقاضي تقريبا كل واحد منهما مرتبا أو منحة شهرية بثلاثين دينارا تونسيا).

 

كنا ثلاثة أبناء تلامذة، يدرس أكبرنا في الثانوي بتونس وأنا في الثانوي بـﭬابس والأصغر في الابتدائي بجمنة. كنت الوحيد بين إخوتي الذي يتمتع بالسكن والأكل المجاني في مبيت تابع إلى وزارة التربية البورﭬيبية طيلة سبع سنوات مقسمة بين 3 تعليم إعدادي بـﭬابس و2 ثانوي بصفاقس و2 ثانوي بتونس.

 

لم تتبرم أمي يوما واحدا من وضعنا المادي المتردي ولم تفكر ولم تُشر ولو مجرد إشارة إلى إمكانية الضغط على الابن الأكبر حتى ينقطع عن مواصلة دراسته ويلتفت لإعالتنا. كانت توفر لي في أول كل سنة دراسية طلبات المبيت الرسمية من ألبسة داخلية وجوارب بالعدد الكافي ومناشف وفرشاة ومعجون أسنان "سينيال" وميدعة أو بلوزة رمادية ومحفظة وملابس رياضية مع حذاء رياضي ضروري بالعربية "تروسو" كامل (كان ثمن الحذاء الرياضي يساوي 600 مليم في الستينات ويُسمى "سبيدري" غزالة. لقد سترنا ربي وقتها قبل أن يرتفع اليوم شأن هذا الحذاء ويرتفع ثمنه ويصبح اسمه "كنفارس"). كانت أمي الصبورة تسعى، تارة لللتداين من الجيران، وتارة أخرى لبيع شيء من الأثاث المنزلي القديم الموروث عن والدي الفارس المشهدي (بندقية حرب، مسدس حقيقي، سَيفان كبيران في غمديهما، آلات حرث وحصاد تقليدية، أواني طبخ نحاسية، بعض الحلي الذهبي الخالص وغيره من الأثاث القديم)، أو بيع قطعة أرض من "سانيتنا" (واحتنا الصغيرة المشجرة نخلا  وخوخا وتفاحا وزيتونا ورمانا) . وإذا ضاقت بها السبل وأعوزتها الحيل، تشد الرحال إلى ﭬبلي وتقصد حلاّل المشاكل، حاتم الطائي بشحمه ولحمه، قريبنا الفاضل، سيدي "المبروك بالريش"، أبو التلامذة الفقراء والمعوزين. ووفاءً مني لهذا الرجل الكريم الطيب رغم تواضع دخله الشهري كموظف بشركة نقل بـﭬبلي، أعدكم أنني سأخص هذا العظيم بمقال أعدد فيه مناقبه وكرمه وبشاشته عند العطاء وتستره الكامل عند إتيان الحسنة وعدم ذكر المستفيد منها حتى لزوجته وأبنائه.

 

ماتت أمي في أوائل التسعينيات ولم نكافئها المكافأة التي تليق بها (كتمكينها من الحج مثلا) على الكثير من مزاياها وتضحياتها لكنني حاولتُ بكل جهدي أن أحفظ لها كرامتها في حياتها منذ أن تسلمتُ أول منحة جامعية ترشيحية في أكتوبر  1974 (105 دينار تونسي، منحة ثلاثة اشهر مجمّعة وكانت منحتنا الشهرية تقارب في ذلك الوقت مرتب معلم أو موظف في بنك، يعني لو حينّاها اليوم، 2011، تصبح المنحة الجامعية تساوي ألف دينار شهريا تقريبا). أعدتُ بناء منزلنا بجمنة وأدخلت للمنزل الماء والضوء واشتريت لها تلفزة بالألوان وموقد غاز عصري، أثثتُ لها البيت المتواضع أين أنهت عمرها المحفوف بالحب والعشق والاحترام من قِبل جيرانها وأندادها ونديداتها وصديقاتها وأبنائها وبناتها وأحفادها  الذين أنهكوها حبا وجريا ولهوا في المنزل وفي أزقة الحي. من أجل سوادِ عينيها وبهاء طلعتها لم ولن أعشق أحدا سواها، كنتُ أقتَطِع بكل حب حوالة بريدية بعشرة دنانير من منحتي الجامعية المرتفعة نسبيا. حوالة أمي كانت تساوي أو تفوق الحوالة التي تصل لجارتها من زوجها بفرنسا، ورغم فقرها كانت عند رجوعي للبلاد أثناء العطل المدرسية، تفاجئني ببطانية (غطاء صوفي)، صنعتها لي خصيصا بيديها الذهبيتين، غزلتها  من بقايا الصوف التي تستعمله في نسج الحولي (البرنس الليبي).

 

أكملنا الثلاثة تعليمنا بدرجات متفاوتة، أستاذ في التعليم الثانوي، معلم في التعليم الابتدائي ووكيل أول في الجيش "الوطني" التونسي. ضحّت أمي الأرملة الفقيرة بنفسها وعزفت عن الزواج حفاظا على شعورنا وزهدت في الدنيا حتى توفر لنا ثمن التنقل للدراسة من جمنة إلى ﭬابس وتونس وتضمن لنا ثمن اللباس المدرسي المتواضع.

 

وأخيرا أتساءل: هل الدولة التونسية  بثرواتها الطبيعية، أقل حكمة من أمي وأعجز منها على التضحية في سبيل أن توفر لأبنائها نظاما تعليميا راقيا يوازي أو يفوق النظام التعليمي في الدول الأسكندنافية ؟

 

ملاحظة

كانت أمي في ذلك الوقت في مستوى متدني من الفقر، حرمت نفسها من اللقمة الطيبة لتوفر تذكرة نقل وأقلاما لأبنائها ولم يمنعها فقرها من التضحية بكل شيء لتوفير تعليم جيد لأبنائها. هذا النوع والمستوى العظيم من التضحية ونكران الذات الذي توفر في والدتي متوفر أيضا في جل والدات وآباء كل التلامذة التونسيين الفقراء في الستينات، أطالب أن يتوفر مثله أو أحسن منه  الآن في الدولة التونسية الفقيرة نسبيا وأطالب هذه الدولة الوطنية التي ستنبثق من انتخابات 23 أكتوبر  2011 أن تضحي من أجل أبنائها وتضمن لهم تعليما راقيا كنظام التعليم في الدول الأسكندنافية رغم أنني أعلم جيدا و لست غافلا  عن الفرق الهائل بيننا و بين الحالة المادية للدول الأسكندنافية التي لا يمكن مقارنتها بالظروف المادية لبلدنا تونس خاصة في الظرف الراهن بعد الثورة (2016، خيبت هذه الحكومة آمالي وسفهت أحلامي وكذلك فعلت التي تلتها والتي أتت بعدها وفقدتُ الأمل في التي سوف تليها).

 

 

2.    الحجة الثانية: قصة واقعية حدثت في عائلة جار زميل أستاذ تعليم ثانوي وصديق، وهو الأقرب إلىّ اجتماعيًّا 

  أعرف عن قرب زميلا وصديقا وأبا لبنت جميلة وولدين وسيمين، مناضل اجتماعي صامت محترم ومتوسط الحال وزوجته لا تشتغل إلا في المنزل. حصل على قرضٍ من البنك وعِوَضَ أن يبني مسكنا يُكمل فيه سنين عمره المتبقية وهو "مُكهِّبْ" (مُشرِف) على الستين، خصّص الأب كامل القرض لحاجيات ابنه المرسّم على نفقته بالجامعات الفرنسية وبقي يسدّد بالتقسيط المتعب والمضني نفقات "الربا" البنكي على مدى سنوات متحملا ضنك العيش من أجل أن يتعلم ابنه البكر في أرقى الجامعات الغربية. أليست هذه قمة في نكران الذات ومثالا يُحتذي به في التضحية من أجل مستقبل الأبناء ؟ أطلب من دولة ما بعد الثورة أن تكون حنونة وتضحي من أجل  أبنائها الفقراء اقتداءً بحنان هذا الأب المثالي وتحرص على ضمان مستقبل جميع أبنائها كما  حرص بطلُ قصّتنا على ضمان مستقبل ابنه ؟ نجح الابن وأنهى دراسته الجامعية وتخرّج مهندسا في الاتصالات واشتغل بفرنسا وفي العطلة المدرسية الماضية استضاف كامل عائلته في جولة سياحية بفرنسا وأدخل السرور والبهجة والرضاء إلى قلبَيْ والديه وعوّضهما أحسن وأفضل تعويض على تعب السنين وجازاهما على صبرهما أجمل جزاء.

 

 

3.    الحجة الثالثة: قصة واقعية حدثت في عائلة جار زميل مدير عام في وزارة التربية وصديق

أعرف عن قرب عائلة متوسطة اجتماعيا، مناضلة ومحترمة يسودها الود والحب والاحترام والوئام متكونة من أربعة أفراد، أب مدير عام في وزارة التربية والتعليم، أم أستاذة أولى بالتعليم الثانوي، ابنة جامعية تحتاج إلى مصاريف كبيرة وشاب طالب بألمانيا. خصص الأب كامل مرتبه لحاجيات ابنه المرسّم على نفقته بالجامعات الألمانية واكتفي هو وباقي العائلة بمرتب الأم. أليست هذه قمة في نكران الذات لثلاثة أفراد في عائلة متماسكة جدا ومثالا يُحتذي في التضحية من أجل مستقبل ابنهم ؟ أطلب من دولة ما بعد الثورة أن تكون حنونة وتضحي من أجل  أبنائها الفقراء اقتداءً بالحنان المثالي لهذه العائلة وحرصها على ضمان مستقبل ابنها ؟

 

4.             الحجة الرابعة: وطنية وديمقراطية وعلمية

فقرة، أريد أن تُكتب حرفيا في الدستور الجديد: تعليم ديمقراطي متساوٍ لأولاد التونسيين جميعا أغنياء وفقراء ومتوسطين، أجانب وعرب مقيمين، تعليم "قائم الهرم" وليس تعليم "مقلوب الهرم"، تعليم تكون الميزانية فيه نسبيا تصاعدية من الأساسي إلى الثانوي إلى العالي.

تعليم يضمن الحقوق التالية لكل أبناء التونسيين دون تمييز: ترسيم مجاني، أدوات مدرسية مجانية، نقل مجاني من المدرسة إلى البيت ومن البيت إلى المدرسة، وجبة يومية ساخنة صحية متوازنة ومجانية، منحة جامعية لكل طالب وليس قرضا، وتعليم أساسي وثانوي دون تفقد بيداغوجي مع تكوين أكاديمي مستمر للمدرّسين. في نهاية المرحلة الأساسية (15 سنة)، أطالب بتوجيه 70 في المائة من التلامذة إلى تعليم مهني طويل وجيد قد يفضي إلى الجامعة إذا رغب التلميذ واجتهد (مثل ما هو الحال الآن في الدولة الألمانية المصنّعة جدا) و30 في المائة فقط إلى تعليم نظري رياضي وتجريبي ينتهي بشهادة التبريز إذا كان المتخرج أستاذًا في الثانوي أو بشهادة الدكتوراه إذا كان المتخرج أستاذًا بالجامعة أو بشهادة مهندس أو بشهادة طبيب عام أو مختص أو غيرها من الشهائد العلمية المعتبرة. أطالب بتعيين مقتصد وممرض واستشاري نفسي في كل مؤسسة تربوية. أطالب بمَنحِ ميزانية تسيير محترمة للمدارس الابتدائية فورا و"تَوْ" وأطالب بتجهيز كل المدارس الابتدائية بمجموعات صحية للمعلمين والتلاميذ" تَوْ " أيضا. الآن... الآن... وليس غدا.

 

 

يوجد هذا النظام التربوي المجاني في بعض البلدان الأسكندنافية كفنلندا والنورفاج وأنا مقتنع بأن أبناءهم ليسوا أفضل من أبنائنا. نستطيع توفير كل هذا لأبنائنا لو تقشفنا قليلا، وضحينا من أجلهم كثيرا، ولو أنفقنا عليهم ما كان يُنفق على الحزب الحاكم في العهد البائد، ولو حوّلنا لفائدتهم ما سرقه بن على وحاشيته، ولو خفّضنا قليلا من تبذير المال العام في السكن الوظيفي والسيارة الخاصة والبنزين المجاني لمسؤولينا "الكبار"، ولو سرّحنا أغلبية الجيش البيروقراطي من موظفي الدولة الذين يعطلون عمل الإدارات العمومية، ولو ألغينا التفرغ للنقابيين البيروقراطيين الانتهازيين والحزبيين الموالين، ولو فتحنا وقتيا (في العطل المدرسية مثلا عندما تكون المؤسسات التربوية خالية من التلامذة والطلبة)  فضاءات المؤسسات التربوية الرياضية لعموم الرياضيين  مقابل مساهمة مادية محترمة في ميزانية تعليمنا العمومي.

 

زد على ما سبق من تبذير في غير محله-كان أولى بالأموال أن تنفق في محلها، أي في التعليم العمومي-أذكّر بما نستورده خطأ في رمضان الكريم من أطنان من البيض واللحوم والبطاطا لسد حاجات غير أساسية تبعدنا عن المقصد الحقيقي من وراء فريضة الصيام وتجلب معها من حيث لا ندري أمراض القلب والشرايين والسكري. أضيف: نستورد أيضا في الصيف والشتاء أنهارا من المشروبات الكحولية، نضعف ميزانيتنا بأيدينا وننهك صحتنا وقد تتفكك من أجلها أواصر بعض أسَرِنا. نستورد بالعملة الصعبة أنواعا فاخرة من السيارات والماكياج، نتجمل بها وننسى أن نِصف التونسيين أمييون أو شبه أميين ولن تغطي عيوبهم المساحيق، ونستورد ملايين اللترات من العطورات الغالية وننسى أن عددا كبيرا من التونسيين لا يتوفر لديهم الماء الصالح للشراب أوالاستحمام. بعض نخبتنا فاسدون راشون ومرتشون، منهم إعلاميون وصحافيون وحزبيون معارضون وموالون ومحامون وقضاة وأمنيون وتجمعيون، إداريون وسفراء ووزراء ونواب ومستشارون وولاة ومعتمدون ورؤساء بلديات وعُمَد ورؤساء شعب، لن تمنع العطورات المستوردة الغالية تسرّب رائحتهم النتنة إلى أنوفنا وأنوف العالم الحر حتى ولو استحموا بها ليلا نهارا، صباحا مساء ويو م الأحد. نشتري سيارات غير اقتصادية بمئات الملايين ولا توجد في مؤسساتنا التربوية سيارة وظيفية واحدة لخدمة أبنائنا وبناتنا وأساتذتنا في مدارسنا الابتدائية والإعدادية ومعاهدنا.

 

 

ملاحظة

         كل من سيقول: "هذا خطاب مثالي... ليس في الإمكان أحسن مما كان... كن واقعيا..." وغيرها من القوالب الرجعية المتكلسة.

سأجيبه وأقول له على لسان شاعرنا العظيم، أبو القاسم الشابي:

ومن لا  يحب صعود الجبال .........يعش أبدَ الدهر بين الحفر

 

 

 

 

 

 

 

 


محور 7

الديداكتيك

(أو إبستمولوجيا التعليم أو فلسفة التعليم)


هل العلم موضوعي ومحايد أو متحيّز لمموّليه ؟

 

أنطلِق في هذا الموضوع من مقال نشره في الأنترنات سنة 2004  الأستاذ "بيار كليمان"، أستاذ بجامعة كلود برنار بفرنسا ومدير أطروحتي السابق, وعنوانه "العلم والأيديولوجية". اعتمدَ الأستاذ في هذا المقال على أبحاثي الشخصية  في تونس وأبحاث غيري في بلدان أخرى. يقول الأستاذ: "أودّ هنا طرح ملائمة المقاربة التعلّميّة والإبستومولوجية (الإبستومولوجيا مبحث نقدي في مبادئ العلوم) للمشاركة في تحليل العلاقات التي تربط بين وسائل الإعلام من جهة والعلوم والمجتمع من جهة أخرى. يتبوأ التفاعل بين العلم والإيديولوجية مركزا هامّا في أعمال فلاسفة العلوم انطلاقا من كتابات العلماء. لكن ما يضيفه التعليم أ و تعميم التعليم لهذا التفاعل بين العلم والإيديولوجية نادرا ما كان محلّ بحث.

أقصد بمفهوم " الأيديولوجية"، الأيديولوجية العلميّة السّائدة في تاريخ علوم الحياة والأيديولوجية التي يحملها المدرّس أو الوسيط الثقافي للعلوم. ما يعنينا هنا هو التفاعل بين القِيم والمعارف العلميّة (Interaction entre valeurs et connaissances scientifiques).

نحن نرى أنه من الضروري, في عهد التعليم وتعميم العلوم,  أن نوضّح حدودَ المعارف العلميّة وتحديد نوعيّة القِيم التي يحملها مَن سينشر هذه المعارف: لنضرب مثلا على ذلك: يظهر من نتائج البحوث المذكورة أعلاه أنّ أصحاب التصوّرات غير العلميّة  (Les conceptions non-scientifiques) الذين يدّعون أنّ الذّكاء مرتبط بوزن و/أو حجم الجمجمة (يقولون أن الرجل أذكى من المرأة لأنّ مخه أكبر وزنا وحجما من مخّها) ما زالت حاضرة في بعض البلدان بصفة متفاوتة مع العلم أنّه ليس لها أيّ أساس علمي  فهي إذن "تصوّرات أيديولوجية  وغير علمية". يدلّ هذا المثال السابق على أنّ الخطاب العلمي لا يخلو من أيديولوجية تُغذِّي -في بعض البلدان- التمييزَ العنصري بين الجنسين وذلك بتفضيل الذّكر على الأنثى. ففي تونس مثلا يعتقد ثلث الأساتذة المستجوَبين في بحثي أن الرجل أذكى من المرأة وفي لبنان نصف الأساتذة المستجوَبين يعتقدون نفس الشيء. يفتقر تكوين الأساتذة إلى التأكيد في المناهج التعليمية على التفاعل الموجود بين العلم والأيديولوجية وينطبق هذا أيضا على تكوين الصحفيّين والوسطاء العلميّين الآخرين. نلاحظ في النهاية أنّ الأيديولوجية الحتميّة (Le déterminisme) التي ينتمي إليها هذا المثال تتواجد أيضا في عدّة ميادين أخرى يبثّها الإعلام منها العلمي وغير العلمي مثل مفهوم "المكتوب" في التدين ("المكتوب" هو عكس ما ورد قرآن: "لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم") والتنجيم وقراءة الكف وعلم الفراسة وعلم القزحيّة (العيون هي مرآة الروح) وحديثا الحتميّة الجينيّة التي تقول بحتميّة تحقق البرنامج الوراثي المكتوب في الجينات على شكل رموز في الهباء العضوي (La molécule d’ADN). يقول بعض معتنِقي إيديولوجية الحتمية الجينية (Le déterminisme génétique):  يكون العنيفُ عنيفًا، لا لأنّه اكتسب هذا السلوك في حياته بل لأنّه ورثه عن والديه في جيناته أو مورّثاته الكروموزومية (Ses 30 mille gènes). تؤمن الحتميّة البيولوجيّة (Le déterminisme biologique)  بسيطرة البيولوجي على السيكولوجي, مثلا: المرأة لا تصلح لأن تكون قاضية في المحكمة لأنّها عاطفيّة ولأنّها متقلبة المزاج بسبب الحيض. قال عالم الوراثة "ريشار شارل لفونتان" : "مقاومة إيديولوجية الحتميّة البيولوجيّة تشبه مقاومة الحريق. كلّما أطفأت واحدا اشتعل غيره في موضع آخر".

 

بعد هذا العرض النظري نمر إلى بعض الأمثلة التي تدل على تحيّز بعض العلوم:

-         كل العلوم المنتسبة لإيديولوجية الحتميّة الجينيّة التي تدّعي أن القدرات الذهنيّة العالية عند البشر (مثل الذكاء والإبداع الموسيقي والسينمائي والرياضي والغنائي) تحددها الجينات منذ الولادة لذلك يسمونها "موهبة". يحاول العلماء, أسرَي هذا النموذج من التفكير العلمي (Le paradigme), أن يبرهنوا على أفكارهم الإيديولوجية بالاكتشافات العلمية الحديثة ويوظفوا البراهين العلمية لخدمة أغراض أيديولوجية. مثلا: يُرجِع أصحاب هذه النظرية أسباب العنف في أحواز  باريس, حيث يسكن مهاجرو شمال إفريقيا, إلى أسباب وراثية متعلقة بالجينات التي ورثوها عن آبائهم وليس لأسباب اجتماعية مثل الفقر والعنصرية والإقصاء. يفسرون الفشل الدراسي لأبناء هذه الجالية بالعامل الوراثي فقط دون الأخذ في الاعتبار العوامل الاجتماعية والسيكولوجية. ذهب بعض متطرّفي الحتميّة الجينيّة إلى إنشاء بنوك حيوانات منوية من خُصيات (Les testicules) الرجال الحاصلين على جائزة نوبل حتى يخلقوا -على هواهم وحسب اعتقاداتهم- عباقرة من صلب عباقرة ناسين أو متناسين دور القرين في الوراثة ودور المكتسب في تكوين القدرات الذهنية العالية.

-         كل العلوم الرأسمالية,  من اقتصاد سياسي وتجارة وغيرها, تتحيز للبرجوازية وتُمجِّد النظام الرأسمالي  وتبيح المحظور من الربح السهل على حساب عرق العمال بالفكر والساعد وعرق الفلاحين. أبدع الرأسماليون في "علمهم" المتحيز وأنشؤوا بيوتا سمّوها بنوكا حيث يُجبَر الموظفون الفقراء على ادخار ما تيسّر من أموالهم ليسرقها الأغنياء على شكل  قروض قد تُسترجع "يوم القيامة". 

-         كل العلوم الطبية التي تحدد على هواها مواصفات عالمية لنسبة السكر والكولسترول في الدم: يخضع تحديد هذه النسب لإملاءات  شركات الأدوية الكبرى فتجعل السليم مريضا وتربطه بنموذج الطب الغربي السائد وتمتص دمه وعرقه وترهق ميزانيته الضعيفة فيمرض حتى ولو كان معافى فيقضي جل وقته في قاعات الانتظار في العيادات الخاصة أو في المستشفيات.

-         كل العلوم العسكرية المنحازة للأقوياء التي لا تنتج إلا الدمار وتزرع الموت في شكل القنابل العنقودية التي نشرها الجيش الإسرائيلي في كل شبر من الأراضي اللبنانية خلال حرب جوان 2006. تتنافس "الدول العظمى" في صنع أسلحة الدمار الشامل ويا ليتها تنافست في صنع السلام الشامل. احلموا معي ولو للحظة, لو أنفِقت كل هذه الأموال في تحسين الأجور والمسكن والصحة والغذاء، لأصبحنا كلنا أغنياء.

-         كل العلوم الفضائية التي اقتحمت القمر والمريخ ولم تأت بدواء للجوع والفقر والسيدا. ألم يكن أجدر بالإنسان أن يحل مشاكل أخيه الإنسان قبل السفر الاستكشافي أو السياحي إلى الكواكب الأخرى ؟

-         اكتشف العلماء الأمريكان القنبلة النووية واستعملها السياسيون الأمريكان فأبادت في يوم واحد في "هيروشيما" و"نڤازاكي" 150 ألف من المدنيين اليابانيين الأبرياء. والغريب أن دول العالم الثالث ما زالت تسعى لامتلاكها ظنّا منها أنها قد تحميها من العدوان الخارجي ولم تتّعظ بما جرى للباكستان عند احتلال جارتها أفغانستان وإسقاط حليفها نظام "طالبان" من قِبل حلفائها الأمريكان. حينئذ قالت باكستان مبررة عدم تدخلها لنجدة أبناء عمومتها: "لن أتدخل حفاظا على قنبلتي النووية من نقمة الأمريكان" فأصبح هذا السلاح الفتّاك سببا في الانبطاح وفقدان الكرامة عوض حماية الشعب من الأعداء.

 

خلاصة القول

نعم، العلم متحيز للأغنياء الممولين للمخابر العلمية أما نحن المعذّبون في الأرض فلا تصلنا فوائد العلم إلاّ بعد استنفاذ طاقتنا الشرائية الضعيفة أصلا. ينفق الأغنياء على صنع العلم مالا وفيرا كتجارة مربحة ويكتب الأقوياء التاريخ لتسجيل بطولاتهم في قهر الضعفاء.

أظن أن الواجب يحتِّم علينا أن لا ننسى أن العلم صنعه العلماء فلا وجود إذن لعلم دون علماء والعلماء بشر وعلمهم ذاتي 100% وموضوعي 100% والعلماء صنفان:

-         صِنف يُذكر فيُشكر ويُمجّد ويُخلّد لأنه خلق نظريات علمية تحولت إلى تكنولوجيا لصنع الأدوية النافعة والأمصال الواقية والسيارات والطائرات والبواخر والحاسوب والأنترنات وغيرها.

-         صِنف يُذكر فيُذم و يُلعن لأنه حوّل نظريات علمية إلى تكنولوجيا لصنع أسلحة الدمار الشامل من الكلاشنكوف إلى القنابل العنقودية والكيمياوي المزدوج وأسّس حيل رأسمالية متوحشة  للتحكم في مصائر الشعوب المستضعفة وصَنع وسائل التعذيب وأقام المصانع المربحة للأغنياء والملوثة لبيئة الفقراء واستنفذ واستغل ولوّث مصادر الطاقة من نفط وأسماك وكأنها ملكه الشخصي أو إرث ورثه عن أجداده ناسيا أو متناسيا أن الثروات الطبيعية في الخليج العربي وأمريكا وروسيا وغيرها هي ملك لجميع البشر وليس لهم حق احتكارها أو تبديدها كما يشاء تاركا إرثا ثقيلا للأجيال القادمة يتمثل في غابات معرضة للتصحر ومحيط ملوث وألغام تحصد سنويا الآلاف من الأبرياء.

 

قد ينقل العالِم نفسه من الصنف الثاني المضرّ إلى الصنف الأول النافع عندما يصبح مثقفا  مثل العالِم "أينشتاين" مكتشف القنبلة النووية الذي أصبح فيما بعد من أكبر منتقديها والعالِم "نوبل" مكتشف الديناميت الذي أوصى قبل موته بتخصيص ثروته كاملة لمنجزي الاكتشافات العلمية النافعة في الطب والفيزياء ما عدى الرياضيات. يُحكَى أن العالِم نوبل أوصى بحرمان علماء الرياضيات من نيل جائزته لأسباب ذاتية بحتة: شك في وجود علاقة عاطفية بين زوجته وزميل لها يعمل أستاذ الرياضيات.

 

 

 


 

 

 

"نؤكد مرة أخرى على التمييز بين أعْلَمَ وعَلَّمَ، هنا تكمن رهانات مدرسة القرن الحادي والعشرين. لقد فقدت المدرسة احتكار المعلومة. توجد وسائل أنجع على مستوى السرعة والجاذبية"

(أندري جيوردان، تعلَّمَ! نشر بولان، 1998، هامشة صفحة 197)

 

« Insistons encore sur la distinction entre informer et enseigner, car c`est là que se  joue un des enjeux pour l`école du XXIe siècle. L`école a perdu le monopole de l`information. D`autres moyens sont plus performants sur le plan de la rapidité et de l`attractivité »

(André Giordan, Apprendre !, Ed. Belin, 1998, n. b. p. 197)


يبدو لي أن كليات العلوم التونسية قد أنتجت لنا ناقِلي علم ولم تنتج لنا علماء !

 

« Il me parait que les professeurs universitaires raisonnent en termes d`addition, jamais en termes d`interactions et d`émergences. » André Giordan, Apprendre !, Belin, 1998, p67.

اكتفَى الأساتذة الجامعيون التونسيون بنقل ما تعلّموه إلى طلبتهم ولم يبحثوا ولم يضيفوا للعلم شيئاً يُذكر. كتبوا آلاف الأطروحات، نُسَخًاً باهتة لِما أنتجته الجامعات الغربية، نُسَخًاً محفوظة على رفوف المكتبات الجامعية. اهتم هؤلاء بملفات ترقياتهم الإدارية أكثر من اهتمامهم بالبحث العلمي (في بعض الدول الغربية ألغِيت الترقيات للأساتذة الجامعيين وحُذِفت الدرجات -Les mentions- عند منح شهادة الماجستير والدكتورا).

أما المهندسون التونسيون فينفذون ما تعلموه ولم يضيفوا شيئا من عندهم وكأنهم مجرد تقنيين. لم يبتكروا حلولا للصعوبات التقنية التي يتعرض لها يوميا الفلاح أو الصناعي التونسي. نحن في واحات جمنة مثلا نحتاج لآلات تسهّل عمليات تلقيح النخيل وجني التمور.

والمعماريون التونسيون قلدوا تصميمات زملائهم الغربيين وأهملوا كنوز تراثهم القديم والمعاصر. نحن في جمنة مثلا كنا نبني بيوتاً من "الطوب" (حجر هش مكون من الرمل والكلس والطين المتماسك) بأبخس التكاليف، نبني بيوتاً متأقلمة مع مناخنا صيفاً وشتاءً دون تكييف، بيوتاً تعيش أكثر من قرن. أصبحنا اليوم نبني بالأسمنت المسلح الغالي الثمن مثل ما يفعل سُكان المدن، أسمنت مسلح ضد كل شيء لكنه غير مسلح  ضد شمسنا.

والأطباء التونسيون العامّون والمختصون تفننوا في كتابة وَصْفاتٍ مطولة قد تنهك جيب المريض وصحته. لم يبتكروا وصفات جديدة ولم يطوروا أدوية "الطب العربي" المتأتية من الأعشاب. قَصَدَهم المرضى الأجانب من الأغنياء (ليبيون وجزائريون جاؤوا للعلاج وغربيون جاؤوا للتجميل) وهجرهم المرضى التونسيون من الفقراء بسبب أجور كشوفاتهم المشِطّة (سنة 2016، أجرُ كشفٍ عند مختص = 50 دينار = 1\8 الأجر الصناعي الأدنى). 

والمختصون في علوم التربية لم يؤسسوا نماذج تعلمية انطلاقاً من عاداتنا وتقاليدنا، خاصة في مجال التعليم ما قبل المدرسي. كنا أطفالاً في جمنة الخمسينات وغيرها من المدن والقرى التونسية نتعلم من/مع أقرانِنا دون رقيب كهل، نصنع لُعَبَنا بأيدينا ومن لَعِبِنا كنا نتعلم دون معلم. كنا نطبق دون أن نشعر نظرية البنائية الاجتماعية للعالم السوفياتي فيڤوسكي (Le socio-constructivisme de Lev Vygotsky, 1896-1934) ونجسِّم شعار الطبيبة الإيطالية ماريا مونتيسوري "ساعِدني على أن أفعل بنفسي" («Aide-moi à faire seul», Maria Montessori, 1870-1952). تركونا أولياؤنا -يرحم والديهم- نتعلم بأنفسنا ومع أندادنا ولم يقتلوا مَلَكَة الإبداع فينا كما تفعل اليوم روضات الأطفال "الحديثة".

والمختصون في علم النفس التونسيون لم ينتبهوا لإبداعات مجتمعنا في التعايش مع "مجانيننا" قبل أن يغلق الغرب معتقلات الأمراض العقلية عنده. كنا في جمنة وفي كل المدن والقرى التونسية وما زلنا نفتح قلوبنا وشوارعنا لـ"مجانيننا"، لم نحرمهم يوما من حرياتهم ولم نقيدهم بالسلاسل ولم نسلمهم لمعتقل الرازي بالعاصمة، زوّجنا البعض منهم فأنجبوا كفاءات في كل المجلات، أطلقنا أيديهم فأسعدونا وأخص بالذكر أطرفهم وأشهرهم المدعو الساسي بن احمد، قبل تأسيس البلدية كان ينظف شوارع جمنة وجامعها الوحيد، كان يغني فريد الأطرش وأسمهان، باختصار كان عَلماً وبعده لم تعد جمنة جمنتي.

والصيادلة التونسيون أصبحوا تجار أدوية غربية باهضة الثمن مثلهم مثل تجار قطع الغيار، واكتفوا بقراءة وصفات الأطباء كما يقرأ زملاؤهم تجار قطع الغيار ورقات الميكانيكيين. استوردوا أدوية جاهزة ولم يصنعوا لنا أدوية تونسية تكون ملائمة لمناخنا الحار ولنظامنا الغذائي وتكون ماليا في متناول فقرائنا.

والبيولوجيون التونسيون طبقوا في مخابرهم مواصفات التحاليل الغربية حرفيا دون مراعاة لنظامنا الغذائي المختلف عن الغرب.

 

Haut du formulaire

 


كليات العلوم التونسية، لماذا لم تنتج لنا علماء      ؟  

 

هل لتقصير من أساتذتنا وطلبتنا أم لقصور في برامجنا ومناهجنا التربوية في الابتدائي والثانوي والجامعي أم الاثنان معًا ؟

يبدو لي أن هنالك تفاعل بين السببين الاثنين والاثنان مسئولان في آن. كيف ذلك؟

مسؤولية وزارتَىْ التربية والتعليم العالي:

الوزارتان الاثنتان لم توفرا الإمكانات المادية واللوجستية الضرورية للارتقاء بمستوى تعليمنا: مثلا، وسائل التعلم (Les moyens didactiques) مفقودة في جل مؤسساتنا التربوية كالحواسيب والمجاهر (Les microscopes) وآلات العرض (Les vidéoprojecteurs).

مسؤولية المدرّسين في الابتدائي والثانوي والجامعي على السواء:

جلهم محافظون متكاسلون وللتجديد ناكرون وفي بذل الجهد والقيمة المضافة مقصِّرون وعلى قدر المرتب الزهيد يعملون وعلى الرخص المرَضية مدمنون.

جل المدرسين لم يدرسوا أكاديميا طرق التدريس، لا القديمة ولا الحديثة:

Le constructivisme de Piaget, le socio-constructivisme de Vygotsky, la dévolution, le modèle allostérique ou construction\déconstruction de Giordan, aide-moi à faire seul de Montessori.

ولم يدرسوا تاريخ العلوم ولا الإبستمولوجيا ولا علم نفس الطفل ولا علوم التواصل ولا علم التقييم ولا البيداغوجيا ولا الديداكتيك. حوالي  النصف أو أكثر من أساتذة الجامعة التونسية لا يحملون، لا ماجستير ولا دكتورا. فكيف سيعلِّمون طلبتهم البحث العلمي يا تُرى وهو رسالة الجامعة الأساسية ؟ جل الأساتذة الجامعيين لا يتقنون اللغة الأنڤليزية، لغة العلم بلا منافس، ونحن نرى اليوم أن جل العلماء الفرنسيين المعاصرين ينشرون ويحاضرون في المؤتمرات العلمية العالمية بالأنجليزية. زد على هذا الخور كله: لي زميلة دكتورة في الديداكتيك تدرّس في الجامعة علم النفس السلوكي، علم لم تدرسه أكاديميا يوما واحدا وأمثالها بالآلاف.

رفضَ أساتذة الثانوي عن جهل تطبيق طريقة "بيداغوجيا المشروع" أو تقاطع التعلمات. طريقة تُربّي التلميذ على البحث العلمي منذ الصغر وتؤهله للاستغناء والاستقلال عن الأستاذ. لا يوفر المدرس للتلميذ فرصة تعلم الطيران بنفسه وبجناحيه. على العكس يقلّم المدرس جَناحَيْ التلميذ ظنا منه أنه يهذبهما.

مسؤولية التلامذة والطلبة:

هم ضحايا نظام تربوي متخلف نسبيا والضحية قد يصبح جلاد نفسه. لا يركّزون في القسم ولا يراجعون في المنزل ويغشّون في الامتحانات مع الإشارة أن للغش حلول علمية واعدة لا حلول تأديبية معمول بها اليوم. كلنا في الهواء سواء، مدرّسون وأولياء أخَلّيْنا بواجبنا، ربّينا و"أحسنّا" التربية، جنَيْنَا ما زرعت أيادينا فانقلب السحر على الساحر. جيل لا يطالع والعلم، كما تعلمون، لا ينزل كالمطر من السماء.

مسؤولية مصممي البرامج:

برامج كثيفة ومتكلسة لا تراعي انتظارات التلميذ ولا قدراته ولا طموحاته. تخلينا عن التعليم المهني واستثمرنا في التعليم الطويل فأصبحت مدرستنا مخبرا لصنع الفشل، حوالي 100 ألف منقطع سنويا. ركزنا على تدريس النظري وأهملنا التطبيقي فلم ننجح في تكوين المواطن المتخرج العلمي المتكامل.

 

 

 

 

 


 

"كل مَن يسعى للإستماع إلى جواب الأطفال هو صاحب حس ثوري"

فرنسواز دولتو، الفشل المدرسي، مقال حول التربية، 1989

(أندري جيوردان، تعلَّمَ! نشر بولان، 1998، صفحة 23)

 

« Quiconque s`attache à écouter la réponse des enfants est un esprit révolutionnaire »

Françoise Dolto, L`Échec scolaire, Essai sur l`éducation, 1989.

(André Giordan, Apprendre !, Ed. Belin, 1998, p. 23)


هل يوجد لدى الطفل مستويان من النموّ الذهنيّ ؟

 

أعتمد في مقالي هذا علي كتاب بالفرنسيّة عنوانه (Vygotsky aujourd’hui) نُشِر بباريس سنة 1985 تحت إشراف (B. Schneuwly  & J.P. Bronckart).

عندما نحدّد "العمر الذهنيّ" (l'âge mental)  لدى الطفل بواسطة اختبارات  الحاصل الذكائي (QI : quotient intellectuel) نتكلّم دائما على نوع واحد فقط من النمو وهو "النموّ الذهنيّ الفعليّ الحيني" لكن مثلما أثبتته التجارب, يعجز هذا الحاصل الذكائي  عن الإحاطة الكاملة بحالة النموّ الذهني لدى طفل في لحظة معيّنة.

لنفرض جدلا أن لدينا طفلين اجتازا اختبار الحاصل الذكائي وحدّدنا عمرهما الذهنيّ بسبع سنوات (لهما القدرة على حل المسائل المناسبة لأطفال في عمرهما). هل هذان الطفلان هما متساويان فعلا في النمو الذهني ؟ لو حاولنا إخضاعهما لإختبارات أخرى, قد يظهر بينهما اختلاف مهمّ : قد يستطيع أحدهما وبسهولة حل اختبارات مناسبة لأطفال يكبرونه بعامين, أما الآخر فلا يحل الا الاختبارات التي تفوق سنه بستّة أشهر. نستنتج إذن أنهما ليس متساويَين في الذكاء  خاصة إذا ما أخذنا في الإعتبار القدرة الكامنة والممكنة والمحتملة لدى الطفلين التي قد تظهر وتتجسّم لو وفّرنا لهما وضعيّة إجتماعيّة تعلّميّة يحتكّ فيها الطفلان مع الغير، مدرّسين وأقران.

نصل هنا إلى تعريف النوع الثاني من النموّ الذهني غير المعروف لدى غير أهل العلم والمسمّى "المنطقة الوشيكة للنمو الذهني"  (ZPD : Zone proximale de Développement mental)، هذا المفهوم اكتشفه عالم النفس و البيداغوجيا السوفياتي الاشتراكي "فيـﭬوتسكي" في أوائل القرن العشرين والذي يعرّفه في النقاط التالية:

-         ما يقدر الطفل على إنجازه, بمساعدة المدرسين وبحضور أقرانه, يحدّد مستوى "المنطقة الوشيكة للنمو الذهني".

-         ما يقدر الطفل على إنجازه اليوم بمساعدة المدرّسين وبحضور أقرانه, يستطيع تحقيقه بمفرده غدا.

-         يختلف مستوى حل المشاكل الذهنيّة الذي يصل اليه الطفل بمفرده عن مستوى حل المشاكل الذي قد يصل اليه مع أقرانه وتحت إشراف ومساعدة المدرّسين.

-         نستطيع تحديد حالة النموّ الذهنيّ عند الطفل بالاعتماد على المستوين المذكورين أعلاه: "النموّ الذهنيّ الفعليّ الحينيّ" و"المنطقة الوشيكة للنمو الذهني".

-         لو تركنا الطفل المتخلّف ذهنيّا وحده دون رعاية تربويّة لما وصل الى أيّ شكل من أشكال التفكير المجرّد.

-         لو أخذنا مثلا طفلا سليما يعيش في عزلة مع والدين "صم- بكم"’ سيبقى هذا الطفل أصم-أبكم رغم تمتّعه بالملكات البيولوجية للنطق والسمع ونتيجة لذلك لا تتطور في مخه الوظائف الذهنيّة العليا المرتبطة بالكلام واللغة.

-         لو أخذنا في الاعتبار في التعليم مستوى "النموّ الذهنيّ الفعليّ الحينيّ" فقط لما اكتشف الطفل طاقاته الكامنة والممكنة مستقبلا.

-         لو سبقنا نموّ الطفل المستقبليّ وقدّمنا له أنشطة أعلى من مستواه الحاليّ لكن تقع في "المنطقة الوشيكة لنموّه الذهني" يعني غير مستحيلة الإنجاز وبحضور أقرانه وتحت إشراف ومساعدة مدرّسين فقد يتحسّن مستواه الذهني.

-         كل وظيفة ذهنيّة عالية تظهر مرّتين خلال نمو الطفل: تظهر أولا في شكل نشاط جماعيّ واجتماعيّ كوظيفة ذهنيّة مشتركة وهذا يقع في القسم وأثناء التطبيق, ثم تظهر ثانية على شكل ملكية فردية كوظيفة ذهنية داخلية وهذا ما يحصل بعد الدرس عند إدراك عملية الإدراك من قِبل المتعلم.

-         نصل الي الإستنتاج التالي : من المفروض أن لا يتزامن التعليم الحديث مع النمو الذهني للطفل بل يسبقه وينشّطه ويوقظ فيه التطوّر التدريجيّ للنموّ الذهنيّ.

 

بعد هذا التقديم النظري المختصر والضروريّ, نحاول توظيف هذه النظريات لتحليل واقعنا التعليميّ التونسي:

-         هل اطّلع  مدرّسونا, ابتدائي وثانوي, على هذه النظريّات البيداغوجيّة "الخلاّقة بالمعنى الحرفيّ للكلمة" ؟ يعني تخلق الذّكاء (l’épigenèse et la plasticité cérébrales). ترتكز المدرسة البنائيّة لـ"بياجي" على هذه النظريّات وترفع وزارة التربية التونسية شعارتها ولكنها لا تطبقها.

-         لنفرض أن مدرّسينا اطّلعوا عليها ونسأل: هل الدولة أوجدت الأرضيّة والمناخ الملائم لتطبيقها ؟ طبعا الجواب سيكون بالنفي والدليل الذي أستحضره الآن ويقظّ مضجعي هو حالة "الستة والثلاثون تلميذا" الذين ينتظرونني يومين في الأسبوع في المعهد الّذي أادرّس فيه.

-         لنحلم قليلا, لو اطّلع (أكاديميّا، يعني في الجامعة) مدرّسونا في الابتدائي والثانوىّ والجامعيّ على البيداغوجيا والتعلميّة وعلم نفس الطفل والايبستومولوجيا وعلم التقييم   (L’évaluation) وإدراك عملية الإدراك (la métacognition)، ولو وفّرت لهم الوزارة قاعات واسعة لسبعة عشرة تلميذ في القسم كما يطالب الفرنسيّون، ولو جهّزت كل قاعات الدروس بالحواسيب وربطتها بالأنترنات، ولو ضربت أجرهم في خمسة. لصَنَعَ التلميذ التونسي المعجزات كما فعل زميله الكوري الجنوبي حيث يُخصّص في بلاده أكبر ميزانيّة للتعليم الابتدائي, يأتي بعده الثانوي ثم العالي عكس ما عندنا بالضبط، فهرمنا التعليمي إذن هو هرم مقلوب وهرمهم ثابت على قاعدة عريضة وصلبة. نحن نبني على الرمل وهم يبنون على الاسمنت المسلح.

-         نحن في تونس ما زلنا نعتبر التلميذ  فأر تجارب, نرسم له مسبّقا متاهة ونعرف مسبقا من أين سيدخل ومن اين سيخرج ولم نترك له حرّية التفكير والتفاعل مع الوضعيات التعلّميّة الجديدة  ولم نلامس "منطقته الوشيكة للنمو الذهني" ولم نعط له الفرصة للتعلّم الذاتيّ  البنّاء لتفجير طاقاته الكامنة. شيئا فشيئا نقلنا الى مخّه الفتي المرن فشلَنا وجهلَنا ومحدوديةَ تفكيرنا وبقينا نتباكى على مستوى أبنائنا ونسينا أننا نحن المربون والأولياء والمسؤولون المتسببون الأولون والأخيرون في تدني المستوى التعليمي في بلادنا. فمَن أولى بالنقد إذن ؟ ومَن الجلاد ومَن الضحية ؟

-         عوض أن نوقظ في الطفل  التطوّر التدريجيّ للنموّ الذهنيّ كما يقول فيڤوتسكي, فعلنا عكس ذلك: يأتينا الطفل متعطّشا للمعرفة، وبفضل أساليبنا البالية -والحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه- وجهلنا بالعلوم التربويّة والإجتماعّة والنفسيّة الحديثة، تراجعَ نموّ تلامذتنا الذهني تحت مستوى "النمو الذهنيّ الفعليّ الحينيّ" (QI) فأصبح ابن الست سنوات يحمل عمرا ذهنيا متخلفا سنتين عن عمره البيولوجي.

 

خلاصة القول :

قال لي صديقي " أنت تحلم" فقلت أنا واعٍ بأنني أحلم وأدرك حالة الحلم التي أمر بها. أحلم, لكنني واعٍ أيضا بأن حلمي مشروع وممكن التّحقيق لو توفّرت الظروف الملائمة فالكوريّون الجنوبيّون ليسوا أفضل منا كبشر عندما أقلعوا  نحو التقدم  في عشرين سنة بالاعتماد أساسا على تحسين التعليم. أنهي خطابي بقولة فرنسية مستعارة رائعة: “L`utopie est la vérité de demain”.

 


"حصول تقدم في التعلّم ليس رهين الفرد وحده، مثلما يردد البنائيون (بياجي)، وليس رهين المحيط وحده، كما يقترح السلوكيون (واتسون وسكينر). التقدم ينبثق من تفاعل الفرد مع محيطه" 

(أندري جيوردان، تعلَّمَ ! نشر بولان، 1998، صفحة 197)

 

« Une avancé dans l`apprendre n`est pas seulement le fait de l`individu, comme le martèlent les constructivistes, ou dans l`environnement, comme le suggèrent les behavioristes. Elle résulte d`une émergence née de l`interaction des deux »

(André Giordan, Apprendre !, Ed. Belin, 1998, p. 197)


الإشكاليات العامة في التعليم ؟

 

هذا المقال هو عبارة عن ترجمة مختصرة مع إضافة متواضعة لمحاضرة ألقاها صديقي الموسمي العالِم الفرنسي في علوم التربية "أندري جيوردان" خلال مؤتمر الأيام الوطنية الثالثة للجمعية التونسية لتعلّمية علوم الحياة والأرض (أو فلسفة تعليم العلومLa Didactique des Sciences ) المنعقد  بسوسة من 22 إلى 23 نوفمبر سنة 2007.

نبدأ بطرح الأوهام الثلاثة المقترحة لحل إشكاليات التعليم

يتمثل الوهم الأول في الاعتقاد أن الحل يكمن في الرجوع إلى الماضي ويتوهم الدعاة إلى هذا الحل، وهم عادة من المتقدمين أوالمتوسطين في السن، أن تعليمهم القديم أفضل وأجدى من التعليم الحالي وأن جيلهم أذكى من هذا الجيل. يعتقد أصحاب الوهم الثاني أن وسائل التكنولوجيا الحديثة ستجيب على كل الإشكاليات المطروحة وأن الحاسوب سيأخذ مكان المدرس. أما دعاة الوهم الثالث فيقولون أنه يكفي أن تقوم بالدرس حتى يتعلّم التلاميذ ولا فائدة من التفلسف في الموضوع.

لنعرض بعجالة إشكاليات التعليم

لماذا نقصت الرغبة في التعلم عند تلامذتنا ؟ لماذا لا نأخذ في الاعتبار بما فيه الكفاية أسئلة التلاميذ وتصوراتهم العلمية وغير العلمية ؟ لماذا يتعرّض بعض صغارنا إلى صعوبات في التعلم ؟ ما هي الطرق البيداغوجية المجدية ؟ كيف نعلّم ؟ أين ؟ متى ؟ مع من ؟ بأي تواتر ؟ من خلال أي استراتيجيات ؟ ... لكن ما معنى "تعلّم" ؟ يبدو الأمرُ بسيطا... يكفي أن نستمع ونحفظ ونعيد. لا، قد يكون معقدا. لا، بسيطا، يكفي أن تكون مغرما وتباشر وتعمل داخل فريق. لا، قد يكون معقدا.

 أ.      نذكّر ببعض النماذج التعلّمية المستعملة

1.    التعلّم التقليدي عن طريق التلقين

يتمثل هذا النموذج في نقلٍ خطّي ومباشر للمعلومات من باثّ إلى متلق. يتصرف المتعلم كآلة يقبل ويسجل في مخه. مخ دائم الاستعداد مثل الصفحة البيضاء أو الإناء الفارغ والمعلم يخطّ في الصفحة  ما يشاء ويملأ الإناء بما يريد.

2.    التعلّم عن طريق العقوبة والجزاء: (Stimulus et réponse)

برز هذا النموذج في الستينات في أمريكا على أيدي العالِمين، مؤسسي المدرسة السلوكية، واتسون وسكينر. يتعامل المدرس مع التلميذ بأسلوب الإثارة ورد الفعل مثل ما يدرّب "بافلوف" كلبه، يجازيه عند الإجابة الصحيحة ويعاقبه إذا أخطأ.

3.    التعلّم عن طريق البناء المعرفي الذاتي: (Le Constructivisme de Piaget)

أسس هذه المدرسة البنائية العالم السويسري بياجي. يبني المتعلّم معرفته بالتفاعل مع محيطه وبالتعبير عنه. يصوغ المدرس درسه انطلاقا من حاجيات التلميذ واهتماماته ويترك التلميذ يكتشف معرفته بنفسه بعد بحث متردد وتعبير حر وإبداع. بعد ذلك نوفر له "وضعية-مشكل" (Situation-Problème) حتى نثير داخله صراعا معرفيا (CIC : conflit intra-cognitif). المتعلم قد لا يحتفظ إلا بالمعلومات التي ينتظرها هو والتي تنضوي تحت قناعاته الشخصية والتي تجلب له اللذة (Le plaisir d`apprendre) وتمسه وتستدرجه وتريحه في موقفه (Position). قد لا يهتم المتعلم بكل المعلومات الأخرى أو يرفضها حتى ولو كانت عملية وتملك احتمالا هائلا من اليقين. التلميذ لا يرى إلا ما يريد مخه أن يرى فهو إذن لا يرى الحقيقة مباشرة بل يراها من خلال مصفاة مركبة في مخه. لا يتم اكتساب المعرفة إلا في ظروف معينة، ففي أكثر الأوقات يرفض التلميذ المعلومات الملقنة أو التي يُعاد اكتشافها أمامه بطريقة مسرحية غبية. يتعلم التلميذ بعد إفراغ المعلومات غير الملائمة وفي نفس الوقت يتملّك الملائمة. ينتج التعلّم عن سياق من التغييرات المتعددة: تغييرات في الأسئلة وفي الفكرة الأولية وفي طريقة التفكير الاعتيادية، إلخ.

4.    التعلّم عن طريق البناء المعرفي الاجتماعي: (Le socio-constructivisme de Vygotsky)

أسس هذه المدرسة البنائية الاجتماعية العالِم السوفياتي فيڤوتسكي في الثلاثينات من القرن الماضي. اكتشف هذا العالم منطقة في النموّ الذهني وسمّاها "المنطقة الوشيكة للنمو الذهني" (ZPD: Zone proximale de Développement mental). يعرّفها في النقاط التالية:

-         ما يقدر الطفل على إنجازه، بالتفاعل مع محيطه وبمساعدة المدرسين وبحضور أقرانه، وهو الذي يحدّد مستوى "منطقته الوشيكة لنموه".

-         ما يقدر الطفل على إنجازه اليوم بمساعدة المدرّسين وبحضور أقرانه، قد يستطيع تحقيقه بمفرده غدا.

-         يختلف مستوى حل المشاكل الذهنيّة الذي يصل اليه الطفل بمفرده عن مستوى حل المشاكل الذي يصل إليه مع أقرانه وتحت إشراف مدرّسيه ومساعدتهم.

5.    التعلّم عن طريق التفكيك والبناء في آن: (Construction et Déconstruction de Giordan)

أضاف هذا النموذج أخيرا العالم الفرنسي المذكور عدة مرات في محاور هذا الكتاب، المدعو جيوردان. تعتمد هذه المقاربة الحديثة على تغيير نمط التفكير بالتأثير في محيط المتعلّم الذي يتفاعل مع تصوراته. ينتج التعلّم عن سيرورة من الصراع المعرفي لدى  المتعلم (conflit intra-cognitif & conflit socio-cognitif)) حيث يفكك تصوراته غير العلمية القديمة ويبني مكانها تصورات علمية جديدة. يتعلم المتلقي وحده لكن ليس وحده تماما، يتعلّم مع وضد تصوراته غير العلمية، يتعلّم بالتفاعل مع محيط وثيق الصلة بتصوراته، يتعلّم عندما يكون التعليم المطروح عليه يعني شيئا بالنسبة له ويرى فيه قيمة، يتعلّم عندما تستوقفه المعطيات وتربكه وتعينه على الإبداع. ينطلق المدرس من التصورات غير العلمية للتلميذ ليبدلها بمعية التلميذ نفسه إلى تصورات علمية. تحتاج العملية التربوية إلى محيط معقد ومفارق وظاهري التناقض. يحاول المعلّم نقل شغفه بالعلم للتلميذ حتى يحضى بحبه وتقديره.

6.    التعلّم عن طريق نقل مهمة التعليم من المدرس إلى التلميذ: (La Dévolution)

يستقيل المدرس مجازيا من مهمة التدريس ويسلّم لتلامذته مهمة التعلّم بأنفسهم. من المفروض أن يجلس مدرب فريق كرة على خط التماس ولا يلعب مكان لاعبيه.  يحضّر المدرس جيدا الوضعية التعلّمية في المنزل ثم يعرضها عل تلامذته مع توفير المحيط الملائم ويتركهم أحرارا يبحثون عن الحل دون شرح أو توجيه هم في غنى عنه.

7.    التعلّم عن طريق التقليد: (L`Imitation)

يتعلّم الولد من أمه أشياء كثيرة دون برنامج مسبق، يتعلم اللغة والأخلاق والسلوكيات. يتعلّم صبي النجار أو الحداد أو الميكانيكي المهنة من صاحبها دون تنظير أو منهجية محددة. يتعلّم الابن من والده الفلاحة أو صيد السمك بالتقليد المباشر والممارسة اليومية دون كتابة ولا قراءة.

 

ب.              نمر الآن إلى وسائل التعلّم

1.    معرفة تصورات التلميذ: (Les conceptions ou représentations de l`élève)

سبق لي وأن أشرتُ أعلاه إلى أن التصوّرات غير العلمية لا تزول بسهولة وأضيف: هل يستطيع التلميذ بناء معرفة علميّة جديدة فوق معرفته غير العلميّة القديمة ؟

2.    بعض صفات التلميذ

يقول التلميذ: أنا معنِي بعملية التعلّم, إذن أنا مسؤول عنها. أجد فيها متعة وفائدة ومعنَى. أثق في نفسي وفي أقراني وفي معلّمي، أحاول بكل جدية أن أكوّن علاقات جيدة معهم. أرسِّخ معطيات وأبحث عن وسائل تساعدني على التفكير مثل: الرموز والرسوم البيانية والاستعارات والمجازات والنماذج. أعطِي قيمة للمعرفة وأعي فائدتها. أوظف معارفي في المكان المناسب والتوقيت المناسب. أواجِه نفسي بمعلومات مغايرة ومختلفة. أتراجَع ثم أتكئ وقتيا على تصوراتي القديمة. أنهض وأستوعب وأكتسب التصورات العلمية الجديدة ثم أنطلق.

3.    بعض صفات المدرس

على المدرس أن يكون ناقلا للمعلومات وفي الوقت نفسه مخرِجًا للوضعيات التعلّمية ومرافقا وسندا للتلميذ وباحثًا علميًّا ميدانيًّا. عليه إذن خلق رغبة التعلّم عند التلميذ وتوفير المحيط المناسب لها. عليه تمرير دوافعه ومحفّزاته ورغباته المعرفية للتلميذ. عليه إضفاء معنى لمحتوى درسه.

4.    بعض استراتيجيات المدرّس

يخلق المدرّس الاحتياج للمعرفة لدى التلميذ. يشجّع التلميذ وذلك بتشريكه في مشروع يحتوي على ألعاب ومواجهات فكرية وأعمال مجموعات وتحدّيات وأشياء جديدة فيها بعض المجازفة وفيها هامش من الاستقلالية. يوفّر المدرس للتلميذ نشاطا يشدّه ويدهشه ويَرغب فيه. يحتوي هذا النشاط على مشروع للوجود والفعل لدى التلميذ.

 

ج. خلاصة القول

التعلّم هو سيرورة معقدة قد لا تُمرّر بوصفات جاهزة. قد يكون التلقين صالحا في وضعية تعلّمية لا يقدّم فيها الحوار ولا يؤخر. إذا أردنا التغلب على العقبات بسهولة فعلينا تداول استعمال النماذج التعلّمية بيسر حسب الجمهور المستهدف والوضعية التعلّمية المستعملة (Jongler avec tous les modèles d`apprentissage selon la situation didactique).


ما هي المعارف البيولوجية الضرورية لفهم عالم متحول ؟

 

هذا المقال أيضا هو عبارة عن ترجمة مختصرة مع إضافة متواضعة لمحاضرة ألقاها، صديقي الموسمي، العالِم الفرنسي في علوم التربية "أندري جيوردان" خلال مؤتمر الأيام الوطنية الثانية للجمعية التونسية لتعلّمية علوم الحياة والأرض المنعقد  بالحمامات  من 28 إلى 31 مارس سنة 2007. كادت التعلمية أن تُسمّى "إبستمولوجيا التعليم" ويا ليت اسمها بقي كذلك.

أثّر عِلم البيولوجيا في واقعنا ومجتمعنا. هل نحن بصدد مراقبة  تأثيراته في المحيط ؟ ما مدى سيطرتنا عليه ؟

تبدو العلوم بما فيها البيولوجيا معقدة ومجردة... جل التلامذة لا يفهمون منها شيئا !!! قال تلميذ وهو ينظر إلى صورة حيوان منوي: "هذه صورتي عندما كنت صغيرا". اليوم أصبحت العلوم بما فيها البيولوجيا مملّة.

نلاحظ نقصا في التساؤل والحيرة العلمية لدى التلامذة خلال مدة الدراسة وهبوطا في عدد الطلبة المنتسبين للشعب العلمية.

من سنة 1996 إلى  سنة 1999، نزل عدد الطلبة الفرنسيين المسجلين بكليات العلوم بنسبة 13 بالمائة وكانت شعبة الفيزياء المتضررة الكبرى (Nature vol. 401, 21/10/99).

في ألمانيا، تدنَّى عدد طلبة السنة الأولى فيزياء إلى النصف بالمقارنة مع سنة 1991 وأصبح عدد المتخرجين لا يستجيب لاحتياجات الصناعة والبحث العلمي (Nature vol. 394 6/08/98).

في اليابان، رغم أن عدد الباحثين الشبان في الاختصاصات العلمية هبط من 11 في المائة سنة 1977 إلى 4 في المائة سنة 1995 فإنهم يواجهون اليوم صعوبات كبيرة في الانتداب (Nature vol. 391 1/01/98).

العلوم، هي شيء معقد...العلوم تزعج. تبدو ساعات درس العلوم منفّرة ومتجهّمة ومكروهة وغير سائغة... نفس الأخطاء تستمر من الروضة إلى الجامعة. لا نعرف موضعنا في هذا العالم. عالم العلوم هو عالَم الاصطلاحات وعالَم الاعتباطي. الصرامة العلمية صرامة خانقة وغير إنسانية. العلوم لا تهتم إلا قليلا بالحياة اليومية ومسائل البيئة والمجتمع وعلم الأخلاق (Éthique ).

لفظت المدرسة العديد من التلامذة الأذكياء بسبب العلوم. العلوم تخدم سياسة الانتقاء.

لكن... ماذا نتعلّم ؟ ولماذا ؟

نتعلم علوم الحياة والأرض  والعلوم المرجعية وتاريخ الطبيعة وعلم النباتات وعلم الحيوانات وعلوم الحياة وعلم كيمياء الأحياء وعلم الوراثة وعلم "ما بعد الوراثي المخي" (Épigenèse cérébrale ).  يقول هذا العلم الجديد أن الذكاء تصنعه مليون مليار وصلة عصبية بين الخلايا المخية في تفاعل يومي ومستمر بين الوراثي والمكتسب.

يقول صاحب السيارة: "أخيرا نقص ثمن البنزين"، يعلّق المترجل: "وارتفع ثمن علاج سرطان الرئتين".

نتعلم حتى نعرف كيف نحافظ على البيئة وكيف نقاوم تبذير المياه والإفراط في استعمال مبيدات الأعشاب ومبيدات الحشرات وتسرّب المعادن الثقيلة في أجسام السمك المستهلك وتكاثر الملوثات العضوية الدائمة وكثرة  الفضلات المنزلية وزراعة البذور المعدلة وراثيا وإشعاعات النفايات النووية وتزايد الاحتباس الحراري جرّاء اتساع ثقب الأوزون وانتشار السيدا (مع الإشارة أن ليس للسيدا علاجٌ شافٍ ولا تلقيح واقٍ حتى الآن) وتغليف الأسقف والجدران بالأميانت أو الورق الحراري (L`amiante) ونقل الدم الملوث (منذ 10 سنوات تقريبا، أصاب دمٌ ملوثٌ بفيروس السيدا العديد من الكهول وخاصة الأطفال، حدث هذا في منشئه بفرنسا وفي بعض الدول التي استوردته كالعراق وتونس وليبيا) وعدوَى انفلونزا الطيور والخنازير (أصابت الملايين من المواطنين بالهلع دون مبرّر وأصابت بعض الدول بالعجز المالي نتيجة شراء التلاقيح المضادة) وظهور الأمراض الناتجة عن العدوى داخل المستشفيات (les maladies nosocomiales) وارتفاع نِسب التلوث الجوي والبحري والبري والصوتي.

نتعلم البيولوجيا حتى نشارك في حل مشاكل البشر  بالطرق الطبية الحديثة التالية:

العلاج الجيني (Thérapie génique)

العلاج الجيني هو إستراتيجية علاجية ترتكز على إدخال جينات في خلايا أنسجة الفرد لعلاج المرض. يهدف العلاج الجيني إلى استبدال ِجِينة أو مورّثة متحولة مَعِيبة بجينة سليمة وظيفية أو الزيادة في إنتاج بروتين قد يكون لنشاطه تأثير علاجي على الجسم.

 

 

http://www.google.fr/images/cleardot.gif.

الاستنساخ العلاجي (Clonage thérapeutique )

يمكن أن يؤدي  الاستنساخ البشري العلاجي إلى إنتاج أعضاء أو خلايا وهو يمثل تحديا أساسيا قد يعزز إمكانية زرعِ أعضاءٍ أو خلايا لتحل محل أخرى متضررة  أو مدمرة تماما مع ضمان توافقها الجيني مع المريض المضيف. قد يكون للاستنساخ العلاجي فائدة مزدوجة تتمثل في معالجة الأزمة الناتجة عن النقص في الأعضاء الممنوحة وتجنِّبُ المريض المستفيد مشقة أخذ العلاج مدى الحياة ضد احتمال رفض العضو المزروع من قِبل الجسم المستفيد.

الإنجاب بمساعدة طبية (Procréation médicalement assistée)

تمثل التكنولوجيا الإنجابية مجموعة من الممارسات الطبية والبيولوجية حيث تسمح بالانجاب  للأزواج المصابين بالعقم. على الرغم من الارتباك الشائع ، لا ينحصر الإنجاب بمساعدة طبية  في الإخصاب في الأنابيب أو التخصيب في المختبر ونقل الأجنة فقط وهي ليست إلا طريقة من بين طرق أخرى (تسمى هذه التقنية البيولوجية عادة بأطفال الأنابيب وهي تسمية قد تجر التلميذ إلى الخطأ فيذهب في ظنه أن الجنين يكبر ويتكون داخل أنبوب والواقع أن تلقيح البويضة بواسطة الحيوان المنوي هو فقط الذي يتم داخل أنبوب في المختبر ثم يُنقل "الجنين-المضغة" إلى رحم أمه أو رحم كراء (أو رحم اصطناعي في المستقبل الواعد البعيد-Henri Atlan) حيث يكمل التسعة أشهر مثل أي جنين عادي.

 

نحاول الآن إدماج تطلعات جديدة في التعليم مثل التربية البيئية والتنمية المستدامة والتربية الأسرية أو الصحية أو الجنسية.

نبحث في الميدان ونحتك بالمحترفين ليس فقط في المعارف المدرسية النظامية (  Savoirs disciplinaires) بل في المعارف الأفقية (Savoirs transversaux) والمواقف (Attitudes) والتمشيات (Démarches) وكيف أكون (Savoir-être) وما هي مواقفي؟ أحاول اكتساب الحيرة العلمية والثقة بالنفس والحس النقدي والرغبة في البحث والفهم والتواصل والانفتاح على المحيط والخيال الإبداعي. ما هي مهاراتي؟ (Savoir-faire) وتمشياتي مثل المنهجية التجريبية (Méthode expérimentale) والمقاربة الشاملة (Approche systémique) وتملّك المعلومة (Maîtrise de l’information ) وتوضيح "الوضعية-المشكل" (Clarification de la situation-problème)  والنَّمْذَجَة والتطبيق الافتراضي (Modélisation et simulation)   والمحاججة (Argumentation) وتوظيف المعرفة في المكان والتوقيت المناسب (Mobilisation du savoir  ) والدهشة والمشاهدة والملاحظة (Observation) وطرح الفرضيات (Hypothèse) والتجريب (Expérimentation) والتفكير (Raisonnement ) والتأويل (Interprétation ) ثم نستنتج (Conclusion).

محطات منفصلة في البحث العلمي، لا تربطها إلا علاقات خطية متكلّسة، فاتها البحث العلمي وعوّضها بشبكة معقدة من العلاقات بين الفرضية والتجربة والإشكالية والاستنتاج. يراوح الباحث ويجسّر [يبني جسورا] بين الأربع محطات المذكورة أعلاه دون ترتيب ودون تمييز ودون تزمين.

 

علينا أخيرا ربط الاستهلاك بالمواطنة من خلال مقاربات محسوسة وذات معنى لا أن نضيِّع جهدا ونلوث محيطات من أجل صنع دراجة بسيطة مثلا: تُصنع قطع غيارها في 30 دولة مختلفة، منها على سبيل الذكر لا الحصر، إيطاليا، البرتغال، بلجيكا، تايلندا، اليابان، ايرلندا، الصين، تايوان، إلخ... وتُجمّع في سلوفاكيا. تُنقل هذه القطع من أقصى العالم إلى أدناه عبر الزوارق في الأنهار وفوق الشاحنات في السهول والجبال وفي الطائرات وداخل البواخر في البحار والمحيطات.

 

خلاصة الموضوع

نحاول إخضاع تدريس البيولوجيا وتكنولوجيتها إلى وقفة تأمل في الأهداف والغايات ونضيف في البرنامج تدريس علم الأخلاق والإبستومولوجيا وعلم الاجتماع وتاريخ العلوم  و"إدراك عملية الإدراك" (La Métacognition)  حتى نفهم تعقّد العلوم (La complexité) والصُّدْفَوِي فيها (L’aléatoire)  وغير المحقق أو المشتبه فيه (L’incertain). لكن يبدو أن تغيير السلوك والقِيم مهمة صعبة جدا.

ملاحظة: العالم الفرنسي "أندري جيوردان" هو خَلَفُ العالِم السويسري المشهور البيولوجي والابستومولوجي "جان بياجي" مؤسس مخبر تعلّمية وابستومولوجيا العلوم بجنيف (Laboratoire de  didactique et épistémologie des sciences  - LDES) منذ وفاة الأخير في 1980.

 


ما هي أسباب عدم قدرة التلميذ التونسي على توظيف معلوماته ؟ (جزء 2 والأخير)

 

إشكالية تعترضني يوميا كأستاذ في القسم: ما هي أسباب عدم قدرة التلميذ التونسي على توظيف معلوماته ؟

المكان : الجمهورية التونسية.

الزمان: الثلاثية الأولى من العام الدراسي 2010/2011.

المستوى التعليمي: السنة أولى ثانوي (ما يقابل أربع سنوات قبل الباكلوريا).

المادة: علوم الحياة و الأرض باللغة الفرنسية.

اللغة (رسميا الفرنسية وشبه رسميا العربية): كل جملة أكتبها أو أقولها، أترجمها بالعربية نظرا لمستوى التلامذة المتدني في اللغة الفرنسية. بعض زملائي -الله يسامحهم- من أساتذة علوم الحياة والأرض أوالرياضيات أوالفيزياء والتقنية ركنوا للحل الأسهل والأنجع ظاهريا وآنيا. حلٌّ يتمثل في تدريس العلوم  باللهجة التونسية الدارجة المهذبة في القسم أو في الدروس الخصوصية اعتقادَا منهم أنهم بصنيعهم هذا قد  يتفادون عائقَ اللغة الفرنسية غير المفهومة من قِبل جل التلامذة التونسيين خريجي التعليم الأساسي المعرّب. بهذه الطريقة المشوهة قد يفهم التلامذة أحسن وقد يفرح الأستاذ بمشاركة تلامذته وتجاوبهم لكن ينسى الاثنان أو يتناسيا أن الامتحان الرسمي في فروض المراقبة والفروض التأليفية يُقرأ ويُكتب ويُنجز باللغة الفرنسية فقط وأن كل الشعب العلمية في الجامعة تُدرّس بالفرنسية أيضا.

بكل لطف وصدق ودون مزايدة أو مجاملة أو أبوّة أو تعالٍ فكلنا في "عدم الكفاءة" تونسيون، يبدو لي أن ترتيب تلامذتنا  كان في آخر القائمة في تقييمات بعض المنظمات العالمية مثل تقييم منظمة "تيمس"(الاتّجاهات في الدراسة العالمية للرّياضيات والعلوم) و تقييم منظمة "بيزا" (برنامج التقييم الدولي للطلبة) وهذا الأخير هو عبارة عن مجموعة من الدراسات التي تشرف عليها منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية كل ثلاثة أعوام بهدف قياس أداء الأنظمة التربوية في البلدان الأعضاء وفي بلدان شريكة.

هذه الشهادة العالمية العلمية التي أثبتت "عدم كفاءتنا" في تكوين تلامذتنا تتناقض مع شهادة الامتياز الصادرة  عن وزارتنا الموقرة والمتجسمة في نتائج الباكلوريا التونسية المضخمة بالإسعاف.

بعد هذا التمهيد غير المريح لي ولزملائي، ألفت نظر زملائي المحترمين وتلامذتنا الأعزاء إلى أهمية اللغة العلمية السليمة في إنتاج العلم. يبدو لي أن العلم لا يقتصر على طرح الإشكاليات العلمية وفهم وحل المشاكل فقط بل يتجاوز هذه المرحلة المهمة إلى التعبير الكتابي والشفوي الضروريين لنشر هذه المعرفة بلغة علمية سليمة. نلاحظ أن جل العلماء ومنتِجي المعرفة يعملون أساتذة في الجامعات و كُتّابا في المجلات العلمية المختصة لذلك وجب عليهم إتقان لغة حية ومن المستحسن أن تكون الأنڤليزية عِوض الفرنسية وللأسف الشديد لا يمكن أن تكون العربية في عصرنا هذا لتخلف العرب في كل المجالات العلمية الحديثة. أظن أنه لا توجد مجلة علمية واحدة مختصة ذات قيمة علمية عالية مكتوبة بالعربية وحتى العلماء الفرنسيون أنفسهم أصبحوا مجبورين على النشر باللغة الأنڤليزية، اللغة العلمية العالمية المتواجدة في الساحة دون منافس.

الأستاذ التونسي والتلميذ التونسي هم ضحايا ومسؤولين في الوقت نفسه. مسؤولون لأنهم لم يبذلوا مجهودا إضافيا لسد الثغرات في التكوين العمومي الرسمي. ضحايا سياسة تربوية تونسية تسمح بتدريس العلوم بالعربية من السنة الأولى إلى السنة التاسعة أساسي وفجأة وفي السنة الموالية أي الأولى ثانوي (ما يقابل أربع سنوات قبل الباكلوريا)، يجد التلميذ نفسه غير مؤهل لمتابعة دروس العلوم بالفرنسية فيتقوقع حول نفسه وينغلق ويبتعد شيئا فشيئا عن التعلّم لعدم تسلّحه بأدواته الضرورية وخاصة الأداة الأساسية المتمثلة في اللغة الفرنسية في دولة لغتها الرسمية في الدستور هي اللغة العربية. كنتُ دوما أذكّر تلامذتي بهذه الحقيقة المرة، الحقيقة التي تقول أن اللغة الفعلية الأولى في التعليم العلمي التونسي هي الفرنسية وليست العربية. الانتقال من تدريس العلوم بالعربية إلى تدريسها بالفرنسية في تعليمنا التونسي، يَعتبره  مصممو البرامج تحوّلا سهلا في الأذهان، وهو في الواقع يمثل عائقا تعلّميا (يعني ناتجٌ عن الطرق البيداغوجية العقيمة المستعملة من قِبل الأساتذة و المعلمين)، عائقا يصعب تجاوزه من قِبل تلامذة أبرياء وأساتذة غير متكونين. يبدو لي أن التلميذ التونسي أضحى ضحية سياسة تربوية خاطئة، أما الأستاذ التونسي فعذره الوحيد أنه لم يشارك في تخطيط هذه السياسة الخاطئة لكنه مجبرٌ على مواجهة تداعياتها الكارثية على حساب صحته ونجاعة أدائه البيداغوجي.

 

أعرض عليكم بعض أسباب عدم قدرة التلميذ التونسي على توظيف معلوماته

ما دامت الوزارة عاجزة عن تعريب العلوم في الثانوي بعد عشرين عاما من تعريبها في الإعدادي فلماذا لا تتراجع في قرارها وتُفرنس مؤقتا العلوم في الإعدادي (ولو درّستها مؤقتًا بالأنـﭬليزية في جميع مراحل التعليم لكان أفضل) حتى تستعد جديا وتستعيد تعريب العلوم في التعليم التونسي بجميع مراحله مثل بعض البلدان العربية لكي لا يضيع جيل كامل من التلامذة بسبب التردد السياسي لوزارة التربية التونسية في تعميم التعريب على جميع مراحل التعليم.  أنا مبدئيًّا لست ضد تعريب تدريس العلوم في تونس لكنني ضد الارتجالية وعدم الاستعداد.

مثال حي:

عنوان الدرس الرابع في برنامج السنة أولى ثانوي في مادة علوم الحياة والأرض: تحسين الإنتاج النباتي.

إشكالية الدرس: ما هي الوسائل التقليدية والعصرية لتحسين الإنتاج النباتي ؟

سير الدرس: في أول الحصة، طلبتُ من تلامذتي أخذ ورقة بيضاء وكتابة أسماء هذه الوسائل بالفرنسية أو بالعربية دون شرح أو تفصيل وقلت لهم: إن لم تجدوا الكلمات باللغة الفرنسية فعليكم الاستعانة بالمعجم "الفرنسي-عربي" الملحق بكتابكم المدرسي. انتظرت عشر دقائق ومررت بين الصفوف أقرأ ما كتبوا. وجدوا وسيلتين فقط، "الماء والأملاح المعدنية" وهذان المفهومان يمثلان عنوانَيْ الدرس الأول والثاني. حاولت إثارتهم وتحفيزهم ذهنيا بقولي: أنا متأكد مائة بالمائة أنكم كلكم ودون استثناء تعرفون الجواب كاملا وجيدا. لم تُجْدِ طريقتي نفعا إلا عند بعض المتفوقين وعددهم لا يتجاوز الاثنان في كل قسم.

بعد انتظار دام خمس دقائق، تدخلت معاتبا ومشجّعا: سأبيّن لكم بالدليل القاطع أنكم تعرفون الجواب وتحملون معلومات لكن لم تستطيعوا توظيفها في المكان المناسب والوقت المناسب.

مَن منكم لا يعرف أن حرث الأرض يحسّن الإنتاج النباتي ؟ وكانت إجابتهم الجماعية بنعم. توالت أسئلتي:  مَن منكم لا يعرف أن اختيار البذور واستعمال البيوت المكيفة وتخصيب التربة بالأسمدة العضوية والري قطرة قطرة والقضاء على الأعشاب الطفيلية والحشرات الضارة يحسّن أيضا الإنتاج النباتي ؟ توالت إجابتهم الجماعية بنعم. استنتجت من أجوبتهم أنهم يحملون معارف كافية حول إشكالية الدرس لكن يُعيقهم توظيفها بلغة علمية فرنسية سليمة. قلت لهم أن هذه المعلومات تُعتبر ثقافة علمية عامة يمتلكها حتى رجل الشارع الأمي لكن لا يستطيع أن يعبر عنها كتابة أو مشافهة بلغة علمية فرنسية سليمة وهنا يكمن الفرق بينه وبينكم، أنتم علماء المستقبل وبُناة نهضتنا إن كُتِب لنا يوما أن نستفيق من سباتنا الموروث والمكتسب وننهض من تخلفنا الذاتي والمدبّر في نفس الوقت من قِبل عدونا الخارجي الغربي والإسرائيلي وعملائهم المحليين في الداخل.

أرجع وأقول أن التلميذ ضحية ومسؤول في كل حالات فشله التعليمي. التلميذ هو ضحية مدرسة سلوكية لـ"واتسون" و"سكينر"، نطبقها في تونس منذ الاستقلال إلى اليوم، جانفي 2017. تعتمد هذه المدرسة على الإثارة والجواب مثل ما يفعل عالم النفس السلوكي مع فأر التجارب. طريقة بيداغوجية تلقينية تعتمد الحفظ واستحضار المعلومات يوم الامتحان دون تفكير. وقد عبّر عنها التلامذة في مظاهراتهم عندما رفعوا شعار "بضاعتكم رُدّت إليكم". صدق التلاميذ، نعم هي بالفعل بضاعتنا نحن الأساتذة. بضاعتنا، لأن التلامذة لم يشاركوا في صنعها أثناء عملية التعلم وبقوا في أحسن الحالات يتفرّجون على أستاذ يعمل بمفرده في القسم، يسأل ويجيب نفسه، يكتب بالطباشير ويفسّخ ما كتبه فوق سبورة تقليدية عمرها مائة سنة، يحضّر المجهر ويدعو التلامذة للمشاهدة دون مشاركة، يجرّب ثم يعرض النتائج على تلامذة مبهورين باستعراض عضلات أستاذهم "القدير والكفء". كيف تطلب إذن من تلميذ ترعرع في مدرسة تقتل المواهب بهذه الطريقة أن يوظف معلوماته لحل مشكل علمي يعترضه لأول مرة مهما كان بسيطا. التلميذ مسؤول عن فشله الدراسي أيضا لأنه لم يبذل مجهودا إضافيا وقد تفطن جل الأولياء القادرين ماديا إلى نقطة الضعف هذه في المدرسة العمومية وضحّوا من أجل تكوين أبنائهم في الدروس الخصوصية وأصبح الولي ينفق ما يقارب المائتي دينار شهريا (ما يساوي نصف مرتب شهري أدنى لعامل في تونس) بين دروس الرياضيات والفيزياء وعلوم الحياة والأرض والأنڤليزية والفرنسية وغيرها. ماذا يفعل الفقراء في هذه الحالة ؟ ونحن معشر الأساتذة من الفقراء باستثناء شبه زملائنا الأساتذة، مقاولي الدروس الخصوصية مع العلم أنني لا أدين هؤلاء الأخيرين لو طبقوا القانون المنظم للدروس الخصوصية، 12 تلميذًا من تلامذة أقسام لا يدرّسونها، موزعين على 3 مجموعات منفصلة في قاعة تدريس محترمة وليس 20 في "ﭬاراج". ماذا يفعل هؤلاء الفقراء المسحوقين طبقيا والعاجزين ماديا وهم يرون أبناءهم يضيعون أمام أعينهم ولا يقدرون ماديا على إنقاذهم من براثن مدرسة عمومية لا تقوم بواجبها في تأهيل النشء لبناء معرفته بنفسه حسب المدرسة البنائية لـ"بياجي" و"فيڤوتسكي"، مدرسة غير مطبقة في تونس حتى الآن رغم اعتمادها شعارا سياسيا من قِبل وزارة التربية التونسية، شعار تجْني من ورائه سياسيًّا الكثير ولا تخسر من أجل تحقيقه مليما واحدا.

حِفظ المعلومات مهم، لكن توظيفها أهم وليس من قبيل الصدفة أننا وبعد نصف قرن من الاستقلال  لم نصنع علماء ولم ننتج عِلما تجريبيا أو رياضيا أو إنسانيا ما عدى الأدمغة الوطنية المهاجرة التي بنت علمها في بيئة مغايرة حيث تتوفر الحرية والكرامة وظروف العمل المُثلى لإنتاج المعرفة مثل ما فعل أحمد زويل وفاروق الباز ومحمد الأوسط العياري وغيرهم كثيرون.

 


تبسيط المفاهيم العلمية في القسم قد يجرّ التلميذ إلى الخطأ

 

يتجاذب التفكير العلمي المعاصر مقاربتان المقاربة التحليلية (Approche analytique)  والمقاربة الشاملة  أو المقاربة المنظومية (Approche systémique  ).

         يقارن "جوآل دي روسناي" المقاربتين في كتابه "الرؤيا الشاملة" (Le Macroscope) صفحة  119.

 

1.    المقاربة التحليلية

-         تعزل العناصر وتركز عليها.

-         تعتمد على الدقة في التفاصيل.

-         تبدل متغير واحد في الوقت الواحد.

-         مقاربة ناجعة عندما تكون التفاعلات خطية وضعيفة.

-         تؤدي إلى التعليم التقليدي، يعني كل مادة تعليمية على حِده.

 

2.    المقاربة الشاملة

-         تربط العناصر وتركز على التفاعلات بينها.

-         تعتمد على الإدراك الشامل للمسألة والرؤية من كل الجوانب ولا تهمل أي زاوية من الزوايا مهما كانت ضعيفة.

-         تبدّل مجموعات من المتغيرات في نفس الوقت.

-         مقاربة ناجعة عندما تكون التفاعلات غير خطية وقوية.

-         تؤدي إلى التعليم الحديث عبر تعّلمات المواد المشتركة مثلا: الربط والجمع في قسم واحد وفصل واحد بين تدريس مادتين، مثلاً: الفيزياء وتدريس علوم الحياة والأرض.

 

تكمن نجاعة المقاربة التحليلية السببية الخطية في بساطتها وسهولة استعمالها فهي مريحة ومطمئنة للإنسان لأنها ترسم علاقة خطية مباشرة بين السبب والنتيجة, مثلا: المرض نتيجة الجراثيم (قد يكون نتيجة دواء مثل مضادات الالتهاب) والسمنة نتيجة كثرة الأكل (قد تكون نتيجة قلة الحركة) والسلوكيات نتيجة الجينات (قد تكون نتيجة   التفاعل بين الجينات والمحيط).

رغم بساطتها أسهمت المقاربة التحليلية في تطور العلوم التجريبية كعلم الجراثيم وعلم الوراثة لكنها أصبحت الآن عاجزة بمفردها عن تفسير بعض الظواهر المعقدة بل أصبحت عائقا في وجه التعلم لأنها تختزل العلاقة في سبب ونتيجة وتنسى أو تتناسى العلاقة الجدلية بينهما:  مثلا: المخ يؤثّر في السّلوك والسلوك يؤثّر في المخ, المعلم يعلم التلميذ ويتعلم منه, الإنسان يلوث المحيط والمحيط الملوث يضر بصحة الإنسان, إلخ.

يعتمد بعض مدرسي البيولوجيا في تدريسهم لعلم الوراثة على المقاربة التحليلية السببية الخطية فقط. وفي هذه الحالة قد تؤدي المقاربة الخطية في تناول علم الوراثة إلى الحتمية الوراثية التي تؤكد أن كل جينة تحدد مسبقا صفة ما. ونحن نعرف أن الكائنات الحية معقدة بطبيعتها وكل عناصرها البيولوجية الداخلية متفاعلة فيما بينها ومتفاعلة في الوقت نفسه مع المحيط الخارجي. إذا كانت الحياة معقدة بطبيعتها، فهل يمكن أن يكون تدريسها مبسطًا ؟ اذا كان هذا التبسيط من أجل الضرورة البيداغوجية فالنتيجة عكسية لأن المعلومة غير العلمية ترسخ في ذهن التلميذ مثل المعلومة العلمية ويصعب تصحيحها في ما بعد كما ذكرت في فقرة "التصورات الخاطئة لا تزول بسهولة".

عندما يعتمد المدرس المقاربة التحليلية الخطية يجد نفسه مجبرا على تبسيط الشبكات المعقدة:

         نأخذ مثلا علاقة الجينات بالصفات, صحيح أن لون العينين وفصيلة الدم هما صفتان محددتان مسبقا بالوراثة وصحيح أيضا أن كثيرا من صفاتنا الشكلية كلون البشرة ومرض السمنة وغيرها مكتوبة بصفة رمزية في الجينات لكن يجب علينا أن لا ننسى دور المحيط في تشكيل هذه الصفات فالأسمر تزيد سمرته أو تنقص حسب بيئتة والسمنة مرتبطة بالحمية والحركة. لا يكمن الخطر في التحديد المسبق للصفات الجسمية الدنيا مثل لون البشرة بل يتمثل الخطر في تعميم هذه الحتمية الجينية على القدرات الذهنية فنصبح نفسر خطأً أن أفعال المرء وسلوكياته الاجتماعية هي نتيجة عوامل وراثية لا سلطة للمحيط عليها مثلما يحاول بعض العلماء إيهامنا بأنهم اكتشفوا جينة إدمان الكحول وجينة المثلية وجينة العنف وجينة الذكاء وحتى جينة الإيمان بالله (مجلة العلم  والحياة Science & Vie  عدد 1055 أوت 2005).   هذه المقاربة الخطية أنتجت في علم الوراثة إطارا للتفكير (براديـﭬم   paradigme) يُسمَّى "الكل الوراثي" (paradigme du tout génétique) الذي هيمن على التفكير عشرات السنين لكن المنظّر في البيولوجيا "هنري أتلان" تنبأ بانهياره في كتابه "نهاية الكل الوراثي ؟ نحو براديـﭬمات جديدة في البيولوجيا" الصادر في باريس سنة 1998.

تكمن غير علمية هذا الإطار للتفكير المسمى "الكل وراثي" في تأليه الجينات والتسليم بنتائجها, فالذكاء والصحة هبة من الجينات والمرض والعنف قدرٌ مسلط من قِبلِها. قد ينتج عن هذا النسق عديد المواقف غير العلمية,  فيصبح العنف والمرض والذكاء صفات وراثية وليست مكتسبة من التفاعل مع المحيط الاجتماعي. يبدو أن هذا البراديـﭬم  المتسربل بالعلم ليس حياديا لأنه  يُغلّب، في تفسيره للصفات الإنسانية، الجانب الوراثي على الجانب المكتسب. قد يؤدي الاعتماد على هذا البراديـﭬم  في تفسير أسباب المشاكل الاجتماعية كالعنف والفشل الدراسي وتعاطي المخدرات إلى الاقتصار على العوامل الوراثية فقط وإهمال العوامل الاجتماعية المكتسبة.

 

خلاصة القول

يتمثل تدريس البيولوجيا في تفسير الظواهر الطبيعية المعقدة والتركيز على التفاعلات التي تقع بين عناصرها المتعددة لذلك يحتاج المدرس إلى الاستعانة بالمقاربتين, التحليلية والشاملة, لأن كل واحدة منها تكمّل الأخرى ولا أفضلية لواحدة على منافستها.

يُعتبر مفهومَا التفاعل والتعقيد (l’interaction et la complexité) مفهومين مهمين في العلم، مفهومان يكملان مفهومَيْ الخطية والتبسيط (la linéarité et la simplification)  ويؤسسان لِـبراديـﭬم علمي جديد. هذان المفهومان الجديدان قد لا يسهّلان فك رموز مسألة علمية ما بل بالعكس قد يعقّدانها لكن في نفس الوقت يضعانها على الطريق السليم للوصول للحل العلمي. خذ مثلا الذكاء, فهو "وراثي % 100 ومكتسب%  100 " حسب المقولة الشهيرة لعالم الوراثة المشهور بنضاله الاجتماعي ومساندته العلنية لفاقدي السكن القار، العالم الجيني "ألبير جاكار": نحن نرث عن والدينا مخا بشريا يتكون تقريبا من مائة مليار خلية عصبية. تقع داخل كل خلية مليارات من التفاعلات الكيميائية. وكل خلية ليست بمعزل عن محيطها فهي تتبادل مع مثيلاتها مليارات من العناصر الكيميائية المتغيرة باستمرار وهي قادرة بمفردها على ربط عشرة آلاف وصلة عصبية مع جاراتها. نكتسب من خلال تفاعلنا مع المحيط وحسب تجربتنا الشخصية مليون مليار وصلة عصبية (10 puissance 15 synapses)   تبنيها أو تعيد بناءها خلايانا المخية بعد الولادة. لنعلم أن عدد الجينات عند الإنسان حسب آخر إحصاء سنة 2001 لا يفوق 30 ألف جينة. نسبة %  98,9 منها مكررة أو صامتة أي لا دور معروف لها الآن ونسبة   1,1 % فقط  صالحة لصنع البروتينات. نصل إلى الاستنتاج التالي: النموذج التحليلي السائد "جينة واحدة تبرمِج لصنع  بروتينة واحدة" لم يعد قادرا وحده على تفسير وجود عشرات الآلاف من البروتينات ومليارات الوصلات العصبية ومليارات الأجسام المضادة المكونة لمناعة الجسم المتطورة والمتجددة حسب تعرّض الجسم لهجومات الأجسام الدخيلة من جراثيم وبروتينات أجنبية وجزيئات معدنية ملوثة.

         أختم هدا الخطاب بطرح الإشكالية التالية: كيف ندرج المقاربة الشاملة في كل مستويات التعليم التونسي حتي لا تطغى المقاربة التحليلية وحدها على التفكير العلمي ؟

 


خطأ التلميذ في القسم، قد يفيد المعلّم والمتعلّم

 

أنطلق دائما من نفس البحث الذي أجريته عام 2000 علي عينة تونسيّة تتكوّن من74   شخصا مستوي تعليم عالٍ.

السؤال المطروح في البحث: أعطوا تعريفا مقتضبا للخليّة العصبيّة ؟

نتائج البحث: 6 أشخاص من المستجوبين أعطوا تعريفا صحيحا وكاملا,  59 أعطوا تعريفا صحيحا لكنه ناقص, 1 أعطى تعريفا خاطئا و8 لم يجيبوا علي السّؤال. 

نستنتج من هذا البحث، البسيط والمحدود في العدد والزمان والمكان، أنّ المتخرّجين من التعليم العالي قد يخطئون في بعض الأحيان, و لا أستثني نفسي طبعا, فما بالك بالتلميذ ؟

لِننظر في وضع الخطأ في المنظومة التربويّة عموما: كتب الباحث الفرنسي "ميشال سارول" )1990( في كتابه "تساؤلات حول التقييم، صفحة 110: نقتبس منه بنوع من التصرّف  ثلاثة آراء مختلفة حول مكانة الخطأ ودوره في التعليم:

ـ العالم السّلوكيّ الأمريكيّ "سكينر" يعتبِر أن الخطأ مضرّ بيداغوجيّا.

ـ "كراودر" يقول إن الخطأ ليس ممكنا فقط بل متوقّعا في تكوين التلميذ.

ـ في نظام "لوڤو" للتّعلّم بالحاسوب, حيث يبرمج المتعلّم الكمبيوتر بنفسه, يُعتبَر الخطأ, ليس فقط ممكنا أو محبّذا, بل طريقة تربويّة تشجّع التلميذ علي اكتشاف الأشياء بنفسه.

 

تُوزَّع المساحة المخصّصة للخطأ في الدرس بين التعليم الخطّي أوالفوقيّ )من الأستاذ إلي التلميذ( والتعليم  المتفاعل )من الأستاذ إلي التلميذ ومن التلميذ إلي الأستاذ ومن التلميذ إلي التلميذ)، حيث يأخذ الأستاذ في اعتباره تصوّرات التلميذ حول موضوع الحصّة ويمكّنه من بناء معرفته بنفسه متفاعلا مع الخطأ. فالخطأ ينشّط انتباه التلميذ ويدفعه إلي إعادة التفكير والبحث عن الأسباب.

أقترح عدّة طرق لإصلاح الخطأ استنادا إلي مقال ورد في نفس الكتاب المذكور أعلاه صفحة 123 للأستاذين "ﭬرانج"  و"رفّان":

ـ يأخذ التلميذ على عاتقه إصلاح خطئه أو يستعين بزميله.

ـ يقف عمل الأستاذ عند هذا الحدّ إذا كان الإصلاح الذاتي صحيحا لتشجيع التلميذ على الاعتماد على نفسه وتوظيف معلوماته.  والمدرسة البنائيّة المنسوبة إلى "بياجي"  و"فيڤوتسكي" تحبّذ هذا التّمشّي لأنه يخفّف من وصاية الأستاذ على التلميذ.

ـ إذا كان الإصلاح الذاتي خاطئا, يقوم الأستاذ بحثّ التلميذ على الرّجوع إلي التجربة أو إلى الدرس أو يعطيه معلومات إضافية أو يسأله شفويا أو كتابيّا حتى يساعده من جديد علي البحث على الجواب الصّحيح.

 

وإذا عرفنا أن العلوم التجريبيّة تقدّمت عبر سلسلة طويلة من الأخطاء فلا نعجب من خطأ ارتكبه التلميذ في القسم أو نلومه عليه أو ننهره. عندما يخطئ التلميذ، يستفيد هو وزملاؤه أوّلا لأنهم سيعرفون الجواب الصّحيح ويستفيد الأستاذ ثانيا لأنه سيكتشف مستوي تلامذته مما يجبره على إعادةِ أو تعديلِ درسِه تماما أو تقديمِ درسٍ مغايرٍ في بعض الأحيان.

 

نرجع الآن إلى واقعنا التّونسيّ بعد عرض النّظريّات )يعيبون عليّ دائما الاستشهاد بالنّظريّات وهل هنالك عمل لا يعتمد على نظريّات مسبّقة ويبدو لي أن كل عمل تطبيقي جيد تسبقه بالضرورة نظرية علمية جيدة( وأطلب بكل لطف من زملائي التحلي بسعة الأفق لأن كل الأخطاء الّتي سأعرضها عليهم قد قمنا بها سابقا ويمكن أن نقع فيها لاحقا فلا تغضبوا منّي وخذوا ملاحظاتي على أنها وجهة نظر لا أكثر ولا أقلّ: بعض الأساتذة يحتكرون الكلمة ويستعرضون عضلاتهم الفكريّة في القسم ولا يتركون مجالا للتلميذ الجيّد حتى يتمرّن علي التجربة والخطأ ويُقصون التلميذ الذي يتعرض لصعوبات في التعلم, ليس عن قصد بل عن جهل بتاريخ وفلسفة العلوم وتعلّميّة المواد. قد يتعقّد التلميذ المقصي وينفر ويكره المادّة والأستاذ.

أعطي أمثلة علي ما سبق

ـ المثال الأوّل: في حصّة اللغة الأنڤليزيّة, يتكلّم الأستاذ أكثر من التلميذ حتى يملأ الفراغ الناتج عن عدم توفرِ مخبر مجهز بالحواسيب والسمّاعات الرأسيّة وهنا أطرح سؤالا: إذا لم نوفّر الفرصة للتلميذ كي يتعلّم النطق السّليم والتركيب الصّحيح في المعهد فأين سيتعلمهما إذن ؟

  ـ المثال الثاني: في حصّة مادة علوم الحياة والأرض, يحضّر الأستاذ الخلايا, بين صفيحتين زجاجيّتين, ويضعهما في المجهر ويضبط الرؤية ثمّ يدعو التلامذة للمشاهدة. مَن قال أن التلميذ شاهد الخلايا ولم يشاهد فقاقيع هواء وتصورها خلايا ؟ هل يكتفي التلميذ بمحاكاة الأستاذ حتى يتعلّم ؟ لماذا لا يقوم التلميذ بالتجربة من أوّلها إلي آخرها حتى وإن ارتكب خطأ ؟ ما ضرّ لو كسر التلميذ, عن خطأ, آلة مهما ارتفع ثمنها ؟  في بعض الأحيان يبرر زملائي عدم تشريكهم للتلميذ ويتعللون بكثافة البرنامج أو ضيق الوقت أوالمحافظة علي التجهيزات أوعدم انضباط التلامذة أو الاكتظاظ في القسم ورُب عذر أقبح من ذنب.

 

أرجوكم, اتركوا التلميذ يجرّب ويخطئ وسأحاول الردّ بكلّ لطف وموضوعيّة نسبية على حججكم الواحدة تلو الأخرى وردّي قد يحتمل الصواب والخطأ ككل الآراء:

ـ لنفترض أن البرنامج طويل وأنت قمت بواجبك وأنهيته في الآجال المحدّدة. قمتَ بواجبك نحو مَن ؟ نحو المتفقّد ؟ هل فهم التلامذة نصف البرنامج ؟ ما الفائدة من حشو الأدمغة دون فهم ؟ أستثني برنامج الباكلوريا لأن التلامذة مطالبون بامتحان وطني.

ـ أعلمكم أيها الزملاء الكرام بكل لطف واحترام أن التجهيزات معدّة أساسا للاستهلاك وتُخصّص لها ميزانيّة تعويض كل عام. هل بحجّة المحافظة علي مجهر أو حاسوب نحرم أبناءنا من التعلّم عن طريق التجربة والخطأ ؟ هل أجهزة المخبر أثمن من تكوين مخ تلميذ ؟  أعلمكم أيضا أن لوازم المخابر تُعوّض أما التلميذ الفاشل فلا يُعوّض وفشله قد يكلّف الشعب ثمن ألف حاسوب وألف مجهر.

 ـ التلميذ الّذي يعمل في القسم على حاسوب أو مجهر لا يجد وقتا للتهريج فينضبط بطبيعته ولا يجد مجالا للتشويش.

 ـ المواد الّتي تُجري فيها تجارب مثل علوم الحياة والأرض والفيزياء والتقنية, هي مواد تعمل بنظام الأفواج, يعني نصف القسم,  20 تلميذ أو أقلّ فهي إذن ليست أقسامًا مكتظة في أغلبها.

 

خلاصة القول

الخطأ هو"محرّك القسم" ومثيرٌ للنقاش، فالحصّة التي تخلو من الخطأ هي حصّة ميّتة لا يشارك فيها التلامذة ولا يبدون رأيهم ولن يتعلّمون عِلما ولا حريّة ولا ديمقراطيّة ولا سلوكا حضاريا بل يتربّون علي الذلّ والخنوع للآخر دون نقاش.

علينا أن لا ننسي أن القسم في المدرسة هو المكان الوحيد الذي نقول فيه للمخطئ أحسنت أمّا في الحياة العمليّة فقد يُعاقب الطّبيب أو المهندس المخطئ وذلك بفصله عن العمل وحتى مناظرات التشغيل أيضا لا يُسمح فيها بالخطأ لكثرة المترشحين.  


هل يتحمل التلميذ وحده مسؤولية الغش في الامتحانات؟

 

نذكّر أولا بالحلول التأديبية المطبقة الآن  سنة 2010 في تونس: يُحال التلميذ المتهم بالغش على مجلس التربية في معهده وإذا تبين بالحجة والدليل أنه قام بالغش في الامتحان يُرفت لمدة تتراوح بين 4 و15 يوم وفي صورة إعادة الكّرة يمكن أن يُرفت نهائيا من المعهد مع العلم أن للتلميذ حق الدفاع عن نفسه أمام المجلس لكن دون محامٍ رغم فداحة العقوبة التي قد يتعرض إليها.

أطرح الآن بعض الأسباب الموضوعية وبعض الحلول العلمية لظاهرة الغش

1. الاكتظاظ في القسم: هل يُعقل أن نضع 40   تلميذا في قاعة تَسع 20 ونطلب من كل تلميذ أن لا يسرق النظر إلى ورقة زميله؟ هل التلميذ هو المسؤول عن الاكتظاظ في القسم؟ ربما يكون من الأفضل توفير قاعات واسعة لعدد قليل من التلاميذ قبل محاسبتهم علي الغش.

2. طريقة إلقاء الأسئلة: أنا أتساءل:  ما ضّر لو أدخل التلميذ معه ورقة مكتوب عليها أبياتا شعرية في امتحان الإنشاء أو ورقة مكتوب عليها بعض القواعد في امتحان الرياضيات أو الفيزياء؟ ربما يكون من الأفضل عدم محاسبة التلميذ علي الحفظ في امتحان توظيف المعلومات.

 3. مضمون البرنامج أصبح قديما: لماذا نفرض على التلميذ برامج قديمة لا تراعي اهتماماته الحالية ومن بعد نحاسبه على حفظها وفهمها؟ ربما يكون من الأفضل استشارة التلميذ عبر استفتاء لمعرفة تصوراته وآماله وطموحاته قبل إعداد البرامج المدرسية.

4. المدرسة السلوكية المنسوبة إلي واتسون وسكينر (Le béhaviorisme de Watson et Skinner): نحن نعّلم التلميذ بالتلقين والسؤال والجواب والجزاء والعقاب طوال حياته الدراسية ونرسم له مستقبله دون أن نشركه في بنائه. نعامل التلميذ مثل ما يعامل الباحث السيكولوجي الفأر داخل المتاهة حتى أصبح التلميذ يردد العبارة المشهورة "بضاعتكم ردّت إليكم" وهو مصيبٌ في شعاره فهي فعلا بضاعتنا نفرضها عليه ولم يخترها بنفسه. نجحنا في خلق أجيال تقلّد جيّدا ولا تبادر أبدا!  ربما يكون من الأفضل تطبيق  ما جاءت به المدرسة البنائية المنسوبة إلي بياجي وفيقوتسكي (Le constructivisme de Piaget et Vigotsky)  الّتي تعلّم التلميذ كيف يتعلم بنفسه خاصّة في عالم الانترنات وعالم الموسوعات حيث يستطيع التلميذ أن يتفوّق على أستاذه في بعض المجالات. تعلم "المدرسة البنائية المنسوبة إلي بياجي وفيقوتسكي" التلميذ المبادرة والاستقلالية عن الأستاذ   وتفرض على المربين بجميع أصنافهم اعتبار التلميذ عقلا مستقلا، عقلٌ  يفكّر وينتج وله وجهة نظر محترمة وليس عقلا كالإناء الفارغ نملؤه بما نريد أو صفحة بيضاء نخط عليها ما نشاء.

5. بيداغوجيا الأهداف (PPO : Pédagogie Par Objectif):  ترسم الوزارة أهدافها ويحضّر الأستاذ درسه وأهداف برنامجه دون معرفة مسبقة لتصوّرات التلميذ ويقو م بإنجاز درسه على أحسن ما يرام رغم أنف التلميذ ويكمل برنامجه غير آبه بما تعلم التلميذ. أنا أتساءل: هل أهداف الدرسِ هي أهداف التلميذ أم أهداف الأستاذ أم أهداف الوزارة؟ ربما يكون من الأفضل اعتماد طريقة بيداغوجيا المشروع (Pédagogie de projet )، مشروع التلميذ، لا مشروع الأستاذ، ولا مشروع الوزارة. أقصد مشروع البحث العلمي المشترك بين مادّتين أو أكثر كالفيزياء وعلوم الحياة والأرض. مشروعٌ يختار موضوعَه التلميذُ وينجزه التلميذ داخل فريق بإعانة الأستاذ ويقدمه التلميذ أمام زملائه ولا حاجة إلي حراسة ولا عقاب وبهذه الطريقة قد نقضي على الغش وعلى الأنانية من جذورهما فينشأ التلميذ واثقا بنفسه وبالآخرين. أروي لكم ما شاهدت بأم عيني في معهد في نانسي بفرنسا: رأيت فريقا من تلامذة السنة ثالثة ثانوي يعني عام قبل الباكلوريا يقدّمون مشروعهم في نهاية السنة مستعملين الوسائل الحديثة وهم يتداولون على أخذ الكلمة على المنصة، يشرحون تجاربهم، فخِلتهم طلبة المرحلة الثالثة يدافعون عن أطروحاتهم! اشتغل التلامذة على المشروع عاما كاملا مع بعضهم, تبادلوا المعلومات واستشاروا أهل العلم وقاموا بالتجارب وحدهم في المخبر ووظفوا المعلومات في حلّ مشكل واقعي مثل مشكل "تأثير الأمطار الحامضة على النباتات". "بيداغوجيا المشروع" جعلتهم يعدّون أنفسهم للبحث العلمي بأنفسهم ويتدربون على العمل داخل فريق.

 

خلاصة القول

للغش حلول علمية يتغافل عنها المسئولون والمربون. هؤلاء الأخيرين لا يطبقون إلا الحلول التأديبية على التلميذ الذي يمثل  أضعف حلقة في سلسلة المسؤولين على الغش في الامتحانات. أقرّ أن التلميذ مسؤول نسبيا على عملية الغش ولذلك وجب تأديبه لأن غياب الانضباط (la discipline) في مؤسساتنا التربوية هو نوع من سوء المعاملة لتلامذتنا (L’absence d’autorité est une forme de maltraitance). لكن عندما لا تطبق الوزارة الحلول العلمية وتكتفي بالعقاب يصبح التلميذ كليا ضحية بعد ما كان جزئيا مسؤولا.

 


التصوّرات غير العلمية لا تنهزم بسهولة !

 

أنطلق في هذه الفقرة من البحث الّذي أجراه بيار كليمان, الأستاذ المحاضر بجامعة كلود برنار بليون, على عيّنة تتكوّن من 98 طالبا فرنسيّا في السّنة الأولى طبّ والمنشور في أكاديمية مونتريال سنة 2002 .

السؤال المطروح في البحث: عطشتَ جدّا فشربتَ لترا من الماء، وبعد وقت قصير, شعرتَ بحاجة للتبوّل. ارسُمْ على ورقة، المسار الذي اتبعه الماء داخل جسمك من لحظة دخوله إلى لحظة خروجه؟

نَتَجَ عن هذا البحث ثلاث تصورات (représentations ou conceptions):

التصوّر الأوّل: 55 في المائة من الأشخاص المستجوبين رسموا أنبوبا متواصلا من الفم إلى الكيس البولي مرورًا بالأمعاء. يدخل فيه الماء من الفم ويخرج من الفتحة البوليّة. يُعتبر هذا المسار خطأ علميا لأن الأنبوب الهضميّ منفصل تماما عن الأنابيب البوليّة والأوعية الدموية هي  التي تربط بينهما.

 التصوّر الثاني: 6 في المائة رسموا أنبوبين منفصلين دون أيّ رابط دمويّ بينها, الأوّل يدخل فيه الماء من الفم ويخرج من الشّرج مرورا بالأمعاء والثاني يخرج منه الماء من الفتحة البوليّة وهذا خطأ علمي أيضا.

التصور الثالث: 39 في المائة رسموا ثلاثة أنابيب مرتبطة بسهام, الأوّل يمثل الأمعاء والثاني الأوعية الدّمويّة والثالث الأوعية البوليّة. يدلّ الرسم على أن المستجوبين أصابوا علميا في تصورهم: يمر الماء إلى كامل أعضاء الجسم عبر الأوعية الدموية.

 

استنتج كليمان من هذا البحث ما يلي

رغم أن الطّلبة قد درسوا في الابتدائي والثانوي والعالي المضامين العلميّة اللازمة لتبنّي التصور الثالث السليم, لكننا نستطيع أن نلاحظ أن أكثر من نصفهم ما زال يتمثّل في ذهنه التصوّر الأوّل غير العلمي.

 

بحث كليمان في أسباب عدم انهزام هذه التصوّرات غير العلمية وتوصّل إلى الاستنتاج التالي:

تنبثق التصوّرات من التفاعل الذي يتم بين الثلاثة عناصر الآتية:

العنصر الأوّل:  المعارف العلميّة (les connaissances scientifiques) التي نُشِرت في المجلات المختصّة والكتب المدرسية أو المعلومات الّتي تلقّاها التلميذ في المدرسة.

العنصر الثاني:  مجموعة القيم (les valeurs) التي يتبنّاها التلميذ حول هذا الموضوع.

العنصر الثالث: الوسط الذي يعيش فيه التلميذ وممارساته الشّخصيّة والممارسات الاجتماعية السّائدة في بيئته (les pratiques sociales).

 

بعد التنظير، ننتقل الآن إلى واقعنا التعليمي التونسي لنعطي بعض الأمثلة على هذه التصوّرات غير العلمية الرّاسخة في أذهان تلامذتنا رغم أن المعارف العلميّة اللازمة لتصحيحها تُدرّس في كل المستويات وأسوق لكم الأمثلة المعبِّرة التالية:

المثال الأوّل: سؤال: ما هي أسباب حركات التنفّس عند الإنسان؟

يأتي التلميذ إلى الإعدادي وهو يعتقد جازما أن الهواء يدخل إلى الرئتين وينفخهما فيرتفع الصدر. هذا جواب خاطئ علميا والجواب الصّحيح هو الآتي: تتقلّص عضلات الصدر وعضلة الحجاب الحاجز فتتبعها الرئتان الملتصقتان بهما. يزيد حجم القفص الصدري فيخلق فراغا في الداخل (Un vide) وهذا الفراغ يخلق قوة (Une force) قادرة على جذب الهواء من الخارج عن طريق الفم والأنف. نلاحظ إذن أن دخول الهواء هو نتيجة وليس سببا في حركات التنفّس. يدافع التلميذ على تصوره غير العلمي بقوله أن المعلّم لم يدرّسه المعلومة الصّحيحة وهذا مخالف للواقع لأن بعض التلامذة يحتفظون بهذا التصوّر غير العلمي رغم تصحيح أستاذ الإعدادي للمعلومة ويعيدون استعماله في الثانوي وفي العالي.

المثال الثاني: سؤال: ماذا تتنفّس النباتات الخضراء؟

يأتي التلميذ إلى الإعدادي وهو يعتقد جازما أن النبتة تتنفّس عكس الإنسان, يعني أنّها تمتصّ ثاني أكسيد الكربون وتطرح الأكسجين. هذا جواب خاطئ علميا، والجواب الصّحيح هو الآتي: أثناء التنفّس, الذي يقع في النهار والليل على السواء, تأخذ النبتة الأكسجين وتطرح ثاني أكسيد الكربون مثلها مثل الإنسان والحيوان. من أسباب هذا التصوّر غير العلمي عند التلميذ هو الخلط بين وظيفة التنفّس ووظيفة التركيب الضوئي،  تقع الأولى في الليل والنهار، أما الثانية فتقع بحضور الضوء أي عادة في النهار فقط. أثناء عملية التركيب الضوئي الذي يقع في الضوء فقط, تأخذ النبتة ثاني أكسيد الكربون لتصنع منه المواد العضويّة كالنشا والسكر والدهنيّات والبروتينات ثمّ تطرح الأكسجين.

  المثال الثالث: سؤال: بماذا تتغذى النباتات الخضراء؟

يأتي التلميذ إلى الإعدادي وهو يعتقد جازما أن ثاني أكسيد الكربون يتكوّن من غازات سامّة ومضرّة بصحّة كلّ الكائنات الحيّة ولذلك لا يعتبره مادّة مثلها مثل الأجسام الصلبة والساّئلة. هذا التصوّر غير العلمي يجعل من الصعب إقناع التلميذ بأن هذا الغاز هو مادّة وغذاء للنباتات الخضراء ومنه تصنع شجرة الزيتون الزيت ونبتة اللفت السكري السكّر… ودونه قد نموت جوعا.

المثال الرّابع: سؤال: هل مخ المرأة يساوي مخ الرجل؟

يتمثّل التصوّر السّائد في أن مخ الرجل أكبر في الوزن والحجم من مخ المرأة والخطير هو ما ينجرّ عن هذا التصور من قِيم تحقّر ظلما من شأن المرأة وترفع تمييزا من شأن الرجل رغم أن المعلومة الصّحيحة  تُدرّس  في برنامج الباكلوريا حيث نجد: "يختلف وزن المخ وحجمه حسب وزن الجسم رجلا كان أم امرأة وليس حسب الجنس. أضف إلى ذلك أن الذكاء البشري لا يُقاس بحجم أو وزن المخ بل يُقاس بما يقيمه المخ البشري من وصلات عصبية بين الخلايا المخية نتيجة التفاعل المستمر بين الجينات الموروثة و السلوكات المكتسبة من المحيط الخارجي المتوفر في الطبيعة والتعليم والمجتمع.

المثال الخامس: سؤال: من يشكّل الصفات البشرية؟ هل هي العوامل الو راثية أو العوامل المكتسبة؟

جلّ الناس يعتقدون أن العامل الو راثي هو المحدّد في تكوين الجسم بيولوجيا وذهنيّا ويهملون في أغلب الأوقات دور المكتسب أو يقلّلون من شانه مع العلم أنه يستحيل الفصل بين الاثنين لأن من تفاعلهما الدائم ينبثق الفرد بصفاته البدنية والذهنية.

 

خلاصة القول

يبدو لي أن التصوّرات غير العلمية راسخة في ذهن التلميذ والأستاذ وهي تمثّل منظومة فكريّة متماسكة أثبتت نجاعتها عبر السنين. قد لا نستطيع تغييرها بتصحيح المعلومة الخاطئة لدى للتلميذ فقط. يأتي التلميذ إلى القسم حاملا أفكارا وقِيما ناتجة عن تفاعله مع محيطه المادّي والبشريّ, فهو يتأثر بما يسمع في وسائل الأعلام وما يقرأ وهو كذلك يؤثر في أقرانه. نستنتج إذن أن التلميذ ليس صفحة بيضاء نكتب فيها ما نشاء أو إناء فارغا نملؤه بما نريد بل هو شخصيّة متكاملة وقابلة للتطوّر وقادرة على صنع معرفتها بنفسها كما يقول عالم المعرفة "بياجي".

من الأفضل إذن أن لا نهمل تصوّرات التلميذ في كلّ عمليّة تربويّة لكي لا نكون مثل الذي يبني على أساس هشّ: أعرض عليكم وجهة نظر بسيطة للتعامل مع هذه التصوّرات غير العلمية حسب طريقة تربويّة تعلّميّة:  قبل دراسة أي موضوع, نجمع تصوّرات التلاميذ حول هذا الموضوع ونحلّلها ونستخرج منها العوائق التي تحول دون تملّك المعرفة ونجعل من أهداف درسنا تجاوز هذه العوائق مع العلم أن تصحيح المعلومة وحده لا يكفي لتغيير المفاهيم غير العلمية عند التلميذ وإذا اعتقدنا خطأ أننا تجاوزناها فقد تظهر من جديد لأنها لا تنهزم بسهولة. بكل لطف أدعوكم إلى التّمعّن في هذا التعبير المجازي والمعبّر للأستاذ جونّآر: "عوائق التعلّم كجبل الثلج" , ما خفي منها كان أعظم لأن الأخطاء المعلنة الّتي تنبع من الذاكرة قصيرة المدى والّتي تبدو لنا بسيطة قد تلهينا عن معالجة المنظومة الفكريّة العميقة المخبأة بحرص في الذاكرة طويلة المدى وهي الّتي ترتكز عليها تصوّرات التلميذ ونحن جميعا, مدرسين وأولياء وأقران ووسائل إعلام, شاركنا للأسف في نحتها في مخه.

         أختم هذه الفقرة بطرح الإشكالية التالية: هل نستطيع تغيير التصوّرات غير العلميّة عند التلميذ إذا اقتصرنا على  المدرسة فقط بمعزل عن المجتمع؟

 


هل نستطيع تغيير أو تعديل التصورات غير العلمية بسهولة لدى التلميذ؟

 

"المدرّسون لا يفهمون أن تلامذتهم لا يفهمون" ڤاستون باشلار.

يبدو لي أن المدرس يعتقد خطأ أن تلامذته سيقتنعون بوجهة نظره  لو اكتفى بتصميم   درسه بهدف تجاوز العوائق الابستومولوجية والتعلّمية والنفسية. يبدو لي أنه ينسى أو يتناسى أن التخيلات القوية والمعاناة والعواطف لدى التلميذ قد تكون بنفس الأهمية أو أكثر أهمية من الجوانب المنطقية المقتصرة على عالم المعرفة.

لقد قادتنا تصورات المتلقِّي حول المخ وحول الحتمية البيولوجية إلى تمثل التعلّم أو التدريب على شكل تغيير في التصورات الذهنية.

 

سنعرض في الفقرة التالية بعض وجهات النظر لعلماء حول مفهوم "تغيير التصورات غير العلمية" (Le changement conceptuel )

§        "باشلار" (1989): " بالنسبة لباشلار، الداعي لمقاربة "التطور المتقطع للعلم"، يقع التغيير بعد قطيعة ابستومولوجية (Rupture épistémologique)  حُبلى بالعوائق الابستومولوجية. تُنجز القطيعة عند تجاوز العائق. يرى باشلار أن العلم يتطور عبر سيرورة من القطائع الابستومولوجية التي تقطع مع المعرفة العامة مثلما تقطع مع النظريات السابقة.

§        "بوسنار" (1982): هو العالم الذي أدرج مفهوم "تغيير التصورات غير العلمية " حتى ولو اقتصر مجهوده على نقل إشكالية كلاسيكية من مجال تاريخ وابستومولوجيا العلوم إلى مجال التعلم الفردي (Apprentissages individuels  ). يجوز أن نتحدث على تغيير التصورات الذهنية المستديمة على مستوى شخص. نقول أن هذا الشخص تعلم ما هو معروف عند العلماء عندما يفهم و يستوعب ويهضم ويوظف بسهولة فكرة معقولة وخصبة.

§        "كون" (1983): تغيير التصورات الذهنية هو تغيير في إطار التفكير (Changement de paradigme)  ويقع بعد ثورة علمية.

§        "روملار" (2005): يستعيد فكرة "كون" ويؤكد أن العائق الابستومولوجي (Obstacle épistémologique) هو في حد ذاته إطار تفكير وقد يتمثل تغيير التصورات الذهنية في تغيير أطر التفكير نفسها.

§        "أستولفي" (1997): يعتقد أن النجاح في التعلم أو التدرب يتمثل أولا في إثارة تغيير فكري أكثر من مجرد إضافة معلومات جديدة.

§        "أورانج" (2005): تمثل كيفية طرح المسائل (La problématisation) استراتيجية لتغيير التصورات غير العلمية. نأخذ تصورات التلميذ غير العلمية ونحولها إلى إشكالية حتى نصل إلى عقلنتها وعَلمنتها. ننطلق من سؤال لنبحث في الممكن حتى نقع في غير الممكن والضروري. نطرح سؤالا غير مناسب ثم ننقده وبهذه الطريقة نتعرف على المشكل ونحلله ونفهمه. نحدد الفرضيات التي قد تصيب أو تخطئ. نتخلى عن مسألة الخطأ والصواب ونبحث في الممكن وغير الممكن. وبذلك نهدف إلى الوصول إلى معرفة علمية عقلانية عبر نقل تصورات التلميذ من المعرفة العامة غير العلمية إلى المعرفة العلمية. هذه الأخيرة تجيب على تساؤلات كيف ولماذا عكس المعرفة العامة التي تجيب على سؤال كيف فقط. يمثل تغيير التصورات غير العلمية هدفا من أهداف التعلم. لكن نحو أي تغيير نحن ذاهبون؟ نحو تغيير يقود التلميذ من التصورات غير العلمية إلى التصورات العلمية عن طريق طرح الإشكاليات وحلها وليس عن طريق التلقين والتقليد. لن نصل إلى تغيير في تصورات التلميذ إلا إذا أكسبناه بالتدريب آليات التفكير وطرح الإشكاليات حتى ولو لم نصل به اليوم إلى تصور علمي صحيح.

§        نُنهي هذه السلسلة من وجهات نظر بعض العلماء بفكرة "برّات-كليرمون" (1979) و"جيلّي" (1988): يكوِّن مفهوم "الصراع الاجتماعي المعرفي" (Le conflit socio-cognitif ) استراتيجية جديدة لتغيير تصورات التلميذ. يدور هذا الصراع المعرفي بين التلاميذ في القسم بإشراف الأستاذ. يقول "أستولفي" (1997) أن مفهوم "الصراع المعرفي الاجتماعي" أُدرِج من قِبل المدرسة البياجية السويسرية الجديدة في سنوات 75 على يد "دواز" و"موني" في اتصال مع تجارب "بياجي" لكن في قطيعة مع فلسفته. لا يرى "جيلّي" أن الصراع المعرفي يقتصر على مجابهات فكرية داخلية كما يعتقد بياجي بل يتخطاه إلى مجابهات فكرية بين الفرد وأقرانه الموجودين في محيطه. أما "برّات-كليرمون" فترى أن داخل كل صراع معرفي يكون الفرد مجبرا على أن يقيم وزنا لأفعاله وردوده ولأفعال أقرانه وردودهم أيضا حتى يصيغ ويستوعب الاختلافات الحينية.

 

خلاصة القول

نحن نوافق الفيلسوف "كون" عندما يقول أن تغيير التصورات غير العلمية هو تغيير في إطار التفكير. لكن نختلف معه في طريقة التغيير، هو يقول بعد ثورة علمية ونحن نقول بعد تطور تدريجي دون قطيعة لأن العوائق الابستومولوجية شديدة المقاومة ولا تنهزم بسرعة وسهولة. شبّه العالِم "روملار" العائق الابستومولوجي بإطار تفكير. نحن نضيف: مثل العائق المعرفي الذي يتسبب فيه إطار التفكير العلمي المسمى "الكل وراثي" (le tout génétique).

كل براديقم أو إطار تفكير عادة ما يخلق مجموعة من العوائق قد تكون لها جذور ابستومولوجية أو تعلمية أو نفسية (Des origines épistémologiques, didactiques et psychologiques).

يتمثل براديقم "الكل وراثي" في النظرية القائلة بأن كل الصفات البشرية الجسمية منها والذهنية العالية مثل الذكاء، كلها وراثية مائة بالمائة ولا دخل لتأثير العوامل المكتسبة في التعليم في بروزها وتطوّرها. قد يكون الاعتقاد في فكرة "الموهبة" (La notion du don) في الفن أو العلم أو الأدب جذرا من جذور هذا العائق " الكل وراثي"  مع العلم أن فكرة "الموهبة" لم تأت من بحوث علمية نفسية ولا وراثية ولا بيولوجية. أما الراحل الأستاذ الفرنسي "أستولفي" فنحن معه في ما ذهب إليه من كَون إضافة المعلومات وحدها لا تحدث تغييرا فكريا. أستاذي ومدير أطروحتي السابق "بيار كليمان" (1998, 2004) يؤكد كلام "أستولفي" ويعرّف التصورات على النحو التالي: تنبثق التصورات غير العلمية والعلمية من التفاعل بين معارف التلميذ وقِيمه والممارسات الاجتماعية المرجعية حسب نموذجه المشهور "م. ق. م." ذي الأقطاب الثلاثة (KVP : K, connaissances ; V, valeurs ; P, pratiques sociales de référence).

وإذا أردنا تغيير التصورات فعلينا الاشتغال على الأقطاب الثلاثة في الوقت نفسه مع العلم أننا نعرف أن تغيير التصورات المرتبطة بالمعارف أو المعلومات هو أسهل بكثير من تغيير التصورات غير العلمية المرتبطة بالقِيم والممارسات (Delalande-Simonneaux, 1995).

في الآخر تبقي طريقة طرح الإشكاليات أو  كيفية طرح المسائل إستراتيجية من بين عديد الاستراتيجيات الأخرى مثل الصراع المعرفي الاجتماعي أو التلقين أو التقليد أو التنشيط أو الاستقالة من التدريس (La dévolution) مع التواجد المادي داخل القسم وترك التلميذ يتعلم بنفسه وبمعية أقرانه.

 


 

هل يستطيع التلميذ بناء معرفة علميّة جديدة فوق معرفته غير العلميّة القديمة؟ 

 

استوحيت هذه الفقرة من محاضرة حضرتُها في سوسة بمناسبة الأيام الوطنيّة الثالثة لتعلّميّة علوم الحياة والأرض في 22 و23 نوفمبر 2008 بسوسة.  قدّم هذه المحاضرة الأستاذ   (André Giordan مدير مخبر الفلسفة وتعلميّة العلوم بجامعة "جنيف" في سويسرا، حول تصوّرات التلميذ أو المكتسبات التي يأتي بها للقسم (Les conceptions de l’apprenant) وبدأ بطرح النماذج المختلفة التي نستعملها لمعالجة هذه التصورات غير العلمية:

- النموذج الأول: نتجاهل هذه التصورات غير العلمية لدى التلميذ ونعتبر  هذا الأخير  وعاءً فارغا، وعلى المدرس أن يملأه بالمعرفة، أو نعتبره صفحة بيضاء يكتب فيها المعلّم ما يشاء.  سادت هذه المقاربة في التعليم آلاف السنين حيث المعلم يعرِف كل شيء والتلميذ لا يعرف أي شيء.

- النموذج الثاني: نتجنّب هذه التصورات غير العلمية حتى لا ترسخ في ذهن التلميذ أو تعيق اكتسابه للمعرفة العلميّة الجديدة. هذه مقاربة "المدرسة السلوكيّة" (واتسون وسكينر) التي تسود الآن في التعليم التونسي وتَعتبر التلميذ علبة سوداء لا يعنينا ما بداخلها ولا نحاول فهم آلية تشغيلها. نلقّن التلميذ معارف متفرقة وفق مواد منفصلة عن بعضها البعض ونطلب منه حفظها واسترجاعها يوم الامتحان كما تلقاها دون اجتهاد ذاتي. لا يتساءل أصحاب هذه المقاربة عن "ميكانيزم" أو كيفية فهم التلميذ للدرس أو آلية اكتسابه للمعرفة. لقد توصل التلامذة بذكائهم الجمعي إلى كشف وفضح الخلل الأساسي في هذه المقاربة وعبّروا عنه في احتجاجاتهم عندما رفعوا شعارهم الواقعي والساخر مخاطبين مدرّسيهم "بضاعتكم رُدّت إليكم!" وهي في الحقيقة بضاعة المدرس وليست بضاعة التلميذ لأن هذا الأخير لم يشارك في صنعها وفي اكتسابها بل فُرضت عليه غصبا فحفظها وكررها كالببغاء وحملها دون فهم أو تملّك.

- النموذج الثالث: يجب أن نتعرّف علي هذه التصورات غير العلمية حتّى نحدّد الرسالة المعرفية التي نريد تمريرها في البرامج. هذه مقاربة "المدرسة البنائيّة" (بياجي) التي حررت التلميذ من التبعية للأستاذ ومنحته الثقة في قدراته الذهنية وأكدت أن المتلقي قادر عل بناء معرفته بنفسه لو وفرنا له الوسط المناسب والمدرس الكفء.

- النموذج الرابع: يجب أن نعالج هذه التصورات غير العلمية وهذه مقاربة "المدرسة الاجتماعيّة-البنائيّة" (فيڤوتسكي ودواز ومونيي). ينقسم هذا النموذج الرابع إلى قسمين:

- القسم الأول من النموذج الرابع: نعالج تصورات التلميذ غير العلمية بالإفصاح عنها داخل القسم  حتّى تصبح مصدر تحفيز له.

- القسم الثاني من النموذج الرابع: نعالج التصورات غير العلمية للتلميذ وذلك بتوظيفها في عمليّة التعلّم. يتفرّع هذا القسم الثاني إلى ثلاثة فروع:

- الفرع الأول من القسم الثاني للنموذج الرابع:  نستفيد من التصورات غير العلمية للتلميذ ولا ننفيها ونحاول إبرازها ومكافحتها بالمعرفة العلميّة الجديدة.

- الفرع الثاني  من القسم الثاني للنموذج الرابع: نحاول تفنيد التصورات غير العلمية للتلميذ وتفكيكها وهذه "مقاربة القطيعة الإبستومولوجيّة" لباشلار. في هذه الحالة قد تعترضنا الصعوبة التالية: إذا جابهنا التلميذ بأخطائه فقد نصل إلى نتيجة معاكسة تتمثل في تعطّل تفكيره وفقدانه للتوازن الذهني أو إصابته غير المقصودة بالإحباط النفسي. مثلا: يتصور التلميذ أنّ القلب هو مصدر الحب. نُفنّد هذا التصور غير العلمي لديه بالتذكير بعمليّات زرع القلب فإذا زرعنا قلبَ أحد ميت للتو  في جسم آخر حي. هل ينتقل شعور المتبرع الميّت إلى المستفيد الحي؟ قد يجد التلميذ نفسه مجبرا على القطيعة التامة مع معارفه السابقة مما قد يسبب له حرجا وفشلا وعائقا في مستقبله الدراسي.

- الفرع الثالث من القسم الثاني للنموذج الرابع: يجمع الفرع الثالث بين الفرعين الاثنين السابقين ويتمثّل في الاستفادة من التصورات غير العلمية للتلميذ ونفيها في نفس الوقت. مثلا: يتصور التلميذ أنّ النبتة الخضراء تتغذّى من التربة فقط. نُفنّد تصوره هذا الذي يتأرجح بين العلمي وغير العلمي بالتذكير بالنباتات التي تعيش خارج التربة تماما  في الماء أو في الهواء، مِجهريه كانت أو مَرئيّة أو بالنباتات الطفيليّة التي تعيش على كاهل نباتات أخرى دون تربة. نتساءل ونقول: لماذا ننفي دائما تصور التلميذ؟ فتصوره قد يحتوي على جزء من الجواب الصحيح، لأن النبتة في الأرض تأخذ بعض غذائها المتمثّل في الأملاح المعدنيّة والماء من التربة وتكمل أكثر غذائها من ثاني أكسيد الكربون المتوفّر في الهواء المحيط بها عن طريق وظيفة التركيب الضوئي. يتعلّم التلميذ في هذه الحالة بالاعتماد على تصوراته القديمة (تتغذّى النبتة من التربة) وفي نفس الوقت ضدّ هذه التصورات (تتغذّى النبتة أيضا من الهواء). يتكوّن هذا النموذج الثنائي المتضاد من العمل مع/و ضد التصورات غير العلمية للتلميذ ويتضمن عدة متناقضات يجب المحافظة عليها وإذكائها عند اختفائها وهي المتناقضات التالية:

Ø     يتطلب التعلم مجهودا يتناقض مع اللذة, لكن قد يحتوي هذا المجهود على لذة تسمى لذة بناء المعرفة وهي محرك مهم للبحث عن الجديد.

Ø     على المدرس أن يعارض التلميذ ويكشف له عدم علمية تصوراته لكن في نفس الوقت يساعده على تجاوزها وعلى بناء تصورات علمية بديلة. مَثله كمَثل مَن يهدي عكازين طبيين لمعوق عضوي قبل أن ينتزع منه عكازيه التقليديين.

Ø     يفقد المتعلم توازنه الذهني عندما يتلقى معارف تنفي معارفه الراسخة والمريحة لكن في نفس الوقت يستطيع هضم هذه المعارف الجديدة بمساعدة المدرس والأقران فيستعيد توازنه الذهني ويبقى في حالة "توازن ولا توازن دائم"، وضعية غير مريحة لكنها محفزة ومفيدة.

 

نحن المدرسون، نعلِّم التلميذ كيف يجيب ولا نعلمه كيف يسأل. فهل طلبنا مرة من التلامذة أن يعدّوا جماعيا فرضا تأليفيّا قبل أن يجتازوا الفرض التأليفي الرسمي؟ لقد حاولتُ في قسمي القيام بهذه التجربة الطريفة والمفيدة واكتشفت من خلال إجابات التلامذة أنماطا من الأسئلة لم تكن تخطر على بالي قبل هذا التمرين وفي نفس الوقت استفاد التلامذة من المراجعة والاستعداد للامتحان والتدرب على العمل الجماعي.

قديمًا كان المتعلم يكتسب زادا معرفيا صالحا مدى الحياة مثلا: أستاذ علوم الحياة والأرض يتخرج مُجازا ويبقى كامل حياته المهنية يجتر هذا الزاد ولا يجدده لأنه لم يتعلم كيف يتعلم بنفسه وقِس على هذا المثال، الطبيب الذي يعالج حالات مرضية جديدة بعقلية طبية قديمة والمسؤول المتخرج في الستينات من القرن العشرين الذي يتعامل مع مرؤوسيه بعقلية البايات والمعلم القديم الذي لا يزال يربي الأجيال الجديدة بعصا مؤدب الكتّاب التقليدي.

أما اليوم فالعلوم البيولوجية تتجدد كليا  تقريبا كل سبع سنوات وعلوم الإعلامية كل أربع سنوات. لقد انتهت مدة صلوحية زاد الأمس ولو أصررنا على مواصلة استعماله لأصِيب تلامذتنا بالتخلف الذهني. لذلك نرى أنه من واجبنا تعليم التلميذ طريقة "التعلم الذاتي" حتى يكون قادرا على تجديد زاده العلمي بنفسه كل ما جدّ جديد. لذلك قد ينطبق اليوم المثل الصيني الشهير تماما على طريقة "التعلم الذاتي": "لا تعطني سمكة بل علمني كيف أصطاد".

يبدو لي أن كل النماذج البيداغوجية والتعلمية  التي تعرّضنا إليها في هذا المقال تبقى صالحة على شرط استعمال كل واحد منها في موضعه المناسب ووقته الملائم. مثلا: في مؤتمر علمي حيث يتقارب المستوى العلمي للمشاركين والمحاضرين، يذهب المشاركون مباشرة لنموذج المواجهة (Discours frontal) ويدخلون في نقد وتفنيد المعارف المقدمة من قِبل المحاضر دون مقدمات أو مجاملات فارغة.

 

خلاصة القول

         بعد نيل شهادة الدكتورا في تعلميّة البيولوجيا, أشعر وكأنني لست واثقا من معارفي تمام الوثوق وأشعر في نفس الوقت أنني متأكد من كل شيء وبما أنني في حالة تعلّم متواصل أشعر دائما بالتوازن وفقدان التوازن المعرفي والقِيَمي وهذا قَدَرُ الباحِثِ.

 

 


مبادرات بيداغوجية عالمية طريفة ومفيدة

 

1.    المبادرة الأولى في جينيف

كان أستاذنا الكبير "أندري جيوردان" يدرّس  أطباء المستشفى مادة تعلّمية البيولوجيا (La didactique de la biologie) وعند أول درس، يسحب أستاذنا طلبته الأطباء في آخر النهار إلى حاويات مهملات المستشفى الذي يشتغلون فيه، يفتشونها بأيديهم باهتمام وجدية، يرتِّبون الأدوية غير المستعملة الملقاة فيها ويقارنونها بالأدوية التي وصفوها لمرضاهم في نفس اليوم. ويا لخيبة الأمل، يكتشف الأطباء المجتهدون أن مرضاهم لم يقتنعوا بوصفاتهم ورموا جل ما فيها أو كله في سلة المهملات حتى يتخلصوا منها ومن هنا تُطرح إشكالية الدرس: لماذا لا يستعمل المريض الدواء الذي وصفه له طبيبه؟ هل لعدم نجاعته؟ هل لتعقيد في استعماله؟ هل خوفا من الأعراض الجانبية؟ هل لعدم ثقة في طبيبه؟

عند الدرس الثاني، يواجه الأستاذ طلبته بما أنتجه مرضىاهم المصابون بِداء السرطان من تصورات علمية وغير علمية تصف مرضهم لحظة بلحظة، يتصفح الطلبة ما أنتجه مرضاهم ويكتشفون هذا الكم الهائل من المعلومات الدقيقة، معلومات لم يروا مثلهم في الجامعة فيندهشون لغزارة المعارف ودقة الوصف الذي لا يقدر عليه غير المرضى مهما علت شهائد الطبيب المعالِج. هل يمثل المريض وعاء فارغا يملؤه الطبيب بما يشاء؟ هل يمثل المريض صفحة بيضاء يخط عليها الطبيب وصفته؟ هل الطبيب يَعْلم أكثر من المريض؟ هل الطبيب المختص في عضو فقط هو قادر على علاج هذا العضو في المريض دون الاهتمام بالأعضاء الأخرى؟ هل يحق للطبيب فرض علاجه على المريض؟ هل يحق للمريض رفض علاج طبيبه؟ هل يحق للمريض التدخل في كيفية علاجه وتوقيته؟

أستغل هذه الفرصة وألفِت نظر القارئ إلى اهتمام العالَم المتقدم بهذا العلم الجديد (تعلّمية البيولوجيا أو فلسفة تعليم البيولوجيا) وتعميم تدريسه في كل الاختصاصات وليس في التعليم  الجامعي فقط وانظر كيف نهمله نحن في تونس ولا نوليه أي أهمية ولا ندرّسه حتى لأساتذة المستقبل  لا بل نهمله وفي بعض الأحيان نتركه لغير أهل الاختصاص يشوهونه عن غير قصد.

 

2.    المبادرة الثانية أيضا في جينيف

حدثت مع نفس الأستاذ المبدع "أندري جيوردان" الذي ورث مهمة ومنصب العالِم المشهور "جان بياجي" في مخبر الإبستومولوجيا بجينيف. المبادرة: بينما كان الأستاذ يقوم بدرس علمي داخل مخبر العلوم، إذ بمهرج "كلون" يقتحم القسم ويقوم بحركات بهلوانية فيضحك التلامذة ويمرحون مع الممثل لمدة ربع ساعة. يغادر المتطفل خفيف الظل -المبرمَج من قبل الأستاذ- القاعة فيرجع التلامذة إلى الجد والعمل بروح يقظة وتركيز متجدد.

 

3.    المبادرة الثالثة في تونس

حدثتْ بمعهد نموذجي تونسي. زارت بعثة تعليمية بريطانية المعهد وفي نطاق تنشيط التلامذة أثناء الراحة، طرحت عليهم هذه البعثة "وضعبة تعلمية" في صيغة مشكل ينتظر حلا: طلبت البعثة من تلامذة المعهد قيس طول العمود الخشبي أو المطاطي الرافع للعَلَمِ الوطني. حاول التلامذة حل المشكل بشتى الطرق المعقدة كما تعودوا في تعليمهم النظري، استعملوا قواعد رياضية وقاسوا ظل العمود وتسلّقوا العمود ليقيسوه بمتر قماشي طويل ولكنهم لم يتوصلوا إلى الحل رغم أن الحل بسيط جدا وهو قيس طول الحبل الذي ينزل عندما يصعد العَلَمُ. في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا التونسية، نملأ عقول تلامذتنا وطلبتنا بمعلومات كثيفة ومعقدة لحل مسائل نظرية لا وجود لها في واقعنا المتخلف وفي نفس الوقت نتجاهل تعليم أولادنا توظيف معلومات بسيطة لحل مسائل بسيطة كمشاكلنا اليومية مثل تغيير فانوس محروق أو إبدال مربع زجاجي مهشم أو إصلاح عطل كهربائي أو تحضير وجبة غذائية متوازنة في المنزل أو في المعهد.

 

4.    المبادرة الرابعة في فرنسا

حدثت وما زالت متواصلة حتى الآن. أستاذ تاريخ وجغرافيا فرنسي يرى أن الأعداد المسندة في الامتحانات إلى التلامذة قد تحبطهم وتحط من عزائمهم لذلك ارتأى هذا الأستاذ القدير إسناد 20 على 20 لكل تلامذته وفي كل الامتحانات. أستاذ مبدع في عمله: كان عندما يدرّس المقاومة الفرنسية ضد الألمان، يكلف تلامذته بإجراء بحوث ميدانية ومكتبية والاتصال بالمقاومين الأحياء وتسجيل بحوثهم في أقراص ليزرية مضغوطة بالصوت والصورة ثم ينشر بحوث تلامذته بأسمائهم في مجلات علمية مختصة فيجعل منهم كتّاب محتملين في المستقبل. أثناء تدريس محور المقاومة، يستدعي الأستاذ مقاوما حيا أو كاتبا متخصص في المقاومة إلى القسم ويدير حوارا بينه و بين التلامذة (شيئ بسيط لكنه لم يحدث في تونس أبدا، على الأقل لم تبلغني مثل هذه الطرق البيداغوجية الناجعة) . تخيل أيها القارئ ما يحدثه هذا النوع من التدريس في عقول التلامذة على صغر سنهم وما سيتركه من آثار نفسية إيجابية في تكوين شخصيتهم وتدريبهم على روح المبادرة والثقة بالنفس والمغامرة والإنتاج الكتابي والمرئي. سعت وزارة التربية الفرنسية بكل جهدها إلى إقالة هذا الأستاذ العبقري المناضل التعلّمي والبيداغوجي أو على الأقل إحالته على عمل إداري. لم تُوفّق الوزارة منذ عام ونيف في سعيها وإن شاء الله لن توفّق. لم تجد الوزارة مبررا قانونيا واحدا يمنع الأستاذ من إسناد العدد الذي يراه هو مناسبا لعمل التلميذ. أُنشِئت في فرنسا جبهة مساندة لهذا الأستاذ متكونة من تلامذة وأولياء وزملاء ولا زالت قضيته تهز الرأي العام الفرنسي حتى الآن.

 

5.    المبادرة الخامسة في غار الدماء

سنة 1980، كنتُ أدرس محور "التناسل عند الإنسان" لتلامذة الثالثة ثانوي (التاسعة أساسي الآن) بإعدادية غار الدماء. تغيبت عن عملي أسبوعا في معهد الكاف وذلك للمشاركة في تربص تكويني في الميكروبيولوجيا. فوجئت بوصول رسالة باسمي إلى الكاف واكتشفت أن الباعث تلميذ من تلامذتي النجباء بغار الدماء. يقول في رسالته هذه أن أستاذ الرسم الفني -المتعصب لرأيه- استغل غيابي عن الإعدادية وشن حملة مضادة لشخصي منتقدا تدريسي للجهاز التناسلي البشري ومكذبا المعلومات البيولوجية التي سجلناها في القسم. قال هذا الزميل غير المختص في البيولوجيا أن الحيوانات المنوية للرجل تأتي من الصلب كما يقول القرآن الكريم وليس من الخصيتين كما يقول أستاذكم في العلوم. عدت من الكاف واتصلت مباشرة بمدير المعهد وأبلغته ما  سمعته عن التدخل السافر في اختصاصي من زميل غير مختص ولم أطلب من المدير التدخل بيني وبين زميلي الفاضل بل اكتفيت بإعلامه أنني أسير وفق البرنامج الرسمي وأستقي معلوماتي من مصادر علمية موثوق بها. أما ردي فهو الآتي: حملت مجهري وأتيت بأرنب ذكر،  نصبت طاولة وسط الساحة أثناء راحة العاشرة صباحا، التف حولي تلامذة الإعدادية وكلهم تلامذتي، خدّرت الأرنب الضحية وبالمبضع قطعت جزءا مجهريا من خصيته ووضعت مسحة منها بين صَفيحة وصُفيحة زجاجيتين ثم طلبت من تلامذتي مشاهدة الحيوانات المنوية الأرنبية وهي تتحرك برشاقة وترقص بذيلها الطويل كأنها تساندني الرأي ضد مَن يتمسك بالتأويل الحرفي الخاطئ للنص الديني. وقلت لتلامذتي: منذ الآن، لا تقولوا، قال أستاذ العلوم بل قولوا شاهدنا بأم أعيننا الحيوانات المنوية في الخصية. أقول عن زميلي إنه متعصب، وصفا ليس ثلبا أو سبا أو شتما فيه والعياذ بالله. ومن سوء حظ زميلي أن القرآن والعلم الحديث في هذا الموضوع بالذات لا يختلفان بل يتكاملان في عقول أولي الألباب وأهل الذكر من علماء الأجنة الماديين التجريبيين. يبدو لي أن الخلايا الجذعية الجنينية جمعاء تنشأ في منطقة تشبه صلب الجنين ثم تهاجر شيئا فشيئا ويختص بعضها في التناسل وتستقر في الخصيتين وقد يكون لعلم الأجنة 2010 رأي أحدث من هذا. أود أن يتصل بي كل من يختلف معي في هذه المعلومة حتى أستفيد من علمه.

 

6.    المبادرة السادسة في حمّام الشط

في أوائل التسعينات، كنت أنشّط نادي البيئة في إعدادية حمّام الشط. اقترحت على تلامذتي النشاط التالي: تجولوا في حيّكم وصوِّروا بالكاميرا كل ما يظهر لكم مخالفا لسلامة البيئة وابعثوا الصور إلى رئيس بلدية حمّام الشط وادعوه في نفس الوقت لحضور الحصة القادمة. فعل التلامذة ما كلفتهم به على أحسن وجه وحضر رئيس البلدية ومساعده و أدرت بينهما و بين التلامذة المحتجين حوارا شيقا وديمقراطيا.

 

7.    المبادرة السابعة في غار الدماء أيضا

مشاهدة مجهرية بسيطة في حصة علوم الحياة و الأرض، تعوض مشاهدة معقدة

تعودنا نحن أساتذة علوم الحياة والأرض على مشاهدة الكريات الحمراء وهي تدور في الدم تحت المجهر باستعمال الجلد الرقيق الشفاف الموجود بين أصابع الأطراف الخلفية للضفدعة. يتطلب تحضير الضفدعة تحت المجهر وقتا إضافيا وهو أمر نسبيا صعب، فإذا خدرناها تنقص سرعة دوران الدم في شعيراتها الدموية وإذا لم نخدرها تتحرك وتفسد علينا المشاهدة وتضيع لنا وقتا كبيرا في إعادة تحضيرها.

في السبعينيات وأنا أدرّس في إعدادية غار الدماء، نصحني أحد الزملاء من بوسالم بوضع شرغوف (صغير الضفدعة) فوق صَفِيحة دون صُفَيْحة ومشاهدة دوران الدم في ذيله الشفاف. والشرغوف لا يتطلب تخدير ولا تحضير، وأي تلميذ قادر على وضعه فوق صفيحة تحت المجهر ومشاهدة الكريات الحمراء وهي تدور في أوعية ذيله.

 

8.    المبادرة الثامنة

عندما ندرس وظيفة النظر، كثير ما نغفل عن دور الأذن الداخلية: و الأذن تري قبل العين أحيانا! وظيفة النظر وظيفة معقّدة جدا لأنها ترتبط بجلّ المراكز المخيّة والعصب البصري والعين وعضلات العين والأذن الداخليّة والضوء والحالة الانفعاليّة للجسم. لنعلم أوّلا أن "المِهاد البصري" (le thalamus) هو عضو في المخ تلتقي فيه الأعصاب البصريّة والحسيّة المثيرة للعاطفة ويستقبل المعلومات الضروريّة للنظر، 80 % منها تأتيه من المخ مباشرة و20 % فقط تأتيه من العين.

لنفهم أكثر نوضح دور العناصر الضرورية المتدخلة في النظر

1. المراكز المخيّة : يتدخّل عدد كبير منها في النظر ونذكر منها علي سبيل الذكر لا الحصر:

- "المراكز العصبيّة البصريّة" (les aires visuelles) التي تدرك الأشياء وتتعرّف عليها وتراها  بواسطة العين.

- "غدّة تحت المهاد البصري"  (l'hypothalamus)    التي تمثّل ملتقى  عصبيّا هرمونيّا  مسؤولا علي الشبع والجوع والعطش والانفعال والتأثّر والذاكرة وضبط الحرارة ومقاومة العدوان والسلوكيّات الجنسيّة والدفاعيّة.

- "وحدة شبكيّة متوسّطة" (la formation réticulée médiane) وهي غرفة صنع الأحلام.

 - "مركز عصبيّ يتحكّم في حركات العين" (Le colliculus).

2. العصب البصريّ : ينقل من العين إلي  المخّ ذبذبات كهروكيميائيّة وهي عبارة عن رسالة مشفّرة لا يفكّ رموزها إلا المراكز العصبيّة البصريّة.

3. العين السليمة: يستعين بها المخ لتجميع المعلومات الواردة من العالم الخارجيّ لذالك فاقدها لا يري.

4. عضلات العين: توجّه و تضبط حركات العين مثلما نتحكّم نحن في الكاميرا لكي لا تتحرك الصورة.

5. يبدو أن دور "الأذن الداخليّة" (L`oreille interne) في النظر مغيّب تماماّ في التعليم. في الحقيقة تتمثّل مهمة الأذن الداخليّة في المحافظة علي توازن الجسم في كل الوضعيّات بما فيها توازن العين وهذا الدور المهم لا نحسّ به إلا إذا تعطّلت هذه الأذن أو تلف العصب الذي يصلها بالمخ. لنوضّح أكثر, نذكر ما ورد في  محاضرة الأستاذ كليمان وهو يتحدّث عن مرض ألمّ به سابقا ويتمثّل في التهاب العصب الذي يربط بين دهليز الأذن الداخليّة والمخّ، قال :  "لم أفقد السمع لأنّ هذا العصب ليس مسؤولا علي السمع. كنت أحسّ بدوار ودوخة وإغماء وتقيّء وأفقد توازني كلّما حاولت الوقوف أو قيادة السيّارة. لم أعد قادرا علي القراءة والكتابة ومشاهدة التلفاز رغم سلامة مخّي وعصبي البصريّ وعينيّ. أثناء هذه المحنة عايشتُ في الواقع ما  كنت  أعرفه   نظريّا وتأكّدت من وجود تنسيق دائم بين العين والأذن الداخليّة وأستطيع أن أقنعكم بتجربة بسيطة: انظروا إلي السبّورة وحرّكوا رؤوسكم. هل السبّورة تتحرّك معكم ؟ طبعا لا ! لو أخذتم الآن كاميرا ووجّهتموها صوب السبّورة وحرّكتموها فسترون بعد التصوير فيلما تتحرّك فيه السبّورة كأفلام المبتدئين. جسم الإنسان إذن مجهّز بكاميرا وهي العين وبضابط توازن الكاميرا وهو الأذن الداخليّة التي تلائم باستمرار بين الصّورة والحركة. العبرة من هذا المثال ليست فقط في التّعريف بدور الأذن الداخليّة في النظر وإنما في الإشادة بقدرة المخّ البشريّ علي إصلاح العطب في العصب الجمجمي دون علاج ولا أدوية لأن الخلايا العصبيّة السليمة في العصب المصاب أنبتت أليافا عصبيّة جديدة انتشرت وتوجهت نحو مكان العطب تلقائيا وعوّضت ما أتلِف في عصب الأذن المصابة.

 

خلاصة القول

                  وظيفة النظر ليست حكرا علي العين والعصب البصري والمراكز العصبيّة البصريّة فقط, كما هو شائع عند عامة الناس وحتى عند بعض أساتذة البيولوجيا,  بل تتدخّل فيها عدّة مراكز عصبيّة أخرى,  مثلا : يتدخّل المركز العصبيّ القفائيّ   (l'aire occipital) في معالجة الألوان والمركز العصبيّ الصدغيّ   (l'aire temporal) في تعريف الأشياء التي نراها. أما المركز العصبيّ الجداريّ (l'aire parietal) فيحدّد مكان الأشياء. يرتبط   النظر أيضا بالحالة العاطفيّة التي تقع تحت مراقبة "غدّة تحت المهاد البصري"  (l'hypothalamus) وهي نفسها تتأثر بما نري.  أما "الوحدة الشبكية المتوسطة" (la formation réticulée médiane) فهي تلعب دورا أساسيّا في الأحلام حيث نري  الصور تتحرك دون استعمال العينين. هذه الشبكة من الأعضاء التي تؤثّر في عملية النظر وتتأثّر بما تجلبه العين من معلومات خارجية, تفسّر كيف ندرك اسم الشّيء الذي نراه دون تركيز وغالبا ما لا نري الجزئيّات التي لا نعطيها أهميّة فلا نري إلا ما نريد أن  نرى لأننا لا نستطيع أن نري دون تأويل ما نري.

 

 

Références bibliographiques : Clément P., Mouelhi L. & Abrougui M. (2006). Aster 42. Paris : INRP.

Varela F.J. (1989). Autonomie et connaissance, Essai sur le vivant, Paris, Editions du Seuil.

 

 

 

 


التربية الصحية بين الممكن والمطلوب

 

استوحيت هذا المقال من محاضرة حضرتها في الحمّامات بمناسبة الأيام الوطنيّة الثانية لتعلّميّة علوم الحياة والأرض في  28-31  مارس 2007، قامت بها الأستاذة ومقرّرة أطروحتي السابقة السيدة "دو كرفالو"   من جامعة  "دو منهو"  في البرتغال حول رفع المستوى الصحّي لدى المواطن.

إنّ التعريفات المقدّمة في هذا المجال لمفهوم "رفع المستوى الصحّي لدى المواطن" عديدة وسوف نكتفي بالتعريف  الموثّق في "ميثاق أوتاوا" لسنة 1986 : "يتمثّل رفع المستوى الصحّي لدى المواطن في منح الشعوب الوسائل التي تحقق للأفرادِ تحسين صحّتهم ومراقبتها والسماح لهم بتحقيق طموحاتهم وتلبية حاجياتهم والتطوّر والتكيّف مع محيطهم".

سوف نحاول في ما يلي إجراء مقارنة بين "النموذج الطبّي السّائد" (الطبّ الممارس من بعض الأطبّاء في بعض مستوصفاتنا وبعض مستشفياتنا وبعض مصحّاتنا الخاصّة) وبين مفهوم "رفع المستوى الصحّي لدى المواطن" وهذا الأخير هو النموذج المطلوب. 

1.    ما هو النموذج الطبّي السّائد في تونس؟

-         يقع التركيز على المرض لا على المريض وكأنّ الأمراض بمعزل عن ظروف حياة المريض وحالته النفسية ومحيطه الاجتماعي والسياسي والثقافي والعاطفي والبيئي والاقتصادي والتراثي والديني وغيره من العوامل المتداخلة والمتشابكة التي تنبثق منها الحالة الصحية للمريض.

-         يُصنّف المرضى من قِبل الطبيب حسب نوعيّة الأمراض فقط ويعالَجون على هذا الأساس.

-         المهنيّون من أطبّاء وممرّضين وبيولوجيّين يحتكرون كلّ السلطة على المريض وكلّ المعلومات حول المرض ولا يشرّكون المريض في معرفة مرضه بدعوى جهله ويبدولي أن عذرهم أقبح من ذنبهم لأن الجاهل هو أولَى بالتحسيس والتثقيف الصحي.

-         يسأل الطبيبُ المريضَ عن تاريخه الوراثيّ فقط (مثلا: هل لك قريب مريض بالسكري؟) ولا يهتم بحاضر المريض و مستقبله انطلاقا من نسق التفكير  السائد والخاطئ في علوم الحياة والذي يتلخص في أن الوراثة هي السبب الوحيد المحدّد للمرض ناسيا أو متناسيا أو جاهلا الأسباب الأخرى المكتسبة منذ أن خصّب الحيوان المنوي الذكري بويضة المرأة، عوامل داخل الرحم قبل الولادة لأن الجنين يتغذى من دم أمه وعوامل خارج الرحم بعد الولادة مثل النظام الغذائي والعناية الصحية والقدرة الشرائية وغيرها.

-         يبدو لي أنّ بعض المهنيّين في الصحة يعتبرون أنّ المريض ليس في حاجة لثقافة صحّيّة فلا يعلمونه بالتفاصيل ويأخذ الطبيب القرار الطبي مكان المريض (مثلا: قرار إجراء عملية).

-         أحيانا لا يتطرّق الطبيب إلى التاريخ الصحّي للمريض وظروفه الاجتماعية وفي جل الحالات لا يوجد تاريخ صحي موثق للمرضَى.

-         في جل الحالات يذهب الطبيب مباشرة إلى تشخيص المرض كأنّ المرض ليس في المريض.

-         يتعامل مع العضو المريض في الجسم المريض كما يتعامل الميكانيكيّ مع قطع غيار السيارة، يُبدِّل أو يصلح القطعة الفاسدة دون الاهتمام بحالة القطع الأخرى.

 

2.    ما هو النموذج الطبّي المطلوب المسمى "رفع المستوى الصحّي لدى المواطن التونسي"؟

-         يجب أن يقع التركيز على صحّة الأفراد والمجموعات وظروف حياتهم اليوميّة لا على الأمراض فقط.

-         يجب أن يُصنّف المرضى على أنّهم بشر يعيشون داخل مجموعة ثقافيّة معيّنة ولا تُختزل هويّتهم في نوع مرضهم.

-         يجب على الطبيب أن يحترم المريض ويثمِّن معرفة هذا الأخير بمرضه ويشرّكه في تشخيص الدّاء مهما كان مستوى المريض الثقافي.

-         يجب فتح موقع في الأنترنات لكل مواطن منذ ولادته على نفقة الدولة يحتوي على ملفّه الصحّي ويكون هذا الملف تحت مراقبة المريض أو السليم المهتم بالوقاية. بعد استشارة المريض, يطّلع الطبيب على الملف الطبي ويستفيد منه قبل مقابلة المريض.

-         يجب على الدولة أن توفر للمواطن ثقافة صحّيّة حتّى يشارك في اتّخاذ القرارات التي تهمّ صحّته ويطبّقها عن اقتناع.

-         يبدو لي أن اعتماد الأعشاب الطبيّة للتداوي قد يكون أقل ضررا للجسم لكن هذه الأعشاب تُباع في بلادنا بأغلى الأثمان في الصيدليات.

-         على المواطن التونسي تخصيص أكثر وقت للزوجة والأطفال والأصدقاء والفسحة والسياحة والمطالعة والثقافة والأنترنات.

-         على الدولة تحسين الظروف المعيشيّة للمواطن من تدفئة وتكييف في المسكن والعمل والنقل.

-         على المواطن التونسي محاولة المزيد من التحكّم في التوتّرات النفسيّة المهنيّة والعائليّة إذا أمكن ذلك وهو أمرٌ صعبٌ.

-         على المواطن التونسي ممارسة الرياضة بانتظام في قاعة رياضة أو خارجها والمقابل الذي سيدفعه للقاعة شهريا سوف يساعده على تحسين صحته دون اللجوء لشراء أدويةٍ باهظة الثمن.

-         على المواطن التونسي محاولة العمل بنظام غذائي متوازن مع العلم أن هذا الحلم ليس في متناول جل التونسيين.

-         على الدولة واجب تحسين القدرة الشّرائية لدى المواطن التونسي لعلاقتها الوثيقة بالصحّة.

-         على الجامعة التونسية إجراء بحوث أكاديميّة حول التداوي العربي التقليديّ بالأعشاب لعلّنا نكتشف علاجا رخيصا و"بيولوجيا" لأمراضنا.

يمكن لنا أن نستنتج من المقارنة السابقة أن النموذجين يتكاملان لتحسين صحّة المواطن. قد يتراءى لبعض القراء أنّنا غير مؤهّلين للخوض في المجال الصحّي الهام في حياة الإنسان لكن كلنا يعلم أنّ الصحّة اليوم هي مسؤوليّة مشتركة بين المريض والطبيب وقد يأتي يوم يشخّص فيه المريض مرضه بنفسه.

 

نرجع الآن إلى اختصاصنا التربوي وننقد المقاربة الصحّية الوقائيّة في المدرسة التي تتّسم بـ"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" وتفرض نماذج سلوكيّة عامّة وجاهزة، نماذج لا تترك مجالا للفروقات الإجتماعيّة لدى التلامذة والأمثلة عديدة: لا تشرب الخمر لأنّها حرام. لا تتتعاطى المخدّرات لأنّها مضرّة. لا تدخّن. لا تمارس الجنس. كن دائما لطيفا ومهذّبا.

لذلك نرى أنّه من واجبنا تقديم مقاربة صحّية مدرسيّة بديلة تتمثل في النقاط التالية

-         تشجيع التلميذ على ضمان استقلاليته تجاه السلوكات غير الصحّية وبعض المنتوجات الطبيّة والابتعاد ما أمكن عن الغرائز والإنفعالات والأفكار المسبّقة وسلطة الإعلام والقوالب الجاهزة في الموضة والرياضة.

-         تعزيز الثقة بالنفس لدى التلميذ وتدريبه على التحكّم في التوتّر وإتّقاء الأخطار المحدقة به وإنقاذ الآخرين إن لزم الأمر.

-         تنبيه التلميذ للدور السلبي للمصانع غير المجهزة بوحدات تنقية الهواء المنبعث من المداخن والتي تتسبب في تدهور المحيط الصحّي والنفسي للمواطن.

-         إبراز دور القدرة الشرائيّة والحبّ والضحك والأصدقاء والنظام الغذائي في رفع المستوى الصحّي للمواطن.

-         توفير التجهيزات الصحيّة الكافية والنظيفة والفضاءات الترفيهيّة والتدفئة والتكييف داخل المدرسة وداخل وسائل النقل.

-         حثّ العاملين بالمدرسة على ملاءمة سلوكاتهم الصحيّة اليوميّة مع ما يتلقّاه التلميذ من تربية صحّية.

-         دمج التلاميذ ذوي الاحتياجات الخاصّة في المدرسة وتوفير تسهيلات لوجستيكيّة لتنقّلهم وتعلّمهم.

-         تشريك التلامذة والأساتذة والقيّمين والأولياء ومِهنييّ الصحّة والسلطات المحليّة ورجال الأمن ورجال المطافئ في إعداد برنامج التربية الصحّية.

-         توفير إطار متخصّص قار لمعالجة المشاكل النفسيّة والعاطفيّة للتلميذ لأّنّها قد تعوق اكتسابه للمعرفة.

-         ربط تدريس التربية الصحّية بالإختصاصات الأخرى باعتبارها تربية على المواطنة لا تقتصر على الجانب الفيزيولوجي فقط.

 

خلاصة القول

لو أدخلنا التربية الصحّية كما نراها نحن ويراها غيرنا من المحبين لهذا الوطن في برامج الإبتدائي والثانوي والجامعي باعتبارها مادّة قارّة بضارب محترم ولو خصّصنا لها عيادة وقائية في كل مستوصف لتحسّنت صحّتنا واستغنينا جزئيا عن خدمات "الكنام" (الصندوق الوطني التونسي  للتغطية الصحية) الذي يوتّر أعصابنا كل يوم في فظاءاته الإدارية عند انتظار ساعة أو ساعتين لتقديم ورقة أو ورقتين من أجل استرجاع دينار أو دينارين.

 

 

 


 

 

محور 8

أحلام اليوم هي حقائق الغد!

“L`utopie est la vérité de demain”



أحلام اليوم هي حقائق الغد!

 

استوحيت هذا المقال من برنامج تلفزي إماراتي مصوّر في اليابان ومن حادث أليم وقع أخيرا في معهدنا ببرج السدرية بضواحي تونس الجنوبية. يصوّر هذا البرنامج دخول التلاميذ صباحا إلى مدرسة ابتدائية يابانية.

يكلِّف المدير قيّما أو إطارا تربويا باستقبال التلاميذ أمام المدرسة ومساعدتهم على عبور الطريق العمومي, يمسك القيم عَلَمًا مكتوبًا عليه عبارة "مدرسة" ويوقف السيارات حتى يمرّ التلاميذ بأمان. يخرج مدير المدرسة لاستقبال تلامذته وهو يحمل شارة حمراء حتى يعرّف بنفسه. يصطفّ المعلمون في باب المدرسة ليستقبلوا تلامذتهم بالبسمة والانحناءة اللطيفة  المشهورة عند اليابانيين. يلتحق التلاميذ بقاعاتهم عند سماع الجرس, تنبعث من هذا الجرس موسيقى مريحة، ليست مرعبة كما هو الحال عندنا. عندما يقوم التلميذ الياباني من كرسيه ليخرج إلى السبورة, يُرجع كرسيه إلى مكانه حفاظا على نظام القاعة. لكل تلميذ في ساحة المدرسة أو ممراتها نبتة شخصية يرعاها طوال سنين دراسته وقد سمعتُ أخيرا أن عادة رعاية النباتات بصفة فردية موجودة في مدرسة ابتدائية تونسية وحيدة تقع في جهة زغوان على ما أذكر.

أما الحادث الأليم الذي أثر فيّ أيما تأثير فيتمثل في موت تلميذي النجيب والمتفوق "أشرف ممّو" بعد نزيف داخلي إثر حادث قطار مجاني وسخيف في محطة القطار ببرج السدرية قرب المعهد وإثر خروجه عند انتهاء الدروس في نصف النهار.

ما لفت انتباهي في هذا البرنامج هو السلوك الحضاري الياباني من قِبل المدير والمعلمين والتلامذة. لماذا لا نحتذي باليابانيين إذا صح مفهوم "لا حضارة تفوق حضارة أخرى"؟

ونستطيع أن نفعل مثلهم وربما أحسن منهم لو فعّلنا قيمنا الحضارية ولو لم نحنّطها و نجمّدها في الواقع المعيش، "مجّدناها في النصوص فدخل اللصوص" كما قال الشاعر الفلسطيني محمود درويش وعلى رأي الشاعر العربي: "فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... إن التشبه بالكرام مجيدُ".

منذ سنوات اقترحتُ على المديرين المتعاقبين على معهدنا إجراءً حضاريا بسيطا قد يساهم في نظافة القاعات ويخفف من أعباء عمّال النظافة ويحافظ على الأثاث من الكسر والتلف. يتلخّص هذا الاقتراح البسيط وسهل التنفيذ وغير المكلف في الآتي: يحمل كل مدرّس مفتاحا يفتح به القاعة عند الدخول ويغلقها عند الخروج. أنا أعمل بهذا الإجراء في قاعتي منذ سنوات.

لو غيرنا موسيقى جرسنا المدرسي لتحسّن ذوقنا ولَتَهَذَّبَت مشاعرنا ولَنَقَص عنفنا.

لو اقتصرت حصة الدرس على 45 دقيقة وخصّصنا 15 دقيقة للراحة بين الحصص لَما سئم التلميذ ولارتفعت قدرته على الاستيعاب وتحسّن أداء المدرس ولَما تعنف السجين على سجانه أعني التلميذ على أستاذه. الأستاذ سجّان رغم أنفه والنظام التربوي هو من ألبسه هذه الجبة وحصره في هذه المهمة وهو في نظر التلميذ يمثل السلطة لذلك يصب التلميذ جامَ غضبه على أستاذه.

لو وافقت نقابتنا الموقرة على انتخاب مجلس بيداغوجي, حتى بصيغته الاستشارية, لَما تفرّد المدير بكل القرارات الإجرائية التي تهم المؤسسة مثل جدول الأوقات وتجهيز القاعات وتنظيم المراقبة في الامتحانات والتصرف في ميزانية المعهد.

لو أرجعت الوزارة العمل بخطة العامل المكلف بصيانة (factotum) الأثاث المدرسي والمسؤول عن تعويض الزجاج المهشم أو إصلاح الأقفال المعطبة، لَما اشتكى الأساتذة والتلاميذ من مجري الهواء البارد شتاءً.

لو قنّنت الوزارة بالتفصيل مهمّة المدير ومهمّة المرشد التربوي لَما تخاصما فيما بينهما على السلطة داخل المعهد.

لو التحق كل مدرّس بقاعته عند سماع الجرس لَما بقي التلاميذ ينتظرون أمام القاعة في هرج ومرج.

لو اعتذر المدرّس المخطئ في حق التلميذ بدل أن يكتب فيه تقريرا مغرضا لَتعلّم التلميذ السلوك الحضاري من أستاذه.

لو رجعت كلمة "أعتذر سيّدي" إلى أفواه تلامذتنا لاستغنينا على جل التقارير وهذبنا نفوس الجميع.

لو أنفقنا الميزانية المخصّصة للمعهد في ما خُصّصت له لأصبحت معاهدنا "جنات عدن تجري من تحتها الأنهار".

لو تقاضى المدرّس أجرا محترما لَحسّن هندامه ومنطقه وعمله ولَكان القدوة للتلميذ, يراه في أبهى صورة فيحترمه ويقلده ويتمنى أن يصبح يوما مثله.

لو احترم القيّم أو الإطار التربوي عمله في المعهد ونظّم صفوف التلامذة وسهر على حسن سير تنقلهم بين الحصص لَما تحولت المؤسسة التربوية إلى سوق لا يهدأ من الثامنة صباحا إلى السادسة مساء.

لو ألغينا قانون العقوبات البوليسية من المؤسسات التربوية وأحللنا محله العدل والانضباط والحزم والجد لتربّى التلميذ على الانصياع طواعية دون إكراه للقانون الداخلي للمؤسسة.

لو ألغينا الحلول التأديبية غير الناجعة وطبقنا الحلول العلمية لمشكلة الغش في الامتحان مثل التخفيظ من عدد التلامذة في الأقسام والتخفيف من تغيّب الأساتذة والتلامذة والتخفيف من كثافة البرنامج ومقاومة ظاهرة  العنف في المدرسة.

لو استقلت المؤسسات التربوية عن الإدارة الجهوية  قليلا ولو "تَدَمَقرَطَت" قليلا ولو صحا ضميرنا قليلا لتحسنت حالنا كثيرا... و.. ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!


كمواطن تونسي دافع للضرائب، أطالب المؤسسات التربوية الخاصة بدفع استحقاقات مالية للدولة مقابل استعمالها للبرنامج التعليمي العمومي

 

مَن صمّم البرنامج التونسي التعليمي العمومي؟

على نفقات دافعي الضرائب، اشترك في تصميمه وإصلاحه وتعديله وترميمه على مدى نصف قرن مجموعات مختلفة من أكفأ موظفي الدولة من مدرِّسين ومفقدين ومختصين، فهو إذن ملك عمومي مشترك ولا يحق لأحد المتاجرة به بهدف الربح المادي كما تفعل المؤسسات التربوية الخاصة الأساسية والثانوية. مَثلُ هذه الأخيرة كمثلِ مَن يستولي دون وجه حق على مِرفق عمومي ويؤجره للغير ويضع في جيبه ربحا ماليا ليس من حقه أو مَثَلُها كمثلِ قصة "التونسي الذي باع قطار حمام الأنف إلى شقيق ليبي" مع احترامي لذكاء أشقائنا الليبيين. من المفروض إذن أن تكون حقوق الملكية الأدبية محفوظة مثل ما هو معمول به اليوم في ما يخص حقوق التأليف الفني والأدبي والرقمي (بيع برمجيات الحاسوب Les logiciels). فإذا سبق لنا وقنّنا الحفاظ على حقوق مؤلف واحد لكتاب واحد أو مصمم واحد لبرمجية واحدة، فكيف لا نقنن مِلكية الدولة للبرنامج التونسي التعليمي العمومي وهو أهم وأثمن وأغلى من جميع الكتب المنشورة في تونس؟ لقائل أن يحتج ويقول: يحق لـتلامذة التعليم الخاص استغلال المِلك العمومي طالما أن أوليائهم التونسيين هم أيضا يدفعون الضرائب! كلام منطقي لو كان التلاميذ هم المستفيدون أدبيا وحدهم دون هدف تجاري من وراء استغلال البرنامج، لكن الغير منطقي هو استغلال البرنامج العمومي من قِبل مؤسسة تجارية ربحية تونسية أو أجنبية.

ما هو المطلوب؟

على نفقات الدولة أيضا، شاركتُ أنا و جل زملائي في تعديل هذا البرنامج بصفة غير مباشرة من خلال اللجان الاستشارية والدورات البيداغوجية بإشراف المتفقدين. لذلك أطالب الدولة التونسية أن تفرِض على المؤسسات التربوية الخاصة إتاوات أو استحقاقات مالية تدفعها للخزينة العامة زيادة عن الضرائب العادية المفروضة على المؤسسات التجارية الأخرى. وإذا رفضت، فَعَلى الدولة أن تسحب منها البرنامج أو تفرض عليها تخفيضا بــ50 في المائة في رسوم التسجيل والتعليم لفائدة التلامذة التونسيين أبناء دافعي الضرائب حتى لا يصبح هؤلاء الأخيرين يشترون مِلكهم من غير مالكه! وتترك لها حرية التصرف مع أبناء الجالية الأجنبية المقيمة في تونس شريطة أن تدفع المؤسسة الحرّة للدولة قسطا من أرباح بيع البرنامج التونسي التعليمي العمومي إلى المستفيدين الأجانب.

اعتراض وجيه ذكّرني به أحد أصدقائي وجلسائي (خليفة يحيا) اليوم صباحا في مقهى الويفي بحمام الشط الغربية عندما عرضت-كعادتي-فكرتي قبل نشرها فقال لي: "تراعي الدولة مصلحتها الثقافية الإستراتيجية قبل المالية وتحرص على توحيد البرامج في التعليم العمومي والتعليم الخاص ضمانا للوحدة الثقافية للمجتمع التونسي." فقلتُ له: "لو حرصت على المصلحتين لَما ندمت".


اقتراح طريقة جديدة لتدريس القرآن في روضات الأطفال

 

طريقة مستوحاة من بيداغوجيا "مونتيسوري" المنشورة في كتابها التالي:

Bibliographie : Maria Montessori, Pédagogie scientifique, tome 1 : La maison des enfants, éditions Desclée de Brouwer, 1958, Paris 2010 pour la présente édition, 261 pages (premier ouvrage de la Doctoresse paru en France en 1926).

Biographie : Maria Montessori née en Italie en 1870, décédée en 1952, 1ère femme italienne diplômé docteur en médecine. Elle était également licenciée en biologie et en philosophie. Elle fit des études de psychologie. En 1904, on lui confia une chaire d`anthropologie à l`Université de Rome après la publication de son premier livre L’Anthropologie pédagogique.

 

يبدو لي والمختصون في تدريس القرآن أعلم أن الفضاء العَلماني التقليدي المستَعمل حاليا في التعليم التونسي ما قَبل المدرسي فضاءٌ غير مناسب لتعليم المقدس ولا يتوفر على أقل الشروط المطلوبة في مثل هذه الوضعية التعلمية الخاصة.

أتمنى أن تُخصص قاعة في كل روضة أطفال لتدريس القرآن حيث يغطس الطفل في حمّام لغوي وروحاني صافٍ، تجربة تُعلّم النطق السليم وتُدرّب على الحفظ وتُغنِي المفردات العربية الفصيحة وتُمرّر آداب الإنصات. تُؤثث هذه القاعة كما يُؤثث المسجد أو الجامع وتُخصص لتحفيظ القرآن مثلما تُخصص في المعاهد مخابر لتدريس العلوم التجريبية. تحوي هذه القاعة الخاصة مصاحف صغيرة الحجم جميلة مزركشة بخط فني واضح وتُفرش بسجاد أنيق وتُجهز بمنبر صغير على مقاس الأطفال وتتوفر فيها حنفيات لتعلم الوضوء.

أتمنى أن يُنتدَب لتدريس هذه المادة الأساسية مُدرس تقي وقور معروف في المجتمع باستقامته وسلميته وعدم تطرفه قولا وفعلا  ومقبول من الغير وقابل للغير أخًا له في الإنسانية مهما كانت عقيدة هذا الغير مسيحية كانت أو يهودية أو بهائية أو بوذية أو إلحادية أو لاأدرية أو غيرها. ولو كنت أنا الذي يختار لَفضلت المُجاز المستقيم الورع التقي حسن ُ القراءة والتجويد على الدكتور الذي يفتقر لبعض هذه الصفات الحميدة لأن القرآن يخاطب القلب قبل العقل والإيمان شيء رباني وليس اكتساب عَلماني ولاشترطت عند الانتداب بحثا ميدانيا حول كل مترشح لهذه الخطة العالية (كما نطلب مثله عند تعيين مسؤول إداري عمومي، وهل معلم الدين أقل مسؤولية من مدير معهد أو كلية). نطلب في ملف المترشح شهادة حسن سيرة ممضاة من أهل موطنه أو حيه على اختلاف مشاربهم، ممضاة من السلفي المسالم والإسلامي المعتدل واليساري المعتدل والعَلماني المستقل وأهل الكتاب إن ضمتهم نفس المدينة أو نفس الجامعة أو نفس المؤسسة.

يؤكد علماء التربية أن الطفل ليس صفحة بيضاء يكتب عليها المدرس ما يشاء. أما دعاة الدين المرتزقة فيبدو لي أنهم يعتبرون الطفل صفحة بيضاء يملؤونها بخرافاتهم وتأويلاتهم العرجاء. دين محمد (ص.ل. ع. م) أتى رحمة للعالمين مسلمين وغير مسلمين، فحوّله هؤلاء الدواعش إلى دين إرهابٍ وإكراهٍ وقتلٍ وسَبْيٍ واغتصابٍ للمسلمين وغير المسلمين. ولا أدلّ على ذلك من أن كل المتطرفين يمينا ويسارا هم في أغلبيتهم شباب في مقتبل العمر تنقصهم التجربة الإنسانية. لذلك يسهل على الدعاة غسل أدمغتهم في ظرف أشهر معدودات ويقنعونهم بتفجير أنفسهم ويرسلونهم إلى الموت وهم في حالة أشبه بحالة متعاطي المخدرات. وهل توجد مخدرات أنجع تأثيرا على الجسم من الهرمونات المخدِّرة للإرادة الفردية التي يفرزها المخ نفسه بعد غسله وشحنه بإيمان متطرف، عَلمانيا كان أو دينيا؟ أما العلم فهو يُكتسب ببطء شديد فلا تستطيع أن تكوّن مهندسا أو محاميا أو طبيبا إلا بعد جهد جهيد وعمر مديد ولن تستطيع ذلك إلا بتنوع المدرسين أما الإرهابي فيكفيه معلم متطرف واحد. وهل رأيت في حياتك كهلا يعتنق العنف الثوري الشيوعي أو يعتنق السلفية الجهادية؟ لذلك أنا متفائل خيرا بأن موجة السلفيين الجهاديين ستأخذ وقتها وتمر كما مرت وانتهت قبلها موجة أعنف، موجة من الثورات الشيوعية المسلحة في أوائل وأواسط القرن العشرين وسوف تنقرض بحول الله الدول الإسلامية المساندة والممولة للإرهاب الإسلاموي مثل السعودية وقطر وتركيا والسودان كما انقرضت قبلها دول أغنى وأقوى منها، دول عظمى ساندت العنف الثوري المسلح كالاتحاد السفياتي وألمانيا الشرقية وألبانيا أنور خوجا وكمبوديا بول بوت. آمل أن يكون المستقبل للديمقراطية الاشتراكية على نمط الدول الأسكندنافية إن شاءت الشعوب وطورت معتقداتها.

 

بعض الأهداف المرجوة من هذه الطريقة الجديدة:

-         إحياء وغرس قيم التسامح والتعايش في سلام ووئام، قيم  سادت في بداية عهد الرسول في المدينة المنورة حيث تشارك في المواطنة والحقوق والواجبات المسلم المهاجر والمسلم الأنصاري واليهودي والمسيحي والصابئ، كلهم يسالمون المسالمين وينعتون المعتدين بالكفّار بسبب عدوانهم لا بسبب  دياناتهم المختلفة. استقبلوا الرسول ووفروا له الحماية والنصرة اللتان لم يجدهما في مسقط رأسه مكة وفي المقابل أمّنهم هو من خوف واستجاروا به فأجارهم. أما "داعش" اليوم وخلافا للرسول فهي تقتل المسيحيين والأكراد الأزيديين لمجرد عدم إسلامهم. وهل الله أمرنا أن نكرِه الناس بالقوة على اعتناق دين التسامح، أول دين دستر حرية الضمير والمعتقد قبل أن تُكتب حديثا في دساتير الدول العَلمانية وأحدثها دستور تونس الجديد الذي أسسه إسلاميون وعَلمانيون تحت سلطة إسلامية؟ وهل السلفيون الجهاديون التونسيون اليوم أكثر غيرة من النهضاويين التونسيين على الإسلام؟ يقتلون ضيوفنا الأجانب في متحف باردو ويغدرون بهم ويغتالونهم وهم عزّلا.

-         تلقيح الناشئة ضد أنواع الفكر المتطرف الإقصائي أو ألاستئصالي وضد  الإرهاب المسلح.

-         الوقاية ضد رفض الآخر مهما كانت عقيدة هذا الآخر ما لم يكن معتديا.

-         الوقاية ضد خلط المقدس بالدنيوي، فالأول شخصي وذاتي وعمودي بين الخالق والمخلوق، علاقة يضبطها القرآن وحده ولا رقابة أو وصاية لأحد على أحد، أما الثاني فهو اجتماعي وأفقي بين بشر وبشر، علاقة تضبطها القوانين بين الدول والأفراد ولكل  فرد الحق في حرية الضمير والمعتقد ولا سلطة لبشر على بشر ولا فضل لمسلم على غير مسلم إلا بمدى حبه للإنسانية جمعاء دون تمييز ديني أو طبقي أو عرقي أو جنسي.

 

 

 

 


لو أصبحتُ وزيرا للتربية التونسية!

 

إليكم أيها الزملاء الكرام قراراتي القابلة للنقاش والباحثة عن التفنيد قبل التنفيذ الجدي في تونس 2050 ولا أدعي وليست مهمتي ولا في استطاعتي تقديم مشروع تربوي بديل شامل ومتكامل, إنما هي صرخة استغاثة أخلاقية ضد واقع مؤلم تلظى بناره الأستاذ محمد كشكار لمدة 36 عاما. فهل يُعاتَبُ من صمت دهرا وصرخ ساعة في الفايسبوك؟

1.    باب الميزانية:

قرار 1.1: يبدو لي أن الهرم التعليمي في تونس هرم مقلوب لأن الدولة تخصص الحظ الأوفر من الميزانية للتعليم الثانوي ثم الإعدادي ثم الابتدائي ولو عكست لأصابت وصححت الخطأ ووضعت الهرم على قاعدته الأساسية المتمثلة في التعليم الابتدائي.

2.    باب البيداغوجيا:

قرار 1.2: على الوزارة تطبيق الشعار الذي رفعته في مشروع مدرسة الغد منذ عام 2000 والمتمثل في اعتماد المدرسة البنائية لبياجي وفيقوتسكي: يبني التلميذ معرفته بنفسه بالاحتكاك بالمحيط  وبمساعدة المدرس والأقران ويحتفظ المدرس بحرية اختيار النموذج المناسب للوضعية المناسبة من بين كل النماذج التربوية الأخرى مثل "التلقين" و"التقليد" و"المحاضرة" و"التخلي عن التدريس في القسم"(La dévolution) وترك التلميذ يتعلم بنفسه دون مساعدة ظاهرة من المدرس.

قرار 2.2: على الوزارة التخلص التدريجي من سيطرة النموذج السائد في المؤسسات التعليمية، ألا وهو  نموذج المدرسة السلوكية لواتسون وسكينر( يُلَقَّنُ التلميذ معرفةً من قِبل مدرّسٍ ولا يشرَّك في بنائها فيصبح "كالحمار يحمل أسفارا") مع احترامي الشديد للتلامذة وهذا وصفٌ وليس ثلبا والمهم هو أخذ العبرة من التشابه بينهما في حمل المعلومات دون الاستفادة منها لأن تلميذنا الحالي يكتسب معلومات  لا يستفيد  منها ولا يقدر على توظيفها في المكان المناسب في الوضعية المناسبة.

قرار 3.2: على الوزارة تطبيق بيداغوجيا المشروع منذ الابتدائي (مشروع علمي بسيط أو معقد تختاره وتنفذه مجموعة من التلامذة تحت إشراف مدرسيهم) حتى ندرب التلميذ على البحث العلمي والعمل الجماعي والمبادرة الذاتية والاعتماد على النفس والاستقلال المتدرج عن المدرس منذ الصغر.

قرار 4.2: على الوزارة التقليل من تدريس النظري المجرد في الثانوي والإكثار من تدريس بعض التطبيقات العملية في الفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة والأرض.

قرار 5.2: إدراج تدريس الممارسات الاجتماعية المرجعية أو التقليدية (Les pratiques sociales de référence) في البرنامج الرسمي والتخفيف من سيطرة المعرفة العالمة (Le savoir savant) التي تخص العلوم الصحيحة والتجريبية مثل الرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة والأرض وما ينتج عن تطبيقاتهم من تكنولوجيا. توجد المعرفة العالمة في الجامعات والمؤتمرات العلمية والمجلات العلمية المختصة. توجد الممارسات الاجتماعية التقليدية متغلغلة في المجتمع لكنها محتقرة ومتجاهلة من رجال العلم القابعين في أبراجهم العاجية والمتكبرين على هذا النوع الأساسي من المعرفة الشعبية النفعية المباشرة. يقولون أن هذه المعرفة الاجتماعية التقليدية لا ترتقي إلى مرتبة المعرفة العالمة ونُبْلِها. نرى اليوم أن بعض الممارسات الاجتماعية مثل الرياضة بدأت تقتحم باحتشام عالم المعرفة العالمة المغلق وبدأنا نسمع ببحوث معمقة ودكاترة في الرياضة. لماذا لا ندرس نظريا وتطبيقيا كيفية إعداد بعض الأطباق الشهية التونسية كالكسكسي والطاجين؟ لماذا لا يتعلم تلامذتنا إناثا وذكورا الخياطة والنجارة والحدادة والبناء و"البريكولاج" في التعليم العام مثل ما يفعل تلامذة فنلندا؟ لماذا لا يتعلم تلامذتنا إناثا وذكورا السياقة في المعهد؟ لماذا نفصل بين المدرسة وما يقع في المجتمع؟ لماذا لا تكون مدرستنا مرآة للمجتمع تعكس علمه ومعرفته وتقاليده أيضا؟

قرار6.2: على الوزارة برمجة مواضيع تعليمية تهم التلامذة التونسيين في القرن الحادي والعشرين بعد سبر آرائهم مثل تعليم التعامل مع الصورة في النت والفضائيات (Décodage de l`image) وتعليم السياقة والموضة والطب الوقائي من أمراض الشباب (لماذا يحتكِر هذه المعرفة الأطباء والإطار شبه الطبي فقط) والتربية العاطفية والنفسية والتدريب على فنون البستنة والطبخ وتربية الصغار كما كان معمولا به في تعليم السبعينيات في مادة العلوم التطبيقية في الابتدائي (Connaissances usuelles). يُنتدب لهذا النوع من التعليم العام مدرِّبون من القرية أو المدينة القريبة حسب كفاءاتهم وليس حسب شهاداتهم العلمية, يشرف عليهم مدرس خبير صاحب شهادة علمية. عمل الأم والأب خارج المنزل قد يمنعهم من   توريث صغارهم مهاراتهم المكتسبة مثل ما كان الحال قديما، حيث كان ابن النجار يصبح نجارا وابن الحداد حدادا.

قرار 7.2: تقوم الوزارة كل عام بإحصاءات لتقييم نتائج الامتحانات ونتائج التوجيه وهي إحصاءات دقيقة وموثوق بها ومتعبة ومكلفة. فلماذا لا تدرُس الوزارة نتائج الإحصاءات وتفحصها وتوظفها من أجل إصلاح التعليم؟ أنا أدرّس علوم الحياة والأرض للسنة الأولى ثانوي (3 سنوات قبل الباكلوريا) منذ 15 سنة ولم ألاحظ أي إصلاح واضح في هذا المستوى.

قرار 8.2: على الوزارة تعريب تدريس العلوم في كل مراحل التعليم (ابتدائي وإعدادي وثانوي وجامعي) أو فرنستها تماما ولا نتركها على حالها معربة في الأساسي (ابتدائي و إعدادي) ومفرنسة في الثانوي والجامعي. يصل التلميذ إلى الثانوي حاملا مصطلحات علمية معرّبة فييصعب عليه فهم المصطلحات الفرنسية الذي يتعرض لها في الثانوي. أنا أميل لفرنسة تدريس العلوم في كل مراحل التعليم من الروضة إلى الجامعة لا لضعف حسي القومي العربي وإنما لأنني أعتبر التعريب دون مراجع علمية بالعربية ودون أساتذة متكونين بالعربية ودون مجلات علمية مختصة تنشر إنتاجنا العلمي، أعتبره تفقيرا لثقافة الأستاذ والتلميذ وتجهيلا ولو دون قصد. كان الأوربيون يدرُسون العلوم عربية الإنتاج في الأندلس بالعربية ولم يروا في ذلك أي غضاضة ولا نقصا إلى أن نهضوا وأنتجوا علما ودوّنوه بلغتهم وكذلك فعلت ألمانيا في فجر نهضتها عندما اللغة الفرنسية في جميع مراحل تعليمها.

قرار 9.2: على الوزارة برمجة الانتقال التدريجي من تدريس العلوم بالفرنسية إلى تدريسها باللغة الأنقليزية لِما لهذه الأخيرة من ثقل علمي اقتصادي ثقافي في العالم. يبدو لي أن عالم الثقافة بالأنقليزية أرحب ألف مرة من عالم الفركوفونية الذي سجنتنا فيه الهيمنة الفرنسية لمدة قرن ونصف.

3.    باب النجاح والامتحانات:

قرار 1.3: على الوزارة الأمر بعدم تجاوز 20 تلميذا في كل قسم وفي كل مستويات مراحل التعليم مع العلم أن في سنغافورة, بلد التعليم المتقدم جدا, يصل الفصل الواحد إلى 40 تلميذا. لا يكفي أن نغير عاملا واحدا حتى تتحسن المنظومة التربوية كاملة لأن العوامل السببية متداخلة ومتشعبة ومعقدة.

قرار 2.3: على الوزارة السماح للتلميذ بالاستعانة بالوثائق والمستندات خلال امتحانات توظيف المعلومات, مثلا: ما ضرّ لو استعان تلميذ بوثيقة تحتوي على قصائد شعرية في امتحان الإنشاء أو مستند يذكّر بالقواعد والنظريات في امتحان الرياضيات أو الفيزياء. أما تنشيط الذاكرة وتقييم الحفظ في كل المواد فيكون شفويا وفي السبورة باعتماد مقياس علمي متعدد المعيارات وأمام لجنة متكونة من مدرسين اثنين على الأقل لضمان أكبر قدرٍ من العدل والإنصاف.

قرار 3.3: على الوزارة التقليل من عدد الامتحانات والتقييمات الجزائية الضارّة والإكثار من التقييمات التكوينية النافعة.

قرار 4.3: على الوزارة تأسيس قسم مستقل لتقييم التلامذة وإبعاد المدرس عن مهمة تقييم تلامذته بنفسه درءا للشبهات (القرابة والعاطفة والضعف البشري والمحسوبية والرشوة عن طريق الدروس الخاصة).

4. أبواب القانون الأساسي الخاص بالمدرسين:

1.4. باب الانتداب:

قرار 1.1.4: على الوزارة عدم التمييز بين معلم ابتدائي وأستاذ إعدادي وأستاذ ثانوي في الحقوق والواجبات والتكوين العلمي وشروط الانتداب والمرتب وعدد ساعات العمل وتطلق على الثلاثة صفة واسم واحد (Educateur) ومرتب موحد.

قرار 2.1.4: على الوزارة بعث كلية للتربية. يدرس فيها الطالب البيداغوجيا والتعلمية (La didactique) وعلم نفس الطفل والابستيمولوجيا وتاريخ العلوم وعلوم التواصل (Les TICE) وعلم التقييم وإدراك عملية الإدراك (La métacognition) والسيميولوجيا (La sémiologie) لمدة عامين على أيدي أساتذة دكاترة جامعيين مختصين وليس على أيدي مفقدين أو أساتذة ثانوي ملحقين أو أساتذة جامعيين غير مختصين. يدخل إلى هذه المدرسة العليا الحائزون على التبريز (L`agrégation), كل في اختصاصه. يتخرج منها المعلم والأستاذ والمدير والقيم والقيم العام والمتفقد إن بقيت في تونس مؤسسة التفقد البيداغوجي.

1.4.        باب التحفيز:

قرار 1.2.4: يرتقي المدرس من درجة إلى درجة مرتين في حياته. مرة أولى, من مدرس إلى مدرس أول بعد 15 سنة أقدمية ويُضاف له شهريا نصف المرتب ومرة ثانية, من مدرس أول إلى رتبة مدرس خبير بعد خمس سنوات أقدمية في الرتبة الثانية ويُضاف له النصف الثاني من المرتب فيصبح المدرس الخبير يتقاضى ضعف مرتب المدرس المبتدئ. إذا انطلقنا من مبدأ أن كل المدرسين المنتدبين حاصلين على التبريز في اختصاصاتهم, ويرتقي فوريا, دون قضاء مدة 15 سنة في التعليم, إلى مدرس أول كل من تحصل على الماجستير في علوم التربية ولا يرتقي فوريا إلى مدرس خبير إلا من تحصل على الدكتورا في علوم التربية فقط لأنها الدكتورا الوحيدة التي ترجع بالفائدة المباشرة على التعليم الثانوي. بماذا يستفيد تلامذة التعليم الأساسي أو الثانوي لو تحصل مدرس على دكتورا في علم الوراثة مثلا؟ قد يتحسن أداؤه قليلا لا أكثر ولا أقل.

قرار 2.2.4:  على الوزارة تمكين الأساتذة المجتهدين والمنضبطين في العمل من حوافز مادية يقررها سنويا المجلس البيداغوجي في المعهد. يرجع المدرس المشع والمنضبط والمجتهد إلى عمله في سبتمبر وهو ينتظر زيادة في المرتب لا تقل عن 1 من 20 من مرتبه الجاري وقتها.

3.4.        باب المرتبات:

قرار 1.3.4: على الوزارة مضاعفة مرتبات كل من يعمل بوزارة التربية بما فيهم الوزير نفسه. لكم أن تسألوا من أين ستأتي بالميزانية الإضافية؟ تأتي بها من الإلغاء المتدرج للمصالح الطفيلية التالية مع ضمان حقوق من يعمل فيها:

-         على الوزارة إلغاء كل الإدارات الجهوية وجيشها العرمرم من الإداريين. ذهبت مرة في رمضان إلى الإدارة الجهوية ببنعروس للسؤال عن غياب منحة الإنتاج الهزيلة. قصدت الموظف المعروف. وجدت بابه موصدا. سألت ثلاثة من زملائه, قالوا ذهب إلى الوزارة في مأمورية. قابلت في الممر رئيس المصلحة المالية وكان يعرفني فسألني: ما حاجتك يا كشكار؟ حكيت له ما وقع. رجع إلى مكتبه وأخذ مفتاح مكتب الموظف المغلق وفتحه. وجدنا الموظف المعني نائما مختبئا وراء كوم من الملفات. خرجنا الاثنان دون تعليق. ما هو تعداد سكان تونس, ألا يساوون سكان مدينة من مدن الصين أو الهند, فلماذا تهدر أموال المواطنين المساهمين في إقامة هذه اللامركزية المزيفة ؟ ولماذا لا نستغل إنجازات التكنولوجيا الحديثة التي نتغنى بها طول الوقت ونقيم أنترنات داخلية (Intranet) تربط بين كل مؤسسات وزارة التربية فيستطيع الوزير وبنقرة واحدة على الفأرة أن يعرف عدد التلامذة المتغيبين في الحصة الأولى في معهد بنقردان.

-         على الوزارة إلغاء عديد المصالح البيروقراطية في عقر دارها. تحتوي وزارة التربية في السويد على موظفين اثنين فقط, الوزير وكاتبه, و تبلغ مساحتها 300 متر مربع فقط. ذهبت وزيرة التربية الفرنسية مرة في زيارة ودية لوزارة التربية السويدية. دخلت قاعة الانتظار المتواضعة في الوزارة المعنية, جلست, قدمت لها امرأة عادية اللباس القهوة ورحبت بها فسألتها الوزيرة الفرنسية: عندي موعد مع الوزيرة السويدية وقد حان الوقت. أجابتها المرأة العادية قائلة: أنا الوزيرة فأهلا وسهلا بك في السويد. لا يتمتع الوزير في السويد بسيارة مجانية ولا بسكن مجاني ولا بطباخين عكس ما هو الحال في فرنسا. عندما تريد الوزيرة زيارة مؤسسة تربوية, تضع البلدية المعنية في خدمتها سيارة وسائق. السويد, بلد العدل, والله لو رجع عمر بن الخطاب, رضي الله عنه, حيا وسألوه: "يا فاروق, أي بلد حقق شعارك القائل: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا". لأجاب فورا ودون تردد: السويد، السويد، السويد.

 

أطالب بالزيادة في المرتبات، لا لطمع أو جشع في نفسي، فهي قنوعة والحمد لله وحتى إن لم تكن كذلك فـ36 عام من الفقر والغبن والاحتقار من قِبل المجتمع (والدليل وجود مَثَلٍ تونسي دارج: "أعطِ بنتك لمعلّم حتى تلقالها راجل")، أظنها فترة كافية لتعلمني القناعة رغم أنفي بل أصبحت القناعة تسري في عروقي وتزاحم الكريات الحمراء وخوفي أن تجلب لي جلطة وأموت شهيد القناعة. أطالب بالزيادة حتى يصبح معلم أولادكم محترما وقدوةً فينتفع بشخصيته المتوازنة تلامذته ويحاولون تقليده ويُصْبُون للوصول إلى ما وصل إليه ولا يتشبهون بالمنحرفين اجتماعيا أو بالمحترفين من بعض لاعبي الكرة أو بعض الفنانين سارقي أموالنا وعرقنا ومفسدِي شبيبتنا. أطالب بالزيادة حتى نحمي المدرس (ألم يكد أن يكون رسولا؟) من الانحراف و بيع العلم في "القاراجات" (des garages non équipés) وزيادة الأعداد بالرشوة  وتضخيم المعدلات السنوية لتلامذة الباكلوريا حتي ينتفعوا باحتساب الـ25 في المائة في معدل النجاح في الباكلوريا كي ينجحوا دون وجه حق، يعني بمعدل 8 على 20 في الامتحان الرسمي للباكلوريا. أطالب بتنظيرنا بالقضاة (ألا يعطونهم مرتبا محترما حماية لهم من الطمع؟)، يبدو لي أننا نحن أولى منهم لأننا نمارس أشرف مهنة في التاريخ وفي الوجود، مهنة صنعت القاضي والطبيب والمحامي والخبير وغيرهم من الإطارات العليا في المجتمع،  مهنة - للأسف الشديد - بقيت في أدنى درجات السلم الوظيفي في الوظيفة العمومية. يتقاضى موظف البنك سبعة عشر شهرية في العام ونحن نتقاضى منحة إنتاج لا تكفي علفا للدجاج. أطالب بالزيادة في المرتب لأننا بُناة الدولة وأساسها وعمادها فمن مصلحة الدولة إذن أن تحترمنا ماديا ومعنويا حتى لا ينهار نتيجة ضعفِنا بنيانُها.

4.4. باب المديرين:

قرار 4.4. 1: حسب رأيي يجب أن يدير المعهد أو الإعدادية مديران اثنان عوضا عن واحد. على الوزارة إحداث خطة مدير إداري ومدير بيداغوجي.  يُعيَّن مدير إداري في المعهد وفي الإعدادية, يقوم مقام المرشد التربوي الحالي (أو القيم العام) وبذلك قد ننجح في إلغاء الخصام الدائم والتاريخي بين المدير والقيم العام. خصامٌ ناتجٌ عن عدم تحديد المسؤولية وعن التنازع على السلطة البيروقراطية. يُعيّن المدير البيداغوجي لفترتين متتاليتين أو منفصلتين لا ثالثة لهما. يترشح لخطة مدير إداري كل مَن تخطى الأربعين من عمره يكون من خريجي كلية التربية الحائزين على التبريز في الاقتصاد والتصرف أو من خريجي مدرسة الادارة. يترشح لخطة مدير إداري من تخطى الأربعين أيضا وكان حائزا على الماجستير في البيداغوجيا أو الديداكتيك ومتخرجا من كلية التربية. يسيّرُ المدير الإداري المؤسسة ويسهر على راحة التلامذة خارج أقسامهم وعلى توفير التجهيزات التعلّمية واللوجستية ويقوم أيضا مقام المقتصد. يترأس المديرُ البيداغوجي المجلسَ البيداغوجي المنتخب من قِبل المدرسين والأولياء والتلامذة. يسطِّر المجلس البيداغوجي سياسة المؤسسة من جدول الأوقات إلى مجالس التربية. لا يتمتع المدير البيداغوجي بأي سلطة مستقلة عن المجلس البيداغوجي. تُنفَّذ قرارات المجلس البيداغوجي حرفيا في المؤسسة حتى ولو اختلفت مع أوامر الوزارة لأسباب محلية طارئة.

5.4. باب التخفيض في ساعات العمل:

قرار5.4. 1: نظرا لاعتبار مهنة التعليم مهنة شاقة، فعلى الوزارة تخفيض 3 ساعات عمل لكل مدرس بلغ 50 عاما. يُحال الأستاذ على التقاعد في سن 55 مهما كانت أقدميّته في التعليم، لا لِسوادِ عينَيْ الأستاذ بل لمصلحة التلميذ.

قرار5.4. 2: على الوزارة تحديد الحصة الدراسية الواحدة بـ45 دقيقة تليها راحة بـ15 دقيقة مثل ما يقع عندنا في شهر التقوى و الإيمان, شهر رمضان العظيم و في أمريكا العظيمة أيضا.

6.4. باب الإصلاحات في المرحلة الابتدائية من التعليم الأساسي:

قرار 6.4. 1: على الوزارة تعيين مدرس مختص في كل مجال معين في الابتدائي (مثلا مدرس لغة عربية أو مدرس لغة فرنسية أو مدرس علوم أو مدرس فنون أو مدرس رياضة) وعليها تقع مسؤولية تعميق تكوينه في هذا المجال فقط مع تكوينه أيضا في علوم التربية.

 5. باب تغيير هندسة بناء المؤسسات التربوية:

قرار 1.5: على الوزارة بناء سور عال حول كل المؤسسات التربوية وتعيين حارس دائم في الباب كي يحميها من الدخلاء مثل ما هو موجود الآن بمعهد الصادقية بتونس العاصمة الذي خِلته, عند مروري أمامه لأول مرة, مجلسا للنواب لنظافته وزخرفة معماره. على الوزارة إخراج الساحة من وسط المؤسسة إلى جانبها. يخرج التلميذ من قاعة الدرس فيلتحق بالساحة الخارجية حيث توجد دار ثقافة ودار مسرح وقاعة رياضة ومكتبة كلاسيكية وأخرى رقمية وقاعة مراجعة حيث يتولى منشطون مختصون تسيير النوادي الثقافية والترفيهية القارة والمستمرة والمفتوحة على الدوام  تحت إشراف وزارة الرياضة ووزارة الثقافة.

قرار 2.5: على الوزارة بناء قاعة رياضة مجهزة في كل مؤسسة تربوية فلا يعقل أن أمارس أنا في الستينات كل أنواع الرياضة داخل قاعة مغطاة في قابس ويلعب أولادي في القرن 21 في ملاعب معشبة بالحشائش والأشواك البرية في برج السدرية أو لا يلعبون تماما بحجة "ملعب غير صالح مؤقتا للعب" (terrain impraticable).

 6. باب العقوبات المسلطة على التلامذة:

قرار 1.6: على الوزارة إلغاء عقوبة الطرد النهائي للتلميذ. لا نستطيع تدارك الخطأ لو وقعنا فيه بعد تسليط العقوبة. نعوض عقوبة الطرد النهائي بنقلة عقاب إلى معهد بعيد عن مقر السكن يقترحها مجلس التربية بالمعهد أو غيرها من العقوبات ذات الطابع التربوي التأديبي.

قرار 2.6: إذا قدّر وحصل وبدأ المدرس بالاعتداء اللفظي أو المادي على تلميذ ورد التلميذ بالمثل أو أكثر فعلى الأستاذ عدم تتبع التلميذ إداريا ولا مدنيا وعليه تقديم اعتذار للولي وللإدارة لأن البادئ أظلم. كرامة الأستاذ عالية في السماء وهي أرفع من أن ينالها تلميذ متهور مهما فعل. قد يخطئ الحدث أو المراهق والشيء من مأتاه لا يستغرب لكن على المدرس القدوة أن يعقل و يتروي قبل اتخاذ أي إجراء تأديبي ضد أي سلوك غير حضاري يصدر عن التلميذ.

7. باب التكوين المهني:

قرار 1.7: على الوزارة إرجاع  العمل بنظام التكوين المهني وتحسينه وتمكين المنتسبين إليه من اجتياز الباكلوريا ومواصلة تعليمهم العالي إن توفرت فيهم شروط التفوق. أقترح توجيه 80 في المائة من الناجحين في النوفيام (امتحان نهاية المرحلة الثانية من التعليم الأساسي) إلى التعليم المهني. دولة ألمانيا, وما أدراك ما دولة ألمانيا, توجه 70 في المائة من تلامذتها إلى التعليم المهني عند نهاية مرحلة الأساسي التي تدوم عندهم 10 سنوات. إذا كانت ألمانيا المصنعة تحتاج إلى 70 في المائة من أبنائها في المهني فنحن أحوج منها إلى نسبة أكبر لبناء دولة فتية مصنعة.

8. باب دفتر المناداة:

قرار 1.8: على الوزارة إلغاء العمل بدفتر المناداة الذي تسبب في رفت عدد من التلامذة وتعويضه بأنترنات داخلية (Intranet). وبمثل هذه الطريقة البسيطة، يستطيع المدير في مكتبه أن يعرف فوريا كل الغيابات وتمر شبكة المعلومات عبر كل الأساتذة وقد تصل المعلومة فوريا لو أردنا إلى الأولياء المربوطين بالأنترنات وبهذه الطريقة يراقب الولي ابنه يوميا، والوقاية خير من العلاج. في 2010، قال لي مدير صديق أن الوزارة تحضِّر لتطبيق هذا النظام الرقمي قريبا، وها نحن اليوم في 2017 ولم يتغير شيئًا إلا بعض الإرساليات القصيرة عبر الهاتف.

قرار 2.8: على الوزارة تخصيص قاعة لكل اختصاص, مثلا قاعة التاريخ والجغرافيا, قاعة الفرنسية, قاعة العربية جنب المخابر العلمية. يصبح للقاعة بطاقة تعريف وهيبة واحترام. يأخذ كل أستاذ مفتاحا يفتح به القاعة ويغلقها عند الخروج فنحافظ على القاعات من الإهمال وعلى التجهيزات من الإتلاف.

قرار 3.8: على المتفقد- إن بقيَ حلقة في النظام التربوي التونسي - أن يعلم مسبقا المدرس المقصود بتوقيت زيارته. من حق المدرس المعنِي أن يطلب زميلا مرافقا إجبارييا للمتفقد. يكون هذا المرافق من رتبة المدرس الخبير في نفس الاختصاص ومن أي مؤسسة. لا يسند المتفقد أي عدد تقييمي اعتباطي بل يوجه وبكل لطف المدرس المعني بالتقويم إلى تكوين أكاديمي في معرفة ظهر أنه يفتقدها. هذا التكوين يوفره له مركز التكوين على أيدي مكونِين مختصين في الميدان (أساتذة جامعيين أو مدرس خبير أو خبير في ميدان خارج عن التعليم مثل المهندسين والأطباء) وليس على أيدي مدرسين عاديين مكلفين بالتكوين وهم غير متكونين في موضوع التكوين. على الوزارة إرساء تفقد علمي وموضوعي وليس تفقدا فجائيا أو بوليسيا. مع الإشارة إلى أن المتفقد والمدرس لم يدرسا علم التقييم في الجامعة فالاثنان في نقص التكوين سواء، ومن يقيّم دون علم تقييم كمن يزن دون ميزان.

9. باب الإعلامية أو علوم الحاسوب أو "الباب الافتراضي":

قرار 1.9: على الوزارة تعميم الإعلامية أو التكنولوجيات الحديثة ( استعمال الحاسوب والسبورة الرقمية التفاعلية) على كل مراحل التعليم والتركيز على الابتدائي قبل الإعدادي والثانوي لِما تمثله هذه التجهيزات من تحفيز للصغار. تعميم التدريس بواسطة التكنولوجيات الحديثة على كل المواد العلمية والإنسانية.

قرار 2.9: على الوزارة تخصيص معاهد مهنية جهوية تهتم بتدريس مسلك علوم الإعلامية فقط.

10. باب المساواة بين المدرّس والمدرّسة:

قرار 1.10: على الوزارة احترام مبدأ تكافؤ الفرص بين المرأة والرجل ومبدأ التمييز الإيجابي لصالح المرأة في المؤسسات التربوية وانتداب 50 في المائة من كل جنس في كل المستويات وصولا للوزير فمرّة وزيرة للتربية التونسية ومرة وزير. تمتيع الأب بحقه في عطلة الأمومة بأجر كامل وبنصف أجر بالتناوب مع الأم إن كانت تشتغل خارج البيت وتمتيعه أيضا وبالتناوب بحقه في ساعة الرضاعة (Au biberon).

11. باب اقتسام المسؤولية:

قرار 1.11: لو ساءت ظروف العمل في مؤسسة تربوية ما, فعلى الجميع, مدرسين وعملة وتلامذة وأولياء وإدارة, تحمل المسؤولية وحل الإشكال فيما بينهم دون انتظار الحل طويلا من الوزارة.

12. باب الحزم المفيد للتلميذ:

قرار1.12: على الوزارة التوصية بالحزم مع التلامذة لأن التسامح المبالغ فيه وغياب السلطة يمثل نوعا من سوء المعاملة للطفل (L`absence d`autorité chez les enfants est une forme de maltraitance). الحزم لا يعني تشديد العقوبات بل يعني الانضباط والوقاية قبل ارتكاب التلميذ لسلوك غير حضاري.

13. باب مفتوح:

قرار 1.13: على الوزارة تعيين يوم ثانٍ مخصص لاستقبال الأولياء لا للسؤال عن نتائج أبنائهم وإنما للاطلاع على ما يدرُس أبناؤهم وأقترح أن نسمّيه "يوم مدرسي مفتوح على المجتمع". يخرج التلامذة من قاعاتهم المغلقة إلى الساحة حيث يعرضون بعض التجارب العلمية على جمهور الأولياء أو يفسرون بعض النظريات الفلسفية أو يقرؤون بعض القصائد الشعرية. سوق علمية ثقافية قد تُقرِّب الولي من المعرفة التي يتعلمها ابنه وقد سبق لي وأن شاهدتُ هذه التجربة بأم عيني في معهد في نانسي بفرنسا عام 2000.

14. باب الخيال العلمي التونسي:

قرار 1.14: على الوزارة توفير سيارة صغيرة وحافلة متوسطة لكل مؤسسة تربوية. نستعمل السيارة الصغيرة لقضاء احتياجات المؤسسة العاجلة والطارئة أما الحافلة فنستغلها في الرحلات الدراسية والترفيهية. يبرمج  كل مدرس طلباته: مدرس  علوم الحياة والأرض يروم هو وتلامذته زيارة حديقة "إشكل" ببنزرت لمشاهدة الطيور المهاجرة عن قرب, مدرس التاريخ يرغب في زيارة "قصر الجم", مدرس الفيزياء يريد زيارة مدينة العلوم.

قرار 2.14: قبل تاريخ الرجوع إلى الدراسة, يتصل التلامذة افتراضيا أو رقميا بمؤسساتهم فيتعرفون مسبقا على مدرسيهم, كل من خلال سيرته الذاتية المنشورة على الـنت. يختار التلميذ قسمَه ومدرّسَه في كل اختصاص ويدوِّنه في موقع المؤسسة. يتصل المدرس أيضا ويعرف تلامذته ويختار أقسامه. ينسق المجلس البيداغوجي بين رغبات التلامذة ورغبات مدرسيهم ويحاول التوفيق بينهما ويُلبِّي قدر المستطاع رغبات الشريكين في العملية التربوية.

قرار 3.14: على الوزارة توفير اثنين أو ثلاثة مدرسين من نفس الاختصاص في القاعة الواحدة في نفس الحصة حتى يختار التلميذ مع مَن يريد أن يتعامل أثناء الحصة وبهذه الطريقة نقضي على بطالة أصحاب الشهائد ونستفيد من طاقاتنا البشرية التي صرفنا عليها الكثير.

قرار 4.14: للتلميذ الحق في مغادرة الحصة والقاعة متى شاء وله حرية اختيار الالتحاق بقاعة أخرى مع مدرس آخر في مادة أخرى. لا تستغربوا من هذا القرار فهو ليس طوباويا كما قد يتراءى لكم لأول وهلة فقد كان الكاتب المصري العظيم طه حسين يفعل هكذا في جامع الأزهر في أوائل القرن العشرين. كانت تُقام في الجامع حلقات متباعدة ومتعددة الاختصاصات من نحوٍ وشعرٍ وفقهٍ يسيّرها شيوخ علم. كان طه حسين يستمع إلى شيخ اللغة وعندما يسأم التعقيد اللغوي يأخذ محفظته بصمت وأدب ويغادر الحلقة متجها إلى حلقة الشعر حيث الخيال والغزل العذري ثم يعود بعد الترفيه ليواصل الإنصات مع التركيز لمدرس الأدب. لا يمس هذا التصرف الحر من كرامة المدرس ولا يخل باللياقة والأدب وإلا لَما فعلها عميد الأدب العربي. على العكس من ذلك قد يحفّز هذا التصرف التلميذ على اكتساب المعرفة التي يرغب فيها ويميل إليها ويوجه نفسه بنفسه نحو المسلك التعليمي المطلوب (أدبي أو علمي أو اقتصادي) كما تدعو وزارتنا اليوم إلى ذلك في التوجيه المدرسي لتلامذة السنة الأولى ثانوي (أربع سنوات قبل الباكلوريا).

قرار 5.14: على الوزارة أن تنشر, بطاقة مواظبة التلميذ وأعداده وملاحظات مدرسيه, فوريا على شبكة رقمية داخلية سرية لا يطلع عليها إلا المعنيون بالأمر من أولياء ومدرسين وإدارة. كل ولي يطلع فقط على نتائج ابنه بواسطة كلمة سر فيستفيد من هذه المعلومات الرقمية التقييمية ويستغلها في تربية ابنه أو ابنته.

قرار 6.14: على الوزارة تجهيز كل قاعة درس بحواسيب وسبورات رقمية تفاعلية. إذا رغب المدرس, يمكن ربط قاعة الدرس  بالنت بواسطة كاميرا حتى يتابع التلميذ المريض الغائب درسه من سريره في منزله أو في المستشفى.  يستطيع أن يستغل هذه التقنية التلميذ الذي لم يفهم الدرس في القسم فيعيده في البيت مرة أو مرتين حسب قدراته الذهنية وهنا تتجسم البيداغوجيا الفارقية بفضل التكنولوجيات الحديثة.

15. باب الاستشراف المستقبلي المحلي والعالمي:

قرار 1.15:  على الوزارة استشراف مستقبل التعليم في تونس والتحضير للمرحلة القادمة 2100 حيث سينقرض نظام التعليم في صيغته الحالية وتتطور المؤسسة التربوية الحالية ويختفي التلميذ الكلاسيكي والمدرس الكلاسيكي المباشر ليتركا مكانهما لتلامذة حقيقيين يتعلمون عبر الأنترنات ومدرسين من لحم ودم يبرمجون ويقدمون دروسهم عبر الأنترنات. يحكى أن في ماليزيا, البلد الإسلامي الوحيد المتقدم نسبيا, توجد جامعة افتراضية تضم 40 ألف طالب لا يأتون إلى الجامعة إلا لِماما لمتابعة دروس تطبيقية أو لإجراء الامتحانات في آخر السنة الدراسية. لا تستخفون بالتعليم الافتراضي فسائق الطائرة يتدرب افتراضيا قبل أن يطير فعليا ومن حسن حظنا أن الطبيب الجراح يجرّح افتراضيا قبل أن يجرّح المريض فعليا.

 

خلاصة:

يُعتبر التعليم التونسي والتعليم الأردني من أحسن الأنظمة التعليمية في الوطن العربي وفي الوقت نفسه يُعتبر التعليم التونسي من أسوأ الأنظمة التعليمية لو قارناه بأنظمة التعليم في الدول الغربية المتقدمة. أما قدوتنا، التعليم الفرنسي فيُعتبر من أسوأ الأنظمة التعليمية في أوروبا وفي المقابل يُعدُّ التعليم الفنلندي والألماني من أفضلهم. يبدو لي أن المقارنة بالأحسن أفضل وأجدى وأرفع من المقارنة بالأسوأ.

 

 

 


حول استعمال اللغة العربية الفصحى في تدريس العلوم

 

توطئة

رأي في التعريب  للمفكر هاشم صالح: لتكون عروبيا أكثر، عليك أن تتعلم لغة أوروبية حديثة كالألمانية أو الفرنسية أو الإنكليزية!  

 

المصدر:

كتاب "الإسلام والانغلاق اللاهوتي"، هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى 2010، 376 صفحة.

صفحة 28، هامشة 1: لا توجد في اللغة العربية مراجع كافية لكي تفهم التراث العربي الإسلامي بطريقة علمية وتاريخية جادة ومسؤولة. أكاد أقول بأن المثقف الذي لا يتقن إلا اللغة العربية أصبح شبه أمي الآن! يؤسفني أن أقول هذا الكلام ويحز في نفسي. ولكن هذه هي الحقيقة. الكتب الاستشراقية الكبرى التي تسلط اضواء المنهج التاريخي على تراث الإسلام موجودة في اللغات الأوروبية الحديثة كالألمانية والفرنسية والإنڤليزية وليس في اللغة العربية. إنها ممنوعة في العربية حتى الآن في قسم كبير منها على الأقل. أحيانا أقول بيني وبين نفسي: لو لم أخرج إلى الغرب وأعش تجربة أوروبا لكنت قد عشت ومت من دون أن أفهم  شيئا.. كنت قد مررت في هذا العالم مرور الكرام.. كان قد فاتني كل شيء تقريبا.. أكبر جريمة ترتكب الآن في حق  الثقافة العربية والأجيال العربية الراهنة والمقبلة هي عدم وجود مركز قومي عربي للترجمة  الشاملة، أي لنقل كل فتوحات العلم والفلسفة إلى لغتنا العربية. ما معنى أن تعيش وتموت من دون أن تستمتع بأنوار العلم والفلسفة؟ ولا أستثني من ذلك بالطبع فلسفة الدين بل أضعها في المقدمة. فدين بدون فلسفة يؤدي غالبا إلى الانغلاق، فالظلامية العمياء.. وهنا تكمن مشكلتنا  الأساسية. هنا يكمن الداء العضال. من سيترجم ثلاثية هانز كونغ  عن المسيحية واليهودية والإسلام لكي نعرف معنى التداخل التفاعلي أو الجدلية الخلاقة بين الدين والفلسفة؟

 


نص محاضرة ألقيتها في مركز تكوين المتفقدين بقرطاج تحت عنوان "بعض أسباب النقص الفادح في مستوى اللغة العربية الفصحى لدى تلامذتنا التونسيين"

 

مصدر الاستشهادات الواردة بين ظفرين في المقال: اللغة العربية الفصحى لدى المتمدرسين-تحليل الواقع و اقتراح الحلول/مثال الجزائر، بوطيبة جلول، جامعة بن باديس-مستغانم، كتابات معاصرة، صفحة 119،العدد 88، المجلد 22، ماي-جوان 2013.

 

تناوَلَ كاتب المقال المرْجَع المذكور أعلاه - والذي اقتبستُ منه بعض الجمل الواردة بين ظفرين في كلمتي - بالتحليل لإشكاليات اللغة العربية الفصحى في الجزائر. أما أنا فسأتناول بالنقد مستوى اللغتين الرسميتين الأجنبيتين الاثنتين  المعتمدتين في كل المراحل التعليمية التونسية مع اللغة العربية الفصحى التي أعتبرها للأسف الشديد لغة غريبة في تونس وربما تكون في وطنها أكثر انبتاتا وغربة من الفرنسية خاصة في أوساط المثقفين. يبدو لي والمختصون في العربية أعلم مني أن الفرنسية هي اللغة الأولى في التعليم العلمي التونسي خاصة في مرحلتيه الأخيرتين الثانوية (كل المواد العلمية تُدرّس بالفرنسية) والجامعية (كل الشعب العلمية في الجامعة دون استثناء تدرّس بالفرنسية) وهي لغة الأنترنات بعد الأنڤليزية و قبل العربية لدى المُبحِرين افتراضيا ولغة التجارة لدى الحِرفيين والمستهلكين (خاصة لدى تجّار المواد الحديدية والصحية وقطع الغيار والأثاث العصري والآلات الكهرومنزلية والمواد الفلاحية من أسمدة وأدوية وآلات و"ماركات" الأغذية المعلّبة كبسكويت "ڤوشو" وحليب "ديليس" وعصير "تروبيكو" وغيرها من الأسماء الأجنبية الدخيلة التي لا تُحصى ولا تُعد) ولغة البحث العلمي بعد الأنڤليزية ولغة الأدب العالمي والتاريخ العربي الذي أثراه المستشرقون بدراساتهم وبحوثهم القيّمة ولغة الفلسفة الحديثة ولغة المخترعين المبتدئين.

2.    أبدأ بالتذكير بالأوهام الأربعة السائدة لدى العرب حول لغتهم العربية الفصحى:

-         يتمثل الوهم الأول في اعتبار اللغة العربية الفصحى اللغة الأم (Langue maternelle) والواقع المعيش يرشَح بغير ذلك، فاللغة الأم هي اللغة العربية الدارجة المتداولة باختلاف لهجاتها في الدول العربية الاثنتين والعشرين.

-         يتمثل الوهم الثاني في اعتبار اللغة العربية الفصحى لغة حضارة عالمية، كانت كذلك في القرون الهجرية الثلاثة الأولى (القرن السابع والثامن والتاسع ميلادي) وبقيت بعض جمرات نارها تنير دربنا حتى القرن السادس هجري (الثاني عشر ميلادي) ثم انطفأت آخرها مع موت ابن رشد سنة 1198 ميلادي.

-         يتمثل الوهم الثالث في اعتبار اللغة العربية الفصحى المعجمية المستعملة اليوم لغة قادرة على تعريب واستيعاب مصطلحات التكنولوجيا. رفض النحويون العرب الأوائل إثراء لغتهم الفتية بتبني مصطلحات الحِرَفِيين الأعاجم (فرس وأتراك وبربر وغيرهم من الشعوب التي دخلت الإسلام بحد السيف) بدعوى المحافظة على شاعريتها وصفائها وعذريتها فكيف ستقدر على فعل ذلك  وقد هرمت اليوم ونحن نعرف أن التبني ممنوع قانونيا في سن متقدمة، لكنني في الوقت نفسه-وقد ييدو موقفي هذا للبعض متناقضا-لا أشك  لحظة في مستقبل القدرة الاشتقاقية المحتملة للغة العربية الفصحى في تعريب واستيعاب مصطلحات التكنولوجيا الحالية والقادمة لو توفرت المبادرة الشجاعة لدى اللغويين المختصين العرب لتحديث لغتنا وتحيينها.

-         يتمثل الوهم الرابع في اعتبار اللغة العربية الفصحى لغة حية معاصرة. كيف تكون حية ومعاصرة، لغة يحتقرها أصحابها ويتباهون ويتجمّلون بالتكلم بمنافِساتِها الأجنبيات (الفرنسية والأنڤليزية)، لغة لا ينتج مستعملوها علما ولا تكنولوجيا ولا فنا راقيا ولا يمثلون وزنا في الاقتصاد العالمي إلا كمصدِّرِين سلبِيّين للنفط الخام. لو لم تكن لغة القرآن والشِّعْر لَمَاتت واندثرت وورثتها وعَوّضتها اللغة الدارجة منذ قرون كما ماتت اللغة اللاتينية وعوضتها تدريجيا اللهجات الدارجة كالفرنسية والإيطالية في بداية القرن الرابع عشر ميلادي (الانجيل كُتب لأول مرة بالآرامية، لغة المسيح عليه السلام، لغة ماتت منذ زمان ولا يستعملها اليوم إلا بعض الباحثين أو سكان  قرية معلولة بالاضافة إلى قريتين أخريين في سوريا. فلماذا صمدت اللغة العربية واندثرت الآرامية؟ لا أملك جوابا لهذه الإشكالية). 

3.    بعض أسباب تدني مستوى العربية لدى تلامذتنا التونسيين:

-         بوطيبة جلول يقول: "عند التحاق الطفل بالمدرسة لأول مرة ينتقل من الوسط الأسري وله من المكتسبات رصيد لغوي لا بأس به من اللغة يستعمله في تواصله اليومي للتعبير عن حاجته واهتماماته، وهذا يُعد عاملا مساعدا على اكتساب اللغة العربية الفصحى. ورغم ذلك لا يجد سهولة في التحدث أو التحرير."

أنا أقول: ربما بسبب ذلك وليس رغم ذلك، يعني أن هذا الرصيد اللغوي غير الفصيح والفقير فقر الدارجة (حسب إحدى المختصات في اللغة: تحوي الفصحى على ستة عشر ألف مفردة أما الدارجة فلا تحتوي إلا على ثلاثة آلاف مفردة فقط) قد يكون عاملا عائقا وليس عاملا مساعدا كما يرى الكاتب بوطيبة جلول من جامعة بن باديس في مستغانم بالجزائر. يأتي الطفل التونسي إلى المدرسة وهو يتكلم جيدا العربية الدارجة التونسية فيجد نفسه مبتدئا في تعلم الفصحى ويُفاجأ بـ"السردوك" قد أصبح بالفصحى ديكًا و"القطوس" أضحى قطَّا.

-         بوطيبة جلول يقول: "تساهل المعلمون أنفسُهم مع اللغة العربية عند مخاطبتهم للمتعلمين أو التواصل معهم أثناء العملية التعلمية باعتبار أن اللغة محاكاة وتقليد الطلاب لأساتذتهم، فما بالك بذلك الطالب الذي يرى أستاذه لا يتحكم في اللغة؟" 

أنا أقول: منذ تعريب تدريس العلوم في التعليم الأساسي (الابتدائي و الإعدادي) أقرّت وزارة التربية التونسية تدريسها بالعربية الفصحى، لكن رغم وضوح التعليمة الوزارية لا يزال بعض معلمينا وبعض أساتذتنا يستعملون الدارجة في القسم بدعوى مساعدة التلميذ على فهم العلوم وكأنّ العلوم لا تحتاج إلى وعاء العربية الفصحى (للأسف الشديد في واقعنا العلمي التونسي، لا يحتاج المختص في العلوم للفصحى ولا للدارجة لأنه ببساطة يدرس كل العلوم بالفرنسية في الثانوي والجامعة) والمفارقة الكبرى أن الامتحانات تُكتب بالفصحى ولا تُفسر بالدارجة في أول الامتحان داخليا كان أو وطنيا وهذا التمشي الخاطئ المتّبع من قِبل بعض مدرسينا قد يضرّ بالتلميذ ولا ينفعه البتة. امتد هذا الاستخفاف باللغة الحاوية والناقلة للعلم إلى الفرنسية التي تُدرّس بها رسميا العلوم في التعليم الثانوي والمتهم الرئيسي هو مدرس العلوم في الثانوي الذي فضّل تدريس العلوم بالعربية الدارجة لنفس الأسباب الواهية التي يتحجج بها مدرسو العلوم في التعليم الأساسي. زد على ذلك أن هذا التمشي أضر بتعليم اللغة نفسها أكثر من ضرره بتعلم العلوم لأن تعليم اللغة العربية أو الفرنسية هو مسؤولية يتحملها مدرّس العلوم كما يتحملها مدرّس اللغة أيضا.

-         بوطيبة جلول يقول: "أسباب من خارج المحيط المدرسي: 1 - الدور السلبي الذي تلعبه الفضائيات العربية الوطنية والإقليمية حيث أن أغلب البرامج المحببة لدى الأطفال والمسلسلات والحصص المتنوعة تقدَّم باللهجات أو بالعاميات أو بلغة عربية هابطة، رغم أن هناك قنوات أجنبية بريطانية وروسية وحتى صينية تبث بلغة عربية راقية. 2 - رؤية الشارع العربي إلى كل مَن يتكلم العربية الفصحى في الشارع أو في البيت بنظرة غير لائقة."

وأنا أقول: إضافة إلى الأسباب الداخلية مثل السياسة التربوية التونسية الفاشلة منذ ثمانينات القرن الماضي أو التكوين الناقص الممنهج لرجال التعليم ونسائه المتمثل في إلغاء مدارس ترشيح المعلمين والأساتذة، نجد أيضا أسبابا خارجية عن الوطن نفسه ونذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر: اللغات العالمية المنافسة كالفرنسية والأنڤليزية وما تحمله وراءها من مصالح استعمارية ثقافية واقتصادية واِملاءات البنك العالمي  والدول المانحة وتأثيراتهما  السلبية المحتملة على المنظومة التربوية التونسية.

-         بوطيبة جلول يقول: "اللغة الوطنية والرسمية وهي من أهم وسائل الارتباط الروحي بين أبناء الوطن والأمة والمقوّم الأساس للشخصية الجزائرية."

أنا أقول: أتفق مع الكاتب في المضمون لكنني أسأله: هل اللغة العربية الفصحى تمثل اللغة الوطنية والرسمية في البلدان العربية؟ حسب رأيي المتواضع علميا، يبدو لي أن اللغة الوطنية هي العربية الدارجة بلا منازع أما الفصحى فهي لغة رسمية لكنها ليست وطنية لأن الشعب لا يستعملها في حياته اليومية بل يستعمل الفرنسية أكثر منها.

-         بوطيبة جلول يقول: "إننا نركّز على تحسين مستوى العربية لأن المسألة تُعد في ضوء التربية الحديثة وسيلة تواصل و تفاهم، لذا يجب على المتعلم أن يعرف بأنه يتعلمها لأنه في حاجة ماسّة إليها في حياته."

أعلّق قائلا: لو كان المواطن العربي الدارس وغير الدارس في حاجة ماسة للعربية الفصحى كما يؤكد الكاتب لأقبلَ عليها وتعلمها إن لم يكن من باب الأصالة الإسلامية أو القومية العربية فعلى الأقل يتعلمها ويتقنها من باب المصلحة والمنفعية والبراڤماتية والأنانية. لكن الواقع المعيش يقول عكس ذلك حتى في الجزائر نفسها أين يُدرّس علم الطب باللغة الفرنسية  فيتيه طالب سنة أولى طب ويشقى في تصفح المراجع الفرنسية بسبب دراسته العلوم باللغة العربية من السنة أولى ابتدائي إلى غاية الباكلوريا على مدى ثلاث عشرة سنة متتالية، يتحصل على الباكلوريا علوم بملاحظة جيد جدا وهو لا يتقن اللغة الفرنسية ولا يمتلك زادا لغويا علميا بالفرنسية، أصبحت اللغة العربية لديه إذن عاملا عائقا وليس عاملا مساعدا في دراسته الجامعية في اختصاص الطب وقِس على هذا المثال وعمِّمه على كل الاختصاصات العلمية المدرّسة بالفرنسية في التعليم الجامعي الجزائري وما أكثرها. أما عن مدرّسي العلوم بالعربية في التعليم الأساسي والثانوي الجزائريين والمتعاونين الشرقيين، فعن حالهم المعرفي من الأفضل أن لا تَسألِ، جلهم لا يتقن الفرنسية ولا الأنڤليزية ولا توجد مراجع أو مجلات علمية معتبرة مكتوبة بالعربية ولا يستطيعون الاطلاع على النشريات العلمية الحديثة الصادرة باللغات الأجنبية فتصبح العربية عائقا في طريق تكوينهم الذاتي مما يؤثر سلبا على مِهَنيتهم ويترك نقاط ضعفٍ في تكوين تلامذتهم. يحدث الاستثناء ويتحسن المستوى اللغوي  لأولاد العائلات الغنية الذين يتابعون تعليمهم الأساسي في بعض المؤسسات التربوية الخاصة باهظة الثمن والتي تعتمد البرنامج الفرنسي في تدريس اللغة الفرنسية والبرنامج الأنڤليزي في تدريس اللغة الأنڤليزية.

لنأخذ مثلا تونسيا: يبدو لي أن الطبيب التونسي الذي لا يتقن العربية الفصحى تعبيرا وكتابة لم يفقد شيئا يندم أو يتحسر عليه ولن يحس في حياته بأي نقص، يخاطب مرضاه بالدارجة أو بالفرنسية، يكتب وصْفته بالفرنسية فيقرؤها أي صيدلي من بنزرت إلى بنڤردان، يشارك في المؤتمرات ويلقي محاضراته بالفرنسية أو الأنڤليزية، يقرأ ويطّلِع على أحدث المجلات الطبية بالفرنسية، يكتب وينشر مقالاته باللغات الأجنبية، فبماذا ستساعده الفصحى لو كان يتقنها؟ ربما بالعمل في الخليج أو إلقاء محاضرة في مؤتمر علمي عربي في السعودية أو في اليمن السعيد!

لنأخذ جدلا مثلا آخر دون تعميم غير علمي:  يبدو لي أن المثقف العربي  الذي درَس اختصاصه بالعربية الفصحى والذي قد لا يكون يتقن لغة أجنبية فلن يجد في متناوله إلا إنتاجا علميا ضحلا-هذا إن وُجِد-ومآله لتقوقع داخل تاريخه العرقي و الديني أو استحضار الماضي المجيد للحضارة العربية الإسلامية. وهمٌ قد يمنعه من بناء حاضره واستشراف مستقبله. كسلٌ فكريٌّ قد يُعَدّ من أحد الأسباب التي جعلت العِلم يهجر لغتنا وديارنا إذْ لم يجد في اللغة العربية وعاءً أو حاملاً فذهب يبحث عن أوعية تحمله في لغات أخرى في بلدنا أو في بلدان أجنبية.

 

Objection

Question posée à Burgat par un journaliste sur la « French Connexion Terroriste » ? Réponse de François Burgat, directeur au CNRS français

Le journaliste : Un papier écrit par deux chercheurs américains et qui a fait beaucoup parler de lui, dit : les pays qui ont produit le plus de recrues parmi Daesh sont des pays francophones : la France, la Belgique (francophone, à discuter), le Liban et la Tunisie.

Burgat : La France, quand elle a fait irruption dans l`imaginaire musulman, elle l`a violé et y a fait et laissé beaucoup plus de dégâts que les anglophones. « En France, on n`a pas élu un président noir comme aux USA et un maire musulman comme en Angleterre ». La violence symbolique que nous avons initiée dans l`imaginaire musulman est beaucoup beaucoup plus forte. Le mode d`acculturation ou de déculturation française dans les pays musulmans colonisés a été infiniment plus grande de ce qu`ont causé les anglais au Yémen ou en Egypte. L`archétype de la colonisation française a été poussé au delà des limites.

 


مقترحات من أجل إصلاح تربوي


1. مبدئيًّا أنا مع تدريس العلوم باللغة العربية لكنني اليوم وبصفة ظرفية أدعو إلى التراجع عن تدريسها بالعربية في المرحلة الأساسية بشقيها الابتدائي والإعدادي وإعادة تدريسها باللغة الفرنسية (أو من الأفضل بكثير
بالأنـﭬليزية) كما فعلت دولة المغرب الشقيقة. للأسف لغتي الأم لا تنتج اليومَ علمًا ولن يُلِمَّ العرب باللغة العربية ما لم يُلِمّوا بآليات تطوير اللغات الحية الأخرى، وهذه الآليات مكتوبة ومنشورة بالفرنسية والأنـﭬليزية والألمانية، والدليل أن جل مبدعينا بالعرية هم أناس مُلمِّون على الأقل بلغة من اللغات الأجنبية الأجنبية، مثل طه حسين والحكيم ومحفوظ وجعيط ودرويش والمسعدي وغيرهم والشاذ يُحفظ ولا يُقاس عليه ويكفي العربية شرفا أن تكون لغة تدريس العلوم الإنسانية ناقلة قِيم هويتنا العربية الإسلامية. أضيف وأقول أن العجزَ ليس في لغتنا العربية الفصحَى بل فينا نحن العرب !

Prière, sachez bien que je ne suis pas contre le principe d`enseigner les sciences en arabe, ma langue maternelle avec laquelle j`écris la majorité écrasante de mes articles de vulgarisation scientifique ou autres, mais dans l`enseignement scientifique contemporain c`est différent car j`ai remarqué en Algérie (j’étais prof coopérant entre 80-88) que l`apprenant, qui étudie les sciences en arabe au lycée et la médecine en français à l`université, trouve beaucoup de difficultés à lire des revues spécialisées comme "Sciences & Vie" ou "La recherche" et cet handicap pourrait nuire à ses performances scientifiques dans le futur.

À mon avis il faut préparer un bon terrain si on veut enseigner correctement les sciences en arabe (traduction et production comme à l`époque glorieuse et florissante des abbassides, précisément la période d`Elmaamoun, pendant laquelle tout le savoir grecque a été traduit en arabe.). Enfin je vous rapporte que les scientifiques européens avaient étudié sans complexe les sciences arabes en arabe en Andalousie et sans complexe aussi le chercheur français contemporain est obligé d`écrire ses articles en anglais si non il ne sera ni publié ni reconnu mondialement par la communauté scientifique internationale.



2. أدعو إلى التراجع عن تدريس الفلسفة باللغة العربية وإعادة تدريسها باللغة الفرنسية ومن الأفضل بكثير بالأنـﭬليزية في التعليم الثانوي والجامعي (للأسف لغتي الأم لا تنتج اليومَ فلسفةً).

3. إلغاء التفقد البيداغوجي في التعليم الأساسي والثانوي كما هو ملغى الآن في كل جامعات العالم وكما هو ملغى في فنلندا الصديقة (من أنجح وأنجع الأنظمة التربوية في العالم).

4. أدعو إلى إلغاء خطة قيم في الإعداديات والثانويات كما هو معمول به في أمريكا الصديقة وفي دول الخليج الشقيقة.

5. أدعو إلى تدريس الدين المقارن عوضا عن تدريس التربية الإسلامية (لم تفعله أي دولة، لا شقيقة ولا صديقة)، خاصة وأن الإسلامَ دينٌ يعترف بجميع الأديان التوحيدية، لا بل يمجد أنبياءها ويعتبرهم مسلمين قبلنا جميعًا، والقرآن نفسه قارن بين الأديان التوحيدية الثلاثة وغيرها.

6. أدعو إلى العمل بنظام الـ45 دقيقة لكل حصة تعلمية كما فعلت أمريكا وكما نفعل نحن في شهر رمضان المعظّم.

7. أدعو إلى الترفيع في سن الدخول للابتدائي من ستة إلى سبع سنوات كما فعلت فنلندا الصديقة.

8. أدعو إلى ضم التعليم ما قبل المدرسي (بداية من سن 3 سنوات) إلى وزارة التربية وإبعاده عن وزارة المرأة والطفولة وتحفيظ الصغير القرآن والشعر (دون شرح) وذلك لأغراض بيداغوجية وجمالية.

9. أدعو إلى مطالبة تلامذة الثانوي بـ40 ساعة عمل تطوعي مقسمة على أربع سنوات (كل عام 10 ساعات) كما فعلت كندا.

10. أدعو إلى إرجاع العمل بمجانية التعليم الكاملة لأبناء الفقراء، أبناء الموظفين والعمال والمعطلين عن العمل وصغار الفلاحين والتجار: نقل مجاني ووجبة ساخنة يومية مجانية وأدوات مدرسية مجانية وترسيم مجاني. وفرته الدولة في الستينيات فلماذا لا توفره اليوم ؟

11. أدعو إلى إرجاع التعليم المهني في الإعدادي والثانوي وتطعيمه بـ 80 في المائة من الناجحين في النوفيام.

12. أدعو إلى سحب مهمة التقييم الجزائي والإشهادي نهائيا من المدرس وتكليفه بمهمة التقييم التكويني فقط وإسناد النوع الأول إلى المختصين في التقييم (عين خارجية عارفة وعالمة).

13. أدعو إلى الاقتصار على امتحان جزائي إشهادي إجباري واحد في نهاية كل مرحلة تعليمية (السيزيام والنوفيام والباكلوريا).

14. أدعو إلى أن لا يُنتدب للتدريس -سواءً في الأساسي أو الثانوي أو الجامعي- إلا مَن تحصل على التبريز في اختصاصه ودرس أكاديميا الاختصاصات التالية: الإبستمولوجيا، تاريخ العلوم، الديداكتيك، البيداغوجيا، علم التقييم، علم نفس الطفل، علوم التواصل وعلوم الحاسوب.

15. أدعو إلى إلغاء التعليم النموذجي العمومي لانعدام منفعتنا منه: جل خرّيجيه يهاجرون للخارج طمعا في المادة بعدما فضلناهم وبجلناهم واقتطعنا من قوت أولادنا وأنفقنا عليهم من عرقنا بسخاء.

16. أدعو إلى إلغاء الإضراب عن التدريس والتنصيص عليه في دستور التعليم.

 En Finlande, l’un des meilleurs systèmes éducatifs dans le monde, la dernière grève des enseignants a été effectué en l`an 1994.

مع الإشارة أنني شاركت بل أطرت وأشرفت على كل الإضرابات التي أنجِزت في المعاهد والإعداديات التي درّست فيها طيلة ثلاثين سنة وتحملت المسؤولية النقابية ثلاث مرات كمندوب نقابي في غار الدماء وعضو نقابة جهوية بجندوبة وكاتب عام نقابة أساسية بحمام الشط، واليوم تطوّر موقفي إلى الفضل حسب رأيي طبعًا.

17. أدعو إلى ربط إصلاح النظام التربوي في الأساسي والثانوي بالإصلاح التربوي في الجامعة وفي التعليم ما قبل المدرسي والتكوين المهني والتشغيل.

18. أدعو إلى تزويد المدارس الابتدائية بميزانية تَصرُّف مثلما هو معمول به في الإعداديات والثانويات أو تمكين كل مؤسسة تربوية من حُبُسٍ تُنفق من رَيعه كما هو معمول به في بعض  مدارس في ولاية ڤبلي حيث تمتلك كل واحدة منها غابة بمائة نخلة دڤلة نور تدرّ عليها دخلا سنويا محترما (حوالي 20 ألف دينار).

19. أدعو إلى تخصيص مادة مستقلة لتدريس الطب الوقائي لكل الاختصاصات في التعليم الأساسي والثانوي والجامعة. يضطلع بهذه المهمة أطباء وقاية.

20. أدعو إلى إصلاح التعليم لا يمكن أن يأتي من رجال التعليم المباشرين وحدهم ولن يأتي قطعًا من المتفقدين المباشرين وذلك لسبب منطقي: جلهم (مدرسون ومتفقدون) محافظون (Des conservateurs) أو ممتثلون بسلبية قاتلة للمقاربات البيداغوجية السائدة (Des conformistes) أو أعداء التجديد. وهم في أغلبهم ليسوا أصحاب رسالة تربوية وغير مغرَمين وغير مستعدين لبذل أي مجهود إضافي في القسم ولا خارجه وهم قوم لا يقرؤون المراجع العلمية ولا المجلات العلمية المختصة. هم غير متكونين في علوم التربية ولم يدرسوا في الجامعة البيداغوجيا ولا التعلمية (Didactique ou épistémologie de l`enseignement) ولا الإبستمولوجيا ولا تاريخ العلوم ولا علم نفس الطفل ولا علم التقييم (L`évaluation) ولا علوم التواصل ولا الإعلامية (L`informatique est un outil d`apprentissage normalement utilisé dans toutes les disciplines). بعضهم يَغارون مرضيا من التلميذ ولا يعترفون بمركزيته كـمحور العملية التربوية، يستكبرون ويتوهمون أنهم هم محور العالم. وليعلم مَن لا يعلَم بعدُ أن أعظم المنظِّرِين في مجال التربية ليسوا من رجال تعليم بداية من الفيلسوف روسّو (Émile ou De l'éducation) إلى الطبيبة مونتيسوري (Aide-moi à faire seul) وعالِمَيْ النفس والنمو، فيڤوتسكي (Le socioconstructivisme et la ZPD) وبياجي (Le constructivisme).

21. أقول أن كل مدرس يبدأ بتعنيف تلميذ لفظيا أو ماديا، يسقط حقه أوتوماتيكيا في تتبع هذا التلميذ ولا يحق لهذا المدرس أن يطالب بمثول هذا التلميذ أمام مجلس التربية أو التأديب مهما كان نوع رد فعل التلميذ المعتدَى عليه حتى ولو كان عنفا لفظيا أو ماديا والإشكال لا يُحلُّ إلا وديا مع التلميذ ووليه والإدارة.

22. Dans les disciplines scientifiques, on enseigne des connaissances

(المعارف العلمية الجافة)

sans enseigner les valeurs scientifiques intrinsèques

(مع العلم أن القيم العلمية لا تتناقض البتة مع القيم الكونية أو الدينية السامية)

On oublie souvent que les connaissances ne changent pas automatiquement les valeurs et on oublie surtout que les savants ou producteurs du savoir scientifique n`ont jamais été objectifs ou neutres

23. للأسف يبدو لي أن مدرّسينا وأولياءنا اليوم يبحثون بجنون (La frénésie) عن أفضل النتائج (Les meilleures performances dans les lycées pilotes) وكأن التلامذة أحصنة في ميدان سباق، يُحقنون بأنجع المنشطات (Le dopage: L`étude)، ونهمل في نفس الوقت الأنواع الأخرى من الذكاء وعن جهل نُحْبِطُ الأكثرية المتكونة من التلامذة المتوسطين.

Aristote a dit depuis 25 siècles: “La vertu est le juste milieu entre deux vices” Exp: Le courage n'admet ni excès [l'excès du courage est la témérité] ni défaut [le défaut de courage est la peur]). Il me semble qu`on est entrain d`encourager la monoculture de l`intelligence.

24. أطمح لإلغاء الترتيب المدرسي بين التلاميذ، فلا أول ولا أخير، ولا منتصر ولا مهزوم وذلك   بهدف تخريج أكثرية متفوقة، حدّاد متفوق، ميكانيكي متفوق، طبيب متفوق، أستاذ متفوق، محام متفوق، قاض متفوق، إلخ.

انظر اليوم ماذا أنتجت لنا مدرستنا التونسية المبنية على الجزاء والعقاب والأعداد والترتيب ؟ أنتجت لنا غالبًا موظفين دون رسالة: حدّادين لا يتقنون صنعتهم وميكانيكيين غشاشين وأطباء يتاجرون بصحتنا رغم تفوقهم الدراسي بمواصفات العصر وأساتذة يحشون عقول أبنائنا رغم تفوقهم الدراسي ومحامين يبيعون تفوقهم لمن يدفع أكثر وقضاة مرتشين ظالمين رغم تفوقهم الدراسي المزعوم.

25. أطالب بإلغاء الطريقة القديمة التي تعتمد على تدريس المواد (Les disciplines) مفصولة عن بعضها البعض ولكل مادة أستاذٌ واحدٌ، أي حصة للبيولوجيا وأخرى للفيزياء مثلا، وتعويضها بالطريقة الجديدة التي تنص على تدريس المحاور أو المواضيع (Les thèmes) ولنا أسوة في فنلندا التي شرعت في تطبيقها منذ سنة 2016. أعطي مثالين: مثال تطبيقيّ  1: تدريس محور نظرية التطور (L`évolution) يتطلب توظيف عدة مواد في حصة واحدة بحضور عدة أساتذة، منها البيولوجيا والفلسفة والفيزياء. مثال تطبيقيّ  2: تدريس محور المقاومة يتطلب توظيف الفلسفة (الرأسمالية والإمبريالية والشرعية الدولية والأمم المتحدة والعنصرية والاستعمار والإرهاب) والتاريخ والجغرافيا والتربية المدنية والاقتصاد واستدعاء المقاومين الأحياء إلى القسم وإجراء حوار بينهم وبين الأساتذة والتلامذة والقائمة تطول وأنا، عند رسمِ مستقبلِ شعبٍ، لستُ على عَجَلٍ، ولنا مُتّسعٌ من الوقتِ وفسحةٌ من الأملِ...

 

المصدر: كتابي، الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي - سَفَرٌ في الديداكتيك وعِشْرَةٌ مع التدريس (1956-2016)، طبعة حرة، 2017 ، 488 صفحة (المقال يوجد في ص.ص. 365-371 من الكتاب).

 

إلى المنشغلين والمنشغلات بمضامين التعليم:

أهدِي نسخة مجانية من كتابي "الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي" لكل مَ يطلبها على شرط تسلمها في مقهى الشيحي بحمام الشط (23139868)، أو نسخة رقمية لمَن يرغب فيها ويطلبها على شرط أن يرسل لي عنوانه الألكتروني (mail).






 

 

 

محور 9

لماذا لا نستلهم من تجارب

البلدان الأجنبية

الناجحة في الحقل التربوي؟

التعليم الفنلندي.. ارتضى أبسط الطرق وأقصرها فحقق أفضل النتائج

 

 

 منذ سنوات معدودات، أصبحت فنلندا مثالاً يحتذى به من قِبل جميع بلدان العالم، مثال في كيفية بناء نظام تعليمي فائق الفعالية، بأقل عدد من أيام وساعات الدوام المدرسي السنوي، فتربع هذا البلد الإسكندنافي على عرش العالم في كفاءة النظام التربوي وفقاً لآخر تقييمين أجرِيا عامَي 2003 و2006، من قِبل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، لقياس كفاءة طلبة المدارس (عمر 15 سنة)، بواسطة اختبار بدأ العمل به عام 2000، ويجرى مرة كل ثلاث سنوات، ويحمل اسم "برنامج تقييم الطلاب العالمي" (PISA ).

البرنامج يقيس كفاءة الطلبة في المجالات المختلفة مثل تعلم القراءة والرياضيات والعلوم، ويستنتج منها الكفاءة العامة لطلبة كل بلد يُجري فيه الاختبار، وقد حصل طلبة فنلندا على المرتبة الأولى في القراءة والعلوم، والمرتبة الثانية في الرياضيات بعد كوريا الجنوبية وبدرجات عالية ليس من السهل على أي بلد الحصول عليها. ولعل أهم الصفات الإيجابية في نتائج فنلندا هي تجانسها أي تَحصّل جميع الطلبة على كفاءة مرتفعة، والنجاح في تقييم (PISA ) لم يكن حكرا على بعض الطلبة المتميزين.

 

كثير من التربويين في جميع أنحاء العالم يتوقون لمعرفة كيف طوّر الفنلنديون نظامهم التربوي بهذه الفعالية والاستفادة من خبرتهم في هذا المجال ولعله من المفيد هنا ذكر بعض مواصفات النظام التربوي الفنلندي التي وصلت به إلى هذه المنزلة الرفيعة:

 

لا يُسمى إصلاح التعليم إصلاحا إلا إذا أخذ بأيدي التلامذة الذين تعترضهم صعوبات في التعلم:

-         التعليم في فنلندا مجاني في جميع المراحل بما فيها المرحلة الجامعية.

-         التعليم إجباري في فنلندا للصفوف التسعة الأولى في المدرسة التي يدخلها الأطفال الفنلنديون عندما يبلغون السابعة من عمرهم (خلافا لأغلبية بلدان العالم، ست سنوات).

-         نسبة التهرب من التعليم الإجباري في فنلندا لا تتجاوز 0.5%..

-         نسبة الرسوب في الصف في فنلندا لا تزيد عن 2% .

-         الفرق في المستوى بين المدارس بسيط جداً.

-         عدد أيام الدوام المدرسي 190 يوماً في العام الدراسي، وعدد ساعات الدراسة اليومية من 4 إلى 7 ساعات.

-         يُكلف التلميذ بواجبات مدرسية منزلية مخففة لا تستغرق أكثر من خمس ساعات في الأسبوع.

-         غياب الدروس الخصوصية  بعد الدراسة في المؤسسات العمومية (ce qu`on appelle communément “Etude” en Tunisie).

-         مساعدة أولئك الذين يجدون صعوبة في موضوع معين، وذلك بتوفير مدرس إضافي لمساعدة هؤلاء الطلبة.

-         يبقى جميع الطلبة في الصف نفسه مهما كانت قدرتهم مختلفة في موضوع الدراسة.

 

مرتكزات التفوق:

-         وِفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تُعتبر فنلندا الأولى بين دول العالم المتقدمة من حيث قلة عدد الساعات التي يقضيها الطالب في القسم. وهذا يعكس أحد أهم الأفكار التي يقوم عليها نظام التربية الفنلندي.

-         تقوم الفكرة الثانية على مبدأ المدرسة الواحدة للتعليم الابتدائي والثانوي، بحيث لا يضطر الطالب لتغيير المدرسة عندما يبلغ الثالثة عشرة من العمر مما يجنبه المرور بفترة انتقالية يُحتمل أن تكون مربكة عند انتقاله من مدرسة إلى أخرى.

-         أما الفكرة الثالثة فتنص على أن يبدأ الطفل مرحلة التعليم في سن السابعة، ممضياً سنوات الروضة بنظام خاص لا يوجد فيها تعليم مباشر مما يكسِب الصغار معرفة عن طريق اللعب ويجعله تواقاً لبدء مرحلة التعلم النظامية.

-         تقوم الفكرة الرابعة على مبدأ أن كل طالب لديه شيء ما يساهم به في القسم، لذلك يجب عدم فصل الطلبة الذين يعانون صعوبة في بعض المواضيع عن زملائهم الممتازين، ويجب توفير الوسائل التي تساعد غير المتفوق على التفوق.

-         أما الفكرة الخامسة فتقول إن معلم أي صف مدرسي يجب أن يكون مؤهلاً جامعياً وحاصلاً على درجة الماجستير. وهذا يعني أن كفاءة التعليم لا تتحقق دون مدرس كفء. وتُعتبر مهنة التدريس وفقاً لهذه المقاييس مهنة مرغوبة معنويا وماديا.

-         تعتمد الفكرة السادسة للنظام التربوي الفنلندي على أن الطلبة يجب أن يتعلموا في وضع مريح وجو يسهل فيه انتقال المعرفة. يساعد على ذلك تجانس المجتمع الفنلندي وقلة تواجد الأجانب فيه، مما يجعل الطلبة يتعلمون جميعاً تقريباً بلغتهم الأم دون عقبات من النواحي اللغوية. كما يساعد على ذلك غياب السياسة عن الجو المدرسي، مما يجعل الجميع متكافئين ولا يسمح بترك أي طالب في حالة تخلف عن الآخرين.

 

لا وجود لاختبارات توجيه خلال السنوات التسع الأولى:

في فنلندا لا توجد اختبارات عامة للطلبة خلال السنوات التسع الأولى، فيما يتم تقييم الأداء بناءً على اختيار 10% من كل شريحة عمرية لإجراء الاختبارات عليها، وتحتفظ المدارس بالنتائج بكل سرية. وبعد السنة الخامسة لا يسمح قانونياً بوضع درجات للطلبة، ولا يسمح بالمقارنة بينهم. يضع المعلمون اختباراتهم الخاصة، ولا يأخذونها من مؤسسات خارج المدرسة. لا تقارن المدارس مع بعضها، حيث تبقى النتائج سرية حتى يطلبها مجلس التعليم الوطني لغرض تحسين التعليم. تُصنف نتائج الاختبارات في التعليم الثانوي والمهني بنسبة 5% في أعلى السلم و5% في أسفل السلم، وما بينهما هو المتوسط، وتستخدم هذه النتائج لدخول الجامعات، وعليها يحدد دخول الطلبة في تخصصات العلوم الطبيعية أو الاجتماعية.

 

بعض الحقائق المدهشة عن طرق التعليم الطريفة في فنلندا:

-          لا يدخل الأطفال للمدرسة الابتدائية إلا بعد بلوغ سن السابعة.

-         المدارس ممولة بنسبة 100% من الحكومة.

-         نادرا ما يُكلّف الأطفال بأداء واجبات منزلية أو امتحانات حتى بلوغ سن المراهقة.

-         لا يوجد سوى اختبار إلزامي واحد وموحَّد في جميع أنحاء فنلندا، يتم إجرؤه في سن السادسة عشرة.

-         جميع الأطفال يدرسون جميعا في فصل مدرسي واحد دون تمييز ذهني مغلوط في أغلب الحالات.

-         تنفق فنلندا على كل طالب حوالي 30% أقل مما تنفقه الولايات المتحدة.

-         30% من الأطفال يحصلون على مساعدة تعلمية إضافية خلال السنوات التسعة الأولى بالمدرسة.

-          حوالي 66% من تلامذة الثانوي يلتحقون بالجامعة.

     -     93 % من الفنلنديين يصلون إلى مستوى المدرسة الثانوية العليا، مقابل 17.5% للأمريكيين.

     -    تحتوي فصول تدريس العلوم على 16 طالبا فقط مما يضمن قيام كل فئة بتجارب كافية.

     -   43 %  من طلاب المدارس الثانوية يلتحقون بمدارس مهنية.

     -    تلاميذ المدارس الابتدائية يحصلون على 75 دقيقة راحة بين الحصص الدراسية، مقابل 27 دقيقة       لنظرائهم في الولايات المتحدة.

     -   يقضي المدرسون أربع ساعات فقط بالفصول الدراسية يوميا، بينما يتم تخصص ساعتين أسبوعيا لتنمية المهارات.

    -  عدد المدرسين في فنلندا يساوي تقريبا عدد مدرسي مدينة نيويورك "عدد الطلاب 600 ألف بالمقارنة مع 1.1 مليون في نيويورك".

    -   يجب أن يكون جميع المدرسين حاصلين على درجة الماجستير، وكلهم يحظون دعم كامل.

    -   يتم اختبار المدرسين من الـ10% الأفضل بين الخِرِّيجين.

    -   يبدأ راتب المعلم الفنلندي من 29 ألف دولار (عام 2009) بالمقارنة مع 36 ألف دولار في الولايات المتحدة.

    -   لا تُدفع علاوات للمدرسين.

    -   يحصل الممدرسون على نفس درجة الأطباء والمحامين.

    -  طبقا للمعايير الدولية عام 2001، حصل الطفل الفنلندي أو جاء قريبا من أعلى درجة في القراءة، العلوم، والرياضيات.

 

-         نظام تربوي متساوٍ لأبناء المتوسطين وأبناء الميسورين على السواء.

-         بعد المرحلة الأساسية التي تدوم 9 سنوات، ينقسم التعليم إلى نوعين من التكوين: تكوين نظري يُقدم في المعاهد الثانوية التي تفضي إلى الجامعة وتكوين مهني يُقدم في المعاهد المهنية ويفضي إلى الحياة العملية ولا يُحضّر التلميذ إلى للتعليم العالي.

-         ترتكز نجاعة هذا النظام التربوي على تحميل التلميذ مسؤولية نفسه منذ الصغر وترتكز أيضا على غياب التوتّر داخل المدرسة وفي المنزل لانعدام الرسوب وندرة الواجبات المنزلية.

-         حين يخاطِب التلميذ أستاذه، يقول له: أنت (tu) و ليس أنتم (Vous). ولعل في هذا السلوك حكمة تتمثل في عدم تقديس الأستاذ حتى يتمكن التلميذ من معارضته و نقده - إن لزم الأمر- ولكن بكل بأدب ولياقة واحترام خاصة عندما يناقشه في العدد. لا يسلّم التلميذ بكل ما يقوله الأستاذ دون استغلال حقه في الشك والغربلة والمراجعة حتى يستطيع تحديد موقف شخصي نقدي  وهذا ما يساعده على التدرّب على المعارضة و الجهر بكلمة لا. كلمة "لا" هي أول كلمة في التوحيد -لا إله إلا الله- لو تفكّر المؤمنون وواضعو البرامج التعليمية التونسية والمدرسون المنفذون للسياسة التربوية.

-         يتوفّر التعليم العالي الفنلندي على نوعين من المؤسسات: الجامعات التي تُعدّ الطالب للبحث العلمي وتقدّم مزيدا من التعليم النظري، أمّا المعاهد متعدّدة التقنيات فهي تفضّل التطبيقات العملية. مثلا: يتخرج الطبيب من الجامعة ويتخرج الممرّض من المعاهد متعدّدة التقنيات.

-         يُعفَى الطالب من دفع الرسوم الجامعية تماما ويتمتع بمنحة دراسية، قد يُحرم منها عند الرسوب. قد لا تغطِّي هذه المنحة مصاريف واحتياجات الطالب غير التعليمية فتساعده الدولة وتوفر له شغلا موازيا أو تمكنه من قرضٍ على الشرف.

-         في فنلندا يُطبّق برنامج "الجامعة المفتوحة"، أتمنى أن تسير على خطاها الجمعية التونسية الجديدة المسماة "الجامعة الشعبية محمد علي الحامي" لو تولاها مثقفون جديون غير إيديولوجيين وغير إقصائيين. هذه "الجامعة المفتوحة" الفنلندية تمكِّن الطلبة المنقطعين عن التعليم مبكرا بمتابعة دروس الجامعة بصفة فردية. تستقبل هذه الجامعة طلبة أحرارا من كل المستويات و من كل الأعمار دون شروط مسبقة نظير مقابل زهيد (بالنسبة لهم) لا يفوق 60 أورو لكل درس يُنجَز (60 euros, l’équivalent de 120 dinars tunisiens).

-         يرافق  هذا التفوّق العالمي الذي تنفرد به المدرسة الفنلندية، غياب التفقد البيداغوجي بصيغته التونسية الحالية في 2010. عن اقتناع تام بعدم جدوى التفقد البيداغوجي وانطلاقا من التجربة الفنلندية الناجعة والناجحة عالميا، أطالب وبإلحاح وزارة التربية التونسية بإلغاء التفقد البيداغوجي بصيغته الحالية من المدارس التونسية الأساسية والثانوية أمّا الجامعة التونسية فهي - ولحسن حظ زملائنا الجامعيين- خالية منه منذ نشأتها. للتوضيح، أنا لا أطالب بإلغاء التفقد البيداغوجي دفعة واحدة وجملة وتفصيلا بل أطالب في البداية بتحديد مقرّ نشاطهم في المراكز الجهوية للتكوين المستمر (CREFOC) حيث ينحصر نشاطهم في الاشراف على تأطير وتكوين الأساتذة بمساعدة أساتذة جامعيين أو مختصين من أساتذة الثانوي الأكفاء وأعتبر هذا النشاط نشاطًا مهما ومتكاملا ومفيدا جدا. أودّ من كل قلبي أن لا يزور المتفقدُ الأستاذَ في القسم إلا للإرشاد العلمي والبيداغوجي والتعلّمي والمساندة المعنوية والتشجيع ومحاولة  التقليل من آثار التوتّر الناتج عن مهنة التدريس الشاقة وظروف العمل القاسية ونقص التجهيزات في المخابر وتدهور القدرة الشرائية للمدرّس. أنا -بصدق ونية صافية - لا أحمل موقفا شخصيا عدائيا من التفقد والمتفقدين خاصة بعد ما صالحني أحدهم مع نفسي ومعهم بعد 20 عاما تدريس يومَ طرق باب قسمي، وقبل أن يدخل طلب مني بكل لطف وأدب واحترام الإذن في الدخول، أذنت له طبعا وزادني أربع نقاط ونصف في عدد التفقد ليصبح ثلاثة عشر ونصف. لكنني أحمل موقفا فكريا ووجهة نظر "علمية" ذاتية -قد تكون خاطئة- من التفقد البيداغوجي بصيغته التونسية الحالية. شخصيا أكنّ لبعضهم كل الاحترام والتقدير والتبجيل وأشهد بكفاءتهم العلمية والبيداغوجية والتعلّميّة وأخص بالذكر ستة ممّن عاشرتهم وخبرتهم من متفقدي علوم الحياة والأرض. ثلاثة منهم تفقّدوني وعملت معهم في الوقت نفسه أستاذا مُكوّنا. واحد منهم أنصفني أيّما إنصاف عندما زارني في القسم وزادني ثلاث نقاط و نصف في عدد التفقد ليصبح 17 على 20 بعد ما ظلمني -قبلها بعشر سنوات-  أيّما ظلم خلال زيارتين متقاربتين بشهر وخفّض لي حينذاك العدد من 16 إلى 9 على 20. أما الثلاثة الآخرون فهم أصدقاء وزملاء مرحلة ثالثة متخرّجون جدد من معهد قرطاج للتفقد ويتمتعون بكفاءة علمية عالية في الاختصاص وفي البيداغوجيا وفي تعلّميّة البيولوجيا ويتميّزون بسمعة جيدة لدى الزملاء التابعين لدوائر عملهم. أوجّه لهم من خلال هذا المقال تحياتي القلبية وتمنياتي لهم بالنجاح في مهنتهم النبيلة. والدليل القاطع أنني لا أكره التفقد والمتفقدين، أنني ما تمنيت في حياتي أمنية أعظم من أن أمارس هذه المهنة النبيلة لكن حسب المواصفات العلمية التي درستها أو اطلعت عليها أو سمعتها من أهل الذكر. مصدر من المصادر: Wikipédia


لماذا لا نستلهم من تجارب البلدان الأجنبية الناجحة في الحقل التربوي؟

 

أسوق لكم مقتطفات مقتضبة جدا من الاستنتاجات التربوية المفيدة المستوحاة من تجارب تربوية عالمية ناجحة ومتعددة:

1.    المكانة الأولى للصين في امتحان "بيزا" (PISA - البرنامج العالمي لمتابعة مكتسبات التلاميذ في فهم نص مكتوب وفي الرياضيات وفي العلوم):

يبدو أن ثلاث حجج كبيرة قد فقدت وزنها، حجج تفسر الفشل المدرسي في البلدان الغربية (Pays occidentaux): ضعف الميزانية المخصصة من الدولة، والفوارق بين الطبقات الاجتماعية، والثقافات المحلية التي لا تُولِي أهمية للتربية. ثلاثة عوامل مهمة لكن لا تكفي وحدها لتفسير النتائج المدرسية:

-         بين 1970 و1994، وفي عديد البلدان الغربية زادت ميزانية التعليم ضعفين أو ثلاثة أضعاف، ورغم هذا المجهود المادي الملحوظ لم تتحسسن النتائج إذا لم نقل أنها  في تراجع. في أمريكا مثلا حيث تصل تكلفة تعليم تلميذ واحد أعلى نِسَبِها، نجد هذا البلد في آخر ترتيب الدول المتقدمة في التعليم الثانوي. حسب تقدير أحد المختصين، لا تدخل اعتبارات الميزانية إلا بنسبة 10 بالمائة في تغيير النتائج المدرسية.

-         أكدت دراسات بريطانية أن خطر الفشل المدرسي يظل أكثر ارتفاعا عند التلاميذ الفقراء. وهذا ما أكدته أيضا الدراسات الأمريكية بقولها أن 60 بالمائة من النتائج المدرسية تتوقف على عوامل خارجية عن المدرسة مع العلم أن استراليا تحصلت على الرتبة التاسعة المشرفة في امتحان "بيزا" رغم الفوارق الكبيرة في الدخل بين أجرائها وأما الصين فقد فازت بالمرتبة الأولى رغم أنها تُعدّ من أكبر المجتمعات غير المتكافئة طبقيا.

-         يلعب المستوى الثقافي للأسرة -دون أدنى شك- دورا تربويا هاما. يتابع الأولياء الآسيويون نتائج أبنائهم أكثر من نظرائهم الأوروبيين ويساهمون بذلك في إنجاح مدارسهم. لذلك تتصدر منصة التتويج التربوي دول كسنغفورة وهونغ كونغ  وكوريا الجنوبية.

 

2.    ما هي إذن مفاتيح النجاح؟

لا يوجد نموذج واحد، لكن تتراءى لنا أربع مسارات للخروج من المأزق: اللامركزية التي تتمثل في إعطاء أكثر استقلالية للمؤسسات التربوية، والاعتناء أكثر بالتلامذة المتعثرين في دراستهم، وتنويع المؤسسات التربوية وانتداب مدرسين من ذوي الكفاءات العالية:

-         يُعدُّ النظام التربوي البولوني من أكثر الأنظمة التربوية لامركزية في العالم. تتكفل البلديات بتمويل المدارس بعد أن تأخذ منحة نسبية من الدولة حسب عدد التلامذة المرسمين في ترابها. يتمتع رؤساء المؤسسات التربوية بكفاءة وحرية في انتداب المدرسين مباشرة وفي التصرف في الميزانية المخصصة لكل مدرسة. لذلك تجد  بولونيا مكانتها ومكانها في الترتيبات العالمية.

-         تراجعت أفضل المدارس الصينية عن هوسها و ولعها بـ"النوابغ" و"العباقرة" وشرعت في تدعيم التلامذة المتعثرين. وهذا ما لم تفعله بريطانيا مما أثر على نتائجها المدرسية العامة.

-         سمحت الحكومة البريطانية، منذ عهد "توني بلير"، بتأسيس "مدارس حرة" (ليس بالمعنى المتداول عندنا في تونس) ووضعتهم تحت تصرف الأولياء والمنظمات الخيرية والجمعيات لكن التمويل بقي من اختصاص الدولة. بدأ العدد بـ 203 مدرسة في ماي 2010 و بلغ اليوم 1635 "مدرسة حرة".

-         بعض البلدان، كفنلندا أو كوريا الجنوبية، لا تنتدب من الأساتذة إلا الأوائل وترفع أجورهم. بريطانيا توفر منحا في الاختصاصات التي تشكو من نقص. أمريكا تجرّب التمييز بين المدرّسين ودفع الأجر حسب الاستحقاق وكفاءة المدرّس وهذا ما تعارضه دوما نقابة المدرّسين.

 

3.    للتذكير: كيف نجح الفنلنديون؟

-         إجبارية التعليم من سن السابعة إلى سن السادسة عشرة.

-         يتردد التلميذ الفنلندي على المدرسة من الاثنين إلى الخميس، لكن ينهي يومه في أكثر الأحيان على الساعة الثانية بعد الزوال مما يترك له كثيرا من الوقت لممارسة الرياضة وأنشطة ترفيهية أخرى.

-         نصف التلامذة الذين هم في سن الخامسة عشرة، يختارون شعبة تقنية. لذلك لا يقبل المعهد الثانوي العام إلا التلامذة الذين هم في سن 16 - 19 والراغبين حقا في دراسة المواد النظرية.

-         يعدّ التلامذة بأنفسهم برنامج توقيت دراسة المواد الاختيارية.

-         يَنصبُّ تركيز المدرسة الفنلندية على تدريس اللغات والرياضيات لأن هذين المادتين الأساسيتين يكوّنان الأدوات الذهنية والفكرية الضرورية لفهم بقية المواد الأخرى.

-         التلامذة ليسوا مُجبرين على حضور الدروس لكي يُسمح لهم باجتياز الامتحان ويستطيعون أيضا اجتياز امتحان السنة الموالية قبل وقته المحدد من قِبل الإدارة.

-         يستطيع تلميذ المهني أو التقني الالتحاق بالتعليم العالي العام بعد اجتياز أربع امتحانات كتابية إجبارية.

-         لو يُوجد هناك شيء يجب أن يقال في تحليل نجاح التعليم الفنلندي، فهو الأهمية التي تُحضي بها المطالعة والقراءة لدى المدرسين والسلطات العليا.

 

4.    كيف نجح المَجَريّون؟

-         يُخصص خُمس كل حصة تربوية لحل المشاكل العلمية جماعيا. يجب على التلامذة إذن، أن يتعاضدوا ويتناقشوا فيما بينهم بالحجة والدليل ويتواصلوا ويعينوا الآخرين من زملائهم "الضعفاء". وهذا النشاط الجماعي يُكسبهم مفردات لغوية ثرية ودُربة على المحاجّة، كفاءات مكتسبة تمنحهم بدورها ثقة بالنفس وتسمح لهم بأخذ الكلمة في أي وسط فكري، فيدركون أن فقرهم وأصلهم الاجتماعي ولون بشرتهم، صفات لا تعني أنهم ليسوا موهوبين. يقول المدرّسون المجريون أنهم يلقون دروسهم بطريقة تجعل التلميذ يتطلع مشتاقا للتعلّم.

-         شهادة تلميذ: "عندما أعمل داخل مجموعة، لا أحس بالرهبة، لأنني أعرف أنني لا أعمل من أجل الحصول على عدد". "عندما يكون بجانبنا مَن نسأله العون، لا نحس أبدا بالخوف".

-         شهادة مديرة: "النتائج المدرسية تنطق بنفسها وعلى نفسها: لا يوجد غياب غير مبرّر ولا رسوب وتلامذتنا كلهم ينجحون في مناظرات المنطق (la logique)".

-         شهادة مدرّس: " الغريب أن التلامذة استغنوا عن خدماتي ولا يحتاجونني لأنهم أصبحوا قادرين على بناء معرفتهم بأنفسهم (c’est le socio-constructivisme de Piaget et Vigotsky). لقد تحسّن الحافز المعرفي لدى التلامذة بصفة ملحوظة، خاصة عند المشوّشين من التلامذة المتعثرين في دراستهم. لم أعد اليوم في حاجة للجري ومحاولة تجميع "وحوشي الصغيرة" بعد فترة الاستراحة، على العكس أجدهم ينتظرونني في القاعة بكل صمت واحترام. كل واحد منهم ينتظر دوره في أخذ الكلمة. أشعر أنني أعيش في كوكب آخر! لقد أنتجَت هذه الطريقة تغييرات مثيرة للإعجاب في وقت قصير نسبيا". "هذه الطريقة تساعد أيضا على تطوير الثقة بالنفس لدى التلامذة وتعالج وتقلّل من ظاهرة العنف المدرسي لديهم. قديما وفي قسم تقليدي يجمع عددا كبيرا من التلامذة المحرومين، أربعة أو خمسة فقط يسمعونني بآذان صاغية: هم فقط مَن يفقه ما أقول أما 40 إلى 50 في المائة من تلامذة القسم فلا يستطيعون ولا يقدرون على متابعة الدرس. نفس التلامذة النجباء هم الذين يرفعون أصابعهم. والأستاذ يعتقد أنه حقق نجاحا باهرا! وباتباع الطريقة البيداغوجية المبتكرة، أصبح على أكثر تقدير 1 أو 2 في المائة فقط من التلامذة ممّن  لا يتابعون الدرس وهذه نسبة قليلة جدا".

 

المصدر:

Journal français: Courrier international, n° 1118, du 5 au 11 avril 2012, page 14-21, ensemble d’articles, intitulé : Education, les recettes qui marchent ailleurs.


محور 10

شهادة على العصر


 


حكايتي مع وزير التربية السابق منصر الرويسي

 

الله يسامح الدولة التونسية التي حولتني من باحث علم إلى "حكواتي حواديث". أغدقت عليّ الدولة مشكورة من أموال الشعب خلال اثني عشر عاما في التعليم العالي: خمسة للإجازة وعامان للماجستير وخمسة للدكتورا أما العام الثالث عشر فقد أنفقت على نفسي لدراسة عام فلسفة بالمراسلة في جامعة رينس بفرنسا. جلبت لي الأساتذة المشهورين من فرنسا ومكّنتني من السفر إلى ليون تقريبا عشر مرات بغرض التكوين العلمي في أحسن الجامعات الفرنسية, جامعة كلود برنار بليون 1. مع العلم أنه يكفي ثلث هذه المدة لتأدية وظيفتي الحالية كأستاذ تعليم ثانوي. لم ينتدبوني في الجامعة لتدريس اختصاصي في تعلمية البيولوجيا أو فلسفة تعليم البيولوجيا (La didactique de la biologie)  الذي أضعت من أجله ثماني سنوات بحث علمي. الأغرب أنني أرى متفقدي الثانوي يدرّسون التعلمية في المعاهد العليا دون أن يقضوا ولو شهرا واحدا في التكوين الأكاديمي في هذا الاختصاص والأدهى والأمرّ أنه يوجد  بالجامعة التونسية قرابة عشرة آلاف من الأساتذة الجامعيين لا يحملون شهادة الدكتورا التي أفنيت عمري للتحصل عليها. لذا سأحاول القيام بدوري الجديد على قدر المستطاع وسأروي لكم حكايتي مع وزير التربية التونسي السابق.

عام 1998 و في بداية المرحلة الثالثة من التعليم العالي درست نظرية [ما بعد أو ما فوق الوراثي المخي  (Epigenèse cérébrale). هذه النظرية التي تقول بتفاعل الموروث والمكتسب داخل خلايا المخ البشري. ينبثق من هذا التفاعل المستمر الذكاء, فالذكاء إذا هو   100 %  موروث بيولوجي و100 % مكتسب حضاري. لا نستطيع الفصل ولا القسمة بينهما لشدة تشابك عديد المتغيرات. لا يولد الإنسان ذكيا أو غبيا (إلا في بعض الحالات المرضية) لكن قد يصبح الإنسان ذكيا إن توفر له المحيط المناسب وإن كد و اجتهد وقد يبقى عاديا إن لم يتوفر له المحيط المناسب. تعلّقت بهذه النظرية التي تعارض تأليه الجينات أو المورّثات وتنسب لها خطأ كل القدرات الذهنية البشرية من ذكاء وموهبة وفن وتفوّق وغيرها. وللأسف لا تدرّس هذه النظرية في تونس، لا في الثانوي ولا في الجامعة، و قد بدأ تعليمها في فرنسا سنة 2001 في السنة ثالثة ثانوي علمي, عام قبل الباكلوريا.

ذهبت إلى مقر وزارة التربية التونسية واتصلت بمكتب الضبط وطلبت مقابلة الوزير. طلب منّي الكاتب ملء استمارة فيها الاسم واللقب ورقم بطاقة التعريف وسبب المقابلة. كتبت في خانة السبب ما يلي: سيدي الوزير أطلب مقابلتك شخصيا حتى أحاول إقناعك بإدراج نظرية "ما بعد أو ما فوق الوراثي المخي " في برنامج علوم الحياة والأرض سنة ثالثة ثانوي, عام قبل الباكلوريا.

بقيت أنتظر ما يقارب شهرين حتى رن جرس هاتفي القار بمنزلي بحمام الشط على الساعة الثانية عشرة, رفعت السماعة فقالت لي كاتبة الوزير: "أنت محمد كشكار", قلت: "نعم", قالت: "السيد الوزير ينتظرك في مكتبه حتى الساعة الثانية بعد الزوال". ركبت سيارتي فورا وبعد نصف ساعة كنت عند باب الوزير فوجدته مفتوحا على مصراعيه. طرقت الباب ثم دخلت وقبل أن أسلّم عليه قلت له: "قال عنك صديقايَ من طلبتك, أستاذ التربية المدنية وأستاذ العربية (رئيس فرع الرابطة التونسية لحقوق الإنسان بالزهراء ورادس وحمام الأنف), إنك يساري ومثقف جدا وقد كانت قاعة محاضراتك في الجامعة تغصّ بطلبتك وغير طلبتك. أما أنا فعلميّ التكوين, مسلم النشأة، يساري الأهداف, ديمقراطي الوسيلة, علماني الهوى ونقابي قاعدي لا يحب جل المحترفين والمحترفات في النقابة والدين والسياسة والرياضة والغناء وحتى في حقوق الإنسان وخاصة الخبراء المقاولين والمحللين السياسويّين نجوم الفضائيات العربية. أجاب السيد الوزير: "ظننتك كندي" (Canadien). لا أعرف لماذا حشرني في زمرة الكنديين, المتعلمين المدنيين المتحضرين واللطفاء الكرماء الطيبين وأنا أصْلِي من الكنعانيين لا أحمل أي صفة من صفات الكنديين ولا أشبهم إلا في عدد الكروموزومات الـستة وأربعين وحتى هذه الحقيقة العلمية كان  في نفسي منها بعض الشك حتى درست اكتشاف العالم الألماني الذي أعجز عن كتابة اسمه بالعربية (Wilhelm von Waldeyer-Hartz, 1891).

دخلت وجلست قبالته وهو يدخّن "المارس ليجير" وبدأت في الحديث: "سيدي الوزير هل تعرف نظرية [ما بعد الوراثي المخي ]؟ قال بكل تواضع العالم وصراحته: "لا". قلت: "سأشرحها لك" وتوسّعت في الشرح وقدّمت له نسخة من البرنامج الرسمي الفرنسي الذي ينصّ على تدريس هذه النظرية في الثانوي وطلبت منه ما جئت من أجله ألا وهو إدراج هذه النظرية في برنامج العلوم. أخذ مني الوثائق بكل لطف وانبهار ثم قال لي: "أول مرّة يأتيني نقابي بِمِثل هذا الطلب العلمي المجرّد من كل أغراض مادية في الزيادة في الشهرية". حين لمست تجاوبه وإعجابه بطرحي وفكري تماديت وأطلقت العنان لجنوني وهمومي البيداغوجية والتعلّمية وبدأت أحدّثه في مواضيع لا علاقة لها بغرض الزيارة لا من بعيد ولا من قريب. حكيت له عن آخر تكوين في الإعلامية وعلوم الحاسوب تلقيته في مدينة نانسي بفرنسا ووصفت له قاعات الدرس الفرنسية المجهّزة بالحواسيب لتدريس العلوم. نقلت له تطبيق "بيداغوجيا المشروع" في فرنسا على تلامذة الثالثة ثانوي وكيف رأيتهم بأم عيني يعرضون مشروعهم المتمثل في "دراسة تأثير الأمطار الحامضة على النباتات" ويدافعون عنه حتى خِلتهم طلبة المرحلة الثالثة عندنا يعرضون أطروحتهم أمام لجنة الامتحان. عرضت عليه أيضا ودون مقدمات وجهة نظري في عملية الغش في الامتحانات وقلت له أن للغش حلول علمية ونحن نطبق الحلول التأديبية فقط وأضفت: "سأتجرأ سيدي الوزير وأقول رأيي في الموضوع بصراحة". أجابني باحترام وفضول: "قل". قلت له: " سيدي الوزير, لو ضبطنا تلميذا يغش في الامتحان فالمفروض أنك أنت أوّل من يَمْثُلُ أمام مجلس التربية في المعهد لأنك أنت المسؤول الأول عن الأسباب التي دفعت التلميذ إلى الغش ومن بين هذه الأسباب: اكتظاظ الأقسام وكثافة البرنامج وطوله وعدم تسليح المدرس  بالعلوم الضرورية لأداء مهمته مثل إدراك عملية الإدراك والابستومولوجيا وعلم التقييم وعلم نفس الطفل وتاريخ العلوم والبيداغوجيا والتعلمية". ابتسم وقال لي: "هذا رأيي, أردّده دائما". بقيت ساعتين تقريبا وأنا أهذي بكل ما يخطر على بالي من نظريات تعلّمية تعلمتها حديثا. أنْصَتَ إلي بكل احترام وتعاطف ولم يقاطعني حتى هدأت عاصفتي وخَفَتَ حماسي فودعني بعد ما وعدني بالنظر في طلبي. خرجت من عنده وأنا مزهو ومعتد بقدرتي على الإقناع. ألم أقنع وزيرا؟

رجعت إلى حمام الشط وانتظرت على الجمر موعد جلسة المقهى حتى أروي لأصدقائي ما دار بيني وبين الوزير وانفش ريشي كالطاووس طربا وأتباهى عليهم وأقول كما قال عبد المنعم مدبولي في مسرحية [ريّة و سكينة]: "ناسبنا الحكومة".

وبعد شهر تقريبا من المقابلة وأنا داخلٌ صباحا إلى معهد برج السدرية بالضاحية الجنوبية لتونس العاصمة حيث أدرّس علوم الحياة والأرض, اعترضني المدير مبتسما وقال لي: "تعال وشاهد ما أرسله لك الوزير". دخلت مكتب المدير فوجدت عشرة حواسيب. لم أصدّق في الوهلة الأولى حتى أكّد لي المدير أن الهدية تخصني شخصيا. كتبت رسالة شكر بسيطة باسمي الشخصي وبعثتها إلى الوزير عن طريق التسلسل الإداري. استدعاني المدير الجهوي السابق ببنعروس وطلب مني إعادة كتابة رسالة الشكر وقال لي : "تُكتب الرسائل إلى الوزراء بالقلم الأخضر؟". أملَى عليّ نصّا فيه تنويه كبير بالتسهيلات الكبيرة التي قدمتها لي الإدارة الجهوية لتأسيس أول مخبر تدريس علوم الحياة والأرض بالحاسوب في الجمهورية التونسية. امتثلت لأوامره مجاملة وإنصافا لأن هذا المدير الجهوي رحّب بي ترحابا مبالغا فيه بعد ما علم بعلاقتي مع الوزير وقد سبق وأن طلبتُ كتابيا مقابلته ولكنه تجاهلني تماما. استدعاني بعد ما أصبحت حسب تقديره من حاشية الوزير وكنت واعيا بهذا الضعف فيه فدخلت عليه مكتبه وتصرفت وكأنني رئيسه في العمل وعاتبته بشدة على رفضه السابق فقام من كرسيه واستقبلني بالأحضان واستدعى كل رؤساء الأقسام السابقين في الإدارة الجهوية وأوصاهم  باستشارتي في كل ما يخص الإعلامية وعلوم الحاسوب وكأنني خبير في الميدان وأنا في الواقع لا أعرف إلا استعمال الحاسوب للكتابة والإبحار مثل أي مبتدئ.

بسرعة غريبة وغير معهودة في وزارتنا, تجنّد كل أعوان الإدارة الجهوية وكل فنّيي المعهد الوطني للمكتبية والإعلامية وجهّزوا لي قاعة وركّبوا حواسيب العشرة و"أصبح للعُرْبِ قمر" وكان أول مخبر حواسيب لتدريس علوم الحياة والأرض في إفريقيا والشرق الأوسط وممكن قبل الباكستان وبنغلاديش أيضا.

أثناء أشغال تجهيز المخبر الوحيد من نوعه كان الوزير يتصل بي شخصيا في المعهد للاطمئنان بنفسه على سير الأشغال وكان يرفض التحدث إلى المدير ليسمع مني مباشرة دون وساطات.

علا شأني وصعد طالعي وسطع نجمي عند موظفي وزارة التربية وكانت مديرة التعليم الثانوي تتصل بي هاتفيا في منزلي لتطلب مني مدها بقائمة متفقدي علوم الحياة والأرض الذين سيتم استدعاؤهم في الندوة التي ستقام في مركز التكوين  المستمر بأريانة وطلبت منّي إعداد محاضرة ألقيها في الندوة حول تجربتي الجديدة. كنت مغتاظا من متفقد العلوم بقفصه لأنه أسقطني في امتحان ترقية عام 86 لخطأ علمي تافه فطلبت استدعاءه ليحضر تدخلي ويعرف أن الخطأ ليس عائقا في سبيل التعلم وقد سبق وأخطأ كبار العلماء ومن أخطائهم استفادت البشرية وتقدم العلم.

أعددت نفسي جيدا كعادتي و قلت في نفسي: "اليوم يومك يا كشكار مع بعض المتفقدين الذين أهانوك واستنقصوا من قيمتك العلمية". كان الوزيرا حاضرا. وكان جمهور المفقدين صامتا وأنا أكيل لهم النقد والوصف الدقيق وقلت فيهم ما قال مالك في الخمر, لم أخشَ في الحق لومة لائم، ومن كان الوزير سنده فمن سيتجرأ ويعانده: "جلهم لا يحمل أي شهادة في الاختصاص أعلى من شهادة الأستاذ وأغلبيتهم لم يحصلوا على تكوين أكاديمي، لا في البيداغوجيا ولا في التعلمية ولا في الابستومولوجيا ولا في علم نفس الطفل ولا في علم التقييم. فكيف سيدي الوزير سيستفيد الأستاذ من حلقات التكوين التي يشرفون عليها؟ كان أجدر بهم استدعاء أهل الاختصاص وليس انتحال صفتهم" وانتحال الصفة كما تعلمون جريمة يعاقب عليها القانون. كنت استرسل في الحديث وعينا الوزير المليئتان بالإعجاب تقولان لي زدهم وسمّعهم ما لم يسمعوه طوال حياتهم المهنية واثأر لمئات الزملاء من بعض المتفقدين الذين أذلّوهم وأحبطوهم ولخبطوهم بوصفاتهم البيداغوجية الجاهزة وأرهبوهم بتفقدهم اللاعلمي وبزياراتهم الفجائية  المخابراتية و الانتقامية.

بعد المحاضرة, صافحني الوزير وشكرني. لامني متفقدي المباشر على ما قلت في حق زملائه فأجبته: "هل تستطيع وتتجرأ أنت أو أحد زملائك وتقول للوزير ما قلته أنا: "إذا غشّ تلميذ في الامتحان, نحيلك أنت على مجلس التربية قبل التلميذ" قال: "لا". قلت: "احترم نفسك إذن والزم حدودك ولا تناقشني". مع العلم أن متفقدي هذا لا يشمله نقدي بل على عكس زملائه تتوفر فيه الشروط التي أطالب بها لأنه، في عام 2001، الوحيد "حسب علمي" من بين مفقدي علوم الحياة والأرض في الجمهورية التونسية الحائز على شهادة الدراسات المعمقة في علم الوراثة وعلى ديبلوم الدراسات المعمقة في التعلّميّة. صدقوني هذه ليست مجاملة لمتفقدي الذي سبق وإن اختلفت معه كثيرا وتصالحت معه أكثر وعملت معه مكونا وسوف يأتي وقت أحكي حكايتي معه ولست في حاجة لمجاملته أو مجاملة غيره وأنا في أعلى درجة وظيفية وعلى قاب قوسين من التقاعد ولا مجاملة في نسبة الشهائد العلمية إلى أصحابها.  

رجعت إلى مدينتي حمام الشط وإلى أصحاب المقهى وأنا مزهو بانتصاري الأدبي على بعض المفقدين المتنفذين والمسيطرين على التدرج المهني للأساتذة. احتفاء بي, نظّم أصدقائي على شرفي جلسة أنس وضحك وفرح ومرح (وفي مثل هذه المناسبات  فقط يستقيم ويجوز جمع هذين المفهومين معا)  وأثناء السهرة كان صديقي, الناشط الحقوقي المعروف على المستوى الوطني, مثقف المجموعة وأثقف من الوزير نفسه, يتحرك كثيرا فنهرته ساخرا منتحلا صفة الوزير شخصيا: "إلزم مكانك وإلا نقلتك نقلة عقاب إلى بن ڤردان."

بعد هذه العلاقة العلمية مع الوزير، أصبحتُ ضيفَ شرفٍ في كل الاجتماعات الهامة حول مشروع "مدرسة الغد" الرائع في نصه والواعد في شعاراته مثل شعار تطبيق المدرسة البنائية لبياجي وفيقوتسكي حيث يبني التلميذ معرفته بنفسه بمساعدة المدرس والأقران. لكن شتّان ما بين النظري والتطبيقي, رفعت الدولة شعارات تقدّمية ولم توفّر لها البني التحتية اللازمة لتنفيذها في المدارس والإعداديات والمعاهد فبقي القرار حبرا على ورق وبقيت دار لقمان على حالها لا بل ازدادت سوءً.

حضرت مرة اجتماعا هاما حول التنشيط الثقافي في المعاهد, تدخل أحد المسؤولين الكبار في وزارة التربية وبالغ في تثمين مجهودات الوزارة في هذا الميدان وبدأ يعطي الإحصاءات المضخّمة ويعدّ النوادي المدرسية الثقافية بالآلاف في كل نواحي الجمهورية التونسية. أخذت الكلمة وقلت: "سيدي المسؤول, كل ما ذكرتموه صحيح, لكن مع الأسف على الورق فقط, كل النوادي تقريبا موجودة افتراضيا في تقارير المديرين حتى يوهموكم بكثرة نشاطهم وينالوا رضاكم بالتزييف والتملق أما أنا فرجل ميدان وأمارس هذا النشاط فعليا في معهدي فلا تركنوا سيدي إلى تقارير بيروقراطيتكم ولا تصدقوا الأوراق وانزلوا إلى الميدان حتى تراقبوا بأنفسكم أو عبر من يمثلكم". التفت كاتب الدولة يمينا وشمالا سائلا مساعديه: "مع من أتى هذا المتحدث بلسان غير خشبي وإلى أي جهة ينتمي ومن استدعاه أصلا إلى الاجتماع؟". تنصل كل الحاضرين من تبعيتي لهم حتى دخل في هذه الآونة صديقي، ومشجعي على التنطّع والنقد والهجوم على الرداءة، السيد الوزير فحيّاني من بعيد فبهت كاتب الدولة. عندما يدخل الوزير المنتدى تنشرح الأسارير لا لطلعته البهية وهي بهية بالفعل لكن لسبب آخر. كان الوزير لا يصبر على التدخين حتى أثناء الاجتماع وعندما يشعل سيجارة يقلده كل المدمنين فتعج القاعة دخانا.

دُعيت إلى اجتماع آخر في الحمامات حول تدريس الإعلامية في الإعدادي والثانوي. أجلسونا، كل أستاذ على حاسوب لاستقبال الوزير. جاء الوزير وبدأ يتجول بيننا متحدثا لكل واحد منّا على حده حتى وصل إليّ وكنت عابسا فقال لي: "ما بك يا كشكار متجهما؟" أجبته: "أنا مستاء جدا من تصرف بعض مديري المدارس الإعدادية الذين يخبئون الحواسيب ويغلقون عليها الأبواب ولا يتركون التلامذة يستعملونها خوفا عليها من الإتلاف, فكيف سيتعلم هؤلاء التلاميذ الإعلامية إن لم نتركهم يستعملون الحاسوب". تعجّب من كلامي لكنه صدّقه وأمر على الفور مساعديه  أن يطلبوا من جميع المديرين فتح قاعات الإعلامية للتلامذة وتحرّرت منذ تلك اللحظة آلاف الحواسيب من الإقامة الجبرية بقرار وزاري طُبِّق بحذافيره بعد أسبوع.

دعاني الوزير مرة إلى العشاء معه في نزل "النهضة" (La Renaissance) بضواحي تونس العاصمة وأكلت لأول مرة و آخر مرة في حياتي ملعقة قهوة من "الكافيار"  (سَرْءُ السمك أي بيضه). كان العشاء مُقامًا على شرف رجل أعمال ومثقف كويتي. تجاذبنا الحديث, نحن العشرون مدعوٍّ, واقترحت على الوزير أثناء النقاش تدريس المنهجية (اختصاصه الذي كان يدرسه بالجامعة La Méthodologie), في الثانوي وقد كنت صادقا وجادّا في طلبي.

اشتهر مشروعي ومخبري الجديد وبلغ صيته الاتحاد الأوروبي وزارني فيه  نائب من البرلمان الأوروبي وقدمت له نبذة عن نشاطي التربوي.

استضافتني قناة 7 للتلفزة التونسية في حصة "نسمة الصباح" أنا وزميل في الرياضيات له نفس المشروع. قبل الدخول إلى مبنى التلفزة وجدنا في انتظارنا باكرا المدير العام للمعهد الوطني للمكتبية والإعلامية، حذرنا من مغبة الخروج عن النص وعدم  التقيد بموضوع الحصة (تدريس الرياضيات وعلوم الحياة والأرض باستعمال الحاسوب). وتمت الحصة الوحيدة بخير فأصبحتُ من نجوم التلفزة أو هكذا تراءى لي.

قدمتُ في الأثناء مطلبا للإدارة الجهوية للتعليم راجيا تعييني مديرا في معهد أو إعدادية وكتبتُ التماسا  للوزير طالبا مساندته الشخصية. أجابوني بالموافقة وعينوني مديرا بإعدادية حمام الشط. كنتُ حينئذ أمرّ بأزمة نفسية حادة نتيجة تردّدي في مواصلة دراسة دكتورا التعلمية. تتالت عليّ التعاليق, نصحني أصحابي النقابيون (مثل الكاتب العام السابق للاتحاد المحلي بحمام الأنف وعضو النقابة الجهوية للتعليم الثانوي السابق ببنعروس) بترك المسؤولية وتقديم استقالتي لِما قد تحمله الإدارة من تخلٍّ عن المبادئ النقابية وفي المقابل شجعني بعض الأصدقاء الحميمين على التشبث  بالإدارة لِما قد تحويه من منافع مادية مثل السكن المجاني والهاتف المجاني. قدمت استقالتي إلى رئيس مصلحة التعليم السابق في الإدارة الجهوية للتعليم ببنعروس فقال لي معاتبا حتى يثنيني عن قراري: "الوزير بنفسه وبقلمه الأخضر أشّر على اسمك". شكرته ورجوته تبليغ شكري للوزير وكتبت استقالتي ورجعت إلى منزلي خفيفا مرتاحا بعد ما نزعت هذا الحِمل الثقيل عن كتفي. اتصل بي في الدار صديقان وطلبا مني بكل لطف ومحبة أن أسحب استقالتي. فسحبتها ثم جاءني شقيقي الكاتب العام السابق للاتحاد المحلي للشغل بطبرقة ونصحني بالتمسك بالاستقالة للتعارض الواضح بين العمل الإداري والنشاط النقابي. قلت في نفسي "سأعقلها وأتوكل" كما يفعل المجاهدون في فيلم عمر المختار للمخرج الأمريكي السوري العقاد عندما يعقلون رُكبَهم بحبل متين وهم يواجهون العدو حتى يستحيل عليهم الفرار من ساحة المعركة. اتصلت بالأخ الكاتب العام السابق للاتحاد الجهوي للشغل ببنعروس وطلبت منه أن يتصل بالمدير الجهوي السابق للتعليم ببنعروس حتى يعفيني من هذا التعيين الثقيل على قلبي وضميري وفي الغد ذهبت إلى الإدارة الجهوية للتعليم ببنعروس وقدمت استقالتي الثانية والنهائية ورجعت إلى حمام الشط فرحا مسرورا وذهبت مباشرة إلى شط الجهمي بولاية نابل صحبة صديقي وزميلي  الكاتب العام الحالي للنقابة الأساسية المحلية المتنطعة بحمام الشط حتى أغسل هواجس الخوف والهروب والتأفف من المسؤولية التي يتسابق على نيلها الآلاف وتُقدّم من أجلها القرابين. قال لي مرافقي في الشط, المشهور بإخلاصه وصدقه ونضاليته النقابية الشفافة: "لعب بك الوزير" فأجبته: "غَنَمَ أولاد الشعب بمعهد برج السدرية بالجمهورية التونسية عشرة حواسيب سوف تساهم في محو الأميّة في الإعلامية وعلوم الحاسوب" وهذا ما تم فعلا.

"سَرْدَكْتُ" (فعل سَرْدَكَ مشتق من كلمة "سَرْدُوكْ" أي الديك بالعربية الفصحى) عاما كاملا على بعض المتفقدين وعلى بعض المسؤولين وقلت صراحة وعلنا ما أفكر فيه بمباركة وتشجيع أثقف وزير في الجمهورية التونسية.

بعد الاستقالة، بكت ابنتي البالغة من العمر ثماني عشرة سنة وحزنت عائلتي لفقدان المنصب المرموق في نظرهم. أحسست قليلا بالذنب حيالهم وقلت في نفسي, ما ذنبهم حتى أحمّلهم اعوجاج تفكيري ومثاليتي المبالغ فيها في هذا الزمن الرديء؟

في آخر السنة الدراسية منحني الوزير "وسام الاستحقاق التربوي" جزاء على تنفيذ المشروع العلمي المتمثل في تدريس علوم الحياة والأرض باستعمال الحاسوب لكن بقي المشروع وحيدا ويتيما إلى يومنا هذا  2010 ورجعت إلى تلامذتي أستاذا نكرة في معهد برج السدرية ومنذ ذلك اليوم لم أدْعَ يومًا لأي اجتماع هام أو غير هام ولم أر الوزير  بعدها، لا مباشرة ولا حتى في التلفزة، لقد أعفِيَ من مهامه الوزارية وعُيّن سفيرا بباريس.

ملاحظة: رُبَّ صدفة منعشة, بعد مدة من نقدي اللاذع لتكوين المتفقدين تأسس معهد المتفقدين بقرطاج،  معهد استجاب لضرورة التكوين البيداغوجي والتعلمي وبقي التكوين العلمي في الاختصاص ناقصا. وأخيرا أقترح ألا يُقبل في هذا المعهد إلا "الأساتذة المبرّزون" في اختصاصهم وهذا رأيي بكل تواضع!...

 

 

 

 

 


أشياءٌ لا تحدثُ إلا في تونس السبعينيات ويَمَنِ الثمانينات!

 

هبطتُ اليوم صباحا فرحا مسرورا من حمام الشط إلى وسط العاصمة مع أنني نادرا ما أفرح ونادرا ما أفارق الأحواز الجنوبية إلا "للشديد الآوي". نزلتُ لأقابل صديق دراسة لم أره منذ تخرجنا من جامعة مونفلوري (ENSET-ENPA, transformée aujourd`hui en ENSIT) سنة 1974، أي  منذ  41 سنة. كنت نفسيا مرتاحا جدا وأنا في الطريق إليه، راحة لا تشبهها إلا راحة المواعيد الغرامية أيام الشباب. خِفت أن لا أتعرف عليه. هاتَفني وأنا في ميترو حمام الأنف صديق مشترك. أبو صديقي الجميل الطريف الذي هاتفني كان مدير مدرسة في الخمسينات ومن سنة 1958 إلى سنة 2014 أي على امتداد أكثر من نصف قرن كان له كل عام ابن أو اثنين يزاول تعليمه في الابتدائي، في الجملة 16 بين بنت وولد من زوجتين متلاحقتين ولا زال يأمر وينهى مديرا في الدار بعد ما كان مديرا في المدرسة. قلت له في الهاتف: كيف سأعرفه؟ قال: "صَلُعَ الرجل وسَمِنَ". وصلتُ إلى مقهى باريس وكان لنا فيها جلسات ونقاشات وصَولات وجَولات، أجمل وأقدم وأرخص مقهى في شارع بورقيبة، تفرّستُ قليلا في الوجوه الجالسة على السطيحة الخارجية وقصدته متأكدا، احتضنته واحتضنني وكأننا أولاد عشرين، ضحكنا ومزحنا مزاح الشباب وكأننا لم نفترق يوما وتذكرنا مقهى تونس ومقهى ثلاثة نجوم والاستعراض الذي قام به ثلاثة أبالسة منّا بلباس آدم فوق سطح قاعة الرياضة بمعهد باردو وإضراباتنا التي كنا نملؤها غناءً ونهج الولي الصالح الذي كنا نزوره بحثا عن الغذاء الروحي. مرّ شريط شقاواتنا التلمذية بسرعة في ساعتين، شقاوات لا يمكن أن يتخيلها ولا يقدر على إيتائها أشقى أشقياء تلامذة اليوم ولذلك كنا من أكثر الأساتذة تسامحا مع تلاميذنا طيلة 38 عام من الكد والجد. لم نربح من التعليم إلا شرف المهنة وفقر الجيب.

روى لي صديقي وزميلي بعض الطرائف الغريبة التي عاينها في يمن الثمانينات عندما كان يعمل فيها كأستاذ متعاقد (في تونس كان يدرّس علوم الحياة والأرض باللغة الفرنسية):

-  في نفس العام الدراسي في اليمن كنت أدرّس الفيزياء باللغة العربية الفصحى خلال الثلاثية الأولى والكيمياء خلال الثلاثية الثانية وعلم الأحياء خلال الثلاثية الثالثة.

-  قِسمي الواحد في الحصة الواحدة كان يضم 110 تلميذ، كلهم مسلحون بالخنجر التقليدي أو المسدس لكنهم كانوا طيبين إلى درجة أنهم كانوا يتقبلون التأديب بالعصا لكنهم يثورون وقد يردّون الفعل بالعنف إذا صفعهم الأستاذ على الوجه. من حسن حظ الأستاذ أن جل التلاميذ لا يرجعون إلى قاعة الدرس بعد أول فسحة راحة صباحية لكي يلتحقوا بأعمالهم الأصلية اليومية  كمعاوني بنّائين (مرمّة) أو سواق تاكسي. أحد تلامذتي في السنة الأولى ثانوي كان عمره 37 سنة وكان أكبر مني في ذلك الوقت.

-  أزف إلى قُرّائي الأعزاء أغرب حكاية حول التعليم سمعتها في حياتي: قال صديقي مسترسلا: تلميذ آخر من تلامذتي في السنة الأولى ثانوي كان بعد الدرس يشتغل مدير مدرسة ابتدائية عمومية في اليمن. والسبب أن كل المدرسين في اليمن أساتذة ومعلمين كانوا متعاونين قادمين من الدول العربية الشقيقة فاضطرّت الحكومة اليمنية مُكرَهة على حصر تعيين المديرين في أصحاب الجنسية اليمنية فقط، وهذا يُعتبرُ نوعٌ من أنواعِ التكريس المشوّه لمبدأَيْ سيادة الدولة وهيبتها.

 


شهادة على العصر: تجربتي كأستاذ تونسي متعاون في الجزائر

 

عام  1980 التحقتُ بــ"إعدادية زيروت يوسف" بولاية سكيكدة و كان عمري 28. وصلت القرية مساء. لا يوجد بها نزل. قضيت ليلتي في الحمام التركي بالقرية ونمت على حصيرة. توجهت باكرا إلى المدرسة الإعدادية وقابلت المدير. كان جزائريا بربريا أمازيغيا قبائليا يتكلم الفرنسية فقط في زمن تعريب التعليم الجزائري! كان دعاة التعريب من الوزراء والمسؤولين الكبار يبعثون أبناءهم يدرُسون التغريب بالخارج حفاظا على عقول فلذات أكبادهم من التعريب.

انتدبوني لتدريس العلوم الطبيعية بالفرنسية لآخر دفعة نجت من نظام التعريب. نعم أقول نجت لأن التعريب المشوه في نظري يساوي تجهيلا وتفقيرا لثقافة الأستاذ والتلميذ  لو لم نوفر مراجع علمية بالعربية وأساتذة متكونين بالعربية ومجلات علمية مختصة ننشر فيها إنتاجنا العلمي و إنتاج غيرنا بالعربية. كان أستاذ العلوم الجزائري المعرّب غير قادر على مطالعة الكتب المدرسية والمراجع المكتوبة بالفرنسية وغير قادر أيضا على قراءة المجلات العلمية الفرنسية المختصة مثل (La Recherche) أو شبه المختصة مثل (Sciences & Vie). كان يعتمد في إعداد دروسه على كتاب التلميذ فقط. أما التلميذ الجزائري المعرّب (يدرس الفرنسية كمادة مستقلة ويدرس كل العلوم الصحيحة والإنسانية بالعربية) الحاصل على باكلوريا علوم بالعربية والموجّه إلى سنة أولى طب يجد صعوبة كبيرة في مواصلة تعليمه الجامعي الطبي المفرنس تماما لأنه غير مؤهل للبحث في المراجع الطبية المنشورة بالفرنسية أو بالأنقليزية. لا توجد في الجزائر مراجع طبية حديثة بالعربية ولا مجلات علمية عربية مختصة أو شبه مختصة.

مبدئيا، أنا من دعاة التعريب ولكن ضد تطبيقه العاجل. قبل أن نعرّب التعليم علينا, حسب وجهة نظري المحدودة, أن نبدأ بتوفير مراجع معرّبة في كل المجالات والاختصاصات في المكتبات المدرسية والعامة والتجارية وتوفير مجلات علمية مختصة معرّبة في حينها في الأكشاك. عُرِّب التعليم الأساسي والإعدادي والثانوي في الجزائر على عجل فخُرِّب وأنتج أجيالا لا تقرأ إلا بالعربية وهذا غير كافٍ لأنها لن تبدع و لن تنتج إلا في مجال الدين, المجال الوحيد المعرّب بالكامل, ولذلك انتشر التطرف الإسلامي بسرعة غريبة في جزائر التسعينات قبل تونس والمغرب. عُرِّب التعليم الأساسي في تونس بفرعيه, الابتدائي والإعدادي, فأصبح في طريقه إلى التخريب أيضا مثل الجزائر.  كنا نظن أننا في تونس أذكى منهم فأبقينا على الثانوي مفرنسا لكن  نسينا أن من يكون أساسه هشّا لا يستطيع أن يعلّى في بنيانه.

كان زملائي الجزائريون المعرّبون المتخرجون حديثا عاطلين بالفعل في اللغة الفرنسية. كانوا يلجؤون إليّ مضطرين, يعلو وجوهم الحياء، طالبين منّي كتاية برقية بالفرنسية  أو قراءة بطاقة شروط استعمال آلة غسيل أو دواء (notice d'emploi). كنت أترجم لهم مقالات (le Monde Diplomatique ) و(La Recherche ) و(  Sciences & Vie) وكانوا يستمعون إليّ بانبهار وإعجاب شديد كأنني بابلو نيرودا  يلقي شعرا في ثوار اسبانيا الشيوعيين.

أسكنوني مع أستاذ عراقي وآخر سوري. كان العراقي شيوعيا هاربا من صدام وهو أول من علّمني كره طاغية بلاده منذ 1980. أما السوري فكان يخرج من الدار عند إثارة أي نقاش سياسي حول الأنظمة العربية لثقته التامة في قدرة مخابرات بلاده الفائقة على التصنت دون تكنولوجيا التصنت. قسّمنا الأدوار في المطبخ وبدأت أنا بمقرونة حارّة فقال لي العراقي: أنت يا "أبو جاسم" عيّنّاك منذ اليوم غاسلا للأواني ولا شأن لك بالطبخ وبقيت على هذه الحال كامل السنة. كان العراقي شاطرا جدا في إعداد الأكل وفي تقديمه أيضا. كان يعزف العود ويدرّس الأنقليزية. درس التصوير الفني بألمانيا الشرقية ودرّسه من بعد بمدينة بسكرة بالجزائر. كان قارئا نهما لأمهات الكتب وقد تعلّمت منه الكثير وأوّل مرة في حياتي أشعر بعقدة نقص حضارية إزاء عربي مثلي. كان محروما من الدخول للعراق إثر صدور حكم إعدام غيابي ضد كل الشيوعيين العراقيين في المهجر. كان يذهب إلى سوريا ليقابل أمه القادمة من العراق. كنا في الدار أربعة عزاب, ثلاثة أساتذة  وعراقي صغير, أخ الكبير, لم يتشيّع بعد (من الشيوعية وليس من الشيعة) وكان جميلا جدا وكان يدرس في الإعدادي في الجزائر. رغم كثرة ما حدثني معلّمي العراقي الشيوعي عن الظلم والقهر وكبت الحريات والتعذيب وشرف الإعدام بمسدس القائد, لم يحدثني قط عن الفتنة الطائفية بين الشيعة والسنة عكس قناة الجزيرة التي صمت آذاننا وكأنها تستمتع بالحروب الأهلية العربية. منذ 1980 حكمتُ على تجربة صدام بالإعدام الفكري لأنني ضد الإعدام الجسدي. من يسلب كرامة مواطنيه في بلادهم لا يحق له أن يطالبهم بالدفاع عنها ضد الأعداء الغزاة. بعد عشرين سنة من معاناة الشعب العراقي وعذابه بأيادي عراقية صدّامية, جاء الأمريكان  فوجدوه لقمة سائغة لا قدرة له ولا رغبة في المقاومة. كيف تطلب من مسلوب الإرادة وربيب الذل والقمع لعقدين من الزمن أن ينتفض فجأة ويستبسل في الذود عن دياره وعشيرته وعرضه؟ لا تصدقوا المقولة المشهورة "كُرْ فأنت حُرْ" فعنترة أسطورة نفخ فيها العرب بعد الإسلام كما أكد طه حسين في كتابه الشهير والمثير للجدل حول الشعر الجاهلي.

ألبَسَ زميلنا العراقي نوافذ بيتنا ستائر فقلت له: أتحداك أن تجد ستائر في بيت عُزاب في تونس. كان يحكي لي عن مطاعم دجلة أيام الرئيس البِكر وكيف كان يتعشى سمكا ويسكر "عرقا" بـنصف دينار عراقي. كان أبوه مثل المنجد يتحدى أولاده في تفسير أي كلمة أنقليزية تخطر على بالهم. آمنت أن العراقيين شعب متحضر وخاصة الشيوعيين منهم الذين عرفتهم ولن أنسى أن الحضارة العربية الفارسية الإسلامية في العراق أنجبت وربت خيرة العلماء في الدين والدنيا.

لم تكن لي علاقات بالجزائريين ولا بالجزائريات إلا للضرورة المهنية أو الحياتية. كنت أقضي أكثر وقتي في المطالعة وبتكليف من مجموعتي الجمنية اليسارية الفكرية وليس السياسية، تكليفٌ ودي و ليس إلزاميا ولا تنظيميا ولا حركيا، قرأت القرآن وتفسير الجلالين  وصحيحَي مسلم والبخاري وظلال القرآن لسيد قطب وشهادة الحق لأبي الأعلى المودودي ونظرات في القرآن للإمام حسن البنا وكل أدبيات الإخوان المسلمين بهدف التعرف على الجذور الفكرية لحركة الاتجاه الإسلامي (1980), المولود الجديد فى الساحة الفكرية التونسية بعد ما كانت مرتعا مباحا للشيوعيين والقوميين فقط.

أثناء تواجدي بالجزائر اتصلت بجامعة قسنطينة للتسجيل بقسم الفلسفة حتى أكمل تعليمي العالي. قال لي العميد: ليس لنا أماكن شاغرة بالفلسفة لكن تستطيع التسجيل بالطب على شرط التخلي عن الإعارة أي التدريس. رفضت لأني ليس لي مورد رزق غير التدريس ويا ليتني ما رفضت أو ربما أحسن ما فعلت لأن الطب يتطلب قلبا كاسحا وأنا قلبي "رهيف" وحساس. كان الطلبة التونسيون بالجزائر يهرّبون سراويل "دجين" وينفقون من فارق الثمن وفارق العملة في السوق الموازية.

في وسط العام الدراسي جاءتني برقية عاجلة من فرنسا تعلن وفاة زوج أختي الكبيرة بباريس. ذهبت إلى بنكي في مدينة سكيكدة لأسحب مبلغا بالفرنك الفرنسي. قال لي الموظف: لا يوجد عندنا سوى البيزيتاس العملة الاسبانية أو الليرة الإيطالية. التجأت إلى حلاّل المشاكل زميلي الحاج الفلسطيني الذي كان يؤجّر سيارته الخاصة (وهو سائقها) في الأفراح ويأخذ أولاده الخمسة يأكلون  مجانا في الولائم. اتصل بالموظف البنكي الجزائري وقال له: صديقنا بن علي, و كنت حينذاك أحمل لقب بن علي, ذاهب إلى فرنسا فماذا تريد أن يجلب لك كهدية؟ قال: دجين. أعطاني الفرنكات وسافرت. اشتريت له دجين بـ80 فرنكا أي ما يساوي تقريبا 8 دنانير تونسية فأصبح بعد الرشوة يقوم من كرسيه ويستقبلني بالأحضان وأنا داخل للبنك. ما أرخص قيمة بعض الموظفين الجزائريين في ذلك الوقت وأين هُم من دعاية المليون ونصف شهيد والشعب الأبي وكانت أول رشوة وآخر رشوة أدفعها في حياتي. كان بعض التونسيين يقضون حوائجهم ويرشون بعض الموظفين الجزائريين بقطعة صابون تونسية نوع لوكس.

أسست في المدرسة الإعدادية بزيروت يوسف (ولاية سكيكدة) نادي قصة على منوال النادي الذي كنت أنشطه في إعدادية غار الدماء بتونس. اتهمني ظلما بعض زملائي الجزائريين الحزبيين الموالين من  حزب جبهة التحرير الجزائرية بشتم الشعب الجزائري في هذا النادي الناجح فأبعدتني وزارة التربية الجزائرية في نقلة عقاب إلى مدينة جامعة ولاية واد سوف بالصحراء الجزائرية.

أردت زيارة مكان عملي الجديد قبل الرجوع إلى تونس في العطلة الصيفية. ذهبت إلى مدينة قسنطينة الأقرب إلينا من سكيكدة لأستقل الحافلة إلى مدينة بسكرة حيث توجد الإدارة الجهوية للتعليم بالجنوب. وصلت إلى محطة الحافلات فوجدت صفا طويلا كالعادة أمام شباك التذاكر. أخذت مكاني في الآخر والناس يتدافعون دون سبب ظاهر. بعد ساعة من الانتظار المتحرك أصبحت الثاني في الصف. دفعني الثالث بكتفه وأزاحني من أمامه وأخذ مكاني. لم أرد الفعل وعدت بكل برودة دم إلى آخر الصف لأن لا أهدر طاقة في غير محلها. احتج عِوضي الجزائري الأول في الصف وحلف بأغلظ الأيمان أن يقتطع لي تذكرة قبل المعتدي وهذا ما حدث فعلا. قال لي منقذي بابتسامة فيها إعجاب واستغراب: " أنت, إما غير جزائري أو مثقف جدا". أجبته: " الصفة الأولى صحيحة وأما الثانية فأحاول الاقتراب منها كل ساعة بكل جهد وعزم مع العلم أنها مستحيلة المنال.

في السنة الثانية إعارة, سافرت إلى الجزائر عبر الحدود الجنوبية مرورا بتوزر ونفطة وحزوة. اجتزنا الديوانة التونسية بسلام وبعد كيلومترين وجدنا الديوانة الجزائرية في انتظارنا بالورود والطبل والمزمار, ألسنا عربا أشقاء وأجوارا اشتركنا في مقاومة الاستعمار الفرنسي واختلطت دماؤنا في ساقية سيدي يوسف التونسية. لا يوجد بيت راحة. ماء في صهريج تحت الشمس يذكرني بالصهريج الفارغ لتهريب الفلسطينيين في قصة غسان كنفاني "رجال تحت الشمس". صفّ طويل وانتظار تحت شمس الجنوب في شهر أوت دام أربع ساعات. موظفون يلعبون الورق ويحتسون المشروبات المثلجة ويقهقهون غير مبالين بالمواطنين وهل نحن مواطنون في هذا الوطن؟ نقلت المشهد لزميلي الأستاذ الفلسطيني المتعاون بمدينة جامعة, مقر عملي الجديد. فقال معلقا: المحتلون الإسرائيليون لا يعاملون الفلسطينيين المارين عبر المعابر مثل ما يعاملكم جيرانكم شرطة حدود الجزائر وديوانتها. كانوا يفتشوننا ويحجزون حتى جريدة الصباح خوفا وحماية للدولة الجزائرية القوية من الانهيار لو دخل عدد واحد من جريدة الصباح ولم يكن يخطر على بالهم إمكانية ظهور المهدي المنتظر وهو الـ"فايسبوك" الذي نقلنا حقا من الظلمات إلى النور ونصرنا على القوم الظالمين فأصبحنا بقدرته ندخل الجزائر صباحا مساء وحتى يوم الأحد دون استشارة شرطي يحمل في جمجمته مخا وهو لا يحتاج أكثر من نخاع شوكي ينظم ذهابه إلى دورة المياه.

وصلت مدينة جامعة بالجزائر وللأمانة رحبت بي السلط الحزبية المحلية ترحيبا جيدا. التحقت مباشرة للسكن مع أستاذين تونسيين قديمين في المنطقة. كان الحي مخصصا لرجال التعليم وكان السكن مجانيا للجزائريين والأجانب والماء أيضا مجانيا للجزائريين والأجانب والجولان مجانيا لسيارات الجزائريين وسيارات الأجانب, لا ندفع المعلوم السنوي للجولان في الجزائر. هذا من بقايا اشتراكية بومدين ومكاسبها التي أنتقدها في جوانب أخرى مثل غياب الديمقراطية وكبت حرية الصحافة والتطبيق المشوه للاشتراكية مثل ما فعل أحمد بن صالح في تونس الستينيات .

انتدِبت كمدرس علوم الحياة والأرض بالفرنسية لكن أصبحت أغيّر الاختصاص كما تغير الحرباء لونها. بدأت عملي في إعدادية مدينة جامعة كمدرس للعلوم التطبيقية الفلاحية. كنا أنا وتلامذتي نفلح الأرض ونزرع البطاطا والفول ونجني ثمارها ولا نأكلها. بعد عام بدأت أدرس التكنولوجيا وكيفية استعمال سخان الحمام وغيره من الآلات, اعتمدت في تحضير دروسي على كتب رسمية تونسية في التقنية لفقدان البرنامج والكتب الجزائرية في هذا الاختصاص. انقرض تعليم العلوم بالفرنسية في عامي الرابع من الإعارة فاقترح عليّ صديقي المدير تدريس اللغة الفرنسية في نفس الإعدادية فقبلت ووافقت الوزارة الجزائرية وتجدد عقدي لمدة أربع سنوات أخرى بمجرد تزكية من المدير. المدير وما أدراك ما المدير, أصفه لكم بكل دقة وأمانة وهو داخل صباحا لمدرسته: كان بدينا لحد الإفراط, يرتدي قميصا خارجا من سرواله كاشفا عن بطنه وينتعل في قدميه "شلاكة نيلون بنصف دينار تونسي" وفي يده "قرطاس فول مدمس" يأكل البذرة ويلفظ القشرة على الأرض بقوة دفع رهيبة مباشرة. لا تغرّكم المظاهر ولا تحكموا بسرعة على البشر فهذا المدير طيب جدا ومتكون جدا, ودون مبالغة لقد كان قادرا وبجدارة وتفوق أن يعوض أي أستاذ يتغيب وفي أي اختصاص ويؤدي المهمة أحسن من الأستاذ المتغيب نفسه.

تعلمت السياقة في الجزائر وحصلت على رخصة في الوزن الخفيف والثقيل وعلَّمت قانون الطرقات مجانا و بمنزلي لصديق جزائري أمّي.

اشتريت بالحاضر, في عامي الثاني بمدينة جامعة, سيارة مستعملة وثلاجة وموقد طبخ (Une cuisinière)   وتلفازا بالألوان وسرير كبيرا وغسالة أوتوماتيكية وتزوجت بتونس من الجميلة والرقيقة سهام الرحال أثناء عطلة الشتاء. وفّرت لي المدرسة الجزائرية "فيلاّ" للسكن تابعة لها دون كراء ولا فاتورة ضوء ولا فاتورة ماء. وكما يقول المثل التونسي " اغسل ساقيك وادخل" وفي جانفي 1983 دخلت أنا وزوجتي في شهر عسل شتوي متواضع لكن دافئ.

كنت مقاطعا الجلوس في المقاهي وأسهر مع زملائي الجزائريين والفلسطينيين في ساحة الحي شبه مجاني السكن ومجاني الماء (كان نصف الحي مجاني السكن ونصفه الآخر شبه مجاني لأن كراء "فيلاّ" كان بـ200 دينار جزائري أو 20 ألف جزائرية, يقابلها 4 دنانير تونسية أو 4 آلاف تونسية في السوق السوداء ة, الدينار الجزائري هو بمثابة  100 مليم عندنا في تونس ). كنا نفترش الرمل الصحراوي النظيف والناعم الدافئ ونتجاذب أطراف الحديث والنقاش دون تمييز في الجنسية لقرب لهجتي من لهجتهم الجنوبية. كانوا يعشقون رئيسهم السابق الهواري بومدين ولا يقبلون نقده. لا يحبون رئيسهم الشاذلي بن جديد وكنت أنا على العكس, لا أوافق  بومدين في ديكتاتوريته ولا في طريقة تطبيق اشتراكيته رغم إيماني الراسخ بوجاهة بعض ما جاءت به النظرية الاشتراكية ولو غيرنا فيها الديكتاتورية بالديمقراطية والثورة بالتغيير المتدرج في المفاهيم والتصورات. أحترم بن جديد لشعره الأبيض ولبساطته ولتوفر مستلزمات الحياة في عهده. كان عهدا ذهبيا بالمعنى النفعي للكلمة, تمتع الجزائريون بالأمن والعيش الكريم في عهده بعد ما قُمِعُوا في العهد الذي سبقه وقتلوا في العهد الذي لحقه.

على ضوء القمر وكاس الشاي الأخضر الخفيف و"الحمص المعاود" التونسي الذي يعشقه زملائي الجزائريين, كنا قرابة عشرين أستاذا نناقش خبر تأسيس المغرب العربي خلال اجتماع الرؤساء المغاربة الأربعة في المغرب الأقصى في الثمانينات. كان كل زملائي متفائلين ومصدقين الوعود وكنت أقول لهم: لا تصدقوا الأقوال قبل أن تروا الأفعال. نشأت السوق الأوروبية المشتركة على المستوى الاقتصادي والثقافي قبل أن تنتقل إلى المستوى السياسي أما نحن فبدأنا من القمة وبحول الله ستنكسر رقبتنا وسنتدحرج من الأعلى إلى أسفل السافلين. وها قد مر الآن على التأسيس والحفل الضخم قرابة ربع قرن ولم يتحقق، لا مغرب عربي كبير ولا صغير بل اشتعلت الحرب الأهلية في الجزائر وحصدت مائتي ألف جزائري بأيادي جزائرية وطنية خالصة مائة في المائة.

كان زميلي الفلسطيني الأستاذ المتعاون بالجزائر المذكور أعلاه وهو من سكان غزة الحاليين يتدخل في النقاش أحيانا وبحرقة شديدة تستشفها من نبرة صوته وشرع يقارن بين عهد الاحتلال المصري المباشر لغزة قبل 67 وعهد الاحتلال الإسرائيلي المباشر بعد هزيمة 67. قبل 67, كانت الفوضى تعم القطاع تحت الحماية المصرية وكان الفدائيون الفلسطينيون, أبطالا في نظر العرب وقطّاع طرق في نظر الغزاويين, كانوا يقظّون مضاجعنا نحن المدنيين الأبرياء العزل ويفرضون علينا سيطرتهم بقوة السلاح الذي يحملونه ضدنا وليس ضد العدو. قبل 67, لم يكن الأمن مستتبا في القطاع ولا في الضفة والقدس الشرقية. بعد 67, جاءت إسرائيل بجيشها وجبروتها وفرضت القانون والأمن ودخل المجاهدون المزيفون إلى جحورهم وأصبح العمال الفلسطينيون يتوافدون على إسرائيل 48 بمئات الآلاف يكسبون لقمة عيشهم من عرق جبينهم في بناء المستوطنات وزراعة الأراضي الفلاحية لصالح اليهود الصهاينة المحتلين القادمين من بولونيا وروسيا وأمريكا والمهجّرين من الدول العربية التي جبنت أمام جيش الهجوم الإسرائيلي واستأسدت ضد رعاياها اليهود الأبرياء العزل وأجبرتهم بالقوة على مغادرة أوطانهم العربية وحولتهم من يهود عرب مسالمين في أغلبيتهم إلى صهاينة معادين لنا نحن الفلسطينيين فقط. ويضيف زميلي الفلسطيني معتذرا عن جلد الذات الفلسطينية العربية: لا تأخذوا كلامي هذا على أنه تجميل للوجه القبيح للاحتلال الإسرائيلي بل هو تقبيح للوجه المجمّل للاحتلال العربي المصري والأردني للضفة والقطاع قبل 67. الإحتلال الإسرائيلي هو تمييز عنصري واضح بين اليهودي والعربي أما الاحتلال العربي فهو تمييز متخف أشد عنصرية لأنه يميز بين عربي وعربي وبين مسلم ومسلم لم يميز الله بينهما إلا بالتقوى. بعد أن أتم زميلي الفلسطيني سرد شهادته على العصر, عصر الانحطاط العربي, ألقيت عليه السؤال التالي: لماذا لم تطالبوا قبل  67 بالاستقلال التام والتخلص من الاحتلال المصري لغزة والاحتلال الأردني للضفة والقدس الشرقية وتبنوا دولتكم المضيّقة وعاصمتها القدس الشرقية قبل أن تحتلها إسرائيل في 67؟ نسيت أو تناسيت جوابه لأن لا أجرح شعوركم أكثر مما هو مجروح.

جمعت معاهد مدينة جامعة أساتذة متعاونين من 8 جنسيات مختلفة: 5 مصريين و3 فرنسيين و1 ايرلنديا و1 باكستانيا و2 فلسطينيين و1 سوريا و7 تونسيين و1عراقيا. استدعتنا مرة مديرية الأمن بولاية واد سوف في يوم واحد لأمر يهمنا دون ذكر السبب بالتفصيل فتغيبنا كلنا والتحقنا بدار الأمن على بعد مائة كيلومتر من مدينتنا, وصلنا الثامنة صباحا, دخلنا, سألونا: هل غيرتم محل إقامتكم؟ أجبنا جميعا بلا. قالوا لنا شكرا ومع السلامة. ضاع يوم دراسة على التلامذة الجزائريين بسبب غباء ضابط أمن جزائري كان أجدر به أن يطلب المعلومة هاتفيا (غبيٌّ أولٌ).

كانت الجالية التونسية, أكبر جالية أجنبية في مدينة جامعة,  تتكون من ست عائلات, أربعة أساتذة و بائع فطائر مقلية وسائق شاحنة. كنت الوحيد الذي يملك سيارة ( R14 ). كان زملائي الثلاثة يستعملونها لقضاء حوائجهم ولم أكن أمانع. اقترحوا عليّ تحويلها إلى ملكية مشتركة فقبلت فورا. قدرنا ثمنها بألف دينار تونسي، كل واحد ساهم بربع مليون. بقيت البطاقة الرمادية باسمي. حرّرنا شفويا في شأنها كراس الشروط التالية: إصلاح العطب مشترك أيا كان المتسبب فيه أيا كان المكان الذي فيه العطب، في تونس أو في الجزائر. ثمن البنزين مشترك في حدود شعاع 50 كلم من مدينة جامعة ولو زادت المسافة عن هذا القدر، يتحمل السائق على نفقته دفع ثمن الوقود الزائد المستهلك. تبيت السيارة أمام منزلي أنا مهما كان توقيت رجوع المسافر وتنطلق من أمامه مهما كانت ساعة الانطلاق. إذا رغب أحدنا في فض الشركة, يقبض مائة دينار تونسي بعد بيع السيارة في التوقيت الذي يحدده الباقون. تدرب عليها لنيل رخصة السياقة أربعة تونسيون, زوجتي وزميلي وزوجة زميلي وزميلتنا حتى تقطعت أوصالها وهرمت. غبطنا زملاؤنا المصريون على اشتراكيتنا وتفاهمنا وقد كانت تجربة فريدة في حياتنا ولو نسج على منوالنا الكثير من الموظفين في العاصمة التونسية القاصدين العمل من الأحواز إلى العاصمة، لَوفرنا الكثير من الطاقة وحمينا بيئة عاصمتنا من التلوث وبهذا الصنيع نكون قد طبقنا التنمية المستديمة. يذهب الموظف التونسي الفقير في بلد العالم الثالث إلى عمله البيروقراطي غير المنتج في أغلب الأحيان وهو راكب عربة تجرّها 4 أحصنة ( voiture populaire de 4 chevaux ) وهو في الواقع حصان واحد يكفيه. لماذا لا يتفق 4 أو 5 موظفين جيران (من حمام الشط مثلا ويشتغلون في العاصمة بالتوقيت الإداري) على  استغلال سيارة أحدهم  أسبوع " أ" و سيارة آخر أسبوع "ب" فيربحون راحتهم من عناء السياقة ويوفرون ثمن البنزين ويتجاذبون أطراف الحديث في الطريق حول الكرة والمسلسل التركي وتنازلات عباس وعنتريات أردوقان الفارغة ووعود أوباما بتحرير فلسطين والمقاومة الافتراضية التي يقوم بها موسميا حزب الله وحماس والجبهة الشعبية أو يناقشون وضع العمال المصريين  المسجونين في السعودية الذين بلغ عددهم تقريبا  12 ألف وهو عدد يساوي أو يفوق حسب بعض الإحصائيات عدد السجناء الفلسطينيين في إسرائيل أو يجيبون على سؤالي ونكستي وهزيمتي وحيرتي وانكساري: هل نحرّر السجناء المصريين في السعودية أولا أو الفلسطينيين في إسرائيل أولا؟ وهل نلجأ في تحريرهم إلى الجامعة العربية أم مجلس الأمن أم المؤتمر الإسلامي أم المقاومة الموسمية؟

حملتْ زوجتي وولدت في الجزائر بنتا مثل القمر, سميتها عبير من عبير الجنة. دخلت زوجتي المستشفى في مدينة جامعة ولم يطلبوها في دفتر علاج ولا جواز سفر ولا بطاقة تعريف. سألوها عن اسمها فقط. ولّدها في ظروف طيبة طبيب مصري متعاون وكفء، اسمه أسامة، الله يرحم والديه. لم أدفع مليما واحدا في الدخول ولا في الخروج وهذه تُعد من مكاسب الاشتراكية التي أتمسك بها بعد ما بدأت تتخلى عن بعض منها -مع الأسف المر والشديد- الدولة الجزائرية واتبعت نصائح البنك الدولي مثل ما فعلت قبلها كل أخواتها الدويلات العربية التابعة المطيعة والمهذبة حيال مانحها "صندوق النقد الدولي"، دويلات قامعة ونافية لكل الحريات وكامتة لكل الأصوات ومانعة لكل التجمعات ومحبطِة لكل تطلعات الشعوب العربية وآمالها وطموحاتها. شعوب كريمة في سخائها وعطائها وتمسكنها واستقالتها وتسليمها السلطة لمدة 14 قرن إلى حكام الظلمة مع احتفاظها بالألقاب الرنانة الفارغة كالشعب العظيم  والشعب الكريم و"نموت نموت ويحيا الوطن". وإذا مات المواطن فبمن ولِمَن سيحيا الوطن يا ترى؟

تمت دعوتي مرة إلى مديرية الأمن ببسكرة  لاستخراج بطاقة الرعايا الأجانب لزوجتي الوافدة الجديدة فاحتطت للمناسبة وحملت معي كل الأوراق اللازمة، قدمتها للموظف فتمعّن فيها جيدا ثم قال لي: ملفك تنقصه ورقة مهمة. قلت: ما هي؟ قال: شهادة معرّفة الإمضاء تشهد فيها أنك تطعم وتسكّن زوجتك معك. قلتُ متعجّبا: وهل يعقل أن تأكل زوجتي عندي ثم تذهب تبيت عند الجيران؟ أجابني بغلظة وحزم: نحن نطبق القانون. كتبتُ الشهادة الغريبة وذهبت إلى البلدية طالبا التعريف بالإمضاء فضحكوا عليّ, لكنهم ختموا عليها بسبعة أختام فحملتها إلى المركز ورجعت بزوجتي أطعمها وأسكّنها بشهادة ضابط أمن جزائري (غبيٌّ ثانٍ).

كان أهل مدينة جامعة كُرَماء معنا وأذكر منهم خاصة مدير الدائرة الحزبية، سليمان أوبيرة، الذي كان يدعونا لوجه الله كل أسبوع إلى وليمة عربية فاخرة في منزله دون أن ينتظر منا جزاء ولا شكورا. بعد عودتي بسنوات سمعت أنه أصبح نائبا في مجلس النواب وسمعت أيضا أن  مصباحا كهربائيا انفجر في وجهه صدفة في بهو المجلس ففقد بصره ومات بعد سنة تقريبا. رحمة الله عليه وجازاه الله خيرا على كرمه الحاتمي الجزائري ويا ليت مسؤولينا يفعلون مثله مع ضيوفنا الأساتذة الأجانب.

كنت بين جيراني الأساتذة السوافَى (نسبة إلى مدينة واد سوف) كالسمكة في الماء وصدّقت بالفعل أننا شعب واحد, أعني السوافى والنفاوزة (نسبة إلى نفزاوة). لهجتنا واحدة وتقاليدنا مشتركة وتمورنا متشابهة كلون قشرتنا.

كان زمنُ بن جديد زمنَ وفرة وأمن وأمان. كنا نشتري السكر بالشكارة وبسكويت الڤوفرات بالكرتون. كانت البقول رخيصة والخضر والفواكه متوفرة في السوق والسمك المثلج المستورد معروضا بأثمان بخسة في المغازة الكبرى (  Les galeries). أما "الموز بالصندوق" فلم يتوفر إلا مرة واحدة في الثماني سنوات التي قضيتها في الجزائر وكانت "شبعة موزية" فريدة من نوعها. وزّعوه علينا في المدرسة حسب الاختصاص وما دمت من أساتذة العلوم فهَم أقرب للموز من أساتذة الرياضيات وقد كانت حصتي أكبر حصة. أما اليوم في تونس 2010, فلا أقدر ماديا إلا على شراء 5 موزات كل أسبوع على عدد أفراد العائلة وموزة واحدة في الأسبوع خير من تخمة واحدة في ثمان سنوات.

مدينة المرّارة مدينة صغيرة تقع قرب مدينة جامعة, تنازع أهلها مرة حول تقسيم الأراضي بين العروش والقبائل ولم يكن يوجد لدى البلدية ولا الولاية ولا الرئاسة أي مثال هندسي ينظم عملية التقسيم. فكّر المجلس البلدي المحلي في حل النزاع ودون المرور بالتسلسل الإداري الجزائري, راسل مباشرة الدولة الفرنسية, المستعمر القديم, طالبا مثالا هندسيا يحدد ملكية كل قبيلة وحدودها. أمدّته السلطة الفرنسية مشكورة بخريطة مفصلة لكل الأراضي ببلدية المرّارة. أصدر الوالي الجزائري قرارا بحل المجلس البلدي بمدينة المرارة عقابا له على الاستقواء والاستنجاد بالأجنبي لحل نزاع وطني.

نصّبوا مجلسا بلديا جديدا بالمرّارة وجاء الرئيس بن جديد لزيارة المرّارة لتأكيد حضور الدولة الجزائرية. اعترضتْ المجلس البلدي الجديد معضلة جديدة, ألا وهي و جود آليات ضخمة وعالية جنب الطريق الذي سيمر منه رَكْبُ الرئيس الوطني وهي بقايا مهمَلة متبقية من مشروع قديم فشل في التنقيب على المياه. تتطلب إزالتها ميزانية ضخمة قد ترهق المجلس الفتي لكن إمكانية مشاهدتها من قِبل الرئيس عند مروره ترهق المجلس البلدي الجديد وقد تعرّضه إلى مساءلة قانونية. فكّر المجلس الموقر مليا في حل وطني ولم يلجأ هذه المرة إلى المستعمر الفرنسي واستنبط حلا وطنيا خالصا يتمثل في ردم كل الآليات التي تقدر بالملايين تحت الرمال حتى لا يراها الرئيس ومرّ موكب الرئيس بسلام ودُفِنت أموال الشعب تحت الرمال ولا زالت إلى الآن رائحة البيروقراطية النتنة تنبعث من مقبرة المشاريع الكبرى وتزكم الأنوف الوطنية.

يوم 16 جوان 1988, ولِد ابني الثاني في مدينة جامعة في المستشفى المحلي بجامعة في ظروف طبية طيبة ومجانية مثل ولادة ابنتي الأولى عبير. ذهبت إلى مقر البلدية لتسجيله وقد اخترنا له, أنا وأمه, اسم "نادر". سألني الكاتب عن الاسم فقلت "نادر". أجابني: هذا الاسم ليس موجودا في كتاب الأسماء وهو ليس اسمًا عربيا فلن نسجله في دفاترنا فمن الأفضل لك أن تختارَ له اسما آخرا وبسرعة. لم أصدق ما سمعت إلا بعد أن رمى لي بكتاب الأسماء. قرأته وتفحصته فلم أجد فيه اسم "نادر" ولكنني وجدتُ فيه أسماء عربية وأخرى تركية أو فارسية مثل "بهجة" و"شوكة" و"دنيا زاد" و"شهرزاد". حاولتُ إقناع موظف الحالة المدنية بالبلدية بأنني لست جزائريا ومن حقي اختيار الاسم حسب القانون التونسي وليس حسب كتابكم غير المنزل. أجابني بلغة البيروقراطي الذي ليس له أدنى استعداد للتفاهم: أنت لست أجنبيا, أنت عربي. قلت له مستغربا: كيف لا نجد في كتابكم  اسم "نادر" وهي كلمة عربية مشتقة من فعل ندر ونقول ندر الشيء أيّ قل وجوده. ردّ عليّ مغتاظا: أتريد أن تسجل ابنك أو تتركه في المستشفى دون اسم. استعذت من الشيطان الرجيم ونظرت من النافذة الشفافة وكان المطر ينزل في الصيف فأوحى الطقس إلى ذهني اسم "غيث" فقال لي: موجود في الكتاب. خرجتُ فرحا بابني, نادرا كان أم غيثا وبعد أربعة عشر سنة ولِد ابني الثالث وكنت في تونس فأسميته "نادر" وثأرت لنفسي من ذلك العبد المأمور كاتب البلدية الجزائري المغمور أو الموظف الجزائري  (غبيٌّ ثالثٌ في قصتنا).

عند نهاية عقدي في 88 ذهبت إلى فرنسا واشتريت سيارة مستعملة. رجعت إلى مدينة جامعة وجمعت أمتعتي وغادرت الجزائر نهائيا متأسفا على العشرة الطيبة والأخلاق الكريمة لأهل الجنوب الجزائري. وفي صباح يوم 15 جويلية 1988 انطلقت عائدا إلى تونس بسيارتين, المشتركة والجديدة. تعطلت كثيرا في ديوانة الجزائر لتعقد الإجراءات البيروقراطية ووصلت إلى الديوانة التونسية حوالي العاشرة ليلا. قالوا لي: لن تدخل تونس اليوم لأن التصريح بجلب سيارتين يتطلب موافقة رئيس المركز وهو غير موجود الآن في العمل وعليك -إن شئت-انتظاره حتى صباح الغد لتسوية وضعيتك. قلت: وإذا أدخلت سيارة واحدة فقط؟ قالوا: في هذه الحالة نصرح لك بالدخول فورا. مهما رويت لكم لن تصدقوا حرق الأعصاب والمعاناة الرهيبة والمعاملة السيئة والإهانات غير المباشرة والتجاهل والاحتقار الذي نتعرض له في الحدود من قِبل الشرطة والديوانة الجزائرية, والله الإسرائيليون أرحم منهم حسب ما سمعت عنهم من عمر، زميلي الفلسطيني المذكور أعلاه. أما الشرطة والديوانة التونسية فأقل حدة وألطف معاملة وهما موجودتان في مدينة حزوة حيث تتوفر كل المرافق الضرورية. سلّمت مفاتيح السيارة المستهلكة وأوراقها إلى الديواني التونسي وقلت له بالحرف الواحد: إن رجعت إليك أو رأيت وجهي بعد اليوم فافعل بي ما شئت. وهذا ما وقع فعلا وبعد شهور من عودتي واستقراري بحمام الشط بتونس, هاتفني صديقي (وزميلي في الجزائر سابقا يوسف جلال والمستقر وقتها بتوزر وهو شريكي في السيارة الاشتراكية) طالبا توكيلا في السيارة حتى ينتزعها من أعوان الديوانة  الذين أصبحوا يستعملونها دون وجه حق وهي تُعتبر ملكا خاصا محجوزا. أرسلت له ما طلب فانتزعها من أعوان الديوانة وباعها إلى عم محمد التونسي بائع ألفطائر المقلية بمدينة جامعة بالجزائر ولم يقبض ثمنها حتى اليوم بعد 22 سنة. أرجوكم, لا تشكّوا لحظة في ذمّة عم محمد فهو أشرف من الشرف والغائب حجته معه ويكفينا ثمنا, الفطائر والولائم التي أكلناها في حانوته و منزله. ثمن السيارة 400 ألف جزائرية يقابلها في السوق السوداء في ذلك الوقت 100 دينار تونسي.

 

كنتُ في الثمانينات، عندما أعود من الجزائر في عطلة الصيف إلى مسقط رأسي قرية "جمنة" بالجنوب الغربي التونسي, كان يصلني راتبي 700 دينار تونسي في الشهر وكنت أقول مستمتعا و ساخرا: هل جُنّت الدولة الجزائرية حتى تمنحني راتبا أكثر من راتب عضو في مجلس النواب التونسي وأنا أحتسي الشاي الأحمر فوق كثبان الرمال الصحراوية (عِرْڤْ كُشّادة بجمنة الحَمَادَة).

قضيت في الجزائر ثمان سنوات وفّرتُ فيهم مالا أقمت بواسطته منزلا متواضعا بحمام الشط حيث أقطن منذ عشرين سنة.

عشت بين أشقائي وزملائي الجزائريين كل هذه المدة معززا مدللا مكرما مهابا وأعطيتهم من جهدي كل ما أستطيع ومثلت بلدي أحسن من السفراء وما زالت إلى الآن تربطني ببعضهم علاقات تزاور وود واحترام متبادل والسلام على من قرأني وصبر عليّ إلى الآخر.


عائلتان جارتان، قمّة في نكران الذات من أجل ضمان مستقبل أبنائهما العلمي!

 

1.             الجار الأول: قصة واقعية حدثت في عائلة جارٍ زميلٍ، أستاذٌ تعليم ثانوي وصديقٌ حميمٌ، و هو الأقرب إلىّ قلبي وطبقتي الاجتماعية: 

  

أعرفه عن قربٍ، زميلٌ و صديقٌ و أبٌ لبنتٍ جميلة و ولدين وسيمين، مناضلٌ اجتماعي متميِّزٌ بحصوله على وسام الشغل، مناضلٌ متوسطُ الحالِ، صامتٌ محترمٌ، زوجته لا تشتغل إلا في شؤون المنزل. أخذ قرضًا من البنك، وعِوَضَ أن يبني به مسكنا يُكمل فيه سنين عمره المتبقية وهو "امْكَهَّبْ" (مُشرِف) على الستين، خصّص الأب كامل القرض لحاجيات ابنه المرسّم على نفقته بالجامعات الفرنسية وبقي يسدّد القرضَ بالتقسيط المتعب والمضني نفقات الربا البنكي على مدى سنوات متحملا ضنك العيش من أجل أن يتعلم ابنه البكر في أرقى الجامعات الغربية. أليست هذه قمة في نكران الذات و مثالا يُحتذي به في التضحية من أجل مستقبل الأبناء؟ أطلب من دولة ما بعد الثورة أن تكون حنونة و تضحّي من أجل  أبنائها الفقراء اقتداءً بحنان هذا الأب المثالي وحرصه على ضمان مستقبل ابنه العلمي؟

والحمد لله، نجح الابن وأنهى دراسته الجامعية وتخرّج مهندسا في الاتصالات واشتغل بفرنسا وفي العطلة المدرسية الماضية، أراد تكريم والديه فاستضافهما على نفقته في جولة سياحية بفرنسا فأدخل السرور والبهجة والرضاء إلى قلبَيْ والديه وعوّضهما أحسن وأفضل تعويض على تعب السنين وجازاهما على صبرهما أجمل جزاء.

 

 

2.     الجار الثاني: قصة واقعية حدثت في عائلة جارٍ زميلٍ، صديق ومدير بوزارة التربية، وهو الأقرب إلىّ فكريا:

أعرفه عن قربٍ، عائلة متوسطة اجتماعيا، مناضلة ومحترمة، يسودها الود والحب والاحترام والوئام، عائلة متكونة من أربعة أفراد، أبٌ مديرٌ بوزارة التربية، أمٌّ أستاذة تعليم ثانوي، بنت جامعية تحتاج إلى مصاريف كبيرة وشاب طالب بألمانيا. خصص الأب كامل مرتبه لحاجيات ابنه المرسّم على نفقته بالجامعات الألمانية واكتفي هو وباقي العائلة بمرتب زوجته. أليست هذه قمة في نكران الذات لثلاثة أفراد في عائلة متماسكة ومثالا يُحتذي به في التضحية من أجل مستقبل ابنهم؟ أطلب من دولة ما بعد الثورة أن تكون حنونة وتضحّي من أجل  أبنائها الفقراء اقتداءً بحنان العائلة المثالي وحرصها على ضمان مستقبل ابنها العلمي؟

 

 

 


لماذا وكيفَ ولِمَن أكتبُ؟

 



تعريف المواطنة العالمية:

إدڤار موران

"حاول جان جوريس التوفيق بين الوطنية والعالمية. علينا اليوم الجمع بين هذين المفهومين المتناقضين في الفكر المعقد: الجمع بين الوطنية والعالمية يخلق مواطن العالَم"

"لقد حان الوقت لتغيير حضارتنا وإعادة أنسنتها"

Edgar Morin

 « Jean Jaurès conciliait patriotisme et internationalisme. Aujourd'hui il faut associer ces deux termes qui sont antagonistes pour la pensée non complexe : patriotisme et cosmopolitisme signifiant "citoyen du monde" ».

"Le temps est venu de changer de civilisation (…) et de rhéhumaniser l`humanité"

 


المؤلف

"كل مشكلة من مشكلاتنا تشكّل لوحدها ظاهرة معقدة. تتداخل فيها الأسباب الوطنية والأسباب العالمية وتتشابك وتتفاعل باستمرار إلى درجة أنه يصعب علينا الفصل بين الإثنين، لذلك اخترتُ المواطنة العالمية حيث أكون وفي نفس الوقت 100% وطنيا و 100% أمميا"

« Chacun de nos problèmes est un phénomène complexe. Les causes nationales et les causes internationales de nos problèmes sont tellement imbriquées les unes dans les autres et en perpétuelle interaction donc il nous est impossible de les séparer, c’est pourquoi  j`ai choisi d`être citoyen du monde, citoyen 100% patriotique et 100% cosmopolite ».

 


لماذا أكتب؟

 

 إيمانًا منّي بحرية المعتقد والضمير فإن كل ما كتبته وما سأكتبه إن شاء الله هو تعبيرٌ نابعٌ من نفسٍ حائرةٍ تطمح إلى الجديدِ المفيدِ وغير المفيدِ أو تحاول أن تتجنب كل تقليدٍ بليدٍ، فأنا لا أكتب إلا لأنسيها مرارة انتظار الساعة، ولا أكتب إلا ما أعتقده صدقا خطأ كان أو صوابَا، ولا أكتب إلا لإرضاء ضميري فحسب لا أكثر ولا أقل، ولذلك تأتي كتاباتي مرآة نقية تعكس شخصية مضطربة اضطراب عصرها، شخصية تأبى أن تتقيد بقيود الماضي أو الحاضر أو أن تلبس حُلّةً غير حُلّتِها.

"الكاتب ليشتنبارغ وصف كتابات يعقوب بوهام بأنها نوع من رميٍ للكلمات وترك القاريء يضع لها المعاني" (في كتاب محمد المزوغي "نيتشه والفلسفة"، 2010).

أما أنا فأرمي الإشكاليات وأترك القاريء يبحث لها عن أجوبة. أحدد الخورَ وأترك القاريء يجد له بديلاً. أطرح وجهة نظري ولا أهدف من ورائها إلى إقناع القاريء بالحججِ والبراهينَ وليست لي الرغبة بتاتاً في السطو على وجهة نظره. أكتب لنفسي وأترك القاريء يقرأ لنفسه والأفضل ما سأقوله على لسان نجيب محفوظ (1994): "أكتب لجمهور مَّا من خلال إرضاء ذاتي أولا، لا سعيًا للجمهور بأي ثمن وأقدم خير ما عندي بخير ما أملك من قُدرة وإتقان... فالجمهور هو الذي يعطي شهادة وجود للكاتب، وهو الذي يحدد قيمته".


كيف أكتب؟

 

في هذا الكتاب، سمحتُ لنفسي أن أكتب أثرًا "خالٍ من تلك العتمة وذاك الركام من الاستشهادات والإحالات المضنية التي تلهي القاريء الصفحة تلو الأخرى وتصدّه عن المسك بجوهر الموضوع" (جملة قالها الموسيقار الألماني العبقري فاغنر تمجيدا لكتاب صديقه الفيلسوف الألماني العظيم نيتشه. المصدر: كتاب "نيتشة والفلسفة"، محمد المزوغي، 2010)، رغم أنني أعي جيدا أن كل أثر علمي عادة ما يخضع لمعايير علمية وقواعد محددة وأن للكتابة العلمية ديونتولوجيتها وأن ناقل العلم مثلي لا يجب أن يكتب جزافا بل كل ما يورده يجب أن يكون مضبوطا وموثقا ومبرهنا عليه. تسع سنوات سجن لذيذة قضيتها في البحث العلمي بين ماجستير ودكتورا، تخللها كد وجهد فُرِضا عليّ ديونتولوجيا من قِبل أساتذتي المحترمين الأعزاء فقبلتها كَرها، وحالما حصلتُ على الشهادة الأخيرة قلتُ للجامعة والجامعيين ما قالته أم كلثوم في الأطلال :

أعطني حريتي أطلق يديَّ .. إنني أعطيت ما استبقيت شيَّ 

آه من قيدك أدمى معصمي .. لِمَ أبقيه وما أبقى عليَّ 

أشعر أنني لم أخلَق للبحث العلمي، وشهادة الدكتورا في نظري هي بمثابة بطاقة دخول إلى مجال البحث العلمي وليست تتويجا له كما يعتقد غير الجامعيين. أنا أخذت بطاقة الدخول وعوض أن أدخل القسم غادرت المعهد نهائيا كالتلميذ المتنطع. أحس بميلٍ كبيرر لغير النفع المادي المباشر في الوجود، أعني الفن. النتيجة، أنني، لا في العلم فلحت ولا في الفن!

يأتي كتابي هذا خاليا من أي استشهاد يُذكر عكس ما جاء في كتابي بالفرنسية (Le systeme educative au banc des accusés) وهذا أمر ناشز ومحرج للغاية في ميدان علم التعلمية (Didactique) الذي بُني أصلا على أساس الدقة العلمية والصرامة في الإحالات والاستشهادات المكثفة والأمانة في ذكر المراجع. لكنني لم ولن أجرؤ على التهجم على العلم الذي بحثت فيه وتمتعت به، العلم الذي فتح عينيّ على آفاق أوسع وأرحب من علم البيولوجيا، اختصاصي الأول والأساسي وأتمنى أن لا يزدريني أصدقائي الديداكتيين الجامعيين التونسيين وفي الوقت نفسه أشك في أن أصبح يوما ما ديداكتيكيا حقيقيا.

أحسُّ أن علمَ الديداكتيك يسجُنُ عقلي ويضيِّقُ من مجال حركتي الفكرية ويقمعُ رغبتي في التحرر والولوج إلى مجالات فكرية أخرى أوسعَ وأرحبَ وأشملَ.

هذا التوجه الفكري الذي اخترتُه بمحض إرادتي، دون ضغوط خارجية، يوفرُ لي مساحة من التفكير أكبر مما يتمتعُ به زميلي الباحث الديداكتيكي الجامعي الملتزم حرفيا بما سطره الأوائل والرواد العظام. انعكست نتائج هذا الاختيار الانتحاري علميا على خياراتي الحياتية وأثرت في مسار حياتي المهنية والشخصية وقلصت من صداقاتي، وغيرت من طريقة تعامل زملائي الأساتذة معي وخاصة مَن اضطلع بمهمة التفقد منهم.

تحررتُ من صرامة الديداكتيك واستقامتها (son  (orthodoxie) ولا أروم الرجوع إليهما. أتراني، هل ارتكبتُ خيانة علمية أم تراني أضفتُ أوعمّدتُ ولادة علمية جديدة؟ لن أتصالح مع الديداكتيك إلا إذا غيّرت اسمها ليصبح "إبستمولوجيا التعليم"، اسمها الأول حيث لا صرامة ولا استقامة، الإبستمولوجيا تستعمل مناهج مختلفة عن مناهج العلوم وتفضل غالبا المقاربة الشاملة (L`approche systémique) على المقاربة التحليلية (L`approche analytique) التي يلجأ لها مكرها كل علم بحكم طبيعته التجزيئية والاختزالية وذلك من أجل تحديد  مجاله الدراسي فاصلا بين الجزء والكل ونحن نعرف أن خاصيات الكل لا تتوفر في الجزء مهما درَسته وقلّبته!

أشعرُ أنني متلائم أكثر مع التسمية الأولى لعلم الديداكتيك، ولا أشعرُ بالانتماء إلى قسم علوم التربية.

 

أي تربية أيها الأبله؟

-  نكوّنُ محاميا من جيوب دافعي الضرائب الموظفين العموميين للدفاع عن المظلومين، يتخرّجُ فينقلب لسانا سليطًا يدافع عن الظالمين الميسورين طمعًا في أموالهم.

-  نكوّنُ طبيبًا، يؤدي اليمين ويتعهد بعلاج كل الموجوعين، يتخرجُ فيهجر المستشفى الذي درّبه ويترك المرضى الذين علموه مهنته ويفتح عيادة خاصة للمتهربين من دفع الضرائب من الميسورين.
-
 نكوّنُ أستاذا لنقل العلم لأبناء الفقراء والمحرومين، يترسمُ فيصبح مقاولا يبيع العلم في الڤاراجات والدكاكين.
-
 ندرّسُ معارفَ (Les connaissances scientifiques) خالية من القيم الإنسانية الكونية (Les valeurs humaines universelles)  ونحن نعرف مسبقا أن المعارف بلا قِيم كحافلة ركاب تجري دون سائق.

- نغتالُ الإبداعَ في عيون أطفالنا بدعوى الانضباط السلوكي والتجانس الذهني. نقدّم تعليما موحّدا لتلامذة مختلفين في الذكاء (الذكاء الفني والذكاء العملي والذكاء النقدي، إلخ.) ظنًّا منّا أننا نعدل بينهم وبعد التخرج نزجّ بهم في مجتمع غير متجانسٍ إلا في عقول المربّين، مَثلنا كمثل مَن يطالب متسلقَا بأن يوظف في الجبل ما تعلمه في درس السباحة.

- لا نعطي أهمية كبرى لتعليم القيم الإنسانية الكونية والفلسفة ولا ندرّس العَلمانية الأنڤلوسكسونية ومقارنة الأديان وفي نفس الوقت نتساءل من أي مدرسة تخرّج هذا الكمّ الهائل نسبيا من المتطرفين الدواعش  التونسيين؟

- لا نُولِي عناية خاصة لتنمية الميول الفنية وصقلها ونتعجب من انتشار الرداءة في الإنتاج والأذواق متجاهلين أن حاسة التذوق الفني ليست هِبةً من السماء بل هي انبثاقٌ من تفاعل المكتسب مع الوراثي. الموهبة وحدها لا تصنع فنانا مبدعا وكذلك لن يصنعه التدريب وحده مهما فعلتَ.

 


لِمَنْ أكتب؟

 

يقولون: "رضاء الناس غاية لا تُدرك".

أقول: رضاء شخص واحد غاية لا تُدرك. ولم أسع ولن أسعى لإدراكها ولا يمكن الوصول إليها حتى وإن أردتُ ذلك ولا يهمني أصلا إدراكها لأنني لستُ داعية لفكرة أو إيديولوجية أو دين أو سياسة ولا أقصد فرض رأيي على أحدٍ بالأمثلة والبراهين بل أدعو كل الناس إلى تجريب وجهة نظر أخرى. "الفكر غير المتحول فكرٌ غير حرٍّ" وأنا أعتبر نفسي مفكرًا حرًّا، لا وصاية لي على أحدٍ ولا أحدٌ وصيٌّ عليَّ. لو أقنعته اليوم فلن أقنعه غدا ولو أقنعته في موضوع فلن أقنعه في كل المواضيع. ولو حصل أن أقنعَ شخصٌ مَا شخصًا آخر بكل أفكاره فالأرجح أن يكون الأول مستبدا أو ساحرًا أو محتالا والثاني مستلب الإرادة أو غبيا أو انتهازيا.

سبق وأن تعرضتُ لنقد شديد حول كتابي الأخير (Le système éducatif au banc des accusés) فعرفتُ أن النقد مؤلمٌ لكنني عرفتُ أيضا أنه مفيد جدا لذلك أحمد الناقد الذي لا يُحمد على إيلام بشري سواه، ولذلك أعذر ردة فعل الذين أنقدهم ولكنني لن أعذرهم في عدم الاستفادة من النقد إن كان صادقًا ونزيهًا، صوابًا كان أو خطأ.

يبدو لي الناقد يعيش مأساة مزدوجة، يؤلمه عدم الترحيب بنقده ويؤلمه أكثر عدم الاستفادة منه. الإبستمولوجيا هي معرفة المعرفة أو نقد المعرفة الماضية والحاضرة أو التشكيك في البراديڤمات السائدة أو نزعُ هالة التقديس المضفاةِ خطأً على العلم. في أكثر الأحيان يقبل العالِم النقد ويستفيد منه أيّما استفادة وبه وبه فقط يطوّر نظرياته العلمية ويحسّنها ويرتقي بها.


ماذا جنيت بعد ثلاث عشرة سنة تعليم عال؟

 

انتقلت من الثانوي إلى الجامعة بعد إجراء امتحان خاص بمدرسة ترشيح الأساتذة المساعدين (ENPA) دون المرور بالباكلوريا. بعد دراسة جامعية أولى دامت سنتين تخرّجت وأنا عمري 22 عاما أستاذا مساعدا في الاعدادي، اختصاص علوم الحياة والأرض. عدت إلى التعلّم الذاتي في سن 27، أعددت نفسي بمساعدة زملائي للترشح الحر لاجتياز الباكلوريا العلمية الجزائرية، تحصلت عليها بملاحظة متوسط. للمرة الأولى عدت إلى الدراسة الجامعية بالمراسلة، في جامعة "رانس" بفرنسا وأنا في سن 30، درست الفلسفة الإغريقية سنة واحدة ولم أواصل لأسباب مادية. للمرة الثانية عدت إلى الدراسة الجامعية بالحضور، وأنا في سن   38 وأكملت الإجازة خلال ثلاث سنوات بملاحظة حسن. للمرة الثالثة عدت إلى الدراسة الجامعية، ، وأنا في سن 46 وبعد عامين بحث علمي تحصلت على "دبلوم الدراسات المعمقة" في  تعلميه البيولوجيا بملاحظة حسن جدا. أضعت عامين بين  الشعور بالإحباط و الإحساس بالفشل والتردد في اختيار موضوع أطروحتي.  للمرة الرابعة عدت إلى الدراسة الجامعية، وأنا في سن 50 وبعد خمس سنوات بحث تحصلت على الدكتورا بملاحظة مشرّف جدا مع الشكر الشفوي للجنة دكتورا ثنائية الإشراف من جامعة تونس وجامعة كلود برنار بليون 1 بفرنسا. مسيرة دراسية خاصة لا تُحتذى، متعثرة و بطيئة جدا، لا أنصح الشباب بمحاكاتها.

رغم طول مدة الدراسة و تعثرها لأسباب خارجة عن قدراتي الذهنية، لم أشعر يوما بالملل أو القلق، بل على العكس كانت أيام سعادة ومرح ومتعة فكرية. وددت لو طالت الدراسة الجامعية إلى آخر العمر لأن كل متع الحياة الدنيا - لو كان فيها متع في متناول الفقراء ما عدا متعة التدخين السامة - لا تساوي المتعة الفكرية.

لم أجْنِ من كل هذا الجهد إلا عملا بسيطا أقتات منه متنقلا في الجمهورية التونسية من مدينة مغمورة إلى أخرى ولست نادما لأن ما حققته هو إرضاء لنفس طموحة غير طمّاعة وشتان بين الطموح والطمع!

جنيت ثقافة علمية نسبيًّا واسعة ومتشعبة ومعقدة واكتسبت تواضعا فكريا حقيقيا واكتشفت أن كلما اطلع الإنسان أكثر عرف أن ما يجهله أكبر.

أقدّم لكم في الفقرة الموالية، ما جنيته ويتمثل في بعض المفاهيم أو أدوات التحليل والتفكير التي بقيت لي من سنوات البحث العلمي، وسأقدمها دون تعمق وبصيغة أدبية أكثر منها علمية، لأنني سوف أتعرض إليها في مقالات أخرى بالتفصيل العلمي:

مفهوم "التفاعل" (L’interaction)

يحل هذا المفهوم السحري كل المسائل الملتبسة في النقاش الفكري ويجيب منهجيا على كل الإشكاليات بمنطق مشاركة كل الأطراف في الفعل ورد الفعل.

مثال 1:

السؤال: هل الذكاء وراثي أم مكتسب؟

الجواب: يتفاعل الوراثي مع المكتسب "فينبثق" منهما الذكاء.

مضى زمن الفصل التعسفي بين الوراثي و المكتسب إلى غير رجعة.

مثال 2:

السؤال: ما هي أسباب تخلف العالَم العربي؟ هل هي خارجية  أو داخلية (مفهوم المؤامرة)؟ هل هي دينية أو عَلمانية؟ هل هي معاصرة أو تاريخية؟ هل هي نتيجة الفساد أو الاستبداد؟

الجواب: تفاعلت كل هذه الأسباب فيما بينها وخلقت وسطا حضاريا، عشنا داخله أربعة عشر قرنا و"انبثقنا" منه أفرادا وشعوبا ودولا عربية-مسلمة متخلفة.

 

مفهوم "الانبثاق" أو "الانبجاس" (L’émergence)

ينتج الانبثاق عن التفاعل بين عناصر الظاهرة الطبيعية أو التفاعل الكيميائي، تبدأ النتيجة تظهر شيئا فشيئا، فهي إذن ليست حتمية وليست معروفة مسبقا.

مثال 1:

يتعاون الآلاف من حشرات النحل لبناء خلية النحل. كل واحدة تقوم بعمل بسيط دون نية مسبقة ودون تصميم ذهني "فينبثق" من مجموع الأعمال المنفردة والبسيطة لجماعة النحل بناء هندسي دقيق لا يقدر على تصميمه أكفأ المهندسين.

مثال 2:

إذا انتقدت التعليم في تونس, يطالبك محاورك بنبرة المتحدي بالبديل, ومن أين لي أنا المواطن الواحد بالبديل؟ البديل ليس شيئا توجد وصفته الجاهزة سلفا بشكل كامل في جيب النقابة أو الوزير، وما على هذا الأخير إلا وضعها موضع التنفيذ.  البديل الإصلاحي للتعليم، هو بناء "ينبثق" منك ومني ومن آلاف الأساتذة والتلامذة والمختصين في علوم التربية و التعليم.

 

مفهوم "ما بعد  الوراثي المخي "  (L’épigenèse cérébrale)

كلمة "ما بعد" تفيد أن النموذج السائد (Le tout génétique) الذي يؤكد خطأ أن كل الصفات الذهنية البشرية وراثية (كالذكاء والعنف). هرم هذا المفهوم وتشقق  فوُلِد من رحمه نموذجٌ جديدٌ. يجمع هذا النموذج الجديد بين الموروث والمكتسب: "يتفاعل" الموروث مع المكتسب داخل خلايا المخ البشري فـ"ينبثق" الذكاء من تفاعلهما. لا يمكن توريث مَلَكَة الذكاء البشري وإلا لكان كل أولاد العباقرة عباقرة بدورهم. فالذكاء إذن هو 100 %  موروث بيولوجي و100 % مكتسب حضاري. لا يولد الإنسان ذكيا أو غبيا (إلا في بعض حالات أمراض التخلف الذهني الوراثي أو الجيني). "قد" يصبح الإنسان ذكيا لو توفر له المحيط المناسب والاستعداد الجيني ولو كدّ واجتهد.

 

مفهوم "التعقيد" (Complexité La)

 قد يتبادر إلى ذهن جل المدرسين, ابتدائي وثانوي, أن تبسيط المعارف بجميع أنواعها قد يساعد التلميذ على تقبلها بسهولة. لكن يبدو أن مربينا نسوا أو تناسوا أن تبسيط المفاهيم العلمية قد يجر التلميذ إلى الخطأ وهذا التبسيط الخاطئ قد يرسخ في ذهن التلميذ فيصعب علينا إصلاحه لأن التصوّرات غير العلمية لا تتغير  بسرعة ولا تنهزم بسهولة. العلم معقد بطبيعته لكن المدرس المتمكن هو الذي يقدمه في وضعية تعلمية تراعي مستوى التلميذ ولا تسطّح المشكل ولا تبسّطه حتى لا تُفقده تعقيداته العلمية الهيكلية.

 

مفهوم "المقاربة الشاملة" (L’pproche systémique)

تركّز هذه المقاربة على التفاعلات بين كل العناصر، وتعتمد على الإدراك الشامل للمشكلة أو القضية فنتناولها من جميع جوانبها وجميع زواياها دون إهمال لأي جانبٍ أو زاويةٍ منها. تتعامل "المقاربة الشاملة" مع عدة مجموعات من المتغيرات في نفس الوقت. هي مقاربة ناجعة في التعليم الحديث تعتمد "بيداغوجيا المشروع"  أو تعّلمات المواد المشتركة (Pédagogie de projet): يبحث التلميذ على حل إشكالية علمية ما،  ولحل هذه الإشكالية، نستعين في الوقت نفسه بمعارف من مادة علوم الحياة والأرض ومادة الفيزياء. يحضَر التلميذ تجاربه في المخبر لإتمام مشروعه بنفسه تحت إشراف أستاذ العلوم وأستاذ الفيزياء في نفس القاعة. يُطبَّق هذا المشروع بنجاح في التعليم الثانوي بفرنسا لأن وزارة التربية الفرنسية وفرت له التجهيزات الضرورية، أما في تونس فقد فشلنا في تطبيقه في الإعدادي لسببين اثنين, أولا لعدم توفّر الفضاء اللازم وثانيا لعدم اقتناع الأساتذة بجدوى "بيداغوجيا المشروع". عدم اقتناعٍ ناتجٌ عن نقص في تكوينهم الأكاديمي في علوم التربية.

 

مفهوم "تداول النماذج التعلمية بيسر" (Jongler avec les modèles d’apprentissage)

يَغرَق الأستاذ في كثرة النماذج والطرق التربوية ويحاول تطبيق أفضلها. نذكر من بين هذه النماذج, المدرسة البنائية لـ"بياجي" والمدرسة البنائية الاجتماعية لـ"فيڤوتسكي" والمدرسة السلوكية لـ"سكينر" والتلقين والتقليد والمحاضرة المباشرة وغيرها. لا يمكن التفضيل علميا بين نموذج وآخر لأن كل واحد منهما قد يصلح في وضعية لا يصلح فيها الآخر. أمثلة حية: 1. المحاضرة المباشرة تبلّغ المعلومة عندما يكون مستوى الباث والمتلقي متقارب مثل المتفقد والأستاذ في الملتقيات البيداغوجية في مراكز التكوين المستمر. 2. يكتسب المتدرب الجديد لدى الحدّاد أو النجار أو الميكانيكي مهارته بالتقليد. 3. يحفظ الصغير القرآن في الكتّاب بالتلقين. 4. في بعض الوضعيات التعلمية، يتعلم التلميذ في الابتدائي بالمكافأة والعقوبة. 5. يرتقي المتلقي إلى مستوى ذهني أعلى عندما يبني معارفه بمشاركة أستاذه وأقرانه. 6. يتملك التلميذ معارفه عندما يراجعها وحده في المنزل.

مفهوم "نفي الحتمية البيولوجية والجينية" (  L`anti - déterminisme biologique et génétique)

         نظرية "نفي الحتمية البيولوجية والجينية" تعيب على منافستها نظرية "الحتمية البيولوجية" تجاهلها لتأثير المحيط على عمل الجينات أو المورّثات و إهمالها لأهمية المكتسب من مدرسة الحياة ومؤسسات التعليم. نظرية "الحتمية البيولوجية" تعترف بتأثير الموروث فقط وتهمل التفاعل الذي يحصل بين المكتسب والموروث وترفع من شأن "الموهبة" وتحط من شأن التدرّب والاجتهاد. نحن نعرف أن الاستعدادات البيولوجية الموروثة عند البشر ليست متساوية لكننا نعرف أيضا أن العمل والاجتهاد والمثابرة تتظافر في صنع ما يسمّيه عامة الناس "الموهبة". الموهبة هي القدرات الذهنية العالية المتوفرة عند بعض الناس: نقول مثلا أن هذا التلميذ "موهوب" في الرياضيات, ماذا يعني "موهوب"؟ هل ولِد وهو قادر على حل المسائل الرياضية المعقدة! طبعا لا! هل كُتِبت في جيناته مبادئ الرياضيات؟ طبعا لا! إذن، ما يُسمى بالموهوب في الرياضيات هو شخصٌ أصبح قادرا ولم يولد قادرا, اكتسب القدرة الرياضية أثناء تعلّمه وتدرّبه ولم يرثها عن والديه لكن قد يكون ورث عنهما استعدادا جينيا غير حتمي الغاية. لو ولِد عالم الرياضيات والفيزياء المشهور "انشتاين" مثلا في الصحراء وعاش مع الرعاة ولم يدخل المدرسة لأصبح في أحسن الحالات راعيا ماهرا للجِمال أو الماعز لكنه ولحسن حظه ولد في ألمانيا وتعلم في جنيف وبَنى علمه بمساعدة فريق من العلماء في أمريكا فأصبح موهوبا ولم يولد موهوبا رغم استعداداته الوراثية الذاتية لتقبل العلم والمعرفة.

خلاصة القول

أحُث بكل حب ولطف الشباب على مواصلة تعليمهم العالي في المرحلة الثالثة مبكرا حتى يبقى في العمر متسع للبحث والبناء العلمي ولا أقول الاكتشاف لأن العلم ليس جزيرة مهجورة نكتشفها صدفة. العلم كدّ وجدّ وجهد وبحث وتمحيص، نبنيه لبِنَة لبِنَة بمساعدة الآخرين فوق أساس متين من الموروث الحضاري المكتسب عبر تاريخ البشرية والموروث البيولوجي الذي لا ناقة لنا فيه ولا جمل. لم يتغير المخ البشري بيولوجيا منذ عهد الفراعنة أو أبعد من ذلك لكن القدرات الذهنية عند الإنسان قفزت قفزة عملاقة بفضل التراكم المعرفي البشري الأممي وتفاعل الحضارات منذ القديم.

 


خاتمة

ثلاث تجاهلتها الحضارة العربية الإسلامية، وددتُ لو لم تتجاهلها، وستة أبدعت فيها ثم تركتها، وددتُ لو لم تتركها

 

ملاحظة هامة: لستُ مختصا في الأنتروبولوجيا (علم الإناسة) لكنني أؤمن بمبدئها القائل أن "لا حضارة أفضل من حضارة". لكن هنالك فوارق هامة بين الحضارات وددتُ بكل موضوعية إبرازها للعبرة دون شعور بأي عقدة نقص أو عقدة تفوق في الانتماء للحضارة العربية-الإسلامية.

أبدأ بالستة التي أبدعت فيها الحضارة العربية الإسلامية ثم تركَتْها بسبب عوائق معرفية أجهلها (Des obstacles épistémologiques)

1.    العلوم التجريبية: ابن الهيثم (965-1040م)، مؤسس علم البصريات قبل ديكارت بخمسة قرون. ابن سينا (980-1037م) شرّح الجثث البشرية في حين أن التشريح البشري كان محرّما في الحضارة المسيحية في تلك الفترة.

2.    العلوم الصحيحة: الخوارزمي (780-846م)،  مؤسس علم الجبر.

3.    علوم الفضاء: طوّر علماء الفلك المسلمون الأسطرلاب تطويرا كاملا.

4.    الفلسفة: ابن رشد (1126-1198م) اطلع على الفلسفة اليونانية ثم عرّبها وطوّرها. أحرقنا كتبه في الطريق العام، أخذ الغرب نُسخًا منها فاستفاد. ومنذ ذلك الحدث (Autodafé )  هجرنا الفلسفة فهجرتنا العقلانية (Le rationalisme) دون رجعة.

أذكّر القرّاء المسلمين أن الحضارة المسيحية أحرقت كتب الفلسفة اليونانية وهجرتها أيضًا لمدة ما يُقارِب العشرة قُرون (من القرن الرابع إلى القرن الرابع عشر).

رَجَعَ الغربُ إلى الفلسفة ولم يرجع العربُ بعدُ.

5.    اللغة العربية: منذ عشرة قرونٍ سبق النحويون العرب زملاءهم الغربيين في تطوير لغتهم فأخضعوا حروفها لعلم الاحتمالات بهدف تكوين مفردات جديدة. واليوم تركوها وشأنها، فَوالله لولا القرآن لانقرضت.

6.    الاجتهاد في تفسير القرآن والحديث: أبحر فيه الأوائل بكل حرية وجرأة ولنا أسوة في أولِ المجتهدين وأفضلِهم، الخليفة الراشد الثاني، عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

تعليق: أين نحن اليوم من كل هذا التجديد والإبداع الديني والفكري والعلمي الذي أتاه الأوائل؟

 

أنهِي بالثلاث التي تجاهلَتْها الحضارة العربية الإسلامية بسبب عوائق معرفية أجهلها (Des obstacles épistémologiques)

1.    استعمال "اليد" مع المخ لبناء وتشييد القناطر  والطرقات والجامعات والقصور مثل ما فعلت جل الحضارات الأخرى: الفرعونية في مصر والإغريقية في اليونان والفينيقية في قرطاج والرومانية في العالم والفارسية في إيران والبوذية والهندوسية في الهند والصين واليابان وماليزيا وأندونيسيا والخميرية في كمبوديا (دون مبالغة، ما شيده الخمير وحدهم يفوق ما شيده كل العالم الإسلامي خلال 14 قرن). باستثناء حدائق الأندلس وقصور سلاطين العثمانيين في تركيا لا أذكر للحضارة العربية الإسلامية إلا بعض الإنجازات التي صمدت قرونًا مثل قصر الحمراء بالأندلس وجامع الأمويين بدمشق وجامع الزيتونة بتونس العاصمة وجامع عقبة بالقيروان وجامع القرويين بفاس وجامع الأزهر بالقاهرة والقليل غيرها مما نسيت سهوا وليس عمدا. بغداد التي بناها المنصور من عدم اندثرت لهشاشة بناءاتها.

2.    استعمال "العجلة" في السلم لنقل السلع بسرعة في طرقات معبّدة بالحجر.

3.    بناء السدود لاستغلال المياه وتطوير الزراعة في كل أنحاء الإمبراطورية الإسلامية.

تعليق: لو وَظفت الحضارة العربية الإسلامية هذه الاكتشافات الثلاثة المذكورة أعلاه لَتركت لنا تراثا معماريا ننافس به إنجازات الأمم الأخرى.


مُلحَق، ليس من تأليفي

وفي مجالات تربوية ليست من اختصاصي

(التربية ما قبل الدراسة والتعليم الابتدائي والتفقد البيداغوجي)



حول التربية ما قبل الدراسة

(التهامي الشايب، متفقد طفولة متقاعد)


الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي ما قبل الدراسة (الأطفال أقل من ست سنوات)؟ التهامي الشايب، متفقد طفولة متقاعد

 

"الكل يتشكل قبل ست سنوات"، ترجمة البشير الهاشمي لمقولة "Tout se joue avant six ans"، صدرت كعنوان لكتاب مترجَم للفرنسية للكاتب "Dr Fitzhugh Dodson" (Traduit de l`anglais par Ivon geffray, marabout, 1991).

في كتابها "أيها الطفل مَن أنت؟" (جرّوس براس،  لبنان، طرابلس، 1991)، قالت د. كريستين نصّار: "كلمة حق تُقال: الطفل هو مرآة المجتمع بمعنى أن أي مجتمع يستطيع إدراك صورته المستقبلية من خلال أطفاله وفيهم. بعبارة أخرى تُوضع الدعامات والقواعد الأساسية التي يُبنَى عليها التنظيم العام لشخصية الراشد (L`adulte) خلال السنوات الأولى من حياة الصغير, مِن هنا تُسمَّى الخمس أو الست سنوات الأولى من حياة الطفل بالسنوات التكوينية حسب اتفاق جميع العاملين في هذا الميدان نظرًا لأهميتها القصوى في تشكيل أساس الشخصية عند الفرد".

لقد سبق لي وأن شاركتُ في أعمال اللجنة الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية التونسية المنبثقة من الاتحاد العام التونسي للشغل، فلم ألاحظ اهتمامًا يُذكر بالتربية ما قبل الدراسة. وبالنسبة للمدرّسين، وكأن الطفلَ يُولد وعمره ست سنوات وأن التربية تبدأ من هذه السن وأن ما اكتسبه الطفل قبل ذلك غير مهم والبرامج تُعد على هذا الأساس.

الأساس والبناء

بعض علماء النفس يشبّه الست سنوات الأولى من عمر الطفل بالأساس الذي يُقام عليه عليه البناء. وإذا كان هذا الأساس مَعدًّا بدقة وهندسة ناتجة عن تصور  واعد، فإن هذا البناء سيكون ثابتًا أمام العوامل الطبيعية ويوفّر الراحة والحماية لساكنيه. وإذا كان الأساس غير ذلك فإن البناء سيكون هشًّا تتكاثر فيه الشقوق وسوف يتأثر سلبًا بالعوامل الخارجية. كذلك تُبنى الشخصية "السليمة" للفرد ويجب متابعة الإنجاز يومًا بعد يومٍ.  وبما أن مراحل نمو الطفل من الولادة إلى المراهقة مرتبطة ببعضها البعض حيث تتأثر كل مرحلة بسابقتها وتترك أثرًا في لاحقتها، فإن توفير الظروف والمعطيات الضرورية  لنمو صحي ومعرفي يؤسس لبناء شخصية الراشد يُعتبر من أوكد الضرورات، وهذا التأسيس يبدأ منذ بداية تكوّن الجنين، مما يستدعي إعداد برنامج بيداغوجي-بيولوجي-نفسي-اجتماعي يهدف لتثقيف الرجل والمرأة وخاصة الحامل.

Louise Bates Ames (Gesel Institute of child developpement, USA)  postule que « Comme le fait remarquer Dodson, faire un enfant ne nous donne pas automatiquement la sagesse et l`efficacité nécessaires à l`art d`être parent. Pour bien exercer cet art, il est essentiel de savoir comment les enfants grandissent. Beaucoup acquièrent cette connaissance par expérience au prix de nombreuses erreurs. Or certaines de ces erreurs peuvent être évitées si l`on est quelque peu informé à l`avance du chemin que tous les enfants doivent parcourir jusqu`à leur complet développement » :

مؤسسات الطفولة ما قبل الدراسة

1.    مِحضنة الأطفال (La crèche)

بِحكم تغيّر نمط العيش في المجتمع التونسي وخاصة خروج المرأة للعمل، أصبحت محاضن الأطفال ضرورة حياتية بالنسبة لعدد متزايد من العائلات، يرتادها الأطفال من سن ثلاثة أشهر إلى سن ثلاث سنوات. هذه المرحلة المهمة تستدعي اهتمامًا ومتابعة مبنية على معرفة مراحل النمو البيولوجي  والنفسي للطفل حيث يجب على المربي أن يتسلح بمعارف علم نفس الطفل حتى يضمن تلامذته نموًّا سليمًا ويساعدهم على تجاوز هذه المرحلة بأقل ما يمكن من الأضرار الجسدية والنفسية.

2.    روضة الأطفال (Le jardin d`enfants)

يقضي الطفل في هذه المؤسسة مرحلة 3-6 سنوات. مرحلة صعبة ومفصلية، تستدعي كسابقتها إطارًا تربويًّا متكونًا في في علوم التربية مع ثقافة عامة واسعة الخيال (L`imagination). حسب فرويد، يعيش الطفل في هذه المرحلة عقدة أوديب ومنها تنطلق الحياة الاجتماعية بعد خروجه من محورِيته (L`égocentrisme) عبر تسؤلات ضمنية وعلنية عن الحياة والعلاقات بين الجنسين ونمط عيش المجتمع فتنشط المقارنة ويزيد الرفض (Le “non” à la place de “oui” habituel). هي مرحلة لَعِبية بالأساس (اللعب مهنة الطفل) وهي لا تُعِدّ للمدرسة بل تُعد للحياة بصفة عامة. لكن المتابعَ لما يجري في رياضنا (أستثني التابعة للبلدية منها) يلاحظ أن جلها يفتقر إلى أغلب شروط النمو "السليم" للطفل من حيث توفير الفضاء المناسب (أغلبها مُعَدة للسكن وليس لتربية مجموعة من الأطفال) والإطار التربوي الكفء والتجهيزات المتلائمة في مقاساتها مع قامة الطفل والبرامج البيداغوجية البنائية.

Montessori: « Aide-moi à faire seul ».

Piaget: « Laisse-moi auto-construire mon savoir en interagissant avec mon environnement ».

Vygotski: « Aide-moi à auto-construire mon savoir en interagissant avec mon environnement et mes pairs ».

أما الإطار التربي المكوّن فيفتقر إلى أقل الشروط التكوين العلمي وحتى المتخرجون منهم من المعهد العالي لإطارات الطفولة بدرمش لمحدودية تكوينهم الأساسي ولأنهم لا يخضعون بعد التخرج لتكوين متواصل يواكب تطور المجتمع والعلوم الحديثة والمتجددة في الاختصاص. ثم إن وضعهم المهني من حيث الأجور وساعات العمل والعمل القار والتغطية الاجتماعية غير مناسب تمامًا مقارنة بزملائهم في القطاع العمومي الحاصلون على نفس الشهائد العلمية ونحن نعي أن "المربي عادة ما يمرر حالته قبل أن يمرر معلومته". أما التجهيزات فهي مشابهة لتجهيزات قاعات المدرسة مما يعيق الطفل في نموه الحسي-الحركي. وسائل اللعب أيضًا محدودة ومعهودة لدى الأطفال ولا تَستجيب للبرنامج بل تُؤخذ من السوق وتُستعمل مباشرة دون مراقبة والأفضل أن تكون من تصميم المربي نفسه المتابع لميولات التلميذ أو من صنع الطفل نفسه بعد أن نوفر له المستلزمات الضرورية ونضعها في محيطه. كمتفقد، لاحظتُ أن البرنامج رغم نواقصه غير مطبّق من قِبل المنشطين، ربما لم يقرأوه أصلاً.

 

التربية ما قبل الدراسة والمدرس

يُعد المدرس عادة ليعلّم لا ليربي. جل المدرسين لم يدرسوا علم نفس الطفل والمراهق، خلل تكويني قد يعيقهم في آداء مهمتهم التربوية المكملة لمهمتهم المعرفية. أسوق مثالا حيًّا من قسم سنة أولى ابتدائي: يفرح المعلم بالتلاميذ الذين يأتون وهم يعرفون الكتابة والقراءة (تعلموها في الروضة في غير وقتها عل حساب فترة لَعِبية مهمة جدا في توازن شخصية الطفل وتطوّر ذكائه واكتساب كفاءات في التفاعل الاجتماعي مع الأتراب والأقران)، ولا ينتبه عادة إلى مشاكل النمو الحسي-الحركي التي قد تصيب التلميذ ويهمل ذكاءه المحتمل  وقدرته على التعلم الذاتي بمساعدة أقرانه. يأتي طفل الروضة وقد أنهى برنامج السنة أولى ابتدائي فيجد معلمه يعيد على مسامعه أشياءً لا جديد فيها مما قد يتسبب له في ملل أو إحباط. هنا تتنزل نظرية عالم البيداغوجيا الروسي فيڤوتسكي (ZPD: Zone Proximale de Développement) والتي تقول الآتي: اعطِ للتلميذ معرفة لا تقل عن معرفته ولا تساويها ولا تفوقها كثيرا، تكون أعلى بقليل لتجذب اهتمامه وتشحذ تطلعه لاكتشافها وتَمَلُّكِها واكتسابها بشغف كبير ودون ملل. هنا أيضًا يتنزل مفهوم الذكاء المحتمل (L`intelligence potentielle) لنفس العالِم: عادة ما نقيس ذكاء التلميذ باستعمال سُلم (QI: Quotient intellectuel) وننسى أو نتناسى الذكاء الكامن والمحتمل ظهوره لو تغير كل محيط التلميذ أو بعضه (معلم وأقران وأدوات تعلّميّة وتجهيزات بيداغوجية حديثة كالحاسوب والتبلات والسبورة التفاعلية والمجهر وغيرها). ورغم أن القسم التحضيري (خمس سنوات) يُعد من مشمولات وزارة التربية سواءً وقع في مؤسسة عمومية أو خاصة، فإن متفقدي الابتدائي البيداغوجيين لا يتفقدون أقسام التمهيدي. ألاحظ ما يشبه القطيعة بين التربية ما قبل الدراسة والتربية في التعليم الابتدائي وأحمّل وزارة التربية تداعيات هذه القطيعة.

منذ سنة 2002، تم إلحاق مؤسسات الطفولة عشوائيًّا بوزارة شؤون المرأة والأسرة بعد أن كانت تابعة إلى وزارة الشباب. ومنذ هذا التاريخ هُمِّش قطاع الطفولة وتم التفويت في أغلب رياض البلدية للخواص الذين لا هَم لهم سوى الربح السريع مما تسبب في تدني مستوى الخدمات التربوية والصحية والغذائية داخل هذه الرياض الخاصة (غير العمومية).

بناءً على ما سبق أعلاه، فإن عزل التربية ما قبل الدراسة عن التربية المدرسية، وبقائها تحت إشراف وزارة شؤون المرأة والأسرة، يُعتبر تقصيرًا من وزارة التربية. أطالب بإلحاق قطاع الطفولة (من سن 3 سنوات إلى ست سنوات) بوزارة التربية حتى نُنشِئ طفلا تونسيًّا متوازنًا عاطفيًّا ونفسيًّا وفكريًّا واجتماعيًّا.


حول التعليم الابتدائي

(الهادي بن جابر، معلم متقاعد بعد 40 سنة تدريس)


الإشكاليات العامة في التعليم الابتدائي. الهادي بن جابر، معلم متقاعد بعد 40 سنة تدريس

 

اقترح علي صديقي الكتوب كشكار أن أساهم بالحديث عن تجربتي في كتابه الذي خصصه للتعليم أو بالأحرى نقد التعليم بتونس. فها أنا مدعو للكتابة عن التعليم بدعوى ممارستي له طيلة أكثر من أربعين سنة فماذا عساني أقول وأنا رجل الميدان الذي يطبق ما دُبِّرَ له دون استشارته أوسماع رأيه فلا أنا أجد لنظريات المختصين في ذاكرتي صدى ولا أتذكر ما خططوا ولا ما بنوا ولا ما هدموا. بل أنني أتذكر فقط كيف أن الحلقات التكوينية التي كنا نُدْعَى إليها من حين لآخر كانت ترمي بنا كل مرة في دوامة الشك في كل طرقنا السابقة وإحلالٍ برنامجٍ ثوريٍّ بديلا عنها يبشر به مسؤول جديد (من متفقدين وما شاكل) في انتظار أن يأتي المسؤول الموالي ليدعونا للهدم والنقد الحاد من جديد وتقبّل برنامج ثوري آخر.  فهل أنا كنت مدرّسا جيدا أو أنا من ضمن الذين ساهموا في انحدار التعليم إلى ما هو عليه الآن من تردّي وكيفَ لا أكون وأنا في قلب المنظومة التي أدت إلى الفشل؟ فإن كنتُ من الذين تسببوا في انحطاط التعليم (الذي هو الآن واقع ملموس لا ينكره عاقل)؟ فهل أنا واع ومتبصر بالخطايا والمصائب التي اقترفتها يداي؟ أفلا يجدر بي إذن أن أصمت وأغيب عن الساحة مثل التجمعيين القدامى الذين أدوا بالبلاد إلى الكارثة فيُطلب منهم الآن أن يخجلوا و يبتلعوا ألسنتهم.  وإن كنت من الجيل الذهبي وأسديت عملا جيدا فـفيما أنا مختلف اليوم عن الجيل الجديد الذي يُنعت بأنه مخرّبٌ للتعليم؟ وبماذا يمكن أن أنصح المدرسين الحاليين حتى يفيدوا الميدان والأجيال؟ أم أن العيب يكمن في البرامج التعليمية التي أمليت علينا فقبلنا بها وطبقناها كالآلات؟ فلماذا نتكلم اليوم وندّعي في العلم فلسفة بعد أن ساهمنا ولعقود في المأساة؟ وحتى إذا استُمِع إلينا فهل نحن قادرون على الخروج من داخل المشهد والنظر بموضوعية وتجرّد، نظرة تجعلنا قادرين على كشف الهنات التي عايشناها أو هل نحن واعون بها لنحذر من تبعاتها؟ .... هل أنا قادر اليوم على الإجابة والحسم في هذه التساؤلات بنعم أم لا؟...  أظن أنني وبكل تواضع عاجز عن تقديم إجابة حاسمة, ولن يكون كلامي هنا من باب الإدلاء بالوصفة السحرية والكشف عن السر الذي عجز الغير عن كشفه وتقديم المفتاح السحري المنتظر. بل سأحاول تقديم شهادة مَن عاين وعايش الميدان قرابة نصف قرن بعيدا عن النظريات والعناوين المنمقة والأهداف الملوِّحة بغد أفضل.  وكمعلِّم ترشيحي سأعترف أولا بما سيفاجئ الكثير فأنا شخصيا وأظنه حال الكثير من زملائي : أنفي كوننا دخلنا التعليم بعد الحصول على تكوين متين ودقيق خلال تعلمنا في مدارس ترشيح المعلمين فهذا ادعاء لم أنل شرفه إذ نحن دخلنا التعليم مثل الكثير من غير الترشيحيين بدون تأهيل سابق ولا نظريات نعتمدها في ممارسة عملنا . أقصد أننا بدأنا سنة التربص - التي من المفروض أن يُمتَّع بها كل منتدب للخطة - دون تجربة سابقة نستمدها من مدرسة ترشيح المعلمين. هذا وأننا خلال تلك السنة كنا ندرس فصلا واحدا في حصة عادة ما تكون صباحية ونتلقى بعد الزوال دروسا في علم النفس والبيداغوجيا بمدرسة ترشيح المعلمين تحت إشراف متفقد. ويشرف على تأطير عملنا مساعد بيداغوجي. وأتذكر فيما يخصني أن حَظي العاثر ابتلاني في تلك السنة بمتفقد نرجسي وفارغ وبمساعد بيداغوجي زيتوني لا يفقه في التعليم شيئا. ثم وفي غالب الحال كان يُرمى بنا - بعد سنة التربص - في أرياف معزولة كنا نتعذب فيها فندرّس أطفالا أغلبهم حفاة عراة يأتون للمدرسة من مسافات نائية يرتجفون من الجوع والبرد - يفرحهم فنجان الحليب الساخن الذي كان يمدهم به حارس المدرسة وهو أكيدا حافز مهم على مجيئهم - ويتكدسون في فصول عارية باردة ومكتظة ذات فصلين مدْمجَين في غالب الأحيان. وكانت المدارس الريفية النائية تعاني أيضا من تغيب المدرسين أو عدم وجود مدرس أصلا لأن أغلب الشباب الذين يُرسلون إلى تلك الأصقاع النائية حيث العمل في ظروف جد قاسية ولا إنسانية يدفعهم في آخر الأمر إما إلى التغيّب المتكرر أو إلى ترك العمل نهائيا والتسبب في شغور لا يُملأ في الغالب بسرعة ولذلك كنتَ تجد دوما تلاميذا تنقصهم حلقة أو أكثر (سنة أو جزء من سنة دراسية) فتخيل كيف يكون العمل في تلك الظروف . فما هو الهمّ الأكبر لكل معلم آنذاك؟ إنه حتما لن يكون أداء واجبه على أفضل حال... كان كل منا إلى جانب الجهد اليومي في تأمين الأكل وماء الشرب يطمح ويحاول التخلص من ذلك المنفى وتلك المعاناة... أما الواجب وحسن الأداء فلمن استطاع إليه سبيلا... فهل كان حال التعليم وقتها أفضل مما هو عليه اليوم؟ لا أظن... وللقارئ أن يتخيل شابا قليل التجربة في وسط تنعدم فيه المراجع و المساعدة وكل مَن معه من زملاء يمر بنفس المسار حتى المدير لا يكون عادة سوى مكلفا "بالعمل الدوري" القسري وهو تقريبا مثلهم في بداية مرحلة التعليم إذ قلّ أن تجد هنالك من راكَم اقدمية أو تجربة تفيد. طبعا ليست كل الظروف هكذا وليست كل المدارس هكذا... ولكن الأمر من هذا الأمر أنني. ولما توصلت بعد أكثر من عشرين سنة إلى الالتحاق بما يُسمى "المناطق المحظوظة" لم أجد إطارا تعليميا أفضل... بل كانت بعض الحالات "المتعبة"همّها الدخل الإضافي الممكن تحصيله بكل الطرق... من الأكيد أن الأمر لم يكن بهذا السواد المفجع ولا بُد أننا أبلينا بعض البلاء الحسن فقد كانت ترتدّ إلينا بعض الأصداء عما قمنا به هنا وهناك في حلنا وترحالنا بين الأرياف والقرى والمدن التي درّسنا فيها. و لكن هل كان هذا شأن الجميع أو حتى الأغلبية؟... هل أن الأمر موكول للصدفة ومرتبط بضمير هذا وذاك؟ فعندما يستذكر الإنسان من صادفه طيلة مساره سوف يتذكر دون شك أغلب الزملاء الذين عرفهم ويتذكر خاصة أداءهم: جيلنا فيه بالتأكيد رجال ونساء نزهاء جادّون بنسبة أكبر من الآن ولهم أياد وفضل على منظوريهم ولا ينكر هذا إلا جحود ولكن كانت فيه أيضا كوارث وشخصيات "لا تتمنى أن يُغلق عليها باب مع أبنائك" أما البرامج والمقررات المدرسية فلنا معها قصة أخرى.  كنا نعايش الكتب المدرسية ونلاحظ بالعين المجرّدة انحدار المستوى فيها من فترة إلى أخرى وهنا أورد حكايتي مع كتب الفرنسية التي لاحظت بالتجربة تدني مستواها وغرقها في السطحية إذ كنت وأنا في مدرستي بالداخل أتساءل عن هذا الذي أدخل علينا "رندينو" حتى التقيت بالشخصية اللامعة وعرفت بعض أسباب المشكل من تلك الأصناف التي تتحصل على امتياز تأليف الكتب المدرسية في "البدروم أو ما شابه". ولكن الضربة القاضية والتحول الأعظم كان مع التعريب والارتقاء الآلي والمساواة الجائرة في الضوارب بين مختلف المواد بحيث يكون المتفوق في ما كنا نسميه "التْرِبْ" بمعنى مختلف مواد التربيات أفضل من التلميذ المتفوق في اللغات أو العلوم.  وبفعل تجربتي الطويلة مع الرياضيات في المستوى الابتدائي فإن لي حول هذه المادة تساؤلات لم أجد لها إلى حد اليوم إجابة شافية. نعم أنا ذاك المدرس الذي كان تلاميذه يسقطون في مناظرة السادسة لعدم حصولهم على العدد الكافي (أو أصفار) في الرياضيات وأنا ما زلت لحد الآن ولتواصل ممارستي لهذه المادة, لم أفلح في إيصال المفاهيم الرياضية "لكل التلاميذ" الذين أدرسهم, أؤكد المشكلة وأتمنى أن يقع التفكير في حل جذري لها بعيدا عن النظريات المنمقة وباعتماد واقع الأمر ولن يقنعني أحد بأي نظرية في الموضوع ما لم تُجرب على أرض الواقع ورأيي الشخصي في هذا موضوع (الرياضيات) بالذات ولكن الأمر قد يشمل كل المواد, أن مواصلة تقديم المعلومات والدروس بهذه الطرق النظرية والمجردة هي بيت الداء... يجب إخراج الدرس من بين جدران قاعة القسم وربط المدرسة بالواقع المعيش وبالحياة اليومية وبالتجربة الذاتية... أظن أن عهد المدرسة "المنارة" التي تشع وحدها على الكون قد ولّى وانتهى وكل إصلاح يتجاهل هذا الشرط لن يَحضى بالنجاح.


حول التفقد البيداغوجي

(بلقاسم عمامي، ماجستير ديداكتيك علوم االحياة والكون،

 متفقد أول للمدارس الابتدائية)


إشكاليات التفقد البيداغوجي. بلقاسم عمامي، ماجستير ديداكتيك علوم االحياة والكون،  متفقد أول للمدارس الابتدائية

 

1-    توطئة:

تشهد المدرسة التونسية منذ ما يقارب العشريتين أسوأ فتراتها إن من حيث نتائجها أو إشعاعها على محيطها أو حتى من حيث خدماتها، ويظهر ذلك من خلال نتائج تقييمات محليّة (هياكل وزارة التربية) أو خارجية (بيزا PISA وتيمسTIMS ). غير أن هذه التقييمات - وإن صدقت - لا تعطينا حقيقة "التدحرج" الحاصل للمدرسة العمومية التونسية.

إنّ الواقع أعمق من ذلك وأعظم، إذ يكفي أن نشير إلى أن ما يقارب خُمس المدرسين هم "معوِّضون" يشتغلون بأجر أقلّ من الأجر الأدنى المضمون ومؤجل الدفع ودون تغطية اجتماعية، زيادة على غلق مدارس ترشيح المعلّمين وانتداب "جمهور حامل للأستاذيات" دون تلقّي أدنى تكوين معرفي ولا بيداغوجي (ولا نتحدّث عن التكوين الديداكتيكي فذلك يعدّ رفاه لا نطمح إليه).

ولعقود، ظلّت المدرسة العمومية مقياس درجة "نجاح" الأنظمة الحاكمة المتعاقبة من "فشلها" حتّى وإن كان هذا "النجاح" وهميّا ومسوَّقا بدعاية حزبية مغالِطة باعتماد إحصائيات مفبركة حول نسب النجاح في الامتحانات الوطنية.

في هكذا وضع، يقوم المتفقّد البيداغوجي بـ"مهامه" التي ضبطها له القانون من "تأطير وتجديد وتقييم" في ظروف غير مستقرّة.

2-    التفقد البيداغوجي تحت شدّ التمثلات الاجتماعية:

أ‌-       تمثلات الإدارة وانتظاراتها من المتفقد:

لا يزال في تصور الإدارة أن دور التفقّد البيداغوجي هو "ضبط  جمهور المدرسين بما يعطيه له القانون من صلوحيات تتوجّه أساسا للجانب الردعي" ولعل هذا المنحى في رؤية الإدارة لدور المتفقد هو الذي حرف العلاقة "متفقد – مدرّس" إلى منحى تغيب فيه المرافقة والإرشاد والمشاركة في القيادة في المجال المعرفي والبيداغوجي والديداكتيكي، كما دفع بالإدارة - وأمام تغيّر في موقف هياكل المتفقدين من "مهام المتفقد"- إلى ممارسات "عقابية" حيث "انفردت بالمدرسين وأبعدت شيئا فشيئا سلك التفقد عن الجوانب الإدارية" مما قلّص من "تلك الهالة التي ظلّت ترافق المتفقدين" الأمر الذي نتجت عنه انعكاسات أضرّت بالعلاقات بين جميع الأطراف المتدخّلة في الفعل التربوي.

ولعلّ ذلك كان محرّك النداءات المرتفعة من مدّة حول "إرجاع الدور الإداري للمتفقد" من الإدارة ومن المتفقدين على حدّ سواء، الأمر الذي سيشكّل عبئا إضافيا على السلك وعلى المدرسين الذين "استطابوا اختصار الدور في المجالات البيداغوجية".

ب‌-  تمثلات المدرّسين وانتظاراتهم من المتفقد:

يرى المدرّس في المتفقّد "مفتّشا وعينا رقيبة عليه"، لذلك يعيش حالتين متناقضتين في تعامله مع "موعد الزيارة":

-    حالة انتظار "ممل وطويل ومضنٍ" قبيل تاريخ آخر تفقد (وأكثر منها خلال زيارتي الترسيم وإسناد العدد القاعدي). فتجد المعلّم في عمل دائم لتأمين "التفاصيل" من ذلك تصميم القاعة وغطاء المكتب وتوفير الوسائل الإيضاحية وحتى "أصص النوار" وذلك طيلة "فترة الانتظار" في مشهد مخادع خال من كلّ رغبة في إفادة تلاميذ قسمه وهم يراقبون مدرسهم عند "نشر مجلوباته وعند حفظها ليعاود من الغد وكل يوم حتى يجيء السيد المتفقد"...وهي حالة مقلقة مسببة في توتر وإرهاق نتيجة "تصورات" مختلفة لطرفي العملية البيداغوجية. يرافق ذلك إعداد ماديّ ورقيا ونفسيا وحتى سبّوريا.. وعند ما يدبّ اليأس في نفس المدرّس، فإنه يضع هناك في الدرج (أو في الذهن) "عولته" من الوضعيات والجداول والأنشطة والحكايا وحتى الأشرطة الرقمية حتى وإن اختلفت السياقات. فقط، حين يأتي المتفقد، يجد ما يريده لا ما "ينفع التلاميذ ويساعدهم في النفاذ إلى عالم الحساب والقراءة والكتابة والفنون".

-    حالة إهمال فاضح بمجرّد إنجاز زيارة التفقّد من حيث حجم الإعداد المادي والحضور الذهني والإعداد السبوري ودورية استعمال كراسات القسم وتأطير الفعل البيداغوجي، إذ يتراجع الاستعداد للعمل بمجرّد مغادرة المتفقد، فيضيع الحرص وتُرفع حالة الطوارئ لسنتين مقبلتين ثم تكون الإعادة بنفس الأساليب ونفس المخرجات.

ت‌-  تمثّلات المتفقد ونظرته للمهنة:

تستحضرني هنا طرفة قيلت في سياق دعابة لكنها من تلك الدعابات التي تختزل "تصوّرا" لمهنة المتفقد: أثناء حلقة تكوينية لفائدة متفقدين في طور التمرين موضوعها "أخلاقيات المهنة". ركّز المكوّن على "ملامح المتفقّد المستهدفة" من خلال أمثلة للمقارنة بين نوعين "نوع متغطرس ونوع مرافق". فتدخّل أحد المتفقدين المتكوّنين قائلا: "يعني حين جاء دوري تريدون مني أن أكون ديمقراطيا؟". أعرف طينة الرجل وطيبته وتابعت نجاحه بعد التخرّج وهو ذو طباع سلسة في التعامل مع منظوريه، غير أن ما قاله وقتها كان ترجمة عن "تصوّر للمهنة" يقوم على التسلّط والقرار وربما حتى الثأر للنفس من تجارب مريرة مع بعض المتفقدين طيلة مسيرتهم المهنية أو ربما شطط في الزهو وتثمين الذّات.

تسأل المتخرجين الجدد - متفقدات ومتفقدين - السؤل نفسه: "ما الذي دفعك إلى الالتحاق بسلك المتفقدين؟"، فتتلقى أجوبة مختلفة الطاغي فيها "الخروج من القسم- قيمة اعتبارية- مسؤولية- حرية في العمل- التخلّص من غطرسة المتفقدين- ممارسة السلطة..".  لكن لا أحد، أو فلنقل قلّة هم الذين يأتون للتفقّد محملين ب"مشروع" تربوي أو إنساني لفلسفة التربية ولأدوار المدرسة في الرقي بالمجتمع.

يوم التحقت بمركز العمل بسيدي بوزيد (المزونة) وفي أول جلسة لمجلس التفقّد قلت لزملائي القدامى: "جئت لأزيّن سلك التفقّد لا لأتزيّن به". وقبل ذلك بيوم، نادتني والدتي وطلبت مني أن أعِدها...فقلت "وبما؟" قالت: "عدني ألّا تستعمل قلمك لبخس الناس" (وهي تعني ألا تظلم بسلطة وظيفتك)، هي لا تزال تحمل "تمثلا اجتماعيا حول مهنة المتفقّد بما معناه السلطة والجبروت والحكم"، لم تصلها بعد أخبار تدهور الوضع بالمؤسسات التربوية في جميع الأسلاك نتيجة تدحرج موقع المدرسة العمومية في المجتمع.

لا يزال المتفقّد يستبطن سلطة - رغم تقليمها - وهو مقيّد بما اختزنه من صور حول المهنة تأسست نتيجة صلته بمتفقدين وبتجارب شخصية معهم، وهي التي ستشكّل وجهة نظره في المهنة وستحكم على بناء صورته الأخيرة، بقطع النظر عن محتويات تكوينه ولا عن بنود القانون المنظّم للمهنة (في انتظار صدوره)، وسيظل يراوح بين ما لاقاه من "تثمين أو تنكيل" خلال مسيرته المهنية كمدرّس (بما أن انتداب المتفقدين يكون من بين المدرسين وفق شروط معلومة) وبين ما ينتظره هو من مهنته ومن موقعه الجديد من "اعتبار وهيبة ومرجعية".

لذلك، نشهد في فترات عديدة تعايشا متغيّرا بين مختلف هذه التمثلات يراوح بين "توافق" في الانتظارات زمن الـ"سلم" أو الهدوء، وبين التعارض" زمن الشدّ وحتى الاستقواء، (ما حدث خلال انطلاق هذه السنة حول التنظيمات البيداغوجية حين عنّ للوزير ومساعديه التملّص من قراراتهم الإدارية و"إلصاقها" في المتفقدين).

ويحملني ذلك للحديث عن خطورة هيمنة تلك التمثلات في تحديد العلاقة بين مكوّنات الفعل التربوي والبيداغوجي في غياب مرجعية واضحة تستند إلى القانون الأعلى "الدستور" وإلى "فقه التربية" في تحديد الأدوار من تقاطع وتكامل وجدوى يعود نفعها على أداء المدرسة العمومية لمهمتها "تعليم الناشئة القراءة والكتابة والحساب، وأيضا وربما قبل ذلك، التفكير والحب والقيم الكونية" ضمن مناخات تقوم على إرساء الثقة بين مكوّنات الفعل التربوي بهدف "إشاعة السعادة في ممارسة أجمل المهن: التعليم".

3-    مهنة التفقد بين السواد والألوان:

أ‌-       الواقع/ عيون قاتمة:

يعيش قطاع التفقّد اهتزازا مرجعيا وقانونيا وحتى داخليا (أي داخل القطاع ذاته) مثله مثل بقية مكوّنات المدرسة العمومية. ويجد المتفقدون صعوبة في "أداء" مهامهم وفق ما "ضبطه لهم القانون" وفي كثير من الحالات يتعطّل الأداء إن نتيجة هيمنة تلك "التمثلات" التي ذكرت سابقا، أو نتيجة قصور وضبابية في تحديد طبيعة العلاقة بين المدرس والمتفقد وحتى الإدارة. فيغيب التواصل ويتعطّل، وقد تتدحرج العلاقة إلى سحيق فينهزم الحوار.

إن ما يهدره المتفقد أثناء عملية التفقد من جهد حيني وهو يتنقل بين الوثائق والصفحات والملفات والكراريس والاستعمال السبوري، لا يتيح بناء أفكار حول الجانب العلائقي ولا حول قدرة المعلم على تكييف منهجيته وفق حاجات طارئة أو متأكّدة. كما لا تتيح له قيس درجة امتلاء التلميذ بالغبطة والشغف وهو يرى في معلمه مفتاح نفاذه إلى المعرفة والتفكير والفنون لتكتمل السعادة لديه وليظلّ لهب الشمعة في وجدانه مضيئا.

وهو وضع يسعى المدرس أثناء تفقده أن يستديمه، فينبري يتحيّن الفرص لتكديس "مآثره" أمام المتفقد بهدف "منعه" بلباقة عن التنبّه لسلوكاته أثناء التدريس، ودرجة التوفيق بين فترات التعلّم وفترات التعليم، أو حتى لا يجد فسحة لرصد إخلالات في المنهجيات أو في طرق التنشيط ولما لا في الثبات المعرفي. وهي حيل عادة ما تجد رواجا حين يتلهى المتفقد بتصفح مئات الأوراق والـ"مشاريع" والـ"إنتاجات" فتأخذ منه وقتا وتركيزا وبناء أفكار حول اقتدارات تتجاوز بكثير مجرّد النبش في كومة من الوثائق على أهميتها.

وتدريجيا، انحصر دور التفقّد البيداغوجي في ممارسة سلوكية لا ترصد في المقامات الأولى قدرة المدرّس على إدراك حاجات التلاميذ إلى بناء الشخصية وتنمية التفكير السليم القائم على البرهنة وربط العلاقات وتوظيف العلوم وتعميمها بما هي ثقافة يستفيد منها الطفل ويؤثر بها في محيطه وعلى بيئته. فيتم تجاهل أداء التلاميذ في القسم ليتوجّه "التقييم" نحو "استيفاء المدرّس لشروط مادية يكون قد سعى إلى رصّها دون وجاهة أو موجب بيداغوجي أو ديداكتيكي".

ويبقى الموضوع المغيّب في البحث عن الفهم والإجابة عن الاستفهام الرئيس: ما مآل كل ذلك الكمّ الهائل من حلقات التكوين؟ إن المتتبّع لهذا الموضوع، ينتهي إلى إقرار مربك ومحبط، حين يتعقّب المتفقد أثناء زيارات المتابعة والتفقّد "انتقال أثر التكوين" من المتكوّن "أي المدرّس" إلى المستهدف الأساسي بالتكوين "أي التلميذ" ولا يجد له أثرا.

هنا يتعطّل الحوار ويتسطّح. فلا المتفقّد يتوفّق في تحديد موطن العطالة، ولا المدرّس يتوفّق في تبرير غياب ذلك الأثر وحرمان التلميذ من الاستفادة به. والحديث في هذا الباب متشعّب، ولعلني لا أزيده تعقيدا حين أشير - دون حفر في العمق -  إلى غياب آلية أو جهاز لتحديد "وجاهة موضوع التكوين ولا طرق التنشيط أو حتى درجة التمكّن من المادّة"، وهي كلها معيقات أمام تحقيق الهدف من حلقات التكوين. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، يبدو أن "إحساسا بالاكتفاء" بدأ يتفشى لدى جمهور المدرّسين عن وعي وعن غير وعي، بحكم المستويين المعرفي (الكثير من المدرسين من حاملي الشهادات الجامعية وما يترتب عن ذلك من زيادة في تضخم الذات) والخِبَري (يرى بعض المدرسين ونتيجة لخبرتهم في التدريس، قد "امتلؤوا" مهارات ومعارف وقدرة على تكييف تلك الخبرة في تجاوز "كل الصعوبات" دون استثناء).

ولعله من الواجب التنبيه إلى غياب حلقة رئيسة في هذا المنحى، والمتعلّقة بانعدام "توحيد" على مستوى التكوين في ظل "استقلالية تامة وباتّة" للمتفقد في تحديد طرائق التكوين ومواعيده وجمهوره. ولقد تسنى لي في مرات عديدة أن استضافتني زميلات واستضافني زملاء للتكوين في دوائرهن ودوائرهم وفي مناطق متعددة، في مادة الاختصاص،  وانتهيت إلى قناعة مفادها أن النجاح لا يقاس في دائرة العمل ودائما بسبب تلك "التمثلاث" التي تخترق المدرسين والمتفقدين على حدّ سواء. 

ب‌-   استشراف/عيون حالمة:

يتوق قطاع التفقّد إلى صدور قانون أساسي قد لا يجتمع عليه كافة المتفقدات والمتفقدين، وهو لا يخلو من هنات عدّة لعلّ أهمها الدعوة إلى "استرجاعه للمهام الإدارية" ضمن ما اصطلح على تسميته "مدققا". ما أطمح إليه، هو فصل تام لمهام "التكوين" عن مهام "التقييم".

ولعله من الضروري تغيير موضوع التقييم من "أداء المدرّس وسلوكاته" إلى "درجة استفادة التلميذ من التعليم". ولا يتسع المجال هنا إلى ذكر متطلبات هكذا تحوّل. فقط أشير إلى أن الطفل في حاجة إلى مرافقة المدرس له لطرح "الأسئلة" الحقيقية والانخراط في البحث عن "أجوبة" وجيهة لها، وطرح استفهامات متوالدة. وأن حاجته للدربة على "توظيف المعارف المدروسة والاستفادة منها لبلوغ السعادة ونشر الحب وتذوّق الفنون والألوان واكتساب أسس تفكير رياضي وفلفسي يسائل الظواهر الطبيعية والعلاقات الاجتماعية ضمن منظور كوني. وهكذا طموحات، تتطلب نوعية خاصة من المدرّسين تعترف بخصوصيات كل تلميذ وبقدرته على الإبداع والتحليق في السماوات الرحبة.

 

4-    من فواكه المهنة:

أورد فيما يلي بعض المواقف التي عشتها أثناء بداياتي كمدرّس (حالة الهاشمي وواقعة العدد القاعدي)، ثم ما عايشته كمتفقّد:

أ‌-       حالة "الهاشمي":

توفّيت أمّه وهي تهبه الحياة... هو خامس إخوته... نُعت بـ"النحس والشُؤم"... تزوّج والده من امرأة ناصبته الحقد والتطيّر... وأنجبت من بعده أربعة أغلبهم "نكاية" فيه... عاش طفولة لم تر العين أتعس ولا أرذل...

وجاء الفرج: الهاشمي يبلغ السابعة فيلحّ مدير المدرسة القريبة على الإخوة بتسجيله... وجاء بحجم الجبال والوجع أحلاما وآمالا... كان معلّمه ذو الحادي والعشرين أبعد ما يكون عن التدريس... طالِب جانح مكسّر الأحلام مثله... وقد أُطرد من الجامعة بعد أن قضّى سنة في معسكر للطلبة المجنّدين... سنة كاملة بين جبال مكثر وصحراء رجيم معتوق... وبين انتظارات الطفل "النحس" وجهل المدرّس "الجانح"،  ضاع حلم الصبيّ...

كان كلما اقترب منه معلّمه يتلبّسه الرعب فينزلق تحت الطاولة صراخا وتضرّعا ووعدا بألّا يعيدها (يكرّرها): "آ سيدي حَنِّي سامحني...ماعادش نعاودها"... هو/ الطفل لم يرتكب حماقة... وهو/ المدرّس لم يفهم سببا... فينهزم التواصل... في شهر ديسمبر من تلك السنة، اختفى الهاشمي ولم يعد... تساءل المدرّس الغرّ.. ثمّ سأل.. ثمّ حاول مع الوالد فتعنّتت الزوجة...

مرّت السنون ليتعلّم المدرس منها ما بدّل منه... وذات صيف - بعد ر قرن - يزور المدرّس ريفه... وفي بيت عمّه تعترضه ذراعان حارّتان عناقا وشجنا..."سيدي تمنيتك تمنعّني (تنقذني) من أخوايا"... وكنت أنا ذلك المدرّس.

ب‌-   واقعة العدد الصناعي القاعدي:

وصلتنا روزنامة اللقاءات التكوينية في ذلك الوقت من الثلاثية الثانية لعام 1983-1984 بمدرسة العلوي بالمكناسي... كان السيد المتفقد من طينة "الحاكمين بسلطة الإدارة" في زمن قاس جدا وفي سنة شهدت انتفاضة الخبز واغتيال اثنين من أبناء المكناسي برصاص ابن البلدة... صادف أن كان الموعد فيما يخصني يوم خميس. أعلمت المدير السيد عامر البقلوطي (تحية له) باستحالة حضوري وطلبت الحضور في موعد لاحق مع فوج ثان، لكن المتفقد تعنت ورفض... ولم أحضر.

عامها كنت أنتظر زيارة إسناد العدد الصناعي القاعدي... شارفت السنة الدراسية على الانتهاء. وفي الأسبوع الأخير من شهر ماي (في ذلك الوقت، كانت الدروس تتوقف مع انتهاء شهر ماي)، دلف إلى القسم محملا بكل تلك الهالة مما منحته له "الأعراف والقوانين والتمثلات".. ما راقت لي تلك النظرة ولا ذلك النقاش ولم أستكن.... فكان العدد في حجم "الخطيئة" التي ارتكبتها سابقا: غيابي عن حضور لقاء تكويني. كنت جانحا حتى ذلك الوقت، إذ كان لا يزال يراودني قرار المغادرة والهجرة بهدف الدراسة.. قلت له ما أوجعه فهدد وتوعّد ولم يقدر سوى على بخس العدد.

ت‌-   حالة "بلال":

جاء يشتكي ضيما حيث أُجبِر على الانتقال من مدرسة إلى أخرى رأى في نقلته عسفا. دخل عليّ مكتبي ذات أواخر سبتمبر 2011، كان في وضع نفسيّ سيء. قال أنه يتعرّض لمظلمة لكونه غريبا عن المنطقة ثم زاد عليه مدير المدرسة أن أسند له مواد علمية وهو يفضل الفرنسية.

طلب أن يراعَى في الجدول ليتمكن من التنقل إلى بلدته البعيدة. وكان له تفريغ يوم السبت. قلت له: "ستحافظ على تدريس العلوم لحاجة الدائرة إلى متحصّل على الأستاذية في البيولوجيا". قال: "وكيف عرفت ذلك؟". قلت: "ليس متوفرا دائما أن تجد مدرسا متحصلا على الأستاذية وعلى ماجستير في الميلتيميديا، كيف تنسى ذلك؟ أنت تمثل موردا للدائرة وجب توظيفه".

ضممته إلى لجنة تفكير وإنتاج محليّة رغم حداثة عهده بالتدريس. انفتحت أمامه أبوابه التألّق والاجتهاد والإبداع، فنهل منها وملأ وامتلأ. تزامن ذلك مع اندلاع ثورة 17 ديسمبر، فعرف كيف يشعّ على جهة احتوته واحتضنته، فردّ الجميل جمائل بما حوّل مدرسته من حالة بؤس إلى حالة غنى حين بادر وثلة من شباب الجهة إلى تكوين جمعية مدنية وفرت للمؤسسة التربوية مطعما ومكتبة وماجل ماء محمي. كما أشعّت الجمعية على بقية المدارس من خلال شراكة مع تفقدية المكان لتنشيط ثقافي مميّز.

مع بداية العام اللاحق، أقنعته بالتسجيل في ماجستير ديداكتيك علوم الحياة والأرض بالمعهد الأعلى للتربية والتكوين المستمر ببوشوشة.

الآن بلال يعدّ أطروحة دكتوراه في نفس الاختصاص وهو لا يزال يفيد المدرسة الابتدائية. هذه السنة دعوته أن يقدّم مطلب تدريس لطلبة شعبة علوم التربية بالكلية القريبة من مقر عمله، ففعل وهو اليوم يفيد بعلمه وبمعرفته في تكوين مدرسي الغد. بلال أنت على الطريق السويّ، فاجعل جهدك في صالح مدرسة عمومية تشعّ أملا وحياة.



إنتاجي بداية من سنة 1998 إلى سنة 2016

صَدَرَ لِي

  1. Enseigner des valeurs ou des connaissances? L’épigenèse cérébrale ou le "tout génétique"? (Édition PUE: Presses Universitaires Européennes, Edition électronique)
2. Le système éducatif au banc des accusés ! «Les professeurs ne comprennent pas que leurs élèves ne comprennent pas» (Imprimerie culturelle-Hammam-Lif)

3. جمنة وفخ العولمة (المطبعة الثقافية بحمام الأنف)

قريبا سَيَصْدُرُ لِي إن شاء الله
5. أفكر ولا أبالي (جاهزٌ للنشر)
6. تصورات بعض المفكرين حول العَلمانية (جاهزٌ للنشر)

7. سيرة غير ذاتية وغير موضوعية (جاهزٌ للنشر)
8. قرأتُ فعلّقتُ (جاهزٌ للنشر)

سلسلة " حول السائد":
9. الإشكاليات العامة في التدين الإسلامي الشائع (جاهزٌ للنشر)
10. الإشكاليات العامة في وضعية ومكانة المرأة في المجتمع (جاهزٌ للنشر)
11. الإشكاليات العامة في الاتحاد العام التونسي للشغل (جاهزٌ للنشر)
12. الإشكاليات العامة في الأحزاب السياسية التونسية (جاهز للنشر)
13. الإشكاليات العامة في الثورة التونسية (جاهزٌ للنشر)

 


 

إمضاء المؤلف د. محمد كشكار، مواطن العالَم من أصل وتربية جمنية

"وإذا كانت كلماتي لا تبلغ فهمك فدعها إلى فجر آخر" (جبران)





السيرة الذاتية للمؤلف

 

مواطن العالَم د. محمد كشكار، أستاذ تعليم ثانوي  متقاعد: قد يكون " التشاؤم هو شكل أقصى من النّقد" لكنني سأبقى دومًا متفائلاً، وذلك لسببينِ اثنينِ لا ثالث لهما الآن: الأول: يتجدّد الإنسان بيولوجيًّا عند كل وِلادةٍ ويأتي للحياةِ قابلاً للتشكّلِ من جديدٍ مع التأكيد - ورغم براءة الرضيع - أنه ليس صفحةً بيضاءَ، فله موروثٌ جينِي نسبيّا وجزئيّا محدّدٌ لشخصيته المستقبلية بالتفاعل مع محيطه ومكتسباته، وله اسمٌ ووالدانِ ودينٌ وثقافةٌ وبلدٌ ولونُ بشرةٍ وجنسٌ ومناخٌ ومستوى اجتماعِي، إلخ. الثاني: أومن بمفهوم الانبثاق (L`émergence) الذي علمني عدمَ الرضوخِ للواقع مهما كان هذا الواقعُ تعيسًا، وما أحلامُ اليومِ إلا حقائقُ الغدِ وانبثاقُ تجربةِ جمنة في تونس أحسن تبريرٍ وجيهٍ لتفاؤلِي بالمستقبلِ الواعدِ دومًا رغم ما يرافق ولادة هذه التجربة من آلامِ المَخاضِ و"ربي يخلص وحَلْها عن قريب". عندما يقدِّم المثقفُ نفسَه إلى الغيرِ، يحاول عادة تجميلَها وإن كان موضوعيًّا فقد يحاول إبرازَ التجارب الناجحة فيها، ويرنو في داخله إلى إبهارِ غيره وافتكاكِ إعجابِ هذا الأخير  واعترافه به مثقفًا. أما أنا فلا أملِك في حياتي إلا التجاربَ الفاشلةَ أعرضها للتفكيرِ والعِبرةِ وعدم الوقوعِ في نفسِ الخطأ، فمن حسن حظي إذن أنني لن أبهرَ المتلقِّي ولا أرغبُ في ذلك وليست لي القدرةُ على ذلك حتى ولو طمعتُ في ذلك، ليس تواضعًا مجمِّلا لشخصيتي بل اقتناعًا ديداكتيكيًّا منِّي بتجنبِ خلقِ عائقٍ جديد لدي سامِعِي، وما خُلِقتْ الديداكتيكْ (فلسفة التعلّم) إلا لإزالةِ العوائقِ وليس لخلقَها. سيرةٌ ذاتيةٌ فاشلةٌ لا يُحتذَى بها على الإطلاق وعلى كل المستويات، الدراسي والعلمي والاجتماعي والسياسي والثقافي: مسارٌ دراسيٌّ متعثِّرٌ ومُمَطَّطٌ: في سن 22 تخرجتُ أستاذ إعدادي (ENPA, Tunis, 1974, CAPES sans Bac)، في سن 28 باكالوريا جزائرية (Annaba, 1980)، في سن 30 عام فلسفة في فرنسا بالمراسلة (Université de Reims, France, 1983) تُوِّجَ بالفشلِ جرّاءَ كُلفةِ التنقل المالية لإجراء الامتحانَيْنِ، الكتابي والشفاهي، المتباعدينِ زمنيًّا، والتي لم أقدر على مواجهتِها، في سن 41 الأستاذية في علوم الحياة والأرض (ISEFC, Tunis, 1993)، في سن 48 ديبلوم الدراسات المعمقة في ديداكتيك البيولوجيا (ISEFC, Tunis, 2000)، في سن 55 دكتورا في ديداكتيك البيولوجيا (UCBL1, France, 2007). مسارٌ علميٌّ مَبتورٌ: لِمَن لا يعلم، أقول أن شهادة الدكتورا  لا تمثل قِمَّةَ العلمِ في الاختصاص بل هي تمثل بطاقة دخول إلى مجال البحث العلمي. أنا تحصلتُ على بطاقة دخول وكالتلميذ المتنطع خرجتُ من الجامعة ولم ألتحق بقاعة المخبر. مسارٌ اجتماعيٌّ بدأ بالفقر، أي موظف عمومي متوسط وانتهى بالفقر أستاذ تعليم ثانوي متقاعد. مسارٌ سياسيٌّ على هامش النضال السياسي، أعتبر نفسي معارضًا في عهد بورڤيبة وبن علي لكنني لم أنتمِ في حياتي لأي حزبٍ معارِضٍ، خوفٌ مُشرَّبٌ باستقلاليةٍ فكريةٍ صادقةٍ، وكما قال القِدّيسُ أو الروح العظيمة، المهاتما غاندي: "لو أجبِرتُ على الاختيارِ بين العُنفِ والجُبنِ، لَنصحتُ باختيارِ العُنفِ". مسارٌ ثقافيٌّ: المجالات الثقافية التي أجهلها تُعدّ بالعشرات ولا أعرف إلا مجالاً واحدًا أحدًا وهو علوم التربية، وداخل هذه العلوم لا أعرف إلا علمًا واحدًا أحدًا هو علم الديداكتيك، وداخل هذا العلم لا أعرف إلا فرعًا واحدًا أحدًا هو ديداكتيك البيولوجيا. أجهل اللغة الأنڤليزية وعدم إتقانها هو بمثابة فقر دم الثقافة. أجهل الفلسفة ما عدى فلسفة البيولوجيا. أجهل علوم الاقتصاد والجغرافيا والتاريخ والفقه، إلخ. لم أربِّ أذنِي ولا عينِي، ولم أصقل ذوقي على سماع السمفونيات أو الشعر ولا على الاستمتاع باللوحات الفنية. أنا رجلُ فكرٍ ولستُ رجلَ سياسة ولا طموحَ لي ولا رغبة إلا في القراءة والكتابة والنشر بكل متعة وحريةٍ واستقلاليةٍ وأنانيةٍ وذاتيةٍ وفرديةٍ، ولا أقدر على غير ذلك. أنا صوفِي النزعة بمقياس القرن 21 ولا أرى لأفكاري أي تأثيرٍ على المجتمع إلا مَن رَحِمَ ربي. أنا أعشق الروتين الذي أعيش فيه وأسعد به في حمام الشط: صباحًا مطالعة في مقهى الشيحي، مساءً نقاشٌ فلسفي في مقهى أمازونيا مع أفضل أستاذ فلسفة صاحبته في حياتي، زميل التقاعد الجديد حبيب بن حميدة، وبين المقهَيَيْنِ كتابةٌ ونشرٌ وتمتعٌ واستمتاعٌ بأعز الناس، مثل الفلاسفة الثلاثة إدڤار موران وميشيل سارْ وميشيل أونفري والعالِمان السياسيان فرانسوا بورڤات وجورج قرم وعالِم الوراثة ألبير جاكار وغيرهم كثير في اليوتوب "الله يرحم والديه"، وفي الليل أرضخُ لذوق زوجتي المصون وألغِي عقلي وأستسلم لأتفه الناس في برامج "لباس" و"كلام الناس" و"أمور جدية" وما شابه. لقد تجنبتُ قصدًا تقمّصَ دورَ الضحية (Le syndrome de victimisation) واكتفيتُ بسردِ سيرتي الذاتية دون زيادةٍ أو نقصانٍ، لأن كل ضحية ليست عادة بريئة مائة في المائة كما تدعي هي، أو كما قد يتبادر إلى أذهانِ المتعاطفين معها، ولأن داخل كل ضحيةٍ كبيرةٍ يوجد جلادٌ صغيرٌ، أو بمعنى أوضح أنا أتحمل جزئيًّا ونسبيًّا المسؤولية في ما أحاق بي من فشلٍ طِوالَ مسيرتي في الحياة.

إمضائي: "وإذا كانت كلماتي لا تبلغ فهمك فدعها إلى فجر آخر" (جبران).

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire