الإشكاليات
العامة
في
النظام التربوي
التونسي
سفر في
الديداكتيك وعِشرة مع التدريس
(1956 – 2016)
الإشكاليات
العامة
في
النظام التربوي
التونسي
سفر في
الديداكتيك وعشرة مع التدريس
(1956 – 2016)
مواطن
العالَم د. محمد كشكار، أصيل جمنة ولادةً وتربيةً
"مرِّرْ إلى
الطفل متعة التعلم وأي طريقة تربوية بعد ذلك سوف تكون ناجعة"
(جان جاك روسو،
إيميل، 1762)
« Donner à l`enfant le désir d`apprendre et toute méthode
sera bonne »
Jean Jacques
Rousseau, L`Émile, 1762.
(André
Giordan, Apprendre !, Ed. Belin, 1998, p. 95)
"يجب تسخير المدرسة لخدمة المجتمع
وليس تسخير المجتمع
لخدمة المدرسة"
المؤلف مواطن العالَم
Gaston Bachelard : « II faut
mettre la société
au service de l'école et non pas l'école au service de la société ».
ونحن في تونس -
للأسف الشديد - سخَّرنا المجتمع لخدمة المدرسة ورضخنا للسباق المحموم
La sélection par les concours : sixième, neuvième, bac,
CAPES, CAPA, etc.
والتنافس اللائنساني
La compétition inhumaine en classe et
dans les amphithéâtres
وتعاطي المنشطات الذهنية
Le dopage intellectuel par l`Étude
وحشو الأدمغة حشوًا
Le bachotage
الإهداء
إلى تلامذتي
الذين درّستهم علوم الحياة والأرض في إعدادية ميدون (جربة 74-76) وفي إعدادية غار
الدماء (76-80) وفي إعدادية زيروت يوسف (الجزائر 80-81) وفي إعدادية جامعة
(الجزائر 81-88) وفي معهد غار الدماء (88-90) وفي معهد بومهل (90-92) وفي إعدادية برج السدرية (92-94) وفي إعدادية
حمام الشط (94-96) وفي معهد برج السدرية (96-2012).
أشكر أصدقائي الآتية أسماؤهم
الخطّاط عمر الجمني على تصميم الغلاف، والأستاذ
عفيف ساسي والدكتور علية علية على مراجعة النص، والمتفقدَين بلڤاسم عمامي والتهامي
الشايب والمعلم الهادي بن جابر وفيلسوف حمام الشط حبيب بن حميدة على مشاركتهم في
تأليف هذا العمل الحر وغير الخاضع للإكراهات والمعايير الأكاديمية.
"الأفكار الجديدة لا تُفرضُ
بالمنطق وحده"
أندري جيوردان، مُنَظِّرٌ
في البيداغوجيا وفي إبستمولوجيا التعليم
« Les
idées nouvelles ne s`imposent jamais rationnellement »
André Giordan, Didacticien et pédagogue
فهرس الكتاب
مقدمة..................................................................14
تعريف علم "التعلّميّة "...............................................37
محور 1: حول التعليم في تونس....................................47
محور 2: حول الأستاذ...............................................76
محور 3:حول التفقد والمتفقد........................................104
محور 4: حول تقييم التلميذ.........................................149
محور 5: حول إصلاح المنظومة
التربوية التونسية...............161
محور 6: حول التعليم
في تونس الخمسينيات والستينيات.........200
محور 7: الديداكتيك أو فلسفة التعليم...............................230
محور 8: أحلام اليوم حقائق الغد!.................................321
محور 9: لماذا لا نستلهم من التجارب الناجحة؟..................372
محور 10: شهادة على العصر.....................................390
لماذا وكيف ولِمَن أكتب..............................................427
خاتمة.................................................................445
مُلحق، ليس من تأليفي وفي مجالات
ليست من اختصاصي......450
مقدمة
بقلم فيلسوف حمام الشط، حبيب بن حميدة
انتظارات الفلسفة من النظام التربوي
التونسي (جزء 1). فيلسوف حمام الشط، حبيب بن حميدة (مقدمة كتابي
"الإشكاليات العامة في النظام التربوي التونسي"، 2016)
مِن خصائص الحداثة اقترانها بالعلم
والفلسفة. فبعد صراعٍ طويل بين النقل والعقل، بين التقليد والتجديد، أعني بين
اتجاهات سلفية واتجاهات عقلانية تجريبية، تأسست المدرسة الحديثة مقابل المدارس
التقليدية السكولاستية (جامع الزيتونة في العاصمة وفروعه في بعض الجهات) وذلك بوضع
مبادئ وقيم تؤكد على التجديد والإبداع وتحرص على المطابقة مع العالَم الحيوي من
أجل فهمه وتغييره...
كحدث تاريخي، تمثل المدرسة الحديثة
أول ثورة حقيقية في مجتمعاتنا الإسلامية السلفية. ثورة تأكدت نتائجها على كل
المستويات إذ حررت الإنسان العربي المسلم من اغتراب عمّق في وعيه الاتباع والتقليد
ورسّخ في شعوره الثبات والعطالة والانغلاق وحوّل وجوده إلى كائن مطيع وخاضع وخانع
للوضع الغيبي والنظام السائد، فلا وجود لذاتٍ حرة قادرة على تأمّل العالم الخارجي
للكشف عن قوانينه... لقد كسّرت المدرسة الحديثة زجاجة التقليد وكانت بمثابة المحرك
الأول الذي حطّم الهيكل القديم وفجّر البُنى التقليدية التكرارية المنغلقة. ليست
القطيعة التي أحدثتها هذه الثورة مجرد ترميم للقديم بقدر ما هي تأسيس لنظام تربوي
جديد ينفي ما مضى، نظام متحرك باستمرار، متحول ومبدع ومنفتح على الحياة ومتطلباتها
المادية والنفسية والفنية.
تمثل المدرسة الحديثة فضاءًا
ماديًّا ورمزيًّا ومَعبَرا ندخل من خلاله إلى أقاليم إنسانية شعارها الكونية والعمل
على تحقيق نمو وتقدم لامتناهي في إطار حركة تاريخية تنظر إلى حاضر الإنسان انطلاقا
من تصورها لمستقبله.
المدرسة الحديثة من التأسيس إلى
الإصلاح
يمثل الإصلاح حركة ثورية جديدة،
ثورة داخلية للترميم وإعادة البناء من خلال صهر العناصر المكونة للمشروع التربوي الأصلي
في صيغ جديدة تنظم البرامج والمؤسسة وفق متطلبات
العصر. فالمدرسة لا يمكن أن تتجاوز التاريخ وما يحدث فيه من تغير وتجديد وتنوع على
المستوى المادي والعلمي... وذلك لأن المدرسة منذ البدء ليست جسما متكاملا يستحيل
وجود ما أكمل منه، بل هي تنظيم يتأثر سلبيا وإيجابيا بالسيرورة التاريخية
باعتبارها الإطار الحقيقي لكل تجربة إنسانية.
إن الدعوة للإصلاح هي تعبير أولي
عن وعينا بوجود أزمة داخل المؤسسة التربوية التي تبدو على مستوى برامجها ونتائجها متأخرة ومتخلفة عن واقعنا ومهددة
بالسقوط واللامبالاة. إننا ندعو اليوم إلى ضرورة استعادة المدرسة لمكانتها
الطبيعية كقوة طلائعية تقدمية تغذي باستمرار النسيج الاجتماعي الحداثي. وفي هذا
الإطار نفهم أهمية الحركة الإصلاحية في مراحلها المتتالية والمتنوعة، فهي من ناحية
دعوة لترسيخ الأسس والمبادئ الثورية الحداثية حتى تصبح تراثا حضاريا نومن به حق
الإيمان ونعرفه حق المعرفة. ومن ناحية أخرى هي تجديد لإعادة البناء، تجديد تفرضه
حركة التاريخ المعاصر. فمن الطبيعي أن يرافق "الربيع العربي" السياسي
ربيعٌ في مجال التربية والمؤسسة التعليمية. ويمكن إيجاز مبادئ هذا الإصلاح في فكرة
الديمقراطية كفكرة ناظمة ومقياس مشروع لكل تقييم أو تغيير للوسائل والغايات.
إن الإصلاح لا يعني الشك والرفض
الكلي لما أنجزته المدرسة الحديثة منذ تأسيسها (في تونس، منذ تأسيس مدرسة الصادقية
سنة 1875 على يد خير الدين باشا، الوزير الأكبر للصادق باي)، من تكوين مستمر
للأجيال العربية الصاعدة المتمردة على واقعها والمتحركة باستمرار نحو مستقبل أفضل.
لن نحاكم مدرستنا منطقيا أو أخلاقيا بل سنوجه نقدنا لمواطن الغموض والضياع التي
تهدد بصفة مباشرة أو بأشكال مقنعة سلامتها وحركيتها القِيمِية
والعلمية.
إن الإصلاح لا يقبل التوظيف
الإيديولوجي، ولا يمهد لإفشال حركة التنوير لأنه يهدف إلى إثبات العقلانية
وتطوراتها بما هي السبيل الوحيد للتحرر من المنحى الانغلاقي لمؤسساتنا التربوية.
ففي مدرسة تأسست على العلم والعمل
لا يمكن أن يكون النقد فيها نقدا لذاته، النقد وسيلة لتحقيق الهدف الأسمى: انعتاق
الإنسان من اغترابه انعتاقا جذريا وكاملا. وهكذا فإن المدرسة محكوم عليها
بالاستجابة فورا لمتطلبات العصر وذلك بإعادة صهر عناصرها. إن التعليم هو تنوير
مستمر لا يقبل أبدا الانتظار أو التراجع.
المَنحَى الانتقائي للمدرسة
لقد مثلت المدرسة الحديثة الطريق
الأمثل لكل رُقِي اجتماعي وثقافي وقد أعطتنا صورة واضحة للصراع القائم بين القديم
والجديد، بين الشيوخ والشباب، بين التخلف
والتطور... فمنذ البدء استقطبت المدرسة كل القوى والطاقات التي تنزع إلى بناء
مستقبل أفضل يحررها من نُظُمٍ تقليدية سلفية مُعَطِّلة جعلت من السكون شعارها
الأبدي. لكننا نلاحظ أن لكل حركة حتى وإن كانت ثورية فهي قد
تتعرض بطبيعتها إلى التعثر أو الرِّدّة أمام تراكم العوائق الداخلية والخارجية التي قد تفرضها
السيرورة التاريخية لكل مجتمع. وبقدر ما كانت الحياة تتحول وتتطور، كانت مدرستنا
تتراجع وتبتعد جزئيا وتدريجيا عن أهدافها الأصلية،
وتنحرف عن طريقها السوي، وتتأخر في تحقيق مشروعها التربوي، وتتخلف عن مواكبة حركة
زمانها.
سيادة المدرسة أصبحت
مهدَّدة بظهور قِوى منظمَة تتطور بسرعة وتؤثر في الحياة العامة وقادرة أن تفعل في
المدرسة ما فعله النظام التقليدي من قبل.
إن المجتمع الذي تحرر
من الهيمنة السلفية أصبح اليوم يعيش أشكالا جديدة من التسلط، أشكالٌ منظمة ومعقلنة
ولها القدرة على التوجيه والتوظيف والإرشاد وممارسة أساليب خاصة إلى حدود التحكم.
وهكذا ستدفع المدرسة ضريبة التطور ذي النزعة الليبرالية الذي أفرز مجتمعا طبقيا
عمّق بصفة واسعة وكلية كل مظاهر التفاوت واللامساواة.
إن مبدأ التنافس الحر
على المستوى الاقتصادي انتقل إلى المدرسة ذاتها وتحولت هكذا إلى حلبة للصراع
والتنافس والتناظر والسباق المجنون لبلوغ أقصى الحدود التي تقننها شكليا مقاييس ومعايير وسلالم تقييمية تبدو في ظاهرهها
منطقية سليمة وعادلة ومشروعة. ولكن كل الدراسات تؤكد اليوم أن هذه الصورة الجديدة
للمدرسة سلبت المدرسة الجمهورية (L`école républicaine) وظيفتها التنويرية وسلبتها أيضا استقلاليتها وأخرجتها من مهدها
الإنساني وجعلت منها مقياسا نموذجيا للانتقاء حسب ترتيب تصاعدي يكون حده الأقصى رقما
قياسيا مجردا يشرّع للفصل بين مجموعات مستقلة لكنها متفاوتة على مستوى التكوين
والمردودية وعلى مستوى النجاح والفشل، وكانت النتيجة الإقصاء والتهميش وتعمَّق
الشعور لدى العامة بأن المدرسة أصبحت لا تنتج إلا النخب وهي الشكل المعاصر للتمييز
الفئوي المولد لليأس والكراهية، والطالب لتضحيات لا معنى لها تحول الأطفال والشباب
إلى كائنات مغتربة مسلوبة الإرادة همها الوحيد الاستجابة إلى مطلب واحد ألا وهو
النجاح والتفوق حسب ما يفرضه السُّلم الانتقائي التصاعدي. ومن أجل ذلك أصبح
التعليم قضية حياة أو موت ومجال لكل التضحيات وبلغ التوتر أقصاه لدى الجميع
وانتشرت داخل المجتمع طرق لامشروعة أخلاقيا وعلميا اقترنت بالممارسة التعليمية
وتحولت المدرسة إلى فضاء نشكك في مصداقيته ونتهمه بفقدان براءته وبانحرافه عن
مبادئ العدل وهذه حقائق لا ينكرها أحد لأن العدل هو أساسا اعتدال ينفي كل تطرف.
إن المدرسة أصبحت
انتقائية في نتائجها ومتطرفة في أهدافها وتصوراتها لأن القياسات التصاعدية (عدد
الناجحين) يقابلها قياسات تنازلية (وصل
عدد الفاشلين والمنقطعين إلى حوالي مائة ألف سنويا)، لكن كلها مجردة أي تتعلق
بموضوعات قابلة لهذا التقييم الكمي الرياضي والإحصائي. فالمعدلات المدرسية أبعدت
من حساباتها الذات البشرية بل اختزلتها في بُعد واحد يجعلها مجرد كائنٍ هشٍّ ضعيفٍ
مُطيعٍ لا علاقة له بالبنائية الذاتية للفرد وحرية ضميره. لقد بلغ الانتقاء إلى
درجة تجعل البعض يومن بأن الموت أفضل من الحياة. فكل انتحار لمواطن تونسي هو نتيجة
لغياب وعي إنساني حقيقي يرفض فكرة الإنسان ذي البُعد الواحد وهو عبارة عن صرخة
استغاثة وأمل في استعادة الفرد لحريته ليحيا ويقاوم كل أشكال الاغتراب ليعيش حياته
من جديد.
المدرسة الافتراضية هي
مستقبل التربية التونسية
ثمة ظاهرة حضارية
معاصرة أحدثت تغييرات جذرية داخل المؤسسات التربوية وخارجها، فقد خرج الشباب وحتى
الأطفال من حدود المدرسة إلى أقاليم جديدة بسبب الثورة الرقمية الافتراضية. إن هذا
الخروج الجماعي التلقائي أدى إلى اتساع سريع لحركة التواصل والتعبير والانفتاح على
الآخر ومنذ البدء كانت هذه الحركة كونية إذ ذابت فيها كل الفروقات العِرقية
والجهوية والقومية والطبقية والجنسية والدينية والعُمرية. وهكذا تحرر الجيل الصاعد
وحتى الشيوخ المواكبين من كل أشكال الهيمنة والقمع خاصة على مستوى التعبير
والتفكير، فلم يعد بإمكان أي سلطة أن تحتكر لنفسها وسائل التواصل وأن تعيد أشكالا
من الهيمنة واللامساواة في مجال الإعلام. إن سلسلة اللذائذ التي تتمتع بها هذه
الشريحة المستفيدة من الثورة الرقمية تفسر تحمسها للتحرر من سجن المدرسة.
إن انتشار التكنولوجيا
الرقمية يؤسس لمرحلة انتقالية بدأت تضفي على شبابنا المدرسي خصائص نفسية قد تجعل
منه جيلا نموذجيا، جيل متمرد على بعض التقاليد البالية المُقيدة للحرية. إننا أمام
حدث تاريخي، أمام ولادة إنسان جديد يمتلك وسائل إنتاج الإعلام وآلياته، وسائل قد
تحقق له استقلالية سوف يشعر من خلالها بحرية لامتناهية يتحرك بها داخل هذا العالم
بصفة مباشرة دون انتظار أي رخصة من أحد ودون أي نوع من القيود أو الشروط ودون مشقة
التعلم المطوّل أو حفظ ما لا يجب حفظه إذ بِنقرة واحدة على فأرة الحاسوب تنفتح
أمامك بنوك المعرفة العالمية من بداية تاريخ الإنسانية إلى اليوم.
لذلك نرى شبابنا
تستهويه المدرسة الافتراضية وينفر من المدرسة التقليدية، إنه اليوم في وضع بين
بين. إن هذه الازدواجية تجعل التعليم يتأرجح بصفة مرَضية بين عالمين: عالم سهل
وسريع وممتع، وآخر ممل وثقيل وفي بعض الأحيان محبط ومقرف، وهذا ما يفسر الواقع
المأساوي الذي تعيشه مؤسساتنا التربوية حيث تفجرت صورتها من الداخل والخارج. إننا
نعيش اليوم شبه ثورة كوبرنيكية لأن الفضاء التعليمي التقليدي لم يعد مركزا مشعّا
ثابتا يفرض جاذبية على العناصر المحيطة به، جاء مَن ينافسه، جاء الفضاء الافتراضي
ذو الإشعاع الأكبر والأفق الأوسع والأرحب والأفضل والأسهل والأسرع.
فضاء جديد، سرعان ما
استغله الشباب لكل أنواع التمرد والثورة والمتعة إلى حد المجون في بعض الأحيان
لمحاولة الخروج على النظام الأخلاقي المتكلس السائد ولا دواء لأمراض الحرية
المطلقة إلا مزيد من الحرية. هذا الفضاء الساحر جعل من مستعمليه أطفالا وشبابا
وشيوخا، نساءَ ورجالا، فقراء وأغنياء، يخطون خطوات عملاقة في التمتع بحياتهم
وكأنهم في حلم ويحققون بالتالي ذواتهم في ما يشبه النشوة الدائمة. إن الثقافة
الرقمية ليست فقط طريقا للمعرفة بقدر ما هي طريقة للانعتاق من رقابة العائلة
والمجتمع، طريقة تحول الآخرين إلى أصدقاء تسعد بلقائهم في تحدٍّ للجغرافيا
والتاريخ والدين والأعراف وكل أنواع الحواجز المكبلة لحرية الفرد من أجل تجاوز
المواطنية القومية العنصرية الضيقة إلى المواطنية العالمية الرحبة.
خاتمة
يتمحور الإصلاح
التربوي حول ثلاث نقاط هامة:
تتعلق الأولى بالقطيعة
المعرفية (La rupture épistémologique selon Bachelard) مع الماضي وعدم
الرضوخ لسراب الحنين النفسي إلى مرحلة الطفولة والشباب حيث كل شيء جميل.
والثانية تؤسِّس الإصلاح
على صورة جديدة للإنسان تتمثل في عدم اختزاله في بُعد واحد وذلك بتعديل المقاييس
حتى تكون الوسطية (Le juste milieu d`Aristote) هي المقياس النموذجي
المناسب بحق لوضع الإنسان في هذا الوجود.
أما الثالثة والأخيرة
فتتلخص في السعي الحثيث لتحقيق وحدة المدرسة المعاصرة وذلك بتجاوز الانفصام
والازدواجية اللذان نعيشهما اليوم بين واقع مدرستنا النقلي السلوكي التلقيني (Le transmissif, le
béhavioriste, le scolastique) ومستقبلها العقلاني
البنائي الديداكتيكي (Le
rationnel, le constructiviste, le didactique).
تصدير
بقلم بلڤاسم
عمامي
في العلاقة بين الدّولة
والتّعليم في تونس:
رصد لسياقات التّحوّل ومهمّات
الإصلاح التّربوي[1]
(بلڤاسم عمامي ـ
باحث متخصًّص في تعلّميّة البيولوجيا ـ ومتفقّد أوّل للمدارس الابتدائيّة)
التّقديم
تشهد المنظومة التربوية
التونسية حالة سيئة من التدهور ومن رداءة الخدمات بما يؤشّر إلى أزمة خانقة تعيشها
تونس على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإيكولوجية، بسبب تخلي الدولة عن الإيفاء بالتزاماتها مع
مواطنيها لارتباط اقتصادها بالسوق العالمية وفق تبني توصيات البنك العالمي في ما
عُرف بسياسة التفويت أو الخصخصة، وفتح سوق الاتجار في المعرفة (تسليع المعرفة)
والعقول أمام الخواص تحت شعارات "التعليم عن بعد" و"التعليم مدى
الحياة" و"المدرسة الافتراضية"، نتج عن ذلك تفكيك التعليم
العمومي ورداءة خدماته وتراكم مشاكله وتعقيدها مع عجز القطاع الخاص على ملء الفراغ
وقيادة المجال التعليمي. وقد شهدت السنوات الثلاث الماضية تسارع وتيرة تراجع خدمات
المدرسة التونسية متخذة أبعادا عميقة وأشكالا أكثر وضوحا جعلت "السبورة سوداء"[2]
لقد لحق التدهور كامل مكونات
الفعل التربوي البيداغوجي، ففقدت المدرسة هيبتها وهُتكت حرمتها وآلت بناياتها
للسقوط، وتآكلت التجهيزات وفرغت المكتبات وغابت الوسائل. ومثّل غلق مدارس الترشيح
ثم المعاهد العليا للمعلمين ضررا فادحا مسّ من نوعية المدرسين المنتدبين. وتكتمل
الصورة بتواتر قرارات ارتجالية كفرض مقاربات غريبة لا تراعي خصوصية الذهنية
التونسية، وتحوير البرامج والمناهج وفق خيارات تنموية مستندة إلى أرقام وردية
تسوّق لخطاب سياسي يبحث عن توازنه، مع ما رافق ذلك من تخبط ظهر خاصة في حذف
الامتحانات الوطنية وزيادة في مواد التدريس وإقرار زمن مدرسي مثقل لكاهل التلميذ،
وتعريب غير مكتمل وترويج قيم جديدة كيّفت محتوى النصوص والمحاور. لقد عرفت المدرسة
العمومية أسوأ فتراتها منذ التسعينات فعجزت الدولة على تطوير التعليم نتيجة تسلط
السياسات المملاة على الشأن التربوي وتخلي التنظيمات المدنية والمهنية عن دور
الرقابة والتدخل في "الحياة المدرسية".
I.
تاريخيّة المدرسة العمومية التونسية:
أ- يعود تاريخ
المدرسة العمومية في تونس إلى العصر القرطاجني حيث كان التعليم عموميا ومهيكلا إلى تعليم ابتدائي ويسمى بارقولا "Pergola" منتشر في المدن وأيضا في القرى والمناطق الريفية، أما المستوى الثاني
ويسمى لوداس "Ludas" ويخص الأطفال
بداية من ال 12 عاما حيث يعنى
بتدريس شرح النصوص والنحو ونظام المعايرة (مبحث مقادير الأدوية)
والعلوم الطبيعية والرياضيات... أما المستوى
الثالث فيعنى بعلم البلاغة والبيان ضمن مدارس مخصصة لأبناء الذوات والنبلاء، وأخيرا التعليم الجامعي في
اختصاصات متعددة منها الآداب واللغات والحقوق والموسيقى والطب والطبيعيات (ماغون القرطاجني الذي يعدّ أب الفلاحة والذي
ترك موسوعة "كتاب الفلاحة" في 28 مجلدا
اعتبرها مجلس شيوخ روما المنتصرة أهمّ غنيمة حرب) لقد كانت جامعة قرطاج منافسا
جديا لجامعتي روما وأثينا [3]
ب- كما
اهتمت الدولة الحفصية بالتعليم وكان تعليما تحت إشراف الدولة من حيث
المحتويات والفضاءات والأجور، إذ لم تمض ست سنوات فقط بعد تأسيس دولته، حتى تولى
أبو زكرياء الحفصي بعث أول مدرسة سنة 1234 وهي "المدرسة الشماعية" [4]
بسوق الشماعين ثم المدرسة التوفيقية سنة 1252 قرب جامع الهواء وأسستها الأميرة عطف
زوجة أبو زكرياء، وكان عدد المدارس العمومية في تلك الحقبة قد بلغ الخمسة عشر
مدرسة في مدينة تونس لوحدها.
ت- لقد
اهتمت سلطة الاحتلال بعيد انتصابها في تونس بالتعليم باعتباره وسيلة
لنشر ثقافتها فبنت المدارس العصرية كنوع من الترويض الثقافي والمعرفي وفتحتها أمام
التونسيين بالتوازي مع الإبقاء على التعليم الزيتوني (حظيت قريتي المكناسي بالوسط
التونسي بمدرسة عصرية منذ 1903)، ولقد استفاد التونسيون من التعليم العصري وتعاطوا
معه "كغنيمة حرب" مثله مثل المواصلات والسكك الحديدية والمسارح.
ث- اهتمت دولة
الاستقلال بالتعليم فأصدرت أول قانون ينظم التعليم [5]
بتونس سنة 1958 وجعلت من غائياته الضبط الاجتماعي، بالتركيز على بناء
الشخصية التونسية وتحميل المدرسة "تزكية هذه الشخصية" مثلما حددها الشيخ
عبد العزيز الثعالبي منذ 1928 في كتابه "l’esprit
libéral du coran الروح التحررية للقرآن" كالتالي: "أن يستمدّ المسلم العناصر القادرة على
تغيير عقليته وتحويله إلى إنسان جدير حقيقة بهذا الاسم، أي إنسان حرّ ومتعلّم
ومتأثّر بكلّ ما له علاقة بالإنسانية والرّقيّ والحضارة"[6]، وهي ذات المبادئ التي نصّ عليها الفصل 39 من
دستور 2014، وتحصين التعليم من "إمكانية العودة إلى النّمط
الزيتوني"بجعله تعليما عصريا وموحّدا، وضمان استمرارية الإدارة والدواوين
وتزويدها بالإطارات الوطنية تعويضا للأجانب المغادرين، واعتبار أن التعليم عامل
ترقّ اجتماعي فتعزّزت مكانته في التّمثلات الاجتماعية للتونسي.
ولقد تمثل هذا الاهتمام خاصة في سَنّ التشريعات ورصد التمويلات (ثلث
الميزانية يخصص للتعليم) وضبط التوجهات الكبرى والمحتويات وبناء الفضاءات في كامل
أنحاء البلاد وتأمين تكوين المعلمين والأساتذة (بعث دور ترشيح المعلمين) مع قدرة
تشغيلية عالية لخريجي المدارس. هكذا لعبت الدولة دورا تنمويا شمل قطاعات واسعة من
المجتمع وأنشطته وعلى رأسها التعليم.
II.
ملامح أزمة النظام التونسي، التعليم نموذجا:
اتخذت الأزمة التي تعيشها
تونس مظاهر متعددة مست النسيج الاجتماعي والاقتصادي والتنموي وتدهور الوضع المعيشي
والصحي إذ بلغت نسبة الفقر مستوى عال سنة 2014
حيث يعيش ربع سكان البلاد حالة من الفقر المدقع منهم 20
% تحت خط الفقر، كما تفشت
ظاهرة البطالة ليصل العدد إلى ما يقارب 700 ألف بطال تمثل النساء منهم ثلاثة أخماس
في حين بلغ عدد البطالين من حاملي شهادات جامعية 160 ألفا والعدد في تزايد سنويا
أمام تخرج ما يقارب الـ80 ألفا، وتزايد عدد المتسربين من المدارس والمعاهد (بلغ
عددهم سنة 2013 فقط الـ100 ألفا) مقابل ضعف وتيرة الانتداب وخلق مواطن شغل حقيقية،
مع ارتفاع جنوني في الأسعار وتدهور المقدرة الشرائية وتراخي الدولة في تقديم
الخدمات الصحية والبريدية والتعليمية والبلدية وتخريب البُنى التحتية، وإهمال تام
لقطاعات الشباب والثقافة والمرأة،
والتغاضي على ما أصاب الأنظمة الإيكولوجية من دمار (محميات مهملة، نفايات،
تلوث البحر والصحراء..) تصبح الصورة أكثر بؤسا مما أدى إلى تفشي ظاهرة العنف
والانحراف وتعاطي المخدرات والتفكك الأسري.
ولعل من أسباب تخلّي الدولة عن التزاماتها إزاء مواطنيها قلّة مواردها وارتباط
اقتصادها كليا بالدوائر المالية العالمية مما سارع في وتيرة التّداين إذ بلغت
الديون الخارجية للسنة الحالية 48 %
من الناتج الخام وتمثل كلفة سدادها سنويا 18 % من ميزانية الدولة، وكنتيجة لذلك، أجبِرت الدولة على
فتح السوق المحلية أمام منتوجات الدول الكبرى دون قيود وكذلك تشجيع الاستثمارات
الأجنبية بشروط مجحفة ضد مصالح الدولة، ضمن علاقة غير متكافئة مع دوائر المال
والأعمال العالمية تحولت من "استشارات إلى نصائح فتوجيهات ثمّ إملاءات "
في شكل برامج لإعادة "هيكلة الاقتصاد" وفرض منوال تنمية تابع.
ولم يبق قطاع التعليم في منأى
عن تأثير الأزمة العالمية على تونس، إذ دخلت العلاقة بين الدولة والتعليم حقبة
مغايرة مع نهاية السبعينيات، ففُرضت على
تونس شروطا مجحفة مقابل الحصول على قروض لعل من أهمها "تخفيف عبء المصاريف
العمومية" والتعليم في مقدمتها، الذي شهد تسارعا في عملية التراجع والتفكك
ليبلغ أوجه بإقرار "مشروع مدرسة الغد" في 2002 تحت شعار "تعزيز
الهوية" ضمن خصومات سياسية للنظام السابق مع "فكر الإسلام
السياسي"، فحظي التعليم الخاص بتشجيعات كبيرة وزحفت الجامعات الخاصة محمية
بترسانة من التشريعات ومرونة كبيرة في اعتماد شهائدها.
رضخت الدولة لشروط المانحين وأعلنت
"مرحلة التقشف" للتخفيف من أعباء الإنفاق العمومي، وتمّ تدريجيا تحرير
السوق وخصخصة المنشآت العمومية حتى الاستراتيجية منها، وفُتح قطاع التعليم أمام
المستثمرين وهو ما مثّل تحوّلا في موقع التعليم الخاص في علاقته بالتعليم العمومي
من دور "الإسناد" إلى دور"الرّيادة" خاصة في الابتدائي، انجرّ
عنه تراجع لمكانة التعليم في التمثلات الاجتماعية. وتزامن
ذلك مع مرونة في شروط معادلة الشهائد الجامعية، ففقدت الجامعة التونسية مكانتها عالميا
(الجامعة التونسية لا توجد ضمن 70 جامعة الأولى بإفريقيا ولا ضمن الـ500 جامعة
الأولى في العالم)، وتفاقم فشل المدرسة واستفحلت ظاهرة التسرّب المدرسي،
وسقطت كل الأوهام حول "التشغيلية بارتباط بسوق العمل الأوروبية"، فارتفعت
نسب البطالة مع هبوط في المستوى الفكري، وتفشت ظواهر اجتماعية غريبة مثل الانحراف
والعنف والغش والهجرة السرية والتكسب السهل وغير المشروع والإرهاب والتهريب. وتكتمل الصورة برفع الدولة يدها عن التعليم
العمومي وذلك بـغلق مدارس الترشيح والمعاهد العليا للمعلمين وتقليص ميزانية
التربية (من ثلث الميزانية إلى 17% فقط) وتكريس
مبدأ عدم المساواة بإقرار التعليم النموذجي واعتماد مقاربات ومحتويات بشكل
اعتباطي والإحجام عن القيام بأي إصلاح
جدي.
III.
المدخل
إلى إصلاح المنظومة التربوية:
إن الوضع الراهن للتعليم
العمومي مرتبط وثيق الارتباط بخيارات الدولة السياسية والاقتصادية وبالتحولات
الاقتصادية العالمية كنتيجة لارتهان القرار السيادي بيد الدوائر المانحة، وهو وضع
استفحل منذ ما يزيد عن عشريتين، وبالتالي فإن كل إصلاح لا يتوجه نحو تغيير شامل
لمنوال التنمية الحالي حيث يتبوّأ العامل الاجتماعي أولوية مطلقة في اهتمامات
الدولة، هي محاولات فاشلة والحديث عن مقاربات وبرامج وهيئات عليا تمثيلية هو من
باب الترقيع الذي لن يزيد المشكل إلّا تعكيرا.
حين يتم الفصل في مناويل التنمية وتبجيل الثروة
البشرية، سنعرف كيف نضع الحجرات الأساسية لمجتمع السعادة تعضده مدرسة تنويرية
متأصلة في تربتها قادرة على مساءلة التفكير والعلوم واللغات والفلسفة
والفنون والتربية على المواطنة والانتماء
وعلى تحديد موقع التربية من النهوض الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمعرفي
والاستثمار في ذهنية البشر وتفكيرهم وحسّ المواطنة فيهم والتّجذّر التواق إلى
التنوير والحداثة والاكتمال والحرية والقيم الإنسانية واحترام الحياة والبيئة،
وتوظيف الثروات للإشباع والسعادة للأجيال الراهنة واللاحقة، حينها يصبح يسيرا
الخوض في مسائل - على أهميتها - ذات علاقة بالزمن المدرسي والمحتويات والمقاربات
والانفتاح على التجارب العالمية الرائدة للاستئناس بها و"صناعة" نماذج
ناجحة في علاقة بجوهر مكونات الفعل التربوي والتعليمي لا بنواتجه
كنظام الرسوب واعتماد الغرابيل (الامتحانات الوطنية) وتطوير نظام التقييم.
لقد حان وقت مراجعة فلسفة التربية
والتعليم في تونس بما هي مطلب حياتي
من أجل إرساء معرفة تنويرية بهدف تحقيق السعادة، وهذه لها شروطها: منها الاستقلال
بالقرار حول التعليم ورفع القرار السياسي عن الشأن التربوي ورفض توصيات البنك
العالمي بما يعني تخصيص ميزانيات كبيرة للتعليم بفروعه حتى ينجح في أداء
مهمته، وهي قرارات مصيرية تتطلب حوارا
وطنيا عميقا نتيجة ما يستتبعه من تضحيات المجموعة
الوطنية في سبيل توفير الموارد اللازمة، حوار وطني يضمّ
كل المتدخلين في التربية ومكوّنات المجتمع المدني والأحزاب والأولياء، حوار يكون
فيه للنقابيين وللاتحاد العام التونسي للشغل دور مهم في صياغة مشروع يُعرض للنقاش
الجدي تمثل "الندوة الوطنية حول إصلاح المنظومة التربوية" المنعقدة
بالحمامات أيام 24-25-26 نوفمبر 2014 انطلاقته. ولعل توفر هذا الإطار للتداول حول
مسألة إصلاح التعليم يتوصل إلى ضبط خطتين واحدة آنية تبحث في مهمة إيقاف النزيف،
والثانية تضع أسس إصلاح واع ودائم لعل من مشمولاته البحث حول:
1. انتداب المدرسين من بين خرّيجي كليات
ومعاهد عليا للتربية واللغات.
2. منظومة التكوين والتفقد والمساعدة
البيداغوجية وتكوين المكونين.
3. المحتويات والكتب المدرسية بما يؤسس
لمواطن منغرس في وطنه ومنفتح ومحب لبيئته.
4. الزمن المدرسي بما يوفر وقتا معقولا
لممارسة الهوايات وتمتين العلاقات بالعائلة والنوادي.
5. الفضاءات اللازمة للتدريس والمراجعة والتغذية والنوادي
الثقافية والمخابر والمكتبات.
6. إطار التسيير الإداري من قييمين
وإداريين وعملة وهيئات التأطير النفسي والصحي والاجتماعي.
لقد عاشت كوريا الجنوبية وضعا شبيها بما عاشته تونس،
غير أنها اتخذت في بداية الثمانينات من القرن الماضي موقفا سياديا وطنيا حين قررت
صرف كامل مقدار القرض الذي منحه إياها البنك العالمي في تطوير التعليم، فخصصت أعلى
الأجور للمدرسين وهيأت الفضاءات والمطاعم وأمّنت نقل التلاميذ، وضبطت نظاما صارما
على الدوام المدرسي ووضعت برامج تعليمية دقيقة ترتكز في السنوات الأولى على تدريس
اللغات والتربية المدنية في علاقة بالانتماء وحب الوطن وثقافة حقوق الإنسان
والتسامح والتشارك وقبول الآخر، كما وضعت هياكل صحية وهيئات إنصات وخبراء علم نفس
الطفل ووفرت ميادين الرياضة ونوادي لممارسة الفنون... كوريا الجنوبية الآن تغزو
العالم بفضل استثمار الدولة في الثروة البشرية... في تلك السنة، نالت الدولة
التونسية قرضا بنفس القيمة، ولكنه وظّف في تمويل مشاريع وهمية من نوع
"التنمية الريفية" وجزؤه الأكبر تلاشى رشاوى.
اليوم، تدفع المجموعة الوطنية ما يقارب خمس ميزانيتها
لأداء خدمة الدين الخارجي وهو ما يفوق نصيب فروع التعليم الثلاثة، وبعملية بسيطة
يمكن تخيل واقع التعليم لو تم توجيه تلك المبالغ للقيام بثورة حقيقية في قطاع
التعليم ضمن مخطط واقعي على مدى عشرة
سنوات، الأمر الذي يتطلب قرارا سياديا من سلطة تحترم مواطنيها.
إن المدرسة التي يتم الترويج
لها هي مؤسسة لإعادة إنتاج الطاعة وضحالة الفكر وتوفير احتياطي بشري يستجيب لبرامج
المانحين ومخططاتهم وإدارة أعمالهم القذرة وتهيئة "أسباب إثراء
أغنيائهم" وتلبية حاجيات شعوبهم، ومدرسة بهذه الملامح ليست مدرستنا وبالتالي
لا تعنينا.
وعلى النقيض من ذلك، فإن
ملامح مدرسة تكافؤ الفرص الشعبية والديمقراطية، المدرسة التي نطمح إليها يجب "أن
تقدّم للشباب كل الشباب المعارف والقدرات النشطة التي تسمح بالمساهمة في تحويل هذا
العالم الجائر"[7]. فيجب إعادة بناء المدرسة وجعلها مكانا نلتقي فيه كي
نتعلم ونفكر ونعبّر ونتذوق الفنون ونكتشف
معا وجود عوالم أخرى في رؤوسنا وفي حياتنا، مدرسة تؤسس للسعادة وللإشباع وتنحاز
للحياة، وهي المدرسة التي يحدّد ملامحها فيليب ميريو[8]: "المهم في الوقت الراهن هو خلق مدرسة تكون فضاءًا للتفكير ولتجريب عمل
جماعي (...) لا يجب أن تقتصر مهمة المدرسة على اكتساب جملة الكفايات رغم أهميتها،
بل تكمن المهمة في النفاذ إلى التفكير. فبواسطة العمل الفني والعلمي
والتكنولوجي يتهيكل التفكير ويكتشف متعة قابلة للمشاركة (...) إنها مسألة مجتمعية
تتطلب حوارا ديمقراطيا حقيقيا".
إننا لا نستطيع بناء هذه
المدرسة وفق هذه الشروط المجحفة والاستغلال المتزايد والارتباط المتعمق سنة بعد
أخرى بتوصيات البنك العالمي وأوامر الدول الغنية المانحة وضعف ممارسة الدولة
المحلية لسيادتها على قرارها وعلى مقدّراتها وثرواتها وعلى التخطيط لمستقبل
أجيالها.
إننا لا ننتظر حلولا عاجلة
لمشكلات التعليم في تونس حين يقوم منطق الميزانية
العامة [9] على الترفيع في نفقات البوليس (بـ 72.2 %) والجيش (بـ 48.8%) ووزارة الشؤون الدينية (بـ 44.3 %)
مقابل زيادة في نصيب التربية بـ 8.9 % فقط، في حين يتم تخفيض نصيب الثقافة بـ9.8 %
والنقل بـ 4.4 % وذلك
في مقارنة بين ميزانية 2011 وميزانيتي 2012
و2013.
إنه على نقيض هذه العلاقات
القائمة على احتكار الثروة واحتكار الحاضر والمستقبل ومصادرة الحلم، نقرأ ضرورة إصلاح المنظومة التربوية
والاجتماعية والصحية والثقافية والبيئية. إنّ إنقاذ المدرسة العمومية وتحريرها من هيمنة
مقررات الجهات المانحة بالتوجه التدريجي نحو "خصخصة التعليم" ومن هيمنة
المشاريع البدائية بالتوجه نحو إحياء التعليم الديني "الحلال" هو واجب وطني وإنساني وحياتي
ستحاسبنا عليه الأجيال القادمة... وهي دعوة للوعي بخطورة التدهور الممنهج للمدرسة
العمومية وللتعليم بفروعه الثلاثة ولاستنباط طرق جديدة للمقاومة تتجاوز الانتظارية
والمطلبية وتحميل الآخر مسؤولية تهرئة التعليم العمومي.. نقاوم بالاحتجاجات
وبتوعية المتدخلين وبشراكة ضرورية وحاسمة مع المجتمع المدني وبالتشجيع على
المبادرات وعلى البحث في مجال التعليم... نقاوم بالحرص على تقديم تعليم مفيد وعلى
تعزيز الثقة لدى التلميذ وعلى تغذية الحلم لديه في مستقبل يجب أن يكون جميلا.
يجب أن نعود إلى كتب التاريخ
لنقرّ بإمكانية حصول تغيير جذري لصالح الأغلبية المسحوقة من أجل مجتمع حيّ واع محب
للحياة وطامح للسعادة. لا خيار أمامنا غير
أن نقاومَ ما يتم التحضير له ونرفضَ هذا الواقع الأسود المبشّر بالبؤس
والتخلف والدمار وننخرطَ في بناء واقع الألوان أين سيكون في النهاية للكلّ متعة
التعلّم، ولعله يكون للتعليم الخاص دور يلعبه في الإسناد والانتشال.
مراجـــــــــــــع:
[1] هذا النص
عبارة عن محاضرة ألقيت خلال "الندوة الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية"
بالحمامات في 24-25-26 نوفمبر 2014 من تنظيم قسم الوظيفة العمومية بالاتحاد العام
التونسي للشغل.
[2] "السبورة
السوداء" رؤية نقدية لمشروع خوصصة التعليم قدمها البلجيكيان "جيرار
ديسليس (صحفي) ونيكو هورت (مدرّس) في 1998 حاولا من خلالها تقديم الأسباب الحقيقية
لمشاريع خوصصة التعليم بكشف الأهداف الخفية لها باعتبارها مشروعا تجاريا كونيا
للتعليم الخاص يجب أن يُفتح بكل الطرق: إن
بالضغوط الديبلوماسية والتجارية والرشوة والخنق الاقتصادي والتّهرئة المتعمدة
لمؤسسات التعليم العمومي أو بالسلاح (فلسطين، العراق، أفغانستان، ليبيا، سوريا..)
تولّى تعريب هذا الكتاب "محمد عمامي" ونشر بدار "التقدم"
للنشر – تونس سنة 2002
[3] هنري إيريناي مارو، تاريخ التربية في العصور القديمة، 1951 دار
نشر سوي
SEUIL
[4] محمد بلحاج
عمر، صفحات من تاريخ التربية في تونس، 2008، دار دمدوم للنشر تونس، ص 48
[5] قانون رقم
118 لسنة 1958 المؤرخ في 4 نوفمبر 1958 يتعلق بالتعليم
[6] الشيخ عبد العزيز الثعالبي، روح التحرر في القرآن، دار المغرب
الإسلامي، بيروت، ص118
[7] "السبورة
السوداء" انظر المرجع (2)
[8] فيليب ميريو-
جريدة لوموند- 2 سبتمبر 2011
[9]عن دراسة
للدكتور فتحي الشامخي حول ميزانية 2014
تعريف علم "التعلّميّة "
(La Didactique de la Biologie)
تعريف الإبستمولوجيا:
الأصل اللغوي الإغريقي للمفهوم: الإبستِمِي
(علم)، لوڤوس (دراسة). هي دراسة فلسفية نقدية للعلوم، تهدف إلى معرفة منشئها
المنطقي وقيمتها وجدواها. الإبستمولوجيا تدخل في نظرية المعرفة وإبستمولوجيا
التعليم (La Didactique) تدخل في مجال علوم التربية.
Source: Dictionnaire “Le
Petit Robert”, 1981, p 674.
ÉPISTÉMOLOGIE [epistemͻlͻʒi].
n. f. (1907 ; de l`angl. (1856) ou l`all. ; du gr. epistêmê
« science », et logos « étude »). Philo. Étude critique des
sciences, destinée à déterminer leur origine logique, leur valeur et leur
portée. L`épistémologie entre dans la théorie de la connaissance.
بطاقة تعريف علم "التعلّميّة " (أو
الديداكتيك أو إبستمولوجيا التعليم أو فلسفة التعليم)
برز هذا العلم في فرنسا في السبعينات من القرن الماضي كردّة
فعل على فشل التلاميذ في تعلّم الرياضياّت الحديثة فتأسّست "تعلّميّة
الرياضيّات"، أوّل اختصاص. دخلت تعلّميّة المواد (La
didactique des disciplines) إلى تونس في التسعينات من القرن الماضي على يد بعض الروّاد, أذكر
من بينهم على سبيل الذكر لا الحصر الأستاذ أحمد شبشوب رئيس الجمعية التونسية
لـ"التعلّميّة" والأستاذة عَطْفْ عزّونة المشرفة على قسم تعلّميّة
البيولوجيا بجامعة تونس والأستاذ سالم عبّاس (المشرف التونسي على أطروحتي)
والأستاذ منذر عبروقي أوّل دكتور تونسي في تعلّميّة البيولوجيا. احتضن المعهد
الأعلى للتربية والتكوين المستمر بباردو (Ancien ISEFC - يسمى
الآن الجامعة الافتراضية) هذا الاختصاص الجديد في علوم التربية ووفّر له الأرضيّة
اللوجستيّة وأفضل الأساتذة من تونس أمثال نور الدّين ساسي ومحمد بن فاطمة ومهدي
عبد الجوّاد ومن فرنسا أمثال بيار كليمان
وكوكيدي وأستولفي وأورانج وجيوردان غيرهم وها نحن نواصل نشر
تعليم التعلّميّة, الجيل المخضرم من كهول وشباب.
سأحاول تقريب الصورة في أذهان
القرّاء مقارِنًا بين هذا العلم الجديد وعلم سبقه وما زال ينافسه وهو علم
البيداغوجيا:
البيداغوجيا (la pédagogie)
-
اختصاص جامعي يدخله
حاملو الباكلوريا.
-
يخوض المختصّ في
البيداغوجيا في تمشّيات "تعليم" كل المواد فهو بمثابة الطبيب العام.
-
يسلّط المختصّ في
البيداغوجيا الضوءَ في المثلّث البيداغوجي (مدرّس-متلقّ-معرفة) خاصة على طرق
التدريس وأداء المدرّس مع عدم إهمال الركنين الآخرين.
التعلّميّة (la Didactique)
-
اختصاص مرحلة ثالثة لا
يدخله إلاّ المجازون.
-
يهتم المختصّ في
التعلّميّة بتمشّيات "تعلّم" مادّة معيّنة فقط كاللغة أو التاريخ أو
البيولوجيا فهو بمثابة الطبيب المختصّ.
-
يسلّط المختصّ في
التعلّميّة الضوء في المثلّث التعلّمي (مدرّس – متلقّ – معرفة) خاصّة على طرق
التعلّم وأداء المتلقّي (تلميذ أو طالب أو متكوّن) وعلى نقد المعرفة المدرَّسَة في
علاقتها بتعلّم المتلقّي وأداء المدرّس.
مقارنة بين البيداغوجيا والتعلّميّة
-
يشتركان في الجمهور
المستهدف المتكون من رجال التعليم ونسائه و التكوين والتلامذة والطلبة ومصممي
البرامج وغيرهم.
-
يشتركان في جلّ
المفاهيم المستعملة مثل "تصوّرات المدرّسين" و"تصوّرات التلامذة
والأساتذة" و"العوائق الإبستومولوجيّة والنفسيّة" و"الصراع
الإجتماعي-المعرفي" (le conflit socio-cognitif)
و"الوضعية-المشكل" (la
situation-problème)
وغيرها.
-
يشتركان في العلوم
المرجعيّة مثل علم النفس وعلم الإجتماع وعلم الإحصاء والإبستومولوجيا وعلم التقييم
وتاريخ العلوم وغيرها.
-
يتصارعان على النفوذ
في الجامعة وفي وزارة التربية.
-
يتنافسان لكنهما
يتكاملان في رفع مستوى التعلّم والتعليم.
-
في بعض الأحيان يلتقي
الإختصاصان في شخص واحد مثل العالِمين الفرنسيّين جيوردان وأستولفي (Les
deux sont pédagogues et didacticiens à la fois).
حتّى أعرّف أكثر بـ" تعلّميّة المواد"، أعطي نبذة حول بعض المفاهيم التي يشتغل عليها هذا العلم الجديد:
-
تصوّرات المتلقّي (les
conceptions de l’apprenant): يأتي التلميذ أو الطالب إلى القسم وهو يحمل
تصوّرات غير علميّة في أكثر الأحيان حول موضوع الدرس : مثلا يعتقد أنّ النبتة
الخضراء تتنفّس عكس الإنسان والعلم يقول أن النبتة تتنفس مثل الإنسان, تأخذ
الأكسجين وتطرح ثاني أكسيد الكربون نهارا وليلا لكنها تقوم بوظيفة أخرى تسمى التركيب الضوئي (Photosynthèse) حيث تأخذ ثاني أكسيد
الكربون وتطرح الأكسجين بحضور الضوء. تنبثق هذه التصوّرات من التّفاعل الذي يقع
بين ما يحمله المتلقّي من معرفة وقيم وسلوكيات وبين ما يدرسه في المعهد.
-
العوائق (les obstacles): منها التصوّرات غير
العلميّة أو المعرفة العامّة البسيطة المكتسبة لدى المتلقّي والتي قد تعوق اكتسابه
لمعرفة جديدة. يبدو أنّ للعوائق ثلاثة
مصادر : العوائق الإبستومولوجيّة, مثلا العائق المتمثّل في الإعتقاد غير العلمي
القائل بتوريث الذكاء أو العائق غير العلمي القائل بثنائيّة البيولوجي والنفسي في
جسم الإنسان. العوائق التعلّميّة الناتجة عن المدرّس نفسه, مثلا عندما يغرس في
التلميذ معرفة غير علميّة كأن يقول له أن المخّ يسيّر أعضاء الجسم كما يسيّر قائد
فرقة موسيقيّة أفراد الفرقة. العوائق المتعلّقة بنمو الفرد منذ ولادته ومنها
الإعاقات النفسيّة-العضويّة.
-
تغيير التصورات من
تصور غير علمي إلى تصور علمي: وهو التحوّل
المرجوّ بعد التعلّم (le changement conceptuel).
-
الصراع
"الاجتماعي-المعرفي" (le conflit socio-cognitif): هو الصراع الذي يقع في مخ المتلقّي عندما يجد نفسه في وضعيّة
تعلّميّة أمام معرفة جديدة بحضور الأقران والمدرّس.
-
"الوضعية-المشكل"
(la
situation-problème) : وضعيّة تعلّميّة يتوفّر فيها كل مايحتاجه التلميذ. تُبنى فيها
اشكاليّة وعلى المتلقّي فكّ رموزها بمساعدة مدرّسه و/أو أقرانه وهذه الطريقة
تُعتبر ثورة على الطريقة التلقينيّة التقليديّة.
-
تحليل ونقد الكتب
المدرسيّة (l'analyse des manuels) : يحلّل المختص في التعلّميّة كل محتويات الكتاب
من نصوص وصور وبيانات. يهدف من بحثه الدقيق والمفصّل رصد كل ما قد يمكن أن يجرّ
المتلقّي إلى الخطأ أو يعيق عمليّة التعلّم لديه.
-
"إدراك عملية
الإدراك" (La Métacognition)
: تتمثل هذه العملية في التفكير في آليات
التفكير وفي معرفة أننا نعرف وفي اختيار الطريقة الأنسب لحل المشاكل، وكما قال
بيار قريكو: " لو أن الإنسان الذي يقول لا أعرف, عرف لماذا يقول لا, لكان
قادرا على تحديد نعم المستقبلية" أو كما يقول المثل الصيني المشهور " لا
تعطني سمكة بل علمني كيف أصطاد"
والسمكة في التعليم هي المعلومة وتعلّم الصيد هو "إدراك عملية الإدراك".
أثناء "إدراك عملية الإدراك" ينشط التلميذ ذهنيا وليس تطبيقيا وقد ثبت
أن هذا النوع من النشاط الذهني البحت يسمح بالوعي والشعور بالإجراءات والطرق
والسيرورات الذهنية الموظفة لحل المشاكل ويرسّخ اكتسابها.
عندما تهتم التعلّميّة بنقد
الأركان الثلاثة للمثلّث التعلّمي (مدرّس ومتلقّ ومعرفة) فهي قد تستعدي بعض
الأطراف دون قصد منها ممّا قد يجلب لها
عداوة شرسة غير شرعية وغير علمية (تلامذة ومدرّسون وأولياء ومؤلّفو كتب مدرسيّة
ومصممو برامج ومتفقّدون وسياسيون).
يبدو للمختصين في التعلمية
أنّ الدراسة الأكاديميّة لـ" التعلّميّة " ضروريّة لممارسة مهنة المدرّس
في التعليم الإبتدائي والثانوي والجامعي, كلّ في اختصاصه. يتفرّع علم
"التعلّميّة" لعدّة اختصاصات مرتبطبة بالموادّ المدرجة في برنامج
التعليم أو التكوين مثل تعلّميّة
البيولوجيا, تعلّميّة الفرنسيّة, تعلّميّة الرياضيّات, تعلّميّة العربيّة,
تعلّميّة الفيزياء والتكنولوجيا, تعلّميّة التربية البدنيّة, تعلّميّة التاريخ,
تعلّميّة الجغرافيا. في النهاية, أستسمج أصحاب التفكير الديكارتي الصارم في
التعبير عن شعوري الذّاتي نحو علم
"التعلّميّة" : أنا عشقت هذا العلم الذي أمضيت في دراسته سبع سنوات من عمري بين جامعة تونس وجامعة كلود
برنار بفرنسا صحبة زملاء وزميلات من أروع ما يكون. فتح لي هذا العلم أبواب المعرفة
على مصراعيها وحرّرني من سجن العلوم التجريبيّة فاندفعت أسبح في العوالم الرحبة
للعلوم الإنسانيّة الراقية مثل تاريخ
العلوم والابستومولوجيا وعلم النفس وعلم الإحصاء وعلم التقييم وعلم المناهج وعلوم
التربية. عشت خلالها جلسات صوفيّة من اللذّة الذهنيّة في حضرة علماء ميتين، احتلوا
فيّ الشرايين والخلايا. ماتوا ولكن أعمالهم لم تندثر من أمثال العالم
"بياجي" مؤسّس "علم النفس المعرفي" (La
psychologie cognitive) وعلم
"إبستيمولوجيا النمو عند الطفل" (l'épistémologie génétique de l’enfant) ومخترع مفهوم "البناء التدريجي والمعقّد
للمعرفة لدى الطفل" (le constructivisme) والعالم
"فيقوتسكي" (عالم النفس والبيداغوجيا وصاحب نظريّة "المنطقة الأقرب للنمو
الذهني" (La ZPD: Zone Proximale de
Développement)
والعالم "باشلار" مكتشف مفهوم
"القطيعة الإبستومولوجيّة" في تطوّر العلوم (La rupture épistémologique).
أتمتّع اليوم بصداقة علماء
أحياء من أمثال "بيار كليمان" (المشرف الفرنسي على أطروحتي) من جامعة كلود برنار و"أندري
جيوردان" مؤلّف ثلاثين كتابا والحامل للشهائد من كل زوجين اثنين (2 إجازة و2
دراسات معمّقة و2 دكتورا) وكان أول مدير يخلف بياجي على رأس مخبر ابستومولوجيا
وتعلميّة العلوم بجامعة جنيف في سويسرا.
أسفي الوحيد أنّني تحصّلت على
الدكتورا في الخامسة والخمسين من عمري لأسباب يطول شرحها والباحثون في العلم يعرفون
أنّ هذه الشهادة العليا في التعليم ليست إلا بطاقة دخول لعالَم البحث العلمى.
محور 1
حول التعليم في
تونس
التعليم في تونس: هل هو هرم مقلوب؟
استوحيت هذه الخواطر
من معاناتي في القسم كأستاذ تعليم ثانوي في ضواحي تونس. كنتُ أدرّس علوم الحياة
والأرض بالفرنسية للسنة الأولى من التعليم الثانوي. في الثلاثي الثاني من السنة
الدراسية 2009-2010, طلبتُ من تلامذتي واجبا منزليا يتمثل في انجاز تمرين عدد 3
صفحة 73 من الكتاب المدرسي الوحيد بعد ما شرحتُ لهم كتابيا في القسم تمرين عدد 1
صفحة 62 من نفس الكتاب. تشجيعا وترغيبا لهم و رفعا لمعنوياتهم المتردية لتدني
معدلاتهم في علوم الحياة و الأرض في الثلاثي الأول, وعدتهم بإسناد 20 على 20 في
فرض الأشغال التطبيقية لكل تلميذ يقوم بواجبه المنزلي، نعم وللأسف الشديد يقوم بواجبه
المنزلي فقط. في الحصة الموالية, وكما هو منتظر في هذا الزمن الردئ، لم يقم
بالواجب إلا 36 تلميذا من مجموع 180 تلميذ (عدد تلامذتي في ستة أقسام). لم يتفطن
إلا تلميذ واحد منهم (صاحب معدل 17 من 20) أن التمرينين, المشار إليهما أعلاه,
متشابهان تماما. قلت لهم معاتبا: لن تجدوا أستاذا يشجعكم ويرغّبكم في العمل أكثر
مني ولن أجد أنا, تلامذة أذكى منكم في الضرر بأنفسهم.
لماذا
لا يعمل التلميذ التونسي؟ هل هو كسول بطبيعته؟ لماذا يلجأ التلميذ التونسي إلى
العنف اللفضي وفي بعض الأحيان المادي؟ لماذا يلجأ التلميذ التونسي إلى الغش؟ هل هو
عنيف بطبيعته؟ هل هو غشاش بطبيعته؟ هل هو المسؤول الوحيد على عنفه وغشه وتردي
مستواه التعليمي؟
هل الأساتذة يفهمون أن تلامذتهم لا
يفهمون؟
أغلب
الأساتذة مجازون في اختصاصاتهم، فهم إذن يملكون معرفة علمية جامعية، لكن أغلبهم
أيضا لم يتكونوا في علوم التربية وعلى سبيل الذكر لا الحصر، أذكّر ببعضها:
البيداغوجيا، الديداكتيك، الإبستمولوجيا، علم نفس الطفل، علم التقييم، علوم
التواصل، علوم الحاسوب، تاريخ العلوم، معالجة الصورة وتفسيرها، إلخ.
هل
الوزير مطّلِعٌ على المستوى العلمي الصحيح للتلميذ؟
هل
الدولة تستشرف مستقبل التعليم في تونس؟
تخصّص
الدولة ميزانية ضعيفة جدا للمرحلة الأولى من التعليم الابتدائي، أول مرحلة من
التعليم الأساسي: أقدم لكم هذا التقرير التقريبي في أكثر المدارس الابتدائية:
أقسام مكتظة, تلامذة لا يلعبون الرياضة, لا يستعينون بالحاسوب, لا توجد مخابر
ووسائل إيضاح ومجسّمات لتدريس العلوم, لا يوجد معلم مختص في مجال معين, لا توجد في
بعض المدارس آلة ناسخة ولا أنترنات ولا قاعة معلمين ولا بيت راحة للمعلمين, لا
يوجد مقياس علمي للنجاح فالارتقاء أصبح تقريبا آليا. ألغِي امتحان
"السيزيام", الغربال الوحيد في الابتدائي. ينجح التلميذ إلى السابعة
أساسي وهو لم يتملّك بعدُ كفاءات الابتدائي الأساسية الثلاث وهي التعبير الشفوي
والتعبير الكتابي بالعربية والفرنسية والحساب. يفشل أكبر عدد من التلامذة في السنة
الأولى إعدادي (أو السابعة أساسي) لعدم تأهيلهم في الابتدائي لهذه المرحلة.
ترتفع
ميزانية المدرسة الإعدادية والمعهد كثيرا بالمقارنة مع المدرسة الابتدائية لكن يُصرف
أغلبها في استهلاك الإضاءة والماء والطباشير والطباعة وتسخين مكاتب الإداريين. ألغِي
امتحان "النوفيام", الغربال الوحيد في الإعدادي. ينجح التلميذ إلى
الأولى ثانوي فيتعرض لأول عائق تعلمي (Obstacle didactique: obstacle
créé par le systeme éducatif lui-même) ألاَ وهو تدريس كل المواد
العلمية بالفرنسية بعد ما كان يدرسها بالعربية طيلة تسع سنوات تعليم أساسي.
في السنة الأولى ثانوي,
ألاحظ أن النجاح الآلي وتدريس العلوم بالعربية أوصل إلينا أكثرية من التلامذة لا
يستوعبون الدرس باللغة الفرنسية ولا
يفهمون منه شيئا وفي هذه الحالة يلجأ بعضهم إلى تعطيل سير الدرس والتشويش والعنف
والغش الواضح والفاضح والوقح حتى يفرضوا أنفسهم في القسم. هنا يندرج تشكي الأساتذة
من عنف وغش تلامذتهم ويتهمونهم بشتى التهم من غباء وعدم تربية وقلة انضباط
واستهتار بالقيم. أنا لا أنزّه التلميذ بل أحاول فقط تسليط نظرة شاملة على المشكل
وقد تبين لي أن التلميذ ضحية ومسؤول في نفس الوقت. التلميذ هو نتاج ما صنعت أيدينا
من سياسة تربوية فاشلة سَنَّها وطبقها كهول وليس مراهقين, فقبل أن نلوم التلميذ
والولي, علينا إذن أن ننقد أنفسنا ووزارتنا والمبرمجين والمتفقدين والإداريين. أنا
لا ألوم تلميذا لم يتأقلم مع هذا الوضع السيئ.
بقي
امتحان "الباكلوريا" شكليا وألغِي فعليا وذلك باحتساب المعدل السنوي بنسبة الـ25%
في معدل النجاح في الباكلوريا. قد يتحصل التلميذ عل شهادة "الباكلوريا"
بـ 8 معدل فقط في الامتحان الرسمي، لكن مع احتساب المعدل السنوي بنسبة الـ25% في المعدل النهائي للنجاح في الباكلوريا، قد
يصل إلى معدل 9 من 20 مما يؤهله للنجاح بالإسعاف. يرتقي التلميذ إلى الجامعة وهو
لم يستعد لها علميا تمام الاستعداد في الثانوي. في باكلوريا 2015، ألغِيَ العمل بهذا
النظام الجيد في أهدافه والسيء في تطبيقاته.
ترتفع،
على حد علمي، ميزانية الجامعة كثيرا بالمقارنة مع الابتدائي والإعدادي والثانوي
لكن للأسف فهي لا تُنفق في البحث العلمي وتجهيز المخابر. رغم بناء عشرات الكليات
والمعاهد العليا في كل الولايات التونسية، ما زالت جامعات السبعينات تستوعب بنفس
الفضاءات آلاف الطلبة في 2010 ككلية العلوم وكلية الحقوق وكلية الهندسة بالمركب
الجامعي وكلية 9 أفريل بتونس العاصمة.
خلاصة القول
حسب
وجهة نظري المحدودة جدا كغير مختص في تقييم أداء وزارة التربية, أرى أن فشل
التلميذ التونسي في الدراسة مسؤولية يتحملها البنك العالمي والوزير والمدير
والأستاذ والمعلم والولي والتلميذ. تهتم الدولة بالتعليم الجامعي أكثر من اهتمامها
بالثانوي والإعدادي والابتدائي. حسب اجتهادي المتواضع, لو عكست لأصابت، أي عليها
أن تهتم أكثر بالمرحلة الأساسية.
سُمّي
التعليم الابتدائي تعليما أساسيا لأنه يمثل قاعدة الهرم ونقط ارتكازه. توفر الدولة
لتلامذة الثانوي أساتذة أصحاب شهائد عليا
وتجهز القاعات ببعض الحواسيب وبعض السبورات البيضاء وبعض وسائل الإيضاح وتبخل بكل
هذا على تلامذة الابتدائي وهم أحوج الناس لمثل هذه القدرات ولمثل هذه التجهيزات.
في أمريكا يطالَب المعلم بشهائد أعلى من شهائد الأستاذ. إذا أهملنا التكوين في
الابتدائي فلا نستطيع تدارك الخطأ في الثانوي لأن التصورات غير العلمية التي
رسخناها في أذهان التلاميذ لن تزول بسهولة لكن إذا أكسبنا التلميذ مهارات متعددة
وكفاءات علمية في الابتدائي فبإمكاننا أن نظيف ونبني على أساسها المتين في الثانوي
والجامعي وإلا نكون كمن يبني عمارة على الرمال المتحركة.
أذكّر دائما بمثال التعليم في
كوريا الجنوبية أين استقر الهرم التعليمي وثبت على قاعدته العريضة فدولتهم عكس
دولتنا تخصص ميزانية اكبر للتعليم الأساسي. نهضت كوريا الجنوبية وأقلعت في ظرف
عشريتين فقط وأصبحت من الدول المتقدمة بعد ما كانت تصنف كثالث أفقر دولة في
العالم. حققت نجاحا بفضل استثمارها الوطني في التعليم والعبرة لمن يعتبر.
أريد
أن أوضّح لجل القراء الأعزاء أنني, و إن كنت ضد الارتقاء الآلي وضد توسيع ثقوب
الغرابيل في الامتحانات, لست مع الرسوب المجاني ولا أؤيد سياسة الانتقاء المجحفة.
تابعت أخيرا برنامجا تلفزيا مهمّا, بالفرنسية طبعا, لأن كل البرامج بالعربية
تقريبا تشترك في اللغة واللسان الخشبيين. يتحدث هذا البرنامج عن المدرسة
"الفنلندية" حيث لا يرسب التلاميذ ومع ذلك حققت نجاحا باهرا بفضل الدعم
والتشجيع الفعال للتلاميذ المحتاجين لذلك. أما المدرسة "الفرنسية" حيث
يرسب 50 في المائة من التلامذة خلال مسيرتهم الدراسية, عاما واحدا على الأقل
[والعهدة على الراوي], وهي أسوأ المدارس في أوروبا ورغم ذلك نعتبرها قدوتنا وقبلتلنا.
كنا في السبعينيات، نحن الأساتذة النقابيون
نعارض سياسة الانتقاء التي طغت آنذاك في تونس و حَرَمَت العديد من أبنائنا
من مواصلة تعليمهم واليوم نعارض النجاح الآلي الذي أراه سببا للعنف والتسيب في
معاهدنا بجانب أسباب أخرى من بينها تردي القدرة الشرائية لدى المدرس وتدني التمويل
الحكومي في التعليم العمومي. أنا لا أملك البديل التربوي لهذه السياسة الديمقراطية
في ظاهرها والفاشلة في داخلها ولا أملك أيضا البديل البشري لتعويض جمهور الأساتذة
والمعلمين غير المؤهلين للقيام بواجبهم (لا أستثني شخصي طبعا رغم اجتهادي العصامي
لتكوين نفسي علميا وثقافيا) وعلى سبيل الذكر لا الحصر أذكّر ببعض عيوب تكويننا: لم
نتلق تكوينا أكاديميا في علم نفس الطفل ولا في علم التقييم ولا في علوم التواصل
ولا في الأبستمولوجيا (أو فلسفة المعرفة أو معرفة المعرفة أو نقد المعرفة) ولا في تاريخ
العلوم والبيداغوجيا ولا في التعلمية (إبستمولوجيا التعليم أو الديداكتيك) ولا في
المنهجية ولا في إدراك عملية الإدراك, فكيف تطلب منا النجاح في مهمتنا ونحن لا
نفقه منها إلا الجانب المعرفي وهذا لا يكفي. البنك العالمي و زمرة الخبراء
والمبرمجين لا يملكون البديل أيضا ولن يستطيعوا استنباطه لوحدهم مهما استعانوا
بخبراء أجانب مرتزقة مأجورين.
مهما
نقدتُ زملائي ونقدت نفسي فلن نستطيع أن نستغني عن الخبراء الحقيقيين, أعني الفلاسفة
والمختصين في علوم التربية والأولياء والمعلمين والأساتذة والتلامذة وقد يتعلم
الإنسان الوطني الصادق من أخطائه وأخطاء الآخرين ويتطور نحو الأفضل.
أوجه
ملاحظة أخيرة إلى بعض القراء الذين قد يلومونني على إغفال بعض الجوانب أو عدم ذكر
بعض الأسباب: كل علم وكل خطاب هو علم أو خطاب مُختزَل (Réduit) بطبيعته لأنه ينظر إلى المسألة
المعقدة والمتشعبة (التعليم مثلا) من زاويته الدقيقة والضيقة. لذلك أرى أن
المقاربة الشاملة (Approche
systémique) هي أفضل من المقاربة
التحليلية (Approche analytique) في تناول أي مسألة مهما كانت
بسيطة. يبدو لي أنه من الأفضل تضافُرُ كل العلوم مجتمعة وتكاملها لتوضيح أي أي
ظاهرة وتفسيرها. لذلك أطالب بتكوين شامل للمدرس ولا نقتصر على المعارف فقط (Les connaissances) بدعوى حياد العلم والعلم لم يكن ولن يكون يوما محايدا بل علينا أن
نركز أيضا على القيم (Les valeurs)
والممارسات الاجتماعية المرجعية (Les
pratiques sociales de référence).
لم يكن العلم يومًا محايدا ولن
يكون، مثله مثل صانعيه العلماء البشر. تهتم برامج تعليمنا في كل مراحله بالمعرفي
النظري أكثر من اهتمامها بالتطبيقي لأن التكوين النظري لا يكلف الدولة كثيرا وتركز
على تلقين المعارف وتهمل تدريس القيم الإنسانية
ولا تثمن السلوكات الاجتماعية المدنية السليمة.
هذا ما كنتُ أقوله لتلامذتي في الحصّة الأولى؟
أطرح
عليكم هذا الاجتهاد الشخصي حول طرق التدريس و أعرضه عليكم للنقد لأن النقد يصقل
ويطور الفكرة أما الشكر فهو يخدّر العقل ويقتل الإبداع.
في الحصة الدراسية الأولى في أول
السنة، أقول لتلامذتي ما يلي:
أهلا
وسهلا بكم في قسمكم ومعهدكم وأتمني لكم عاما سعيدا سوف يتوج بالنجاح إن شئنا وشاء
الله وعملنا وتعاونا لتحقيق ذالك.
بعد
التحية, أعرّف بنفسي: أنا أستاذ علوم الحياة والأرض, عينوني منذ 37 سنة أستاذا
لتدريس هذه المادة ومنحوني بكل مجانية "ترخيصا للتدريس مدي الحياة دون قيد أو
شرط" ولا زلتُ أمارس هذه المهنة بكل رغبة في العلم ولذة في التدريس. آليت علي
نفسي أن أحسّن مستواي العلمي والبيداغوجي والتعلمي، لذلك لا زلتُ حتى اليوم أتعلم مثلكم وأتعلم منكم أيضا وأنا علي قاب قوسين أو أدنى
من التقاعد.
نمر
الآن إلي المهم وهو "العقد التعلمي" (Contrat didactique) الذي يربط بيني وبينكم وهو عقد ضمني غير مكتوب ومسكوت
عنه للأسف من جل مدرسي الابتدائي والثانوي والعالي.
سأحاول شرح هذا العقد حتى تتبين الحقوق
من الواجبات
v سنبدأ ببعض الحقوق التي كفلها لكم القانون ولا تتمتعون
بها فعليا إما لِتقصير منكم أو بسبب تعسف غيركم:
§
أولا، حقكم في الاحترام الكامل من قِبل المدرس والإدارة والعملة، يعني
ممنوع اللمس والضرب والسب والشتم والإقصاء المجاني وتخفيض العدد والتدخل في الشؤون
الخاصة والتشهير بالأخطاء.
§
ثانيا حقكم
في فهم الدرس حتى وإن أدى الأمر إلي ساعات إضافية مجانية دون تأخير في البرنامج.
§
ثالثا حقكم في نقاش العدد الذي يسند إليكم ومقارعة الحجة بالحجة ومراجعة
الأستاذ بكل أدب ولياقة.
v وعليكم أيضا بعض
الواجبات:
§
أول واجب هو احترام المدرس وليس تقديسه لأنك لو لم تحترم المدرس فلن تتركه
يقوم بواجبه ولن تستفيد من علمه، ولو قدسته فلن تستفيد أيضا لأنك ستصدق كل ما
يقوله وأنت مسلوب الإرادة. العلم لا يطلب التقديس بل يطالب بالنقد فهو مبني علي
الخطأ والصواب ويعرض نفسه للدحض والتكذيب ولكن لن يقوم بهذه المهمة الأخيرة الصعبة
إلا الراسخون في العلم من عباقرة العلماء.
§
ثاني واجب هو عدم التأخر في الحضور وعدم تعطيل سير الدروس والانتباه لكل ما
يقوله الأستاذ أو التلاميذ المتدخلون في القسم.
§
الواجب الثالث هو مراجعة الدروس في المنزل ليس لأن المدرس كلفك بها فقط بل
لأن المعلومات لا تُفهم ولا تستقر في الذاكرة إلا بالمراجعة والهضم المعرفي الشخصي
المتأني والقيام بالتمارين واعلموا أن الذكاء يُكتسب ولا يُورّث.
v أتطرق الآن إلى طريقتي الخاصة في العمل والتعامل مع تلامذتي
وهي طريقةٌ وليدةُ تجربةٍ وعلمٍ، حيث أقول لهم:
§
لن أستعمل سلاح العقوبات المدرسية التأديبية مهما فعلتم حتى وإن وصل الأمر لا
قدّر الله إلي التعرض لي في الشارع رغم إيماني الراسخ بأن انعدام الانضباط في
المعهد قد يمثل صورة من صور إهمال تربية التلميذ. اشطبوا إذا بالأحمر كلمة "
عقوبة" معي أنا علي الأقل، أنا لستُ مسؤولا عما يأتيه زملائي ولا عن الإدارة
ولا عن الوزارة. إن موقفي هذا من العقوبة ليس نتيجة طيبة أو كرم مني بل هو موقف مبدئي
علمي مبني علي اطلاع - نسبيا واسع - علي تجارب تربوية في مجتمعات أخري راقية
كالبلدان الأسكندنافية. وكلامي هذا لا يعني البتة التشجيع علي التسيب لهذا سأقترح
عليكم بعض الإجراءات، إن وافقتم عليها فستقوم مقام القانون بيننا: يُقصي من القسم
كل تلميذ يعطل سير الدرس ولا يستجيب
لتحذيرات المدرس المتكررة وكل من يقل أدبه علي زميله أو علي المدرس والحكمة من هذا
الإجراء هو حماية الأكثرية من أخطاء الأقلية وتجنيب التلامذة الوضعيات غير
الحضارية وغير التربوية كالمواجهة الكلامية بين المدرس والتلميذ في القسم. بعد إقصاء
التلميذ المعني قد يهدأ المدرس ويواصل درسه وقد يهدأ التلميذ خارج القسم. فإذا كان
المدرس مخطئا، يدعو التلميذ إلي الرجوع للقسم ويعتذر له أمام الملأ وإذا كان
التلميذ مخطئا، يرجع للقسم بعد دقائق ويطلب العفو من المدرس ويواصل التعلّم. يُسند
واحد علي عشرين لكل مَن يُضبط في محاولة أو عملية غش في الامتحان لأن هذا الأخير قد
يتفوق علي زملائه دون وجه حق لو أسنِد له عدد مرتفع لا يدل على مستواه العلمي
الحقيقي وقد يعلمه هذا السلوك غير التربوي الكسلَ والاعتماد على الحيلة لتحقيق
النجاح. ولن أحيله على مجلس التربية لئلا يُعاقب على جرم دفعته إليه الظروف
المحيطة على ارتكابه مثل الضغوطات الخارجة عن نطاقه كاكتظاظ القسم أو كثافة
البرنامج أو عدم ملائمته لاهتمامات التلميذ.
§
سأقترح عليكم بعض الأدوات المدرسية وأترك لكم حرية اختيار النوعية الغالية منها
أو الرخيصة حسب إمكانياتكم المادية إلا الكتاب المدرسي الرسمي فهو إجباري وضروري
وسنستعمله في القسم و في المنزل للاستفادة من المعلومات والتمارين الموجودة فيه
ولَكَم تمنيتُ لو كان الكتاب اختياريا ومتنوع النُّسَخ في المستوى التعليمي
الواحد، لكي يختار القسم نسخة مثل ما هو موجود في البلدان المتقدمة.
§
لاحظتُ في السنوات الماضية مستوي متواضعا في اللغة الفرنسية لدي تلاميذ
السنة أولى الثانوي بسبب التعريب الكامل في التعليم الأساسي [في تونس يدوم التعليم
الأساسي تسع سنوات من الأولى أساسي إلى التاسعة أساسي يعني مرحلة الابتدائي ومرحلة
الإعدادي, يدرس التلامذة خلالها الرياضيات و الفيزياء و التقنية و علوم الحياة و
الأرض باللغة العربية] لذلك ألفتُ انتباهكم إلي أهمية هذه اللغة في تكوين مستقبلكم
الدراسي والدليل أنكم في مرحلة الثانوي تدرسون بالفرنسية الرياضيات والفيزياء
والكيمياء والتقنية وعلوم الحياة والأرض والإعلامية وفي مرحلة الجامعة سوف تدرسون بالفرنسية أيضا الطب والهندسة
والطيران وكل الشعب العلمية دون استثناء. لا تتجاهلوا إذن اللغة الفرنسية لأن لا
يتجاهلكم العلم الحديث. وأحسن طريقة لتحسين مستواكم فيها هو استعمالها في القسم
وخارج القسم. لا تغفلوا أيضا عن تعلم اللغة الأنقليزية فهي اللغة العالمية الأولى.
أما اللغة العربية فهي هويتكم ولغتكم الأصلية وأوصيكم بها خيرا لأن اللغة يفرضها
رجالها ونساؤها وتقدم بلدانها وتراثها.
§
أرى أن "خطأ التلميذ في القسم" أصبح يُعتبر إيجابيا وهو محرك الدرس.
كان وضع الخطأ سلبيا في المنظومة التربوية القديمة وأصبح اليوم إيجابيا. فكلما
أخطأ التلميذ أكثر، استفاد هو وزملاؤه أكثر، ونجح الدرس أكثر.
§
أما تقييم الامتحانات فيخضع إلى ضوابط علمية : لديكم ثلاثة فروض كل ثلاثة
أشهر, فرض في الأشغال التطبيقية داخل القسم وفرض مراقبة بنصف ساعة يحتوي علي أسئلة
مباشرة حول الدروس الثلاثة الأخيرة وفرض تأليفي في آخر الثلاثي يتكون من أسئلة تخص
الذاكرة والفهم والرسم والملاحظة وخاصة توظيف المعلومات والتأليف بينها.
§
أرى أن من حق
التلميذ المطالبة بمقياس الإصلاح في بداية الامتحان حتى يستفيد منه أثناء الإجابة على
الأسئلة وعند إصلاحها بعد الفرض.
§
يوجد -كما تلاحظون داخل القاعة- مخبر إعلامية خاص بعلوم الحياة والأرض، وهو
الوحيد في المدارس الإعدادية والمعاهد غير النموذجية في الجمهورية التونسية.
سنحاول استغلال الحاسوب والاستفادة من
مزاياه المفقودة عند المدرس وفي الكتاب المدرسي التونسي وهي كثيرة نذكر
منها علي سبيل الذكر لا الحصر : الحاسوب
لا يضرب ولا ينهر. الحاسوب لا يتعب ولا يكل ولا يمل من الإعادة والتكرار. الحاسوب
يوفر أستاذا افتراضيا تحت الطلب في المعهد
والشارع والمنزل وفي القطار إن شئتم. يوفر أستاذا افتراضيا يختاره التلميذ التونسي
من تونس أو من الصين. الأستاذ الافتراضي في الحاسوب يملك من المعلومات ما لا يملكه
كل أساتذة العالم مجتمعين. يقدم الأستاذ الافتراضي في الحاسوب صورا علمية تفوق ألف
مرة في الدقة والوضوح والألوان ما يقدمه الكتاب المدرسي التونسي الوحيد والإجباري.
الأستاذ الافتراضي يجعل القلب ينبض في الحاسوب أمام أعينكم ويُحيِي افتراضيا
العظام وهي رميم فتري الديناصور يقفز ويطير.
سلوكيات بيداغوجية بسيطة ساعدتني كثيرا في التدريس
ملاحظة: لقد سبق لي ونقدتُ أدائي كمدرس في مقالات تربوية سابقة
واليوم أعرض على زملائي الجدد بعض السلوكيات البيداغوجية البسيطة التي ساعدتني
كثيرا في التدريس (خاصة في السنوات 1992-2011 التي قضيتها بمعهد برج السدرية).
1. كنتُ أدرّس في مخبر
مجهز بعشرة حواسيب وسبورة خضراء بالطباشير وأخرى بيضاء بالقلم الجاف (Tableau magique).
ردًّا على ادعاءات بعض الزملاء: لم أحتكر هذه القاعة لنفسي وهل أقدر حتى ولو
أردتُ؟ مخبر العلوم الأول والوحيد والأخير -على حد علمي- في الجمهورية التونسية،
وفره لي وزير التربية السابق منصر رويسي سنة 2002 وحكايتي معه تجدونها مفصّلة على
صفحات هذا الكتاب.
2. هذه القاعة-المخبر
كانت نوافذها البلورية مطلية باللون الأزرق لحجب الرؤية عن الساحة المجاورة مما قد
يساعد التلاميذ على التركيز في الدرس.
3. كنتُ أفتحها بالمفتاح وكنتُ
أول مَن يدخلها وآخر مَن يغادرها ثم أغلقها بالمفتاح ولذلك كانت أنظف قاعة
بالمعهد.
4. كنت دومًا أحمل في
محفظتي الطلاسة والطباشير والأقلام اللبدية (stylos-feutres)
ومنديلا أمسح به الكرسي والمكتب ولم أبعث يومًا تلميذًا يفتش على أدوات عملي في
الإدارة أو قاعة الأساتذة.
5. بعد راحة العاشرة
صباحًا أو راحة الرابعة مساءًا، كنت دومًا ألتحق بقاعتي دون تأخير، أنا وبعض
الزملاء.
6. كنت أستاذا جديًّا،
والطبع غلاّب، وهذا لا يُعتبرُ شكرًا عند لدى مَن يفقه البيداغوجيا الحديثة.
7. كنت لا أطالب بمثول
التلميذ المخطئ في حقي أمام مجلس التأديب إلا مرة واحدة وهي التالية: تلميذ سب
الجلالة في قاعة الدرس ثم غادر مقعده ورفع كرسيّا في وجهي وكاد أن يضربني به لولا
تدخل زملائه الذين أخرجوه من القاعة. ذنبي أنني طلبتُ منه غلق النافذة لتجنب
الضوضاء السائدة في الساحة أيام الثورة فلم يستجب. قلتُ له: "هذا سلوك
متخلف". رُفِتَ نهائيا من المعهد والتحق بمعهد حمام الأنف القريب من معهدنا.
8. كنت لا أسْنِدُ صفرا لأي تلميذ. كنت أعاقب
مرتكب عملية الغش بإسناد عدد واحد على عشرين ولم أكتب يومًا تقريرًا في تلميذٍ غشّاشٍ
اقتناعًا مني بأن للغش حلول علمية وليست تأديبية.
9. كنت لا أدخّن ولا أستعمل جوّالي أثناء الدرس
وأطالب تلاميذي بنفس السلوك. أمنحهم خمس دقائق راحة غير رسمية في التاسعة لكي
يهاتفوا مَن يشاءوا أو يأكلو ما يشاؤوا أو يذهبوا إلى دورة المياه إن شاؤوا.
10.
كل هذه السلوكيات البسيطة
أتت أكلها مع جل تلامذتي و
ساعدتني كثيرا في التدريس.
مشروع بيداغوجي شخصي واعد ، شرعت في تنفيذه في مدرسة
خاصة وللأسف الشديد لم يكتمل !
المكان: مدرسة مونتيسوري الدولية بحمام الأنف.
الزمان: دامت التجربة شهرين، فيفري ومارس 2015.
الخطة التي شغلتها في هذه المدرسة النموذجية: مدير
بيداغوجي.
فكرة المشروع البيداغوجي الشخصي الواعد
"مَن
تَعَلَّمَ نَقَصَت تَبَعيتَه." بونوا بونيكو، الرائع في بساطته، زاد للنشر،
1989.
“Apprendre est une diminution de la dépendance.”
Benoît Bunico, Le Merveilleux dans sa banalité, Z`Editions, 1989. (André Giordan, Apprendre !,
Belin, 1998, p. 75).
فكرة المشروع البيداغوجي الشخصي الواعد تحمل عنوانا:
"التكوين البيداغوجي الذاتي المبنِي على البحث العلمي الميداني (Recherche-Action)"، وهو مجال بحثٍ علمي مهمل بل مغيّب تماما في التعليم التونسي العمومي
والخاص داخل المدارس والإعداديات والثانويات ومراكز التكوين المهني وخاصة في
الجامعات حيث تغيب بيداغوجيا المدرسة البنائية الاجتماعية (Le socio-constructivisme de Vygotsky et Piaget)
وتحضر مكانها بيداغوجيا المدرسة
السلوكية (Le béhaviorisme de Watson et Skinner ) فتسود المحاضرات الفوقية (Cours magistral).
يبدو لي أن مجال البحث العلمي الميداني لم يأخذ حظه من ميزانية الدولة للبحث
العلمي مثل ما حصل في مجالَيْ البحث العلمي الأساسي (
Recherche Fondamentale certifiée par un Master ou un Doctorat)
والبحث العلمي التطبيقي (Recherche appliquée certifiée par un Master
professionnel sans une issue vers un Doctorat).
انطلقت
الفكرة من الملاحظة البديهية التالية التي استقيتها من تجربتي كأستاذ في التعليم
العمومي لمدة ثمان وثلاثين سنة: لاحظت وجود تهميش مبيّت لدور المدرس التونسي في
عملية التكوين البيداغوجي وأوكَلت وزارة التربية مهمة التكوين لمتفقدين غير مختصين
في علوم التربية وأخص بالذكر منهم المتخرجين قبل تأسيس معهد تكوين متفقدي
الابتدائي والثانوي بقرطاج. لاحظت أيضا تغييب المعلم وأستاذ الثانوي في بلاتوهات
الفضائيات التي تناقش إشكاليات النظام التربوي التونسي وتعويضهم بخبراء وأساتذة
جامعيين لم يمارسوا التدريس في التعليم الأساسي ولا الثانوي مع التذكير أن أهل مكة
ليسوا دائما أدرى بشعابها ومدرّسونا اليوم للأسف ليسوا أعلم بإشكاليات التعليم
والتربية. تعامِل وزارتنا الموقرة مدرّسيها وكأنهم قُصّر غير قادرين على تقديم
حلول علمية للنهوض بقطاعهم التربوي. تفتقد الوزارة لمؤسسة تُعنى بالبحث العلمي
الميداني.
محاولة شخصية مني ودرءًا لهذا النقص الفادح، ارتأيت أن
أحمّل مسؤولية التكوين البيداغوجي في
مدرسة مونتيسوري الدولية بحمام الأنف للمربين العاملين فيها
دون انتظار الوصفات الجاهزة للسادة المتفقدين غير المختصين في علوم التربية أو
محاضرات الأساتذة الجامعيين غير المختصين أيضا في علوم التربية. نجحتُ في تنظيم
أول ملتقى في طريق تحقيق أهداف هذا المشروع وذلك يوم الاثنين 16 مارس 2015، حضره
جل مربي المدرسة حيث ألقى ثلاثة منهم ثلاث محاضرات متبوعة بنقاش. على سبيل الذكر
لا الحصر، أسرد عليكم بعض أهداف التكوين الذاتي: يُدرَّب المدرس على اكتساب بعض المهارات
والسلوكات المفيدة في مهنته مثل مواجهة الجمهور، وتحسين الإلقاء، ومقارعة الحجة
بالحجة، وقبول الرأي الآخر، والتدرّب على استعمال الوسائل التكنولوجية الحديثة (Les
T. I. C. E.) والاستفادة من فوائدها
في عملية التعلّم، واكتساب مَلَكَة النقد العلمي الهدّام بطبيعته للتصورات غير
العلمية السائدة في نظامنا التعليمي المهزوم والمأزوم من أجل البناء العلمي على
قاعدة علمية صلبة.
للأسف الشديد لم تُتَح لي
فرصة مواصلة مشروعي وأوقِفت عن مباشرة العمل في المدرسة لأسباب خارجة عن صلاحيات
الأسرة التربوية المونتيسورية بحمام الأنف بما فيهم باعث المدرسة نفسه والذين أحمل
عنهم انطباعا أوليا ممتازا ( Ma première
impression est bonne, mais attention : « il faut se méfier de la
première impression »): في قانون وزارة التربية التونسية لا توجد خطة اسمها "مدير
بيداغوجي" لذلك دعاني الباعث لطلب ترخيص من الإدارة الجهوية للتعليم ببنعروس
لتسميتي رسميا كمدير للمدرسة (ثمانية أقسام ابتدائي وقسمان إعدادي) مع الإشارة
أنني لا أرغب ولا أصلح لشغل مثل هذا المنصب الإداري غير البيداغوجي المتعب وقد سبق
وتحصلت عليه مرتين في التعليم العمومي، مرة قبل الثورة وأخرى بعد الثورة وقدمت
استقالتي في المرتين، حصل ذلك بعد التسمية وقبل التنصيب. رُفض مطلبي للسبب الوجيه
التالي: سبب قرأته بنفسي في كراس الشروط للمدارس الخاصة المنشورة على النت والتي
تشترط في المدير أن يكون معلِّما قد مارس التعليم في مدرسة ابتدائية عمومية على
الأقل لمدة خمس سنوات. من سوء حظي لا يتوفر فيّ هذا الشرط المعقول جدا، لذلك أنا
أجهل تماما مشاكل التعليم الابتدائي وقد اكتشفت خلال شهرين أنها تمثل عالَما
مستقلا بطقوسه، عالَما لا يعرفه أستاذ التعليم الثانوي في علوم الحياة والأرض من
أمثالي، حتى لو كان حاصلا على شهادة الدكتورا من جامعة كلود برنار بليون 1 في علوم
التربية ومتخرج حديثا سنة 2007 ودرّس طيلة ثمانية وثلاثين عاما في الإعدادي
والثانوي، في تونس والجزائر.
أتمنى أن تتواصل تجربة
التكوين الذاتي داخل مدرسة مونتيسوري
الدولية بحمام الأنف من بعدي وفي غيابي وهذا هو الهدف الأساسي والرئيسي من التجربة
فهي لا تعتمد على مجهود شخص واحد مهما كان مستوى تكوينه الجامعي بل هي مجهود جماعي
وعمل فريق. أذكّر بواجب قد يتغافل عنه بعض المدرّسين غير المغرَمين بمهنة التدريس:
المدرّس باحث ميداني بطبعه، يبحث في التطور العلمي والذهني لكل تلميذ من تلامذته (Développement scientifique et mental de l`apprenant) ويحاول دعم قدرات المتعلم وسد ثغراته المعرفية حتى
يجتاز بمفرده العوائق التعلمية والإبستومولوجية والبسيكولوجية. ودّعتُ المدرسة وأنا راضٍ عما فعلته
وتقاضيت مقابلا ماديا مُرضِيا لنرجسيتي الأكاديمية-ألف دينار في الشهر-وخرجت منها
مستفيدا باكتشاف شخصية ماريا مونتيسوري، حسب رأيي هي أعظم عالمة ميدانية في تاريخ المعرفة الحديث (L`épistémologie) ومؤسسة الطريقة البيداغوجيا البنائية بامتياز وعن جدارة واقتدار.
إضافة بيداغوجية رائدة قد تفيد المسؤولين في وزارة التربية
التونسية
تجربة بيداغوجية رائدة
اكتشفتها أيضا في مدرسة مونتيسوري الدولية بحمام الأنف، تجربة غائبة تماما في
التكوين والتعليم العمومي التونسي في جميع مراحله.
تتمثل هذه التجربة في إنشاء "مجالس المواد" (Conseil-Matière)، مثلا: في هذه المدرسة توجد أربعة
مجالس، لكل مجالٍ مجلسه، عربية وفرنسية وأنڤليزية وتنشيط (تربية بدنية، تربية تشكيلية،
موسيقى و مسرح). سأكتفي بالحديث عن مجلس العربية الذي شاركتُ فيه ثلاث مرات: يحضره
مرشد بيداغوجي عمومي متعاقد صحبة كل أساتذة المواد المدرّسة بالعربية المتربصين
المنتدبين خصيصا للتدريس بهذه المدرسة الخاصة.
يتعلمون البيداغوجيا ويتشاورون في كل ما يهم التلميذ والعلم المدرَّس في حصصهم.
تصوروا معي لو عُمِّمت هذه
التجربة على التعليم العمومي عوضا عن الوصفات الجاهزة والتوصيات الشكلية المفروضة
فوقيا دون نقاش، أعني بها التوصيات المسنودة بسلطة المتفقد الإدارية الزجرية
البيهافيورية المتمثلة أساسا في الجزاء والعقاب بواسطة العدد البيداغوجي المسند
اعتباطا للمدرس (Le béhaviorisme ). خلال ثلاثين سنة تدريس في تونس،
زارني المتفقد ست مرات، أي بمعدل زيارة تقييمية كل خمس سنوات. أبعدَ هذا الاعتباطُ
اعتباطٌا ؟
تتلخص نظرية مونتيسوري في
تربية الأطفال قبل بلوغ الست سنوات في الشعار التالي على لسان الطفل: "ساعدني على أن أتعلم
بنفسي" (“Aide-moi à faire seul”). نحن أطفال جمنة وعموم الأرياف التونسية لم ننتظر اكتشاف
النظريات التربوية الحديثة وطبقنا، منذ أجيال وبطريقة موروثة ثقافيا، شعارا قد
يكون أفضل تربويا من شعار مونتيسوري وهو التالي: "أتركني أتعلم بنفسي".
كنا نلعب وحدنا دون رقيب كهل مختص أو غير مختص،
نصنع لُعبنا بأيدينا ونتعلم من لَعِبِنا ومحيطنا وأقراننا. عندما أقول "
طبقنا شعارا قد يكون تربويا أفضل"، أنا أعي ما أقول، قلت "تربويا
أفضل" ولم أقل "علميا أفضل" ولهذا انقرضت تقريبا طريقتنا
البيداغوجية غير العلمية من جمنة وعوضتها رَوضات أطفال تجارية غير تربوية. كادت
تجربتنا أن تكون علمية صِرفة لو توفرت عينُ رقيبٍ باحثٍ عالِمٍ ميداني، عينٌ مسندة
بعقل يلاحظ ويسجّل ويدوّن ويطوّر طريقتنا
في التعلم الذاتي ويستنتج ويقارن وينشر، لو فعلنا ذلك لَكنا ربما سبقنا علماء
الغرب من أمثال مونتيسوري وفيڤوتسكي وبياجي ولَاكتشفنا "نظرية التعلم البنائي
الذاتي" قبلهم جميعا.
Il parait
que notre école cultive une seule forme d`intelligence sans se soucier des
effets néfastes de la monoculture !
La monoculture, c`est la culture
d`une seule espèce dans un espace écologique bien déterminé, exemple : au
sud-ouest de la Tunisie (Tozeur et Kébili), et pour un but purement lucratif,
nos agriculteurs zélés cultivent l`espèce « Degla Ennour » aux dépens des
autres variétés de palmiers (ammari, hissa, gars-souf, kenta, etc.). Ce genre
de culture ne favorise pas la diversité biologique et peut même augmenter le
risque de faire disparaitre certaines espèces qui commencent à devenir rares
dans notre oasis. Un agriculteur solitaire ne peut pas concevoir ce risque qui
plane au dessus de nos têtes et qui pourrait causer l’appauvrissement de notre
sol et même dilapider notre richesse culturelle donc la responsabilité toute
entière incombe à l`état et c’est de l’état qu`on attendrait clairvoyance et
prévoyance.
Je retourne vite à mon sujet
principal qu`est la monoculture de l`intelligence. Il me parait que notre école
tunisienne n`est pas plus clairvoyante qu`un agriculteur solitaire. Notre école
a fait un hara-kiri le jour ou elle a supprimé l`enseignement professionnel de
nos collèges et lycées (en Allemagne, 70 % de leurs élèves de l`école de base
sont orientés vers l`enseignement professionnel). Notre école s`est vidée de
tout son sang en croyant que le cerveau pourrait s`en passer de ses mains et le
théorique du pratique. Je pense que la dévalorisation de l’intelligence
manuelle provient de très loin, de nos racines culturelles, de notre civilisation
arabo-musulmane. Une civilisation du verbe-non de la main (fikh, poésie, prose
et rhétorique-l'art du bien-dire, de l'éloquence).
L`intelligence humaine n`est pas
unique, elle est multiple : une multitude d’intelligences, artistique,
corporelle, manuelle, etc. L’intelligence humaine est la seule faculté
intellectuelle la mieux partagée entre les individus. Elle émerge de
l`interaction des facultés individuelles
comme l’intelligence d’une ruche d’abeilles qui émerge de l’auto-organisation
de ses locataires. Elle ne peut pas être accaparée par une seule personne ou un
seul individu, fût l’érudit Einstein. Elle est collective, plus intelligent que
l`être humain est l`ensemble des êtres humains. Tu es intelligent en
mathématiques, un ou une deuxième l`est en biologie, un troisième l`est en
théâtre, une quatrième l`est en athlétisme et ainsi de suite. Malheureusement
notre école serait une fossoyeuse d`intelligences, elle a balayé toutes les
facettes multiples de l`intelligence et n`a cultivé qu`une seule forme,
l`intelligence intellectuelle, où la théorie prime la pratique et où
l`investissement de l’état est réduit à un tableau et quelques boîtes de craie
blanche et de couleur. Notre école est tellement cupide à un point qu`elle a
oublié de subvenir aux besoins éducationnels de ses enfants-élèves et au lieu
d`équiper de nouveaux ateliers et laboratoires, elle a fait démolir ceux qui
existaient (je fais allusion aux centaines d`ateliers bien équipés de
machines-outils et qui ont été abandonnées à la rouille après la suppression de
l`enseignement professionnel).
Sans le savoir, notre pauvre école a
porté durant des décennies la mauvaise graine et enfanté d’un monstre. Un
monstre muni d`un gros cerveau sans mains. Un monstre qui a failli nous
engloutir sans nous mâcher : des centaines de milliers de chômeurs-diplômés qui
ne savent rien faire sauf rouspéter. Des soi-disant diplômés, on dirait des
oisillons qui ne sont capables que d`ouvrir la bouche et attendre leur
mère-nourrice.
Heureusement que l`intelligence est
un caractère intellectuel non génétique et non héritable donc on a toujours la
chance de la récupérer et la développer à l’aube de chaque nouvelle génération.
Elle est évolutive et non figée. Elle est constructible et non innée. Elle ne
fait pas l’apanage des humains, on la rencontre aussi chez les animaux et les
végétaux même à des dimensions rudimentaires.
Notre école a enfoncé encore le clou
dans la plaie, elle a commis l’erreur irréparable, elle s’est ingéniée à
catégoriser l’intelligence de ses élèves en plus et moins intelligents, en
premier de la classe et deuxième, en notes arbitraires traumatisantes et
avilissantes. C’est le comble du ridicule : l’échelle d’intelligence est la
plus stupide des supercheries du 21è siècle ! Cette erreur fatale a conduit à
l’abêtissement et l’abrutissement de centaines de milliers de nos jeunes
écoliers dès la septième année de base (100 mille d’exclus chaque année). Nos
responsables de l’éducation n’ont pas encore compris que le QI (quotient
intellectuel) est un faux ami qui nous mène souvent en erreur. Ils n’ont pas
encore adopté la ZPD de Vygotsky, la Zone Proximale de Développement mental. Un
modèle pédagogique qui préconise que l’intelligence instantanée mesurable (QI)
en cache une autre plus prometteuse, l’intelligence potentielle. Cette dernière
est comme un germe qui vit en ralentie dans le cœur de la graine qu’il lui
suffit un environnement favorable pour qu’il éclose, se développe et fructifie.
Nos enseignants sont des jardiniers aveugles qui ne voient pas ce qui couve
sous la terre. Ils ne voient que la partie émergée de l’iceberg. Ils traitent
nos enfants de cancres. Enfin « Ils n’ont pas compris que leurs élèves n’ont
pas compris » !
محور 2
حول الأستاذ
"لن نثير رغبة
أحد في التعلم من خلال خطاب علمي جافّ!"
(أندري جيوردان، تعلَّمَ! نشر بولان، 1998، صفحة 49)
« On ne passionnera jamais
quelqu`un à partir d`un discours rationnel ! »
(André Giordan, Apprendre !, Ed.
Belin, 1998, p. 49.
أتمنى على زميلي المدرّس التونسي أن
يستقيل عن التدريس داخل القسم !
لم
أقل يتغيّب أو يتكاسل أو يتغافل أو يتحايل أو يتخلى عن واجبه في تربية النشء. على
العكس أطالبه بأن يعمل أكثر ويجتهد أكثر قبل الدرس دون أن يحرِم التلميذ في القسم
من فرصة التعلم البنائي الذاتي.
فَلْيعذِرني
زميلي في نقده والنقد هدّام أو لا يكون مع احترام شخص المَنقود فبعد هدمِ نظرية
علمية لم تعد صالحة يأتي عادة البناء لنظرية علمية جديدة ثم هدمٌ وبناءٌ وهكذا
دواليك يتقدم العلم. نسمي هذا التمشي نظرية الهدم والبناء (Construction/Déconstruction)
للعالم البيداغوجي-الديداكتيكي، أستاذي وصديقي الفرنسي السيد "أندري
جيوردان".
كيف يستقيل ؟
-
أن لا يستعرض عضلاته في القسم لأن التلميذ أوْلَى
باستعراض عضلاته العلمية. فالقسم ملكه وليس ملك المدرس. التلميذ هو محور العملية
التربوية ولا محور غيره وما أوجِدَ المدرس إلا لخدمة التلميذ.
-
أن لا يحتكر الكلمة في القسم وخاصة مدرِّسي اللغات. فإذا
لم يتكلم التلميذ في القسم ويخطئ في القسم، فأين سيتعلم البلاغة والنطق السليم في
ثلاث لغات أجنبية على بيئته بما فيهم العربية الفصحى.
-
أن لا يحتكر استعمال المُعِدّات المخبرية العلمية أثناء
حصة الدرس وخاصة مدرِّسو العلوم التجريبية. فإذا لم يستعمل التلميذ هذه المعدات في
القسم ويخطئ في القسم، فأين سيتعلم استعمالها، وإذا تكسر بعضها فقد جُعلت أصلا
للاستهلاك. أذكّر أن عُشر ميزانية قصر قرطاج يساوي سبعة مليون دينار أي ثمن عشرة
آلاف مجهر عادي (ثمن المجهر الواحد سبع مائة دينار تونسي). "التلميذ إكسِّر
والوزارة تعوِّض" على حد قول الفنانة الخالدة صليحة "هو إبيع وَانَا
نِشريه".
ليعلم
المدرس أن المُعِدّات المخبرية العلمية لم تُوفّرْ لتسهيل مهمته البيداغوجية بل
جُعِلت لتيسير مهمة التعلّم لدى التلميذ والدليل أنه لو نُقِلت مهمة اكتساب
المعرفة من المدرس وأوكِلت إلى التلميذ في علاقة تفاعلية مباشرة بينه وبين وسائل
التعلم العلمية لصَنَعَ هذا الأخير معرفته بنفسه دون مساعدة المدرس المباشرة في
عديد الوضعيات التعلمية (La situation didactique).
-
على المدرس التونسي المجدِّد بيداغوجيا أن يكتفي بتحضير
الوضعية التعلمية المناسبة ويجلب المعدات والمواد الكيميائية اللازمة ويطرح
الإشكالية بصورة واضحة ويستقيل كليا عن التدريس ويتنحى جانبا مشكورا ويتخلى عن
اعتبار نفسه محور العملية التربوية ويترك مهمة التعلم الذاتي البنائي للتلميذ لأن هذا الأخير ليس فرخ طير
ينتظر في عشه ما تجلبه له أمه.
-
أن لا يحتكر حل المسائل في القسم وخاصة مدرسي الفيزياء
والرياضيات. فإذا لم يتمرّن التلميذ على حل المسائل المعقدة في القسم ويخطئ في
القسم. فأين سيتعلم الذكاء الرياضي يا تُرى ؟
-
أن لا ينهر التلميذ الذي يخطئ في القسم مع الإشارة إلى أن
العلماء هم أشهر الخطّائين. يُعتبر الخطأ في علوم التربية مُحرّك القسم. فإذا لم
يخطئ التلميذ في القسم فأين سيخطئ ولا يُعاقبَ يا تُرى ؟
-
أن لا يقتل المبادرة الذاتية الجنينية لدى التلميذ في
القسم. فإذا لم يبادر التلميذ في القسم ويخطئ في القسم. فأين سيتعلم الشجاعة
الأدبية وحرية الرأي مع احترام الخصم الفكري ؟ لذلك يبدو لي أن جل تلامذتنا
المتفوقين هم مقلِّدون فاقدو الشخصية المستقلة المتوازنة. لذلك نلاحظ أيضا أن جل
التلامذة المتمردين يُطرَدون من التعليم أو يكملون دراستهم المتعثرة في سن الخامسة
وخمسين مثلي !
.
دعت وزارة التربية التونسية إلى تكوين المدرسين في الإعلامية قبل أن تدعوهم إلى تكوين
في الإبستومولوجيا وعلم نفس الطفل، ففعلت مثلِ مَن يهدي نظارات طبية إلى ضرير
أنزَلت وزارة التربية والتعليم التونسية أخيرا منشورا يحث مدرسي الابتدائي
والاعدادي والثانوي على التكوّن في مجال الإعلامية واستعمال الحاسوب والبرمجيات
والسبورة التفاعلية لأغراض التدريس في القسم ( .Les T.I.C.E). احتج المدرسون النقابيون على الوزارة وعارضوا كعادتهم
التكوين في العطل المدرسية وطالبوا بأجر مناسب للمدرس المكوّن (بكسر الواو).
سبق لي أن عملت مكونا لأساتذة علوم الحياة والأرض لمدة عامين. يستغرق إعداد
حصة التكوين نصف شهر تقريبا. أعرضها وأناقشها مع الزملاء خلال أربع ساعات. أتقاضى
على كل ساعة دينارين ونصف (ما يقابل دولار تقريبا). هل أجرُ عشرة دنانير يقابل جهد
نصف شهر من البحث والتنقيب؟ أما عندما تستدعي الوزارة محاضرا جامعيا لتكوين أساتذة
الثانوي أو معلمي الابتدائي تغدق عليه في الحصة الواحدة من 100 إلى 200 دينار. أنا
أحترم العلم والعلماء والأساتذة الجامعيين والناس أجمعين وأطالب بمساواة المكونين
في الأجر خاصة أن الكثير من المكونين من أساتذة الثانوي حاصلون على شهائد مرحلة
ثالثة مثل الماجستير والدكتورا.
أعود الآن إلى موضوعي الأصلي الذي من أجله أكتب هذا المقال والذي يتمثل في
تذكير الزملاء والوزارة أن التكوين في الإعلامية مهم ولكن الأهم منه هو التكوين في
العلوم الضرورية لأداء وظيفة المدرس على أحسن وجه. ما هي هذه العلوم الضرورية؟: هي
التعلّمية (La Didactique) وعلم التقييم (L'Évaluation) وعلم نفس الطفل (La psychologie de l'enfant) والإبستومولوجيا (L'Épistémologie) وتاريخ
العلوم (Histoire
des sciences)
وإدراك عملية الإدراك (La Métacognition) والسيميائية
بالنسبة لمدرسي اللغة بجميع ألسنتها وعلوم التواصل والتقنيات الرقمية المستعملة في
التعليم (Les TICE).
الإعلامية (L`informatique) ليست علما بل هي أداة للعلم.
أداة عاجزة بمفردها عن تحقيق أي هدف تعلمي ولا يمكن الاستفادة منها دون استعمال
علوم التربية الضرورية والمنسية في التكوين. تحرص الوزارة على التكوين في
الإعلامية فقط وتهمل العلوم الأخرى فهي كمن يهدي نظارات طبية إلى ضرير.
ما هي
الاختصاصات العلمية المنسية في تكوين الأساتذة والمعلمين ؟
1.
التعلّمية (La Didactique) تهتم بالمعرفة وعلاقتها بالتلميذ والمدرس أكثر من
اهتمامها بطرق التدريس (البيداغوجيا). يركّز هذا العلم خاصة على كيفية تعلم
المتلقي ويعلّمه كيف يتعلّم. عدم إلمام المدرسين بهذا العلم يبرّر مقولة العالم
الابستومولوجي الفرنسي باشلار "المدرسون لا يفهمون أن تلامذتهم لا يفهمون".
2.
علم التقييم (L'Évaluation) هو علم قائم الذات يدرّس في الجامعات. تسمح آليات
هذا العلم بتقييم مكتسبات التلميذ قبل وأثناء وبعد الدرس. تساعد نتائجه على تحسين
مردود المعلم والمتعلم. المدرس الذي لم يدرس أكاديميا التقييم مثله كمثل تاجر يزن
سلعة دون ميزان.
3.
عِلم نفس الطفل (La psychologie de
l'enfant) هو علم يفتح عيون المدرسين
على عالم الطفولة والمراهقة ويكشف لهم ما خفي من جبل الجليد النفسي عند التلميذ،
لعل الرؤيا تتوضّح لديهم ويظهر لهم أن اللامعقول في تصرفات التلميذ هو من صلب
المعقول النفسي, فربما يعذرون حينئذ ويفهمون أسباب وعمق بعض السلوكات التلمذية
العنيفة أو الخارجة عن المألوف ويكفّون عن التعامل مع التلميذ كما يتعامل عالم
النفس السلوكي مع فأر التجارب عندما يحدد له مسبقًا مدخل المتاهة ومخرجها (Le labyrinthe).
4.
الإبستومولوجيا (L'Épistémologie) هي "مبحث نقدي في مبادئ العلوم وفي أصولها
المنطقية" وتهدف إلى الكشف عن الآليات والمفاهيم التي تعتمدها الثقافة في
إنتاج المعرفة ونقدها. هي "معرفة المعرفة أو نظرية المعرفة العلمية".
يحتاج لهذا العلم كل من يدرّس العلوم معلما كان أو أستاذا. عندما يعرف المدرس أن العلم لم يولد كاملا بل
تكوّن على مراحل وبعد أخطاء جسيمة ارتكبها العلماء العظام, حينئذ قد يعذر ويتسامح
ويفهم أخطاء التلميذ ولا يحمّله ما لم يقدر عليه كبار العلماء، أعني به الفهم
المباشر والسريع للمسائل المعقدة في الرياضيات والفيزياء وعلوم الحياة والأرض
وغيرها...
5.
"إدراك عملية الإدراك"
(La
Métacognition) هو علم ينظر "في التفكير في آليات التفكير
وفي معرفة أننا نعرف وفي اختيار الطريقة الأنسب لحل المشاكل" وكما قال بيار ﭬريكو: " لو
أن الإنسان الذي يقول لا أعرف, عرف لماذا يقول لا, لكان قادرا على تحديد نعم
المستقبلية" أو كما يقول المثل الصيني المشهور " لا تعطني سمكة بل علمني
كيف أصطاد" والسمكة في التعليم هي
المعلومة وتعلّم الصيد هو "إدراك عملية الإدراك". أثناء إدراك عملية
الإدراك "ينشط التلميذ ذهنيا وليس تطبيقيا وقد ثبت أن هذا النوع من النشاط
الذهني البحت يسمح بالوعي بالإجراءات والشعور بالطرق والسيرورات الذهنية الموظفة
لحل المشاكل ويرسّخ اكتسابها".
6. السيميائية (La Sémiologie ) وهي حسب تعريف فردناند دو سوسور (1857-1913)، مؤسس علم الألسنية (La Linguistique ): السيميائية هي علم دراسة العلامات (Les signes)
داخل الحياة الاجتماعية. يحتاجها جدا مدرسو اللغات في التعليم الابتدائي والإعدادي
والثانوي وللأسف لم يتلق أكثرهم تكوينا جامعيا في هذا الاختصاص الضروري لتحليل
النصوص (أنا لم أدرُسها).
خلاصة القول
جل الأساتذة لم يدرسوا هذه العلوم في الجامعة أما أنا فقد اكتشفتها متأخرا
أي بعد أربعة وعشرين عاما من التدريس. يبدو لي أن الأستاذ كان أقل حظا من المعلم
في هذا المجال. وحتى من علم وتعلم فلن يستطيع أن يطبق النظريات الجديدة في نظام
تعليمي يَعتبر الارتقاء الآلي فيه ديمقراطية والتقشف في استعمال الطباشير حكمة.
مدرسة ابتدائية دون ميزانية وميزانية المعهد تصرف في تسخين مكاتب الإداريين وطباعة
الامتحانات والمناشير. أما السبورة التفاعلية (Le tableau interactif) فلن تكون العصا السحرية التي ستُخرج تعليمنا من
المحلية إلى العالمية ولن تغير بين عشية وضحاها وضعا متخلفا وتسيبا عاما وتجهيزات
مهترئة وأجورا زهيدة وبيروقراطية متكلسة وقرارات فوقية وإملاءات خارجية وخرّيجين
عاطلين عن العمل لمدة سنوات.
لديّ تجربة بسيطة مع توظيف التكنولوجيا الحديثة في التعليم: منذ ثمان سنوات
وبضربة حظ, جهّز لي وزير التربية التونسي السابق منصر رويسي مخبرا بعشر حواسيب
لتدريس علوم الحياة والأرض في معهد برج السدرية ومنذ تاريخ مغادرة الوزير للوزارة في 2001 نسوني
وتركوني أتخبط وحدي دون فأرة ودون برمجيات ودون صيانة ودون تجديد الحواسيب حتى
هرمت ولم تعد صالحة للاستعمال.
في فرنسا لا تدرّس الإعلامية كمادة مستقلة بل تستعمل كأداة تدريس في كل
المواد منذ عام 2000.
هل ما زال تعليمنا التونسي العمومي يشغِّل التلميذ في نقل
ما يمليه المدرس ؟
في
عصر السبورة واللوحة الرقميتين التفاعليتين (Tablette pour chaque élève et tableau interactif dans
chaque salle de classe )، ما زال المدرس التونسي -التقليدي
رغم أنفه- يهدر وقت التلميذ ويشغله في عمل غير ذهني. يتمثل هذا العمل غير الذهني في
الكتابة السلبية (لا يشارك التلميذ في إنتاجها) لِما يمليه المدرس أو نقل ما يكتبه
على السبورة. مع الإشارة أن هذا العمل قد يكون فيه للمدرس أهداف بيداغوجية وجيهة،
لكن هنالك في القسم أهداف أوْلى وأهم مثل القيام بمشاهدات أو تجارب علمية لا يمكن
للتلميذ القيام بها خارج المخبر أو دون مساعدة مدرسه. أما خلاصة الدرس المسقطة،
فالمدرس يستطيع توفيرها للتلميذ مكتوبة في نسخ ويكفيه عناء نقلها حتى يتفرغ
الاثنان لأنشطة ذهنية أجدى.
أنا
لا أقصد بنقدي هذا حصص الإنتاج الكتابي المفيدة جدا والصعبة جدا والمهملة جدا من
قِبل مدرسي اللغات ولا أقصد أيضا الإنتاج الشفوي، فهذان النشاطان هما من أهم
الأنشطة الذهنية التكوينية لمستقبل أجيالنا القادمة. نردد أحيانا ونتهم المتخرج
الجامعي الحالي بالعجز عن تحرير مطلب شغل أو إنتاج خطاب شفوي متماسك منطقيا وننسى
أن المتهم الرئيسي هو مدرسه أما التلميذ فهو ضحية نظام تعليمي متخلف نسبيا، لمْ
نعلّمه فلم يتعلم لأن اكتساب المعرفة لا يخرج من التربة كالفِطر ولا ينزل من
السماء كالغيث. التعلم مهنة وجهد مشترك بين المعلّم والمتعلم والأقران، العلم ليس
موهبة يمنحها القدر لمن يشاء، العلم بناء ذاتي-اجتماعي طويل النفس ومُضنٍ ومعقد.
لو
وفرت وزارة التربية سبورة تفاعلية في كل قاعة درس ولوحة تفاعلية لكل تلميذ لَجنّبْنا
التلميذ عناء النقل من السبورة لأن كل ما يخطه المدرس على السبورة الرقمية طوال
الحصة يُسجّل أوتوماتيكيا على لوحة التلميذ الرقمية. وهذا ليس مطلبا تعجز حكومتنا
الموقرة عن توفيره لتلامذتها المحتاجين. حكومة نراها لا تفرّط في امتيازات وزرائها
ونوابها في البرلمان وتفرّط بسهولة في مستقبل أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة أما
أبناء الوزراء والنواب والأغنياء فلهم مدارس خاصة تُؤويهم وتحميهم فلا خوف عليهم
ولا هم يحزنون، مدارسهم عادة ما تكون مجهزة بأحدث الوسائل التعلمية الرقمية إلا في
أمريكا حيث مدارس أولاد المشاهير عادة ما
تكون قصدًا غير مجهزة بأحدث الوسائل التعلمية الرقمية وذلك لأسباب بيداغوجية وجيهة.
رأي ضد السائد: كأستاذ متقاعد لا
أحبّذ مشاركة المديرين في إضراب الأساتذة
أعني
مشاركة المديرين حضوريا في إضراب الأساتذة ومرابطتهم داخل قاعة الأساتذة كامل
اليوم. تبدو لي هذه المشاركة وكأنها حركة
غير مسؤولة. قد يهدف من ورائها أصحابُها إلى التقرب من زملائهم الأساتذة وأراها
من وجهة نظري تهرّبا غير لائق من تحمل المسؤولية وتخليا إراديا عن أداء الواجب
التربوي في أوقات الشدّة، وذلك -على سبيل الذكر لا الحصر- للأسباب التالية:
-
دون توفيق وسخيف، أعتبر أن المدير ليس أستاذا وذلك لأنه
ببساطة لم يعد يباشر التدريس بل يقوم بمهمة إدارية بحتة. والدليل أن في فرنسا قد
يُنتدب المدير من بين خريجي المدرسة العليا للإدارة أو جامعة الاقتصاد والتصرف.
المدير يراقب إداريا عمل الأستاذ وقد يكتب تقريرا ضده لو أخل بواجبه وقد يصل به
الأمر إلى أن يخصم أجرة يوم عمل من مرتب الأستاذ المتغيب لأسباب غير قانونية.
-
المدير هو ممثل وزير التربية في المعهد وهو المسؤول
الأول والأخير على سير العمل في المؤسسة، وهو المكلف بمهمة مراقبة أداء الأساتذة والإداريين والقيمين وأعوان
المخابر والعملة والتلامذة، وهو الحارس المستأمَن على البناء والجدران والسور
والتجهيزات المخبرية وغير المخبرية. وبناء على ذلك يتوجب عليه استنفار جميع قدراته
للسهر على السير الحسن للعملية التربوية كامل أيام السنة الدراسية وخاصة يوم
الإضراب لِما قد يحدث في مثل هذا اليوم من
تجاوزات من الداخل أو الخارج. لنضرب مثلا كاريكاتوريا لكنه معبر: لو كان مدير
المستشفى طبيبا، فهل يُعقل أن يشارك حضوريا في إضراب أطباء الصحة العمومية ويهمل
المرضى المقيمين عنده وإدارة المؤسسة بما فيها من عملة وإداريين وممرضين، إلخ...
-
المدير هو المنفذ الفعلي والمباشر لسياسة الدولة في
الحقل التربوي أما الأساتذة فهم مضربون احتجاجا على هذه السياسة نفسها. فهل يُعقل
أن يضرب المدير ضد سياسةٍ هو الساهر والمسؤول الوحيد على احترامها وتنفيذها ؟ من
حقه كفرد أن يكون له رأي خاص لكن ليس من حقه كمسؤول أن يتخلى عن صفته الإدارية
وينضمّ إلى فئة الأساتذة المضربين ويهمل في الوقت نفسه حق الأطراف الأخرى المكونة
للأسرة التربوية. المدير المشارك حضوريا في إضراب الأساتذة والمرابط داخل قاعة
الأساتذة صباحا مساءً، مثله كمثل رُبّان سفينة يترك سفينته تغرق بحجة التعاطف مع
مطالب البحارة، أو قائد عسكري ينحاز يوم المعركة إلى جنوده غير المنضبطين
عسكريا.
-
اختلطت الأمور بعد الثورة وتداخلت المسؤوليات وغابت
التراتُبية الإدارية الضرورية (لا أقصد البيروقراطية التسلطية) لتسيير المؤسسات
وأصبح شعار "ديڤاج" يُرفع في كل الحالات دون رَويّة أو تَثبّت. وإذا بلغ
الشيء حدّه انقلب إلى ضده. تحضرني هنا الحادثة الأليمة والمؤسفة التي وقعت في أحد
معاهد الأحواز الجنوبية للعاصمة: مدير محترم وضميره حي مات كمدا بسكتة قلبية بعد
تعرضه لصاروخ "ديڤاج"، صاروخ فتاك من صنع تلامذته.
-
قبل التقاعد، كنت أشارك شخصيا في تنظيم وتنشيط إضرابات
الأساتذة صباحا ومساءً لكنني في الوقت نفسه كنت أقول لمدير معهدنا ما يلي: لو وقع
أدنى مشكل يهدد المعهد أو الأسرة التربوية من الداخل أو الخارج، أنا مستعد أن أوقف
الإضراب وأنضمّ إلى الإدارة - عكس كما يقع اليوم - من أجل المصلحة العامة ومن أجل
الحفاظ على الأمانة المُناطة بأعناقنا، ألا وهي سلامة التلامذة وسلامة المعهد، وهو
الواجب المقدَّم على غيره من الواجبات وتهون حقوقنا أمام واجباتنا.
موقف من ظاهرة تعنيف التلاميذ من قِبل
المدرسين
À mes yeux, un professeur ne peut jamais être lésé par son élève.
أعي جيدا أن
زملائي المدرسين (ابتدائي وإعدادي وثانوي وعال) يتعرضون أيضا إلى ظاهرة العنف
اليومي من قِبل بعض التلامذة أو الطلبة أو بعض الأولياء، لكنني اقتصرتُ اليوم منهجيا
على تناوُلِ ظاهرة تعنيف التلامذة من قِبل المدرسين:
أولا العنف لا يُعالج بالعنف والخطأ لا
يُصلح بخطأ أفظع منه.
ثانيا يبدو لي أن التجاء المدرس لتعنيف
التلميذ هو أكبر دليل على فشله البيداغوجي في تبليغ رسالته. وفاقدُ الشيء لا يعطيه
في هذه الحالة، أعني أن المدرّس لم يدرُس جامعيا البيداغوجيا (كيفية التدريس) ولا
التعلمية (كيفية تقبّل المعرفة من قبل التلميذ) ولا أعتبر الندوات البيداغوجية
التكوينية في مراكز التكوين الجهوية تحت إشراف المتفقدين كافية لأن المتفقد نفسه
لم يدرُس جامعيا البيداغوجيا ولا التعلمية ولا علم التقييم ولا علم نفس الطفل ولا
علم التواصل ويصح على المتفقد ما يصح على المدرس: "فاقد الشيء لا يعطيه" باستثناء المتفقدين خريجي معهد قرطاج
لكن عام واحد تكوين في معهد قرطاج لا يكفي (CENAFFE). ماذا بقي إذن للمعلم غير المجتهد ذاتيا ؟ للأسف الشديد بقي له سلاح الضعفاء لكي "يسيطر" على قسمه، سلاح العنف.
ثالثا، هذا الموقف التي اتخذته من ظاهرة
تعنيف التلميذ من قِبل المدرس، لا يعني البتة أن المدرس لا يخطئ وأنا أقرّ أنني أخطأت عديد المرات لكن هذا لم يمنعني من تدارك نفسي
ومحاولة إصلاح أخطائي ولم يمنعني أيضا من إدانة ظاهرة تعنيف التلميذ من قِبل
المدرس (أدين أيضًا تعنيف المدرس من قِبل التلامذة أو الأولياء) إدانة شديدة لأنها
تتنافى مع قداسة الحرمة الجسدية للإنسان ( وخاصة الطفل لأنه يمثل الحلقة الأضعف
بدنيا وذهنيا). يردّ عليّ بعض المدرسين مبرّرين العنف بقولهم: "وكيف نسيطر
على قسم فيه ثلاثون عفريتا ؟". من طبيعة التلميذ أن يشوّش لكن من غير الطبيعي
أن نعاقبه بالضرب. ما هي الحلول المطروحة للسيطرة التربوية على القسم ؟ أولا،
المدرس ليس مُطالبا بالسيطرة على القسم كما يَفهم السيطرة بعض المربين. ثانيا، وقبل
البحث عن الحلول والبدائل، علينا تجريم العنف وتحريمه بكل وضوح وهذا ما كنت أقوله
لبعض زملائي الذين يبدأون بتعنيف التلميذ وعندما يردّ التلميذ عنفا بعنف، يقدّمون
فيه تقريرا مطالبين بتأديبه، كنت أقول له: "يا زميلي العزيز، لو بدأت
بالاعتداء على تلميذ، يسقط حقك في تأديبه حتى لو ردّ عنفك بعنف مثله أو أشنع منه،
بل يصبح من واجبك الاعتذار للتلميذ والولي وللأسرة التربوية عموما، وعليك أن تخفض
لهم جميعا جناح الذل من الرحمة فلعلك تستفيد من خطئك ولا تعود إليه البتة".
أحداثٌ طريفة حدثت أثناء ممارستي
لمهنة التدريس
أحداثٌ وَقعت لِي ولبعض زملائي
أثناء ممارستنا لمهنة التدريس، ندمتُ على بعضها وأعتزُّ بـبعضها واستغربتُ من
بعضها:
1. في معهد بومهل عام
1990، التحق بقسمي سابعة أساسي تلميذٌ متأخرٌ بعد شهرين. سألته لماذا تأخرتَ ؟
قال: طُرِدتُ من معهدي السابق. قلتُ: ما السبب ؟ قال: ضربتني أستاذتي الجميلة
بكفها على خدّي فقلت لها "كفٌّ من إيديك كِ العسل". ضحكتُ في قلبي
ورحّبتُ به في حصتي.
2. في معهد برج السدرية
في التسعينيات، أخطأتُ في حق تلميذ
و"ضربتُه" بكف صغير على خده وما أقبحه من فعل وخاصة الضربَ على الوجه، وهو من أسوأ أنواع
الإذلال لأنه قد يعطِّل شغف التلميذ بالعلم وقد يحطم شخصيته والأسوأ من كل ما سبق
أنه يصيب التلميذ بجرحٍ نفسي لا يندمل بمرور الزمن، ومَن منّا نسي صفعةً على وجهه
تعرّض لها في حياته حتى وإن جاءت من أمه أو من أبيه ؟ يا تلامذتي السابقون، تعدّدَت أخطائي، وعزائي
الوحيد أن تتقبلوا اعتذاري وتصفحوا عن أخطائي وهي ولله الحمد ضئيلة. والله لقد خجِلتُ
من التلميذ ومن نفسي ساعتها ولا زلتُ إلى اليوم وبعد التقاعد أخجلُ من الاثنين
معًا، ولن يزول خجلي حتى أحاسَبَ وأعاقَبَ على ما اقترفتْ
يدِي اليُمنَى. وبعدها تكررت أخطائي رغم قلتها مقارنة ببعض ما يقترفه زملائي ممن
هم أكثر مني تعنيفًا لتلامذتهم. ومن سوء حكمتي وتدبيري، كنتُ أظن وقتها أنني أؤدبه
رغم أنني أعرف أن العقاب البدني ممنوع في القانون التربوي منعًا باتًّا. وهل يؤدبُ
الطفل بالعنف ؟ لا أظن ! توجدُ ألف طريقة تربوية لتأديبه من غير استعمال العنف،
لكن غابت بصيرتي حينها في لحظة غضب وأجرمتُ في حقه والغريب أنني كجُل
الأساتذة أبرّر عجزي التربوي بالقول أن
نيتِي حسنة. لا أعرف كيف اتصل المُعتدَى عليه بأمه فورا وأعلمها بخطيئتي الكبرى.
بعد رُبع ساعة تقريبا قرعتْ أمه بابَ القاعة فوجدتها في وجهي تلومني. قدّمت لها اعتذاري
دون تردد. قالت: "غَلَبْتَنِي" وانصرفت. نادرًا جدا ما كنتُ أمارس الضرب
رغم أنني كنتُ واعيًا تمام الوعي ومقتنعًا نظريا بعدم جدوى العقاب البدني وكنت
أقول لزملائي ناصحًا: تسقط جميع حقوقكم الأدبية إن بادرتم بالاعتداء على أي تلميذ
لفظيا أو ماديا وكنتُ ألوم كل زميل يظلم تلميذا ويكتب فيه تقريرا ويحيله على مجلس
التأديب. فمَن أولَى بالتأديب في مثل هذه الحالة ؟ التلميذ أم الأستاذ ؟
3. في معهد برج السدرية
في التسعينيات، في الحصة الأولى أي حصة التعارف، قام تلميذ وفاجأني قائلا: "أنا
أكره مادة العلوم وأستاذ العلوم". لا أعرف كيف نزلتْ عليّ سكينة لم أعهدها
فيّ من قبلُ وقلتُ له هادئا: إن شاء الله معي أنا سوف تحب مادة العلوم وأستاذ
العلوم. وكان الأمر كما وعدتُ. كبُرَ الشبل وأصبح مهندسًا "أدْ الدنيا"
وحيث لاقاني حيّاني.
4. في معهد غار الدماء في
السبعينيات، جاءني تلميذ محتجًّا على تدنِّي أعداده وقال لي بالحرف الواحد:
"موسِيو اهْرَدْتني في النُّوتْ". مسكتُ نفسي وقلت في نفسي "كل
بلاد ورطالها" لأن كلمة " اهْرَدْتني"، لها مدلولات أخرى ولا
نلفظها في مجتمعنا الضيق بموطني جمنة.
5. في معهد غار الدماء في
السبعينيات أيضا، وفدتْ علينا زميلة علوم جديدة وأخذت قسم الثالثة ثانوي "أ"
(التاسعة أساسي اليوم)، وهو قسمي السابق في السنة ثانية ثانوي "أ".
دخلتُ مع الزميلة في أول حصة لها مع هذا القسم ظنا مني أن تلامذتي يحبونني ويصعب
عليهم فراقي وظنا مني أيضا أنني أقدّم خدمة كبيرة لزميلتي. قدمتُ زميلتي الجديدة
إلى قسمي السابق وعند مغادرتي القاعة فرحًا بما صنعتُ وقبل أن أغلق الباب خارجا،
سمعت تلميذا من تلامذتي السابقين يودّعني بكل حب قائلاً: "ارْتحْنَا من
رَبَّكْ" (أعتذر للقرّاء على نقلها كما قِيلت). حينها عرفتُ أن التلامذة قد
يظهِرون لك مودة ويبطنون العكس. لم أنسَ
ذلك الدرس القاسي من تلميذي القاسي في بداية مهنتي، تعلمتُ من تلميذي الكثير ولو
أنه كَسَرَ كبريائي إلى الأبد "وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم".
6. في معهد من المعاهد بالجمهورية التونسية، جاء متفقد
علوم ليتفقد الأستاذ "أ" فلم يجده، فتفقد صديقي الراوي الأستاذ
"ب". غادر المتفقد المعهد وبعد أسبوع بعث تقرير التفقد باسم الأستاذ
"أ" الغائب أثناء زيارته للمعهد وأسند له 14 على 20. احتج صديقي الأستاذ
"ب" لدى المتفقد ولدى الإدارة الجهوية ولا حياة لمن تنادي وبقي تقرير
التفقد وعدد التفقد باسم الأستاذ "أ" الذي لم يزره المفقد حينها إلى
يومنا هذا. ونحن نردد ونقول "لا يضيع حق وراءه طالبٌ" ولو حصل كل مطالبٍ
في بلادنا على حقه لأصبحنا نرويج إفريقيا.
7. في معهد من المعاهد بالجمهورية التونسية،
أستاذة علوم متدينة أسرّت إلى زميلها وهو صديقي الراوي وقالت: "لن أدرّس
تلامذتي وسائل الوقاية من الإصابة بالسيدا". قال لها مستغربًا: لماذا ؟ ردّت
قائلةً: "لأن الإصابة بالسيدا هي عقابٌ يسلطه الله على عباده الزناة
والشواذ". تعليقي: هذه الأستاذة جمعتْ بين الجهل بالعلم والجهل بالدين: تجهل
العلمَ لأن فيروس السيدا قد يصيب إمامًا متعبدًا عند حقنه خطأ بإبرة ملوثة، وقد
يولدُ الطفل البريء مصابًا من أم مصابة، وقد حدث في فرنسا وتونس الثمانينيات أن
أصِيب عشرات الأطفال الأبرياء بالسيدا أثناء تلقيهم لدم متبرعٍ من أجل علاجهم من
مرض الناعورية (hémophilie)، وتجهل الدينَ أيضًا لأن القرآن يحثُّ على طلب العلم، واللهُ
يعاقب العالِمَ الذي يحجب علما قد تكون فيه منفعة للناس. وأي ناس في حالتنا هذه ؟
أطفالٌ في عمر الزهور، حرامٌ وألف حرامٍ يا زميلة يا ناقصة علمٍ ودين (لو كان
المخطئُ رجلا لقلتُ له نفس الشيء: يا ناقص علمٍ ودين)، حرام عليك أن تحرمي تلامذتك
من الاطلاع على وسائل الوقاية من الإصابة بالسيدا وما ذنبهم يا تُرى؟ ألا يكفيهم
إصابتهم بنقصِ عِلمِكِ ونقصِ دِينِكِ !
يبدو أنّ مهنة الأستاذ المباشر في القسم تسير في طريق
الانقراض
يبدو أنّ الأستاذ المباشر
(الأستاذ الذي يحضر في القسم ويباشر التدريس لتلامذة حاضرين معه) ينفّذ سياسة
تربويّة لم يشارك هو في إعدادها ويبدو أيضا أنّه يتعرّض يوميّا لمشاكل عديدة منها
على سبيل الذكر لا الحصر : كثافة البرنامج وضيق الوقت المخصّص لإنجازه واكتظاظ
القسم وعدم انضباط التلاميذ
ونقص وسائل الإيضاح التعلمية. لذلك ما زال هذا الأستاذ
يستعمل السبّورة العاديّة ويكتب بالطباشير ومازال يمتثل لتوجيهات متفقّد مجاز مثله
ولا يتميّز عنه بأيّ شهادة جامعيّة في المجالات الأخرى مثل علوم التربية
والإبستمولوجيا وعلم نفس الطفل وعلم التقييم وآليات التواصل (أستثني
المتفقدين المتخرّجين الجدد لكن عام واحد تكوين في معهد المكونين بقرطاج لا يكفي).
لذلك آليت على نفسي أن ألفت نظر زملائي وأنا أستاذ مباشر مثلهم إلى بروز منافس
خطير على السّاحة التربويّة يُدعى الأستاذ غير المباشر (الأستاذ الذي يمارس التدريس عن بُعد
عن طريق الأنترنات أو عن طريق الوسائط الرقميّة الأخرى). منافس يتميز بأشياء أساسيّة في الحياة ما فتئ
الأستاذ المباشر يناضل من أجل تحقيقها: التكوين الأكاديمي في علوم التربية زيادة
عن التكوين في الاختصاص والحرّية في اتخاذ القرار والأجر المشجّع على الخلق وتوفير
التجهيزات لتأدية رسالته وفق الطرق التربويّة العصريّة.
بعد هذا التمهيد القصير, سأحاول تقديم مقارنة بين الأستاذ
المباشر والأستاذ غير المباشر:
الأستاذ المباشر
-
يحبّ ويكره ويكلّ
ويملّ ويغضب وفي بعض الأحيان يخرج عن موضوع الدرس حتّى يروّح عن نفسه وعن تلامذته. وفي حالات نادرة قد يعشق الأستاذ تلميذته أو طالبته ويتزوجها على سُنّة
الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى حد علمي، لم يحصل أبدا الشيء نفسه مع أستاذة
وتلميذها إلا نادرًا.
-
يختصّ في مادّة معيّنة
فقط ولا يلمّ في جل الأحيان بكل معارفها.
-
يقدّم للتلميذ بعض
وسائل الإيضاح التعلمية القديمة.
-
يقوم بالتجارب عوضا عن
التلميذ لنقص في التجهيزات.
-
ينفّذ سياسة تربويّة
واحدة ويرتبط ببرنامج سنوي موحّد.
-
لم يدرس أكاديميّا
علوم التربية ولا علم نفس الطفل ولا الابستومولوجيا ولا علم التقييم.
-
يعتمد في القسم على
نفسه فقط.
-
لا يجد عادة الوقت
لإنجاز التمارين التطبيقيّة.
-
يوفّر للتلميذ وضعيّة
تعلّميّة مباشرة فيها تفاعل مع أقران قارّين ومفروضين عليه.
-
يدرّس في القسم بمرتّب
زهيد.
-
التلميذ لا يتمتع
بحرية اختيار أستاذه المباشر بل يُفرض عليه.
الأستاذ غير المباشر أو الأستاذ الافتراضي المتواجد في
الأنترنات أو الجاهز في الأقراص المضغوطة
-
يقدَر على إعادة الدرس
ألف مرّة إن شاء المتلقّي. يحترم ويشجّع ولا يكره ولا يعشق ولا يغضب ولا يُقصي التلميذَ
من القسم.
-
يُتقن كلّ الاختصاصات
لأنه يوفر عدة أساتذة مختلفين في اختصاصاتهم يقومون بإعداد الدرس المعروض في
الأنترنات.
-
يعرض صورا رائعة
ومتحرّكة ذات ثلاثة أبعاد.
-
التلميذ يقوم بنفسه
بالتجارب الافتراضية.
-
يختار التلميذ برنامجا
يتناغم مع قدراته ومستواه الذهني ونسقه الشخصي في التعلم والفهم.
-
يعدّ الأسئلة عن دراية
وبدقّة مختص في علم التقييم.
-
يستطيع التلميذ أن
يستشير عدّة أساتذة افتراضيين.
-
ينجز التلميذ تمارين
فرديّة و تفاعليّة كما يشاء ومتى يشاء.
-
يوفّر للتلميذ تفاعلا
افتراضيّا مع أقران من اختياره يستطيع تغييرهم حسب الوضعيّة.
-
جاهزٌ دومًا تحت الطلب في كل زمان ومكان وتقريبًا دون مقابل
أو بمقابل زهيد.
-
يختار التلميذ أستاذه
الإفتراضي حسب حاجته وذوقه الجمالي أيضا.
بعد هذا العرض السريع وغير الشامل لمزايا التعليم غير المباشر,
أسوق لكم على سبيل الذكر لا الحصر أمثلة منه في تونس:
-
أوجدت وزارة التربية جامعة
افتراضيّة في موقع على الأنترنات. تقدّم جامعة تونس الافتراضية (كانت تسمى سابقا
المعهد الأعلى للتربية والتكوين المستمر بباردو) "تعليما عن بعد" قد يفوق
بكثير "التعليم المباشر" في الجامعات الأخرى. يمتاز هذا المعهد بانضباط
طلبته من أساتذة ثانوي ومعلّمين وينفرد بقلّة عدد الحاضرين في الحصص المباشرة مع
الأستاذ المحاضر (في مدرّجات الجامعات الأخرى قد يحضرها المئات من الطلبة) ممّا
يزيد التعلّم جودة وفائدة. يختار المعهد أفضل الأساتذة من الجامعات التونسيّة
والفرنسيّة. يختار الطالب فيه نسق تعلّمه بنفسه حسب قدراته وتفرّغه، مثلا ثلاث
وحدات تعليمية كل ستة أشهر عوض خمسة. من شروط النجاح في هذا المعهد، التحصّل على
معدّل عشرة في كل وحدة تعليمية (Unité de valeur) يدرسها الطالب ولا أهمية
للمعدّل العام ممّا يجبر المتلقّي على عدم إهمال أيّ مادة فيتخرّج مُلِمّا بجميع
فروع اختصاصه. ينظّم المعهد إقامات مغلقة (séjours bloqués) للقيام بالأشغال
التطبيقيّة لصالح طلبة العلوم التجريبيّة. ونتيجة سوء تخطيط وزارة التعليم العالي لا
يتمتّع هذا المعهد بميزانيّة محترمة ولا بدعاية كافية رغم الخدمات الجليلة التي
يقدّمها للتعليم بجميع مراحله في تونس من بنـﭬردان إلى
بنزرت. قبل سنة 2000 ساعَدَ هذا المعهد "الأساتذة-الطلبة" المنتسبين
إليه على الإرتقاء المهني عن طريق التحصيل العلمي وليس عن طريق الأقدميّة في
الرتبة المتوفر لجميع الأساتذة. كان أستاذ التعليم الثانوي أو التقني يرتقي مباشرة
إلى رتبة أستاذ اوّل فور حصوله على ديبلوم الدّراسات المعمّقة (DEA ) وهذا الإجراء ساهم في تحفيز الأساتذة على اكتساب العلم
والمعرفة. حوالي سنة 2000, نقابتُنا العامة فرّطت في هذا المكسب واتّفقت مع وزارة
التربية على شرط قضاء سبع سنوات كاملة في
الرتبة الواحدة قبل الإرتقاء إلى ما هو أعلى منها حتّى لو تحصّل الأستاذ على شهادة
الدكتورا. في الاتفاق الجديد, تمسّكت الوزارة، بموافقة النقابة، بالارتقاء المهني
على أساس الأقدميّة في الرتبة مع تنفيل الشهادة العلميّةُ (DEA) بثلاث نقاط فقط والدكتورا بخمس عشرة نقطة.
-
نظام "التعليم عن
بعد" بدأ قبل اكتشاف الحاسوب وتطوّر بعد عصر الأنترنات فأصبح يضاهي تقريبا
نظام التعليم المباشر. وأنا من خرّيجي النظامين, 15 عام تعليم مباشر و11 عام تعليم
مختلط، مباشر وعن بعد.
-
يتابع مئات الملايين
من طلبة المرحلة الثالثة (في كل الاختصاصات وفي كل البلدان من العالم المتطوّر إلى
العالم الثالث) تكوينهم عن طريق الأنترنات
ولا يقابلون مؤطّريهم مباشرة إلاُ في مواعيد قليلة ورغم ذلك يبدعون كلّ في مجاله.
رسالة طمأنة أوجها إلى زملائي:
هل اطمأنّ زملائي
إلى أن وظيفتهم التربوية لن تنقرض أبدا مع التعليم عن بُعد ؟ لا بل على العكس, سيُخلّدون كمُبرمِجي الذكاء
الصناعي للحاسوب وكركن أساسي مع الركنين
المكمّلين وهما التلميذ والمعرفة وستتحسّن
صورتهم عند التلميذ ويزيد عطاؤهم ويتخلّصون من مضارّ الطباشير وعبء الاكتظاظ
والتنقّل وملاحظات المدير وتوجيهات المتفقّد واحتجاجات الأولياء.
خلاصة القول
"التعليم الافتراضي" أو "التعليم عن
بعد" نوعان من التعليم غير المباشر يتمتّعان بخاصّيات متعدّدة منها الحضور
السّريع في كل مكان وزمان والتأقلم مع القدرات الذهنيّة المختلفة لدى
المتعلّمين، أي البيداغوجيا الفارقية (La pédagogie
différenciée) لذلك نجحا
وانتشرا بسرعة في كل أنحاء العالم.
محور 3
حول التفقد والمتفقد
"علينا التوقف عن البحث عن وصفات جاهزة صالحة
للتربية. حتمًا لا تُوجَد. وعلينا الكف عن تصوّر طُرُقٍ مثالية لا وجود لها في
الواقع"
(أندري جيوردان، نشر بولان، 1998،
هامشة صفحة 216)
“ Cessons de chercher des recettes en matière
d`éducation. Il n`y en a pas irrémédiablement. Arrêtons d`envisager des voies
royales, il n`y en a pas… »
(André Giordan, Ed Belin, 1998, n. b. p. 216)
محاضرة
لـ"أنتون ﭬراو" بعنوان "التفقد البيداغوجي في مختلف الأنظمة
التربوية في العالم". ترجمة
وتأثيث مواطن العالَم
Conférence d’Anton DE
GRAUWE, spécialiste des programmes, Institut International de la planification
de l’éducation, UNESCO.
Titre de la
conférence : L’inspection dans différents systèmes éducatifs à travers le
monde.
تمهيد
إن استشارة متفقدي وزارة التربية في الندوة الوطنية حول منهجية
إصلاح المنظومة التربوية، تونس من 29 إلى 31 مارس 2012، ليست هي الحل كما توهم بعض
البيروقراطيين غير الملِمّين بالأزمة التربوية في تونس، أو كما أمِلَ بعض
السياسيين الجدد. وإنما وجود مؤسسة التفقد البيداغوجي في حد ذاتها هي العلامة التي
لا تخطئ على الأزمة، على حِدّة الأزمة. التفقد البيداغوجي ليس العلاج أو الدواء
وإنما هو من أعراض المرض.
سأحاول أن أترجم إليكم بكل
أمانة علمية - رغم مقدرتي المتواضعة في الترجمة - مضمون المحاضرة التي وجدتها على
الأنترنات حول التفقد البيداغوجي
في العالم بعنوان "التفقد في مختلف الأنظمة التربوية في العالم"، تقديم
"أنتون دو قراو"، اختصاصي برامج، المعهد العالمي للتخطيط التربوي،
اليونسكو. ومَن يفضّل سماع المحاضرة مباشرة باللغة الفرنسية سوف يجد في آخر المقال
"رابطها" وعندئذ يستطيع الاستغناء عن قراءة هذا المقال باللغة العربية.
ملاحظة
تجدون إضافاتي القصيرة جدا دائما
بين قوسين حتى لا يختلط عليكم الأمر خاصة وأن المحاضر من الوزن الثقيل علميا رغم
رشاقة جسمه.
كلمة صغيرة لكن لطيفة وحازمة
ومعبّرة وعبرة في الوقت نفسه لمن يعتبر من أولي الأمر والألباب
التربويين:
أوجّهها
خصيصا إلى المتفقد الذي هاتفني في منزلي وأثناء عطلتي وحرمني من الإحساس بالأمان وهدّدني
بتقديم شكوى ضدي إلى التفقدية العامة للتعليم الثانوي محاولا شلّ عزيمتي وحرماني
من حقي الشرعي والقانوني في حرية التعبير. وعلى كل مقال سيئ أرد بمقال علمي جيد لا
بالعنف اللفظي أو التهديد، أردّ على التهديد اللفظي بمزيد من النشر، نشر البراهين
العلمية التي تعزز وجهة نظري النقدية العميقة لنظام التفقد في العالم وخاصة لنظام
التفقد في تونس بصيغته الحالية في 2011 دون المساس بالحرمة الأدبية والشخصية لمتفقدينا
التونسيين الأكفاء الذين أكنّ لهم كل التقدير والتبجيل ولا أحمّلهم وحدهم مسؤولية
تخلّف نظام التفقد في تونس وأعتبرهم بمثابة أساتذتنا المحترمين بعد أساتذة الجامعة
والسلام على من اتبع الهدي، هدى العلم والمعرفة، هدى حرية التعبير دون قيد أو شرط،
هدي الابستومولوجيا. شكرا للتكنولوجيات الحديثة وشكرا للأنترنات وخاصة الفايسبوك
الذي منحني مجانا هذه المساحة الرحبة من حرية التعبير والنشر وجعلني أستغني
باستعلاء وتكبّر عن خدمات جرائدنا التونسية التي رفضت نشر مقالاتي المتنوعة
والمتعددة في نقد النظام التربوي التونسي بجميع جهاته الفاعلة بداية من صانعي
البرامج إلى المتفقدين إلى الإدارة إلى الأساتذة والتلامذة والأولياء والبنك
العالمي وصندوق النقد الدولي. أذكّر من نسي أن التهديد لم يثنني عن مواصلة مشواري
والإصداع بالـ"حقيقة العلمية النسبية" وأنا في سن الثلاثين من عمري فكيف
سيثنيني اليوم وقد اشتدّ عودي وغزا الشيب مفرقي ولم أعد أنتظر من وزارتنا الموقرة
عددا بيداغوجيا ولا إداريا ولا ترقية، أنتظر منها فقط أن تعطني حريتي وتطلق قلمي
لوجه الله وأنا في سن الستين حتى أتخلص من تسلط بعض المتسلطين وأتفرغ لمهمتي
الأساسية في الحياة ألا وهي النقد، نقد كل فكر غير علمي في تونسنا الجميلة. النقد
مؤسسة مستقلة وقائمة بذاتها ولا يُنقِص من قيمتها العلمية عدم تقديمها للبديل.
مخطط المحاضرة
1. المقدمة
2. نموذج التفقد الكلاسيكي
3. نموذج التفقد المركزي
4. نموذج التفقد الذي يعتمد طريقة الدعم عن قرب
5. النموذج الخالي من
التفقد البيداغوجي والمراقبة الإدارية
1. المقدمة
تعتمد
جل البلدان على جهاز التفقد البيداغوجي في نظامها التربوي إلا قلة منها استغنت
تماما عن هذا النوع من التفقد وهذا لا يعني أنه لا توجد فيها مراقبة من نوع آخر.
تتناقض مهمة التفقد الطموحة مع
الإمكانات المتواضعة.
ما هي المهام الأساسية للتفقد؟
-
أداة مراقبة
بيداغوجية وإدارية في الوقت نفسه. يركّز المتفقدون على المهمة الثانية أكثر
من الأولى.
-
أداة دعم، لذلك يسمى في بعض البلدان مشرف أو
مرشد بيداغوجي (في الجزائر يسمى مفتش).
-
تحميل المدرسين مسؤولية نتائج تلامذتهم رغم أن للعائلة والمدرسة كمؤسسة
دور في هذه النتائج (في الكويت يدخل المرشد البيداغوجي ويستمع إلى الأستاذ حوالي
ربع ساعة ثم يستأذنه ويشرع في طرح أسئلة معرفية على التلاميذ ليدرك مستواهم ومقدار
تقدمهم في المنهج حتى يحكم على المدرّس من خلال مستوى تلاميذه).
-
تحسين مستوى التربية بصفة عامة.
-
توحيد
الثقافة الوطنية: نفس المقاربة البيداغوجية ونفس البرنامج ونفس المواد في جميع
أنحاء القطر.
-
أداة
ربط: يبلّغ المفقد أوامر الوزارة إلى المدرسين ويرفع تقاريره البيداغوجية إلى
الوزارة.
ما هي إشكالية التفقد؟
من يتفقد؟: هل يتفقد المدرس؟
هل يتفقد المدرسة؟ هل يتفقد النظام التربوي؟
ما هي بدائل المتفقد
الكلاسيكي المتاحة؟
-
الجهات
الفاعلة والمخولة لتفقد المحترفين هم المحترفون أنفسهم، خذ مثلا الأطباء، هم مراقَبون من قِبل عمادة الأطباء
نفسها.
-
المدرسون
الأكفاء يستطيعون تفقد زملائهم.
-
في
إفريقيا الجنوبية: يتكون فريق التفقد من ممثل للإدارة وممثل لنقابة المدرسين
ومدرّس يعيّنه زميله المعني بالتفقد. بهذا الصنيع الديمقراطي يكتسب التفقد
مصداقية، قد يفتقدها المتفقد الكلاسيكي.
-
قد
يُراقَب المدرسون من قبل المستفيدين أو الزبائن أو المستعملين مثل الأولياء
والتلامذة. في بعض البلدان النامية حيث تضعف أو تغيب الدولة، تخلق المدرسة شبكة
حولها، متكونة من تجمّع الأولياء. يموّل
الأولياء المؤسسات العمومية من الضرائب التي يدفعونها سنويا للدولة التي
تعيش عادة من هذه الضرائب. ومن يموّل المدرسة يستطيع ممارسة حق المراقبة والتوجيه
على المدرسين، يراقب تغيّبهم مثلا أو يحاسب المدرسة على النتائج. وفي هذه الحالة،
يختار الولي المدرسة حسب نتائجها وهذه سوق رائجة في فرنسا مع كل انعكاساتها
الضارّة.
فيما تتمثل مِهَنِية المدرس؟
المدرسون مهنيون بطبيعتهم.
ليس الهدف من التعليم هو البحث عن الرزق بل التعليم هو رسالة متكاملة في حد ذاتها.
يبدو أن للمدرسين الأكفاء الحق في شيء من الاستقلالية في مراقبة عملهم لكن من
الضروري إجراء مراقبة خارجية لتقييم كفاءتهم.
من يقيّم من؟
-
التقييمات
العالمية مثل تقييم "بيزا" التي تكشف نقاط الضعف في النظام التربوي
بمقارنته بأنظمة عالمية متفوقة.
-
التقييم
الذاتي وهو مشروع المدرسة مع العلم أنه ليس من السهل طرح نفسك موضوعا للنقاش
والنقد والمساءلة. قد يخلق هذا النوع من التقييم صراعات بين المدرسين وقد يثبط
عزائم البعض منهم.
-
من
الأفضل الجمع بين الأدوات الثلاثة للتقييم وهي تقييم المتفقد والتقييم الذاتي
والتقييمات العالمية. لا يجب الاستئناس بطرف واحد فقط، مثلا، قد لا يأخذ المفقد
الكلاسيكي في الاعتبار عمل أو مشروع المدرسين أنفسهم ولا يهتم بالتقييمات
العالمية. بهذا الصنيع الأحادي، يفقد الطرفان الآخران شرعيتهما ومصداقيتهما.
سأعرض عليكم أربعة نماذج
نمطية مثالية من التفقد في العالم حتى تقارنوا بينها:
2. نموذج التفقد الكلاسيكي
-
يُعدّ
النموذج الأكثر شعبية في فرنسا والدول الفرنكوفونية والأنغلوفونية مثل فيتنام
والسنغال وتنزانيا والمكسيك وتونس والمغرب والجزائر وموريتانيا ولبنان.
-
المدرس
هو متعاقد مع الوزارة، من حقها إذن مراقبته عن طريق المتفقد.
-
تعتمد
الوزارة في مراقبتها للمدرسين على تقرير المتفقد وعلى نتائج التلامذة.
-
لا تعير الوزارة اهتماما
كبيرا للتقييم الذاتي في المدرسة ويبقى المتفقد يمثل لديها الأداة الأساسية
للمراقبة.
-
يتمتع
سلك التفقد بنوع من الاستقلالية عن الإدارات الأخرى في الوزارة.
-
يتمتع
مدير المؤسسة التربوية بحق تفقد المدرس.
ما هي نقاط القوة في نموذج
التفقد الكلاسيكي؟
-
يُغطّي
التفقد جميع مدارس البلاد فهو موحِّد ثقافي للشعب وناشر للثقافة الوطنية في كل
أرجاء الوطن.
-
يوفر
التفقد دعما للمدرّسين ويفرض عليهم مراقبة مستمرة.
ما هي نقاط الضعف في نموذج
التفقد الكلاسيكي؟
-
بيروقراطية مُكلفة لأن التفقد يشمل كل المدارس (قال مدير إعدادية
نلسن مانديلا في فنلندا عندما سُئل: لماذا تكون تكلفة التلميذ الفنلندي أقل من
تكلفة التلميذ الفرنسي رغم أنكم لا تأخذون مقابلا للتسجيل والدراسة وتوفرون وجبة
غذائية ساخنة مجانية بالمدرسة وتتكفلون بمصاريف نقل التلاميذ من البيت إلى
المدرسة؟ أجاب: لأننا ألغينا سلك التفقد والميزانية المخصصة له.
-
بيروقراطية
ثقيلة لأن عدد المتفقدين لا يكفي فتكون زياراتهم للمدرّسين متباعدة زمنيا وبالتالي
غير ناجعة بيداغوجيا.
-
تنسيق
معقد بين الولايات والمعتمديات وبين المتفقدين أنفسهم وبين المدرسين المستفيدين من
عملية التفقد.
-
تناقض
بين المهمة الكبيرة والواعدة للتفقد وبين الإمكانات المحدودة والمتواضعة المتوفرة
خاصة في البلدان النامية حيث توسّع التعليم ولم تتبعه نهضة اقتصادية (مثل ما يقع
في تونس 2011). ينتج عن هذه الزيادة السريعة في عدد المدرسين، انخفاض في عدد المتفقدين
المخصصين لتفقدهم. لذلك يستوجب هذا الوضع التربوي الجديد مراجعات وإصلاحات جذرية.
-
صراع حول الأدوار: صراع
بين دور المتفقد كمراقب إداري ودوره كمرشد بيداغوجي جاء ليدعم المدرس في أداء عمله مما يجعل النجاح
في المهمتين صعب جدا أو شبه مستحيل. لو تقمّص المتفقد دور المقيِّم فالأستاذ لن
يثق فيه ولن يتكلم عن المصاعب الحقيقية التي تعترضه يوميا ولن يبوح له بنقاط ضعفه
خوفا من عدد تقييمه ومحاسبته. لو تقمّص المتفقد دور المرشد البيداغوجي فهو في هذه
الحالة لن يقوم بدور المراقب للمدرس، لذلك
يكون من الأفضل أن يتخلى المتفقد عن دور الزجر والتقييم ويلتفت فقط لدور الدعم البيداغوجي. أما إدارة
المدرسة فيجب أن لا تراقب نفسها بنفسها لذلك وجب خلق جهاز مراقبة مستقل نوعا ما عن
الإدارة وهذا سيحيلنا على النموذج الثاني وهو نموذج التفقد المركزي.
3. نموذج التفقد المركزي
-
يطبق
هذا النموذج حاليا في انقلترا وبلاد الغال والبلدان الأنقلوسكسونية وزيلندا
الجديدة وأستراليا.
-
يتكون
فريق التفقد من إثني عشر متفقدا. تُراقَب المدرسة كل ثلاث سنوات. يتفقد فريق
التفقد التجهيزات وطرق التعليم والنتائج وغيرها ويبعث بتقريره إلى الوزارة وينشره
على الأنترنات دون ذكر أسماء المدرسين المعنيين
(كما فعلت أنا عندما قمتُ بنقد سلوكيات
بعض المتفقدين الذين زاروني خلال حياتي المهنية الطويلة (سبع وثلاثون سنة)
ونشرت نقدي على صفحات الفايسبوك. هؤلاء المتفقدون أصبحوا جزءا من حياتي كأدوار
وليس كأشخاص لذلك يجوز لي ذكرهم ونقدهم ما لم أتعرض لحياتهم الشخصية التي ليست لها
علاقة مباشرة بحياتي المهنية وهذه الأخيرة هي
ملك لي وحدي فقط ولي حق التصرف فيها بكل حرية). يرتب فريق التفقد المدارس
على النت حسب نتائجها. قد يخلق هذا التمشي منافسة بين المدارس مما قد ينجرّ عنه
تحسن الأداء التربوي في بعض المدارس المتخلفة نسبيا أو ينتج عنه غلق بعض المدارس
الفاشلة لأن الأولياء سيختارون المدرسة الأكثر تفوقا.
-
ما
دام الأولياء هم الذين يموّلون المؤسسات العمومية فمن حقهم معرفة مصير تمويلاتهم.
-
يُطلَب
من المدرسة تقديم تقييم ذاتي قبل مجيء التفقد بشهرين لذلك تقوم المدرسة المقصودة
بـ"بروفة" تقيّم فيها نقاط قوتها لعرضها وإبرازها ونقاط ضعفها لتحسينها.
-
بعد
نشر التقرير المنشور على الأنترنات، قد تكتسب المدرسة المتفوقة سُمعة طيبة لدى
الأولياء ويزداد مدرسوها ثقة بالنفس، أما
المدارس الأقل تفوقا، فهي مطالبة بإعداد خطة للدعم والعلاج حسب توجيهات فريق
التفقد: مثلا لو كانت المدرسة المعنية تشتكي من مشكل العلاقات مع الأولياء قبل
التفقد ويكتشف فريق التفقد خللا آخر فيها، مثلا مشكل في تدريس الرياضيات فعليها
إذن الإسراع بإصلاح مشكل الرياضيات قبل مشكل الأولياء تماشيا مع توصيات فريق
التفقد الموافِقة لتعليمات الوزارة.
-
يتمتع
سلك التفقد ببعض الاستقلالية في إصدار قراراته.
-
يحتكر
الجهاز المركزي للتفقد مهمة التفقد في الوطن فلا وجود إذن لمتفقدين على المستوى
الجهوي أو المحلي.
-
تتمتع
المدارس بنوع من التسيير الذاتي مع توفر ميزانية خاصة لتمويل مشاريع التكوين
لإطاراتها الخاصة كتكليف جامعة أو شركة تكوين خاصة للقيام بهذه المهمة.
ما هي نقاط القوة في نموذج
التفقد المركزي؟
-
توزيع
المهام الواضح: تقتصر مهمة فريق التفقد على المراقبة فقط وتُترك مهمة الدعم
والعلاج للمدرسة نفسها. ألغِي الدعم البيداغوجي
وبقيت المراقبة الإدارية. ولو
اجتمع الدوران في شخص واحد، فقد يفقدان نجاعتهما مثل ما هو جارٍ به العمل في
النموذج الكلاسيكي الأول المطبق في فرنسا وتونس.
-
التخفيف
من ثقل البيروقراطية: يمتاز هذا النموذج بأقل عدد من المفقدين على المستوي الجهوي
والمحلي لأن فريق التفقد مجمّع في وحدة مركزية تراقب كل مدارس الجمهورية.
-
يحمّل
هذا النموذج كل مدرسة مسؤولية إيجاد حلول ملائمة لمشاكلها.
ما هي نقاط الضعف في نموذج
التفقد المركزي؟
-
تعاني
المدارس الضعيفة من غياب الدعم المقدم لها: مثلا مدرسة لا تتمتع بمساندة الأولياء
لأنهم مهاجرون جدد مثلا ولا يعرفون اللغة أو مدرسوها يرغبون في مغادرتها لضعف
نتائجها لذلك يصعب على هذه المدرسة اختيار وتطبيق الحلول الناجعة لتخطي أزمتها
وتحسين النظام التربوي داخلها. تحتاج هذه المدرسة لدعم خارجي يقود خُطاها لشاطئ
السلام. أضِف إلى هذه المشاكل ما ينجرّ عن الرتبة السيئة التي تحصلت عليها المدرسة
بعد التفقد فقد تُخفَّض ميزانيتها لضعف مساندة محيطها وقد تهجرها أفضل الأدمغة
التلمذية بحثا عن مدارس أفضل.
-
ينتج
عن هذا النموذج من التفقد المركزي كثيرٌ من التوتر المسلط على المدرسة وعلى
مديرها. يأتي هذا التوتر من الشعور بالنقص ومن الوعي بانعدام الإمكانات للخروج من
المأزق في بعض المدارس المحرومة.
-
قد
يساهم هذا النموذج من التفقد المركزي بصفة سلبية في تحديد مستقبل المدارس الضعيفة
مما قد يخلق فروقا كبيرة بين المدارس المتفوقة والأقل تفوقا. قد يخدم هذا النموذج
المدارس المتفوقة على حساب المدارس الضعيفة: يجلب للأولى عددا أوفرا من التلامذة
المتفوقين مما يجعلها في وضعية مريحة جدا تمكّنها من اختيار الأفضل وتحصل على
تلامذة متجانسين مما قد يحسّن نتائجها بصفة سريعة وملحوظة. وفي المقابل، قد تتفاقم
مشاكل المدارس الضعيفة وتتراكم لأن هذا النموذج من التفقد المركزي يكتفي بكشف
عيوبها ولا يساعدها على تخطّيها.
4. نموذج التفقد الذي يعتمد طريقة الدعم عن قرب
-
يُطبق
في الشيلي بعد رحيل "بينوشيه" لأن الدولة الجديدة تبحث عن شرعية في
الحكم من خلال اعتماد خطة لإلغاء الفوارق
الجهوية في التنمية. ويُطبق أيضا في بعض مقاطعات سويسرا وفي بعض البلدان النامية
كـ"سيرلنكا" مثلا من قِبل بعض المنظمات غير الحكومية.
-
هذا النموذجُ ينتقد
النموذجَ الأول والثاني: كل مدرسة تمثل حالة فريدة من نوعها وعلى نظام التفقد عن
قرب أن لا يعامل كل المدارس بنفس الكيفية مثلما هو جارٍ به العمل في نموذجَي
التفقد الكلاسيكي والتفقد المركزي.
-
يعتمد
هذا النموذج على المراقبة عن بعد والدعم و العلاج عن قرب. يترك المدارس المتفوقة
نسبيا تتصرف بحرية واستقلالية وتسيير ذاتي. يهتم هذا النموذج خاصة بالمدارس
المتدنية والتي تعاني من مشاكل وتحتاج إلى دعم.
-
اختار
نظام التفقد في الشيلي تسعمائة مدرسة متدنية النتائج من بين تسعة آلاف مدرسة
الموجودة في البلاد وقرر مساعدتها ودعمها للنهوض برسالتها التربوية على أحسن وجه.
-
لم
يَعُد يُسمى القائم بمهمة التفقد متفقدا بل يُسمى "مشرفا تقنيا
بيداغوجيا".
-
يتكفل
كل مشرف بمدرستين أو ثلاث مدارس فقط. لا يقتصر دوره على المراقبة فقط مثل متفقد
النموذج المركزي بل يقوم بالعمل مع إطارات المدرسة في ورشات على مدى ثلاث سنوات
لتحسين النظام التربوي داخلها. مهمة المشرف ليست بسيطة بل معقدة وهي توفر حلولا
أكثر من أن تخلق مشاكل. يقوم المشرف بدوره كممثل للإدارة المركزية وفي الوقت نفسه
كمرافق للمدرسين يشرّكهم في تحمّل المسؤولية التربوية ويحثهم على الاجتهاد لإيجاد
حلول من صنعهم تكون ملائمة لهم ولمدرستهم. يتكون فريق العمل من المشرف والمدرسين
والمدير وهذا الأخير هو الذي يرأس الفريق وله الحق في تفقد المدرسين العاملين في
مدرسته.
-
يتكون
سلك التفقد في الشيلي من نواة مركزية قليلة العدد، متركبة من خمسة أو ستة مشرفين
تقنيين بيداغوجيين يحددون سياسة نظام التفقد وجهاز جهوي يتكفل بتكوين المشرفين
التقنيين البيداغوجيين المحليين وجهاز قريب من المدارس حيث يوجد العدد الأكبر من
المشرفين التقنيين البيداغوجيين.
-
قلل
النظام التربوي في الشيلي من عدد المدارس المحتاجة حتى يستطيع توفير مشرف تقني
بيداغوجي عن قرب لكل مدرستين أو ثلاثة مدارس
ضعيفة.
-
لا
يهتم المشرف التقني البيداغوجي بالمسائل المالية الخاصة بالمدرسة حتى يتفرغ لمهمة
الدعم والعلاج البيداغوجي.
ما هي نقاط القوة في نموذج
التفقد الذي يعتمد طريقة الدعم عن قرب؟
-
نظام
تفقد هرَمِي حيث يوجد عدد قليل من المشرفين التقنيين البيداغوجيين في القمة والعدد
الأكبر من المشرفين يتواجد في القاعدة قرب المدارس يعني في المكان المناسب الذي
نحتاجهم فيه. بيروقراطية قليلة ورجال ميدان كُثر.
-
طاقم
عمل قادر على تقديم خدمة مرنة للمدرسة والمجتمع، يركّز على المدارس الأكثر ضعفا من
غيرها.
-
تخلّص
هذا النموذج من التفقد من عبء التفقد الإداري وركز على الدعم والعلاج عن قرب
للمدارس الضعيفة.
ما هي نقاط الضعف في نموذج
التفقد الذي يعتمد طريقة الدعم عن قرب؟
-
لا
يشمل هذا النموذج كل المدارس الضعيفة في البلاد.
-
عند
تطبيق هذا النموذج، قد تتحسن المدرسة لكن ببطء شديد.
-
يتطلب
هذا النموذج قاعدة بيانات رقمية مفصلة جدا قد لا تكون متوفرة في البلدان النامية.
-
يتطلب
تغييرا جذريا في ثقافة التفقد: لا نطلب من المفقد تغيير مقاربته الذاتية فرديا
لأنه خاضع إلى جهاز تفقد يعتمد على المقاربة القديمة التي تنظر بنفس العين إلى كل المدارس وكأنها متساوية وهي
في الواقع متفاوتة حتى في بلدان النموذج الكلاسيكي أوالمركزي المتقدمة كفرنسا أو
النامية كتونس والمغرب والجزائر وموريتانيا ولبنان.
-
من حسن حظ الشيلي أين يُطبق هذا النموذج أن عدد مدارسها
الضعيفة قليل نسبيا لذلك قد يصعب تطبيق هذا النموذج في جل البلدان النامية حيث
تحتاج تسعين في المائة من مدارسها للدعم والعلاج عن قرب. لكن يبقى دائما من الأفضل
أن نقدّم الدعم والعلاج عن قرب بصفة جدية مثلا لثلاث مدارس متدنية فقط عوض أن
نقدمه بصفة سطحية لـخمس وعشرين.
-
المدرسة التي تمتعت بمساعدة المشرف لمدة ثلاث سنوات فقط،
قد تنتكس بعد مدة قصيرة وتعود من جديد لمجابهة مشاكل جديدة لذلك يفكر المشرفون على
هذا النموذج في الشيلي في تمديد مدة الإشراف على المدرسة والدعم عن قرب إلى خمس
سنوات عوض ثلاث.
-
استعانت الوزارة في هذا البرنامج بالمتفقدين القدامى الذين عملوا في فترة حكم
"بينوشيه" بعد ما أقنعتهم بالمقاربة الجديدة وهي الدعم والعلاج عن قرب
عوض التفقد الكلاسيكي المعمول به قبل 1990 أي في عهد "بينوشيه".
5. النموذج الخالي من
التفقد البيداغوجي والمراقبة الإدارية
-
يُطبق
في البلدان الأسكندنافية مثل فنلندا والنرويج والدنمارك.
-
في
سنة إحدى وتسعين وتسمائة وألف، قرر الفنلنديون إلغاء العمل نهائيا بنظام التفقد
بنماذجه الثلاثة السابقة (أحيّيهم وأشدّ على أياديهم بصدق وإخلاص وسوف يأتي يوم-في
تونس العزيزة-نلتحق بركبهم رغم مقاومة المحافظين الجدد والمتكلسين فكريا وعلميا
والمحنطين من سياسيين وصانعي برامج ومتفقدين وأساتذة).
-
يمتاز
التعليم الفنلندي بمدرّسين أكفاء. لا يدرّس في الثانوي ولا في الابتدائي، إلا حامل
شهادة جامعية تساوي الماجستير في الاختصاص. يتمتع المدرس في فنلندا بوضع مميّز بين
الموظفين الآخرين والدليل أنه في استفتاء لدى الشباب حول أفضل مهنة ترغب في
ممارستها بعد التخرج، كان الجواب بأكثرية ساحقة: مهنة التدريس.
-
يتجمع
الأولياء ويكوّنون
جمعيات مساندة لمدرستهم التي تشغّل أولا أولاد منطقتهم وكلّهم يعتبرون المدرسة
ملكهم الشخصي ويحافظون عليها كما يحافظون على منازلهم وممتلكاتهم الخاصة.
-
يراقب
المدرسون أنفسَهم بأنفسِهم وقد تتدخل لجنة المدرسة المتكونة من المدير والأولياء
والمدرسين بالمراقبة الإدارية وتوجِّه مثلا، لوما لأستاذ كثير التغيّب عن العمل.
-
تتمتع
فنلندا بشعب متجانس الثقافة والتراث والدين والعرق ولا توجد فيه أقليات ذات تأثير
محسوس. لذلك لا يحتاجون إلى جهاز تفقد يكون من أبرز مهامه التوحيد بين الثقافات
المختلفة في الجهات والبلديات في جميع
أرجاء الوطن فهي موحدة بطبيعة سكانها المتجانسين.
-
تتمتع
المدرسة الفنلندية باستقلالية في التسيير والدعم والعلاج والمراقبة الإدارية
والبيداغوجية. تطبق المدرسة الأسكندينافية
نظاما تربويا متكاملا ومستقلا لكنه متجانس مع ما يقع في المدارس الوطنية الأخرى
بطبيعته وبطبيعة شعب فنلندا المتجانس ثقافيا.
-
توجد
مراقبة مركزية عن بعد قد تتدخل عند اللزوم في شؤون أي مدرسة في القطر.
ما هي نقاط القوة في
النموذج الخالي من التفقد البيداغوجي والمراقبة الإدارية؟
-
تحميل
المسؤولية للأولياء والمدرسين في تسيير مدرستهم. يرتكز هذا التحسيس
بالمسؤولية على فكرة أن التغيير لا يأتي
إلا من الداخل (قرآن: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما
بأنفسهم". أطلب الإذن وأنشد العذر من المليار ونصف مسلم المحترمين وأنسج على
منوال الآية لغويا وليس عقائديا ما يلي: "إن التفقد لا يغيّر ما بمدرسة حتى
يغيّر مدرّسوها ما بأنفسهم").
-
يمتاز
هذا النموذج الخالي من التفقد البيداغوجي بخلوه من أسوأ مظاهر البيروقراطية.
ما هي نقاط الضعف في النموذج
الخالي من التفقد البيداغوجي والمراقبة الإدارية ؟
-
قد يُمتَّعُ بمزايا هذا النموذج المدارس المتفوقة فقط
على حساب المدارس الأقل تفوقا رغم ندرة هذه الأخيرة في البلدان الإسكندنافية.
-
لو استوردنا هذا النموذج في البلدان النامية فقد لا
يُكتب له النجاح لتدهور المستوى العلمي والبيداغوجي والتعلّمي لدى المدرسين
ولانعدام الوعي التربوي الداعم للمدرسة عند جل الأولياء خاصة وأن هؤلاء الأخيرين
يهابون سلطة المدير وسلطة المدرّسين تُجار العلم ومحتكري المعرفة، أعني مقاولي
الدروس الخصوصية الذين لا يحترمون ضوابط الدروس الخصوصية ومنها توفير مكان مناسب
للتعلّم وليس "ڤاراجا" ضيقا وغير صحي. والمدرسون عمومًا يهابون بدورهم
المتفقدين وهؤلاء الأخيرون يطبقون ما صممه واضعو البرامج وما قرره الساهرون على
السياسة التربوية التابعة أحيانًا لإملاءات صندوق النقد الدولي.
-
لو أوكلنا للمدرسة جانبا كبيرا من التسيير الذاتي في
بلدان ذات شعوب غير متجانسة ثقافيا، قد لا تصل نفس الرسالة الثقافية الوطنية
الموحِّدة والمجمِعة لكل تلميذ مواطن ولهذا السبب بالذات نجح هذا النموذج أيما نجاح
في فنلندا دون غيرها من البلدان غير المتجانسة ثقافيا.
الخاتمة
-
أستشرف
سؤالا، قد تسألونه بعد قراءة المحاضرة: هل نستطيع تمييز أو تفضيل نموذج على نموذج
آخر من بين النماذج الأربعة المذكورة أعلاه؟
-
الجواب:
هي أمثلة متعددة لواقع متنوع في العالم وكل نموذج منهم يتعرّض إلى مصاعب وقد
يتأقلم مع بلاد أكثر من بلاد أخرى.
-
السؤال
الآخر المهم: ما هي العوامل التي قد تؤثّر على نموذج من هذه النماذج الأربعة؟
-
الجواب:
خمسة:
-
نجاعة
و كفاءة الإطار التربوي وإمكانات البلاد المعنية: نأخذ مثلا بلدان العالم الثالث،
حتى ولو أرادت تبنّي برنامج طموح فلن تقدر على تطبيقه لقلة مواردها المادية
والبشرية.
-
المستوي
العلمي والبيداغوجي والتعلّمي ومهنية المدرسين.
-
نقص
الاهتمام بالشأن التربوي وعدم إعطائه الأولوية لدى الأولياء ولدى الرأي العام في
البلاد.
-
وجوب
إرساء طريقة التسيير الذاتي داخل المدرسة.
-
مستوى
وطبيعة الفروقات الاجتماعية والثقافية في بعض البلدان حيث تسعى السلطة السياسية
إلى تخطي هذه العوائق الحضارية والتاريخية. انتهت المحاضرة
سأضيف
فقرة قصيرة مترجمة، لم ترِد في المحاضرة، وجدتها في الأنترنات أيضا وأعجبتني: قالت
متباهية، أستاذة التاريخ والجغرافيا في معهد "فرنسي- فنلندي"،
"إيستال فوهر بريجانت": "هنا لا يُسَلّطُ علينا تفقد وهذا الوضع
الجديد ساعدني على التجديد البيداغوجي. في فرنسا، يحاول المدرسون بكل ثمن أن
ينالوا إعجاب المتفقد وأن لا يثيروا استياءه على الأقل والتفقد يشلّ حركتهم ويعيق
تعاونهم مع بعضهم في صلب فريق التدريس. هذه الحرية التي أتمتع بها الآن قد تمثل مع
ذلك خطرا على الأساتذة الذين يحاولون التحرّر من سلطة البرامج أو الذين يبالغون في
التخفيف من عبء رسالتهم التربوية".
تستطيعون
تشغيل رابط المحاضرة التالي:
http://www.esen.education.fr/fileadmin/user_upload/Modules/Ressources/Conferences/flash/09-10/de_grauwe/de_grauwe_a_inspection/de_grauwe_a_inspection_FlashLD_784x500.html
أنهي مقالي بطرح إشكالية كما يطالبنا بإلحاح متفقدونا
الأفاضل وهم على صواب: لماذا لا تُعرَض هذه المحاضرة على كل المدرسين في جميع
الاختصاصات في يوم بيداغوجي مشترك وتحت إشراف متفقدينا المحترمين ّ لتعميم
الفائدة؟
التفقد البيداغوجي في تونس: هل هو الحل أم هو المشكل؟
الإهداء: إلى بطلة قصتنا، المعلمة الصامدة، التي لم يحبطها الفهم الخاطئ
والاستعمال السيئ لمهنة التفقد من قِبل بعض المتفقدين ولم يثنها ظلمهم لها عن أداء
رسالتها التربوية كما يجب.
من الصعب جدا أن تخوض في موضوع شائك
ومعقد وحساس مثل علاقة المدرس بالمتفقد والأصعب أن تكتب فيه دون بحث علمي
ميداني مسبق (La recherche-action). مع العلم أن وزارة التربية تعرقل الأستاذ التونسي المباشر في
المعاهد التونسية والباحث العلمي في علوم التربية حين يحاول، دون ترخيص، إجراء
بحوث علمية تربوية داخل المؤسسات التربوية، أما إذا أراد الباحثُ دخول الأقسام
فيجب عليه الاستظهار بترخيص رسمي من وزارة التربية. لكنني لست خاويَ الوفاض، لقد درستُ علم التقييم أكاديميا
لمدة سنة في بداية المرحلة الثالثة، أعددتُ ماجستير و دكتورا في تعلمية البيولوجيا
خلال سبع سنوات بجامعة كلود برنار بليون 1 في فرنسا وبجامعة تونس، أمارس مهنة
التعليم منذ ست وثلاثين سنة، اختلفتُ مع المتفقدين سنينا طويلة وتصالحت معهم سنينا
أطول ولي بينهم أصدقاء أعزاء كثر ومنهم رفاق مرحلة ثالثة، عملتُ معهم مكونا في
مادة علوم الحياة والأرض، كما سبق لي وأن أشرفت على حصة تكوين يتيمة موجهة لمتفقدي
التعليم الابتدائي، قمتُ بتربص بيداغوجي قصير في نانسي بفرنسا حيث شاركتُ في يوم
بيداغوجي وزرتُ مخابر معهد ثانوي وحضرتُ درسا نموذجيا في علوم الحياة والأرض
وواكبتُ مناقشة بحث قام بها فريق من تلاميذ المعهد في إطار بيداغوجيا المشروع.
سأحيّدُ منهجيا الأشخاص في مقالي هذا ولن أعمّم استنتاجاتي وبكل وضوح في الرؤيا
سأنقدُ بكل شفافية وجرأة لكن في كنف الاحترام ودون الخروج عن حدود اللياقة والأدب
ودون تجريح في أشخاص نعزّهم ونكرّمهم ونعتبرهم أساتذتنا بعد أساتذة الجامعة. أبدأ
بشهادة من أهل مهنة التفقد: مِن بين المفقدين أنفسهم يوجد مَن وافقني على النقد
الوارد في هذا المقال عندما طرحته في منابر عدة. سأشرح نظام التفقد اللاعلمي وغير
الموضوعي المسلط على المدرس من قِبل سلطة الإشراف فالمتفقد بطبيعته إذن، شاء أم
أبى، علم أو لم يعلم، هو أداة نظام التفقد اللاعلمي وغير الموضوعي ما دام هو نفسه
يفتقد للتكوين الأكاديمي. أقصد بالتكوين الأكاديمي التكوين الذي يُتوّج عادة
بشهادة جامعية معترف بها كالتبريز أو الأستاذية أو الماجستير أو الدكتورا ولا أقصد
وحدات التكوين النظري القصير والسريع ولا التربصات التطبيقية مع احترامي لهذا
النوع الأخير من التكوين. لم يتلق المتفقد التونسي تكوينا جامعيا في علم التقييم
ولا في علوم التربية ولا في فلسفة وتاريخ العلوم ولا في علوم التواصل ولا يملك
شهادة علمية أعلى من شهادة المدرس الذي يتفقده. سبق لي وإن وجهتُ هذا النقد إلى
متفقدي علوم الحياة والأرض خلال ندوة حضرها الوزير منصر رويسي في مركز أريانة
للتكوين المستمر عندما دعتهم مديرة التعليم الثانوي ليلى البوزايدي (سنة 2000)،
بعد استشارتي شخصيا حول قائمة المتفقدين المدعوين. كنتُ حينذاك في أيام العز
و"السردكة الفكرية" (فعل سردك مشتق من كلمة سردوك أي الديك بالعربية
الفصحى ويعني "نفخ الديك ريشه مزهوّا ومضخِّما جسمه الضئيل والنحيل").
اقتصرت أيام العز وهي قليلة جدا على فترة صداقتي العلمية وليست الذاتية مع وزير
التربية السابق والمثقف المحترم، الأستاذ الجامعي القدير الدكتور منصر رويسي.
وجّهتُ هذا النقد مباشرة للمتفقدين الحاضرين دون مجاملة ودون نفاق بل بصدق مَن
يغار على مهنة التفقد ويريد النهوض بها. من الصدف المنعشة أن الوزارة أسست بعد هذا
التدخل، أو قد تكون خططت له منذ سنين، معهد تكوين متفقدي الثانوي والأساسي في
قرطاج ولي فيه رفاق مرحلة ثالثة كثر أيضا، فيهم رجال ونساء، نساء جميلات جدا يدخلن
على المدرس الابتسامة والرقة واللطف الذي لم نعهده في متفقدينا القدامى ذكورا
وإناثا. أود جلب انتباهكم أنني لا أقول هذا الكلام من باب النكتة فابتسامة المتفقد
صدقة ورحمة وجواز عبور وقرص أو "حربوشة" تزرع الثقة بالنفس والاطمئنان
والأمن والأمان في قلب المدرس فيؤدي درسه ويبدع أمام متفقد متعاون متعاطف ومتفهم
لظروف العمل القاسية التي يمارس المدرس التونسي تحت قساوتها أشرف مهنة في الوجود
بأقل أجر موجود. استجاب معهد المتفقدين بقرطاج لشروط التكوين البيداغوجي والتعلمي
وبقي التكوين العلمي في الاختصاص ناقصا. لسد هذا النقص، أقترح أن لا يُقبل في هذا
المعهد إلا "الأساتذة المبرزون" في اختصاصهم وهذا الإجراء معمول به في
فرنسا. يمتاز الأستاذ المبرز على الأستاذ العادي بسِعة اطلاعه على معارف اختصاصه
وتملّكها والقدرة على توظيفها توظيفا جيدا ومفيدا، لكن في الوقت نفسه يفتقد
الأستاذ المبرز إلى التكوين في فلسفة وتاريخ العلوم ولم يدرس أكاديميا "إدراك
عملية الإدراك" ( La métacognition) وهي أعلى
درجات المعرفة وتتمثل مهمتها في "التفكير في آليات التفكير وفي معرفة أننا
نعرف وفي اختيار الطريقة الأنسب لحل المشاكل" وكما قال بيار قريكو: " لو
أن الإنسان الذي يقول لا أعرف, عرف لماذا يقول لا, لكان قادرا على تحديد نَعَمْ
المستقبلية". عندما أشترط التبريز لدخول معهد المفقدين بقرطاج، أشعر أنني
ظلمت زملائي أساتذة علوم الحياة والأرض الطامحين إلى خطة مفقد لأن اختصاصنا هو
الاختصاص العلمي الوحيد، على ما أذكر، المحروم من اجتياز مناظرة التبريز غير
الموجودة في تونس منذ الاستقلال. بهذه المناسبة أوجه سؤالا مفتوحا إلى وزير
التربية التونسية: لماذا يُحرم أساتذة علوم الحياة و الأرض من نيل أهم كفاءة علمية
يفتخر بها أستاذ الثانوي؟
سأعتمد في طرحي التالي على المثلث
التعلّمي (ثلاثة أقطاب: المدرس، التلميذ والمعرفة) (Le triangle didactique ou
pédagogique) وسأنحت من رحمه المثلث التقييمي
(Le triangle
d’évaluation) إن لم يكن موجودا، وسأحدد أقطابه
الثلاثة وهي المتفقد والمدرس والتقييم. من المؤسف جدا أن المفقد والمدرس لم يدرسا
أكاديميا علم التقييم ومن يقيّم دون علم تقييم كمن يبيع سلعة دون ميزان وفاقد
العلم لا يعطيه. يطالبنا المتفقدون بتقييم إجمالي جزائي وتقييم تكويني وتقييم
استباقي وسَمِّ ما شئت من الأنواع وهي كلها مفيدة للتلميذ والمدرس لكن من
المتناقضات أن المتفقدين لا يطبقون علينا، نحن الأساتذة، إلا نوعا واحدا من
التقييمات السابقة وهو التقييم الإجمالي الجزائي. الخطير أن وراء هذا النوع الأخير
من التقييم تكمن نظريات وايدولوجيا المدرسة السلوكية. برز هذا النموذج في أمريكا
الستينات على أيدي العالِمين، مؤسسي المدرسة السلوكية، "واتسون"
و"سكينر". يتعامل المتفقد مع المدرس بأسلوب الإثارة ورد الفعل مثلما
يدرّب "بافلوف" كلبه، يجازيه عند الإجابة الصحيحة ويعاقبه إن أخطأ.
يطالبنا المتفقدون وبإلحاح رب العمل وأوامره بمدّ التلميذ بمقياس الإصلاح (Barème de correction) مع ورقة الامتحان. يا أساتذة علوم الحياة والأرض، هل مدّكم يوما
مفقد بمقياس تقييمه قبل التفقد؟ لقد بلغني أخيرا أن مثال مقياس التفقد متوفر على
النات. يوصوننا بل ويمنعوننا بالقانون بعدم إجراء فرض مراقبة فجائي احتراما
للتلميذ واجتنابا لوقوعه في الخطأ، بارك الله فيهم وفي تفهّمهم لحقوق التلميذ
ومشاعره باعتباره محور العملية التربوية، ويباغتونا، هم، بزياراتهم الفجائية
بِنيّة القبض على المدرس متلبسا! فهل بعد هذا التناقض تناقظا؟
لقد شاركتُ مرة في مؤتمر علمي في
المنستير من 15 إلى 18 ماي 2006 نظمته "الجمعية العالمية للبيداغوجيا
الجامعية" فاسمحوا لي قرائي الكرام أن أعلمكم أن الأساتذة الجامعيين لا
يخضعون للتفقد وكأنهم رضعوا علوم التربية في الحليب أو ورثوها في جيناتهم وهم لا
يمدّون طلبتهم بمقياس الإصلاح ولا يرجعون ورقة الامتحان ولا يناقشون العدد مع
الطالب كأن تقييمهم قرآن وهُم، مع الأسف الشديد، مثلهم مثل الأساتذة والمعلمين لم
يدرسوا علم التقييم ولا علوم التربية (ما عدا المدرّسين الجامعيين الذين يدرّسون
هذه الاختصاصات). هل الأساتذة الجامعيون يتمتعون بثقة عمياء إلى درجة كونهم يعفون
من التفقد ولا تطالبهم الوزارة بتطبيق القواعد الأساسية في التقييم؟ وهل نحن
مدرّسو الأساسي والإعدادي والثانوي متهمون بالقصور البيداغوجي وعلينا إثبات
براءتنا وولائنا لشخص المتفقد الذي لا يفوقنا علما ولا تجربة؟ ما هي مقاييس انتداب
المتفقدين؟ وهل هي علمية وموضوعية؟ وهل قرار المتفقد هو قرارٌ مستقل تماما عن إملاءات
الوزارة؟ أقصد بالإملاءات أن لا يوظف المتفقد لخدمة أغراض إدارية غير بيداغوجية
مثل إخضاع الأستاذ المتنطع والمشاكس نقابيا أو إداريا وأن لا يُستغل تقريره السلبي
لأهداف تأديبية لا علاقة لها بالبيداغوجيا.
أنا لا أشك في الأشخاص ولا اقرأ
النوايا ولا أحاكمها، لكن نقدي موجّه لنظام التفقد الذي يفتقد للتكوين الأكاديمي
في علوم التربية وعلم التقييم. مع العلم أنه ليس من السهل الفصل التعسّفي بين المهنة
وأصحابها وقد سمعت مرات عديدة بعض المفقدين المستنيرين رفاقي في المرحلة ثالثة
علوم التربية، اختصاص تعلمية البيولوجيا، يتذمّرون من الأساليب البالية والمتخلفة
واللاعلمية وغير الموضوعية في مهنتهم وينتقدونها بغيرة المحب لمهنته وإتقان
المحترفين.
نمر الآن إلي المهم وهو "العقد
التقييمي" (Le contrat
d’évaluation) الذي يربط المتفقد بالمدرس وهو
عقد ضمني غير مكتوب ومسكوت عنه من جل متفقدي الابتدائي والثانوي عن قصد أو دون
قصد. يبدو لي انه من الأفضل أن يتولى المتفقد شرح هذا العقد في أول ملتقى بيداغوجي
بمركز التكوين حتى يتبين المدرس حقوقه من واجباته كما أفعل شخصيا في أول حصة مع
تلامذتي وأشرح لهم "العقد البيداغوجي" الذي يربطني بهم ضمنيا. هل سمعتم
يوما متفقدا يشرح للمدرسين الذين يشرف عليهم طريقة عمله أو يقرأ لهم مقياس تقييمه
حتى يحذّرهم من الوقوع في الأخطاء الإجرائية البسيطة؟ نعم، سمعنا وأطعنا ويا ليتنا
ما سمعنا ولا أطعنا وطبقنا بتبعية وعمى تربوي، سمعنا بعض المتفقدين يبدعون في
الاتجاه المعاكس ويملون على المدرسين الخائفين الوجلين المبهورين وصفاتًا
بيداغوجية جاهزة باهتة.
نصل الآن إلى طرح الإشكالية التي يحتوي عليها عنوان المقال: كيف يستطيع المتفقد
تغيير تصورات المدرس غير العلمية حول عملية التفقد؟
نبدأ بتعريف
مفهوم التصورات عموما: يعرّف مدير أطروحتي السابق "كليمان" (1998,
2004) تصورات التلميذ على النحو التالي: تنبثق التصورات غير العلمية (Les conceptions non scientifiques) والعلمية من التفاعل بين معارف التلميذ وقِيَمِه والممارسات
الاجتماعية المرجعية حسب نموذجه المشهور "م ق م" ذي الأقطاب الثلاثة (KVP : K, Knowledge en anglais ou
connaissances ; V, valeurs ; P, pratiques sociales de référence). أستعير هذا النموذج من أستاذي و أكيّفه مع موضوعنا الحالي و
أقول: تنبثق تصورات المدرس غير العلمية حول عملية التفقد من التفاعل بين معرفته
بعلم التقييم وقيمه المرجعية وممارسات المتفقد حياله وحيال زملائه أثناء الملتقيات
البيداغوجية وخلال زيارات التفقد. يفتقد المدرس إلى علم التقييم كما أكدنا سابقا،
إذن، يبقى في جعبته قيمه الموروثة حضاريا والمكتسبة اجتماعيا وتمثّله للسلطة
المجسّمة في شخص المتفقد.
هل يستفيد المدرس من الملتقيات البيداغوجية في مراكز
التكوين؟
إنني أشك كثيرا في جدواها وذلك
للأسباب التالية: المتفقد هو الذي يقوم بالتكوين في هذه الحصص وفي بعض الأحيان قد
يقوم بها أستاذٌ مكوّنٌ. الاثنان يفتقدان للتكوين الأكاديمي النظري في علوم
التربية وكما هو معلوم، كل تطبيق سليم تسبقه نظرية سليمة تتفاعل بدورها مع نتائج
التطبيق وتطور نفسها بنفسها. أرى أنه بتوفّر التكوين الأكاديمي للمتفقد والاستاذ
المكوّن، قد تكتسب الملتقيات البيداغوجية في
المستقبل جدوى؟ لقد مارستُ خطة أستاذ مكون لمدة عامين، ومن حسن حظي أنه
صادف في تلك السنة وجود برنامج تكوين في التعلمية، اختصاصي الثاني، وعندما كلفني
المتفقد بتكوين زملائي في كيفية استعمال الكتاب، اعتذرتُ وقدمت استقالتي فورا
لأنني أعي أنني لن أقوم بهذه المهمة على أفضل وجه بسبب عدم إلمامي بموضوع التكوين
هذا وفاقد العلم لن يعطي إضافة علمية. زد على هذا أن أجر الأستاذ المكوّن زهيد
جدا، ديناران وخمس مائة مليم الساعة، يعني يعد الأستاذ حصته لمدة 15 يوما ويعرضها
على الحاسوب ويناقشها مع زملائه لمدة أربع ساعات وأجر الحصة عشرة دنانير لا غير في
سنة 2000، أقل من الأجر الأدنى الصناعي ليوم عمل! وفي المقابل، عندما يَستدعي
المتفقد أستاذا جامعيا ليلقي محاضرة بساعتين، يغدقون عليه أجرا محترما من مائة إلى
مائتي دينار الحصة الواحدة. أليس هذا حيفا كبيرا واحتقارا مهينا وإحباطا مقرفا
لمجهودات أستاذ الثانوي، لَكأن الأستاذ الجامعي التونسي عالم ومنتج علم، والحقيقة
أننا نحن أساتذة الثانوي وأساتذة الجامعة "في الهواء سواء"، نحن وهم
لسنا إلا ناقلي علم ولسنا منتجي علم، أما منتِجِو العلم فهم عادة أساتذة جامعة أجانب
يقيمون وراء البحار، وعند استقدامهم يُكافؤون بمئات أو آلاف الدولارات. كان الأجدر
بوزارتنا أن تثمّن عمل أستاذ الثانوي وترفع من شأنه، لأنه هو الوحيد الخبير بشعاب
التعليم الثانوي ومشاكله وإشكالياته ويوجد في النهر ما لا يوجد في البحر. يحمل
المئات من أساتذة الثانوي أو الآلاف (لا أعرف الرقم الدقيق) شهائد عليا من ماجستير
إلى دكتورا في كل الاختصاصات وعلى العكس يوجد حوالي عشرة آلاف أستاذ جامعي لا
يحملون شهادة الدكتورا في الاختصاصات التي يدرّسونها (حوالي نصف العدد الجملي
لأساتذة العالي سنة 2000) مع العلم أنني لا ألوم هؤلاء الأخيرين ولا أستنقص من
قيمتهم العلمية ففيهم أساتذة أكفاء أجلاء. لكن الخور يبرز عندما يكون الدكتور
متوفرا في الاختصاص نفسه كحالتي أنا ولا تنتدبه الجامعة لأسباب مالية غير
بيداغوجية وأسمع من زملائي وأصدقائي طلبة معهد المتفقدين بقرطاج أن من يدرّسهم
التعلمية هم مفقدو ثانوي لم يدرسوا أكاديميا ولو عاما واحدا هذا الاختصاص الصعب
والمعقد.
سؤال يلحّ عليّ غالبا:
لماذا لا يُعلِم المتفقد مسبقا المدرس
بزيارته؟ لقد سبق وناقشتُ هذه المسألة مع صديق متفقد علوم الحياة والأرض ورفيق مرحلة
ثالثة تعلمية البيولوجيا فقال لي بالحرف الواحد: أنا موافق على الإعلام المسبق
للمدرس وما الضرر لو حضّر درسه وهيأ تلامذته وبذل مجهودا أكبر في البحث والتمحيص؟
أليس هذا هو هدفنا في التكوين وقد بلغناه بأيسر السبل وبطريقة بنائية ذاتية؟
واستطرد يقول: تصور وقل لي حسب رأيك من عارض هذه الفكرة أثناء نقاشها في اجتماع
المتفقدين؟ الشباب أم الكبار في السن؟ قلتُ: الكبار طبعا. قال: آسف! عارضها الشباب
للحفاظ على هالة سلطتهم وسطوتها وبَهرجها وناموسها، جنون العظمة الذي من أجله
دخلوا المهنة. شهادة الزميل عفيف ساسي، مجاز في الآداب العربية وهو الذي راجع لغويا
كتابي هذا: "المتفقدون الأجانب (وبالذات الفرنسيون) كانوا-أو جلهم لا أدري-
يعلمون الأستاذ مسبقا لأن هذا الأمر عشته شخصيا عندما كنت أدرّس الفرنسية في
السبعينيات في ڤبلي مع متفقدة فرنسية لا زلت أذكر اسمها (Tatiana
Orsini) وأذكر عدد الترسيم الذي أسندته
لي (B). كانت تعلمنا أنا وأساتذة الفرنسية من زملائي بالهاتف يومين أو
أكثر (نسيت). يا له من ماضٍ جميل!
لماذا لا يتم التفقد عبر لجنة متكوّنة
من المتفقد والمدير وزميلين قديمين؟ قد تُضفي اللجنة على التقييم قليلا من
التعددية والديمقراطية والعدل والإنصاف وتُبعد عن المتفقد الشريف أخطار المهنة
التي يتعرض لها والمتمثلة في شبهات المحسوبية و"البنعمية" والرشوة
والانتقام والتحرش الجنسي.
كيف يكون التقييم علميا وموضوعيا وأنا
كأستاذ لم يزرني المتفقد إلا سبع مرات فقط خلال ثمانية وثلاثين عاما في مهنتي.
ثمان سنوات منها في الجزائر، زارني خلالها المتفقد مرة واحدة وكنت حينذاك ادرّس في
غير اختصاصي (اللغة الفرنسية)، بقي معي ربع ساعة أمضاها في الشكر والإطراء على
مدرس في غير اختصاصه! في الجزائر، يسمون المتفقد مفتشا لأنه ما جاء إلا ليفتش عن
نقاط ضعف المدرس حتى يذله ويحبطه. يستمد المفتش قوته من ضعف المدرس وانعدام
مقاومته وغياب صموده وافتقاده للثقة بالنفس. وفي مصر أيضا يُسمى المتفد مفتشا.
سنة
1976، زارني متفقد فرنسي في جربة في آخر عامي الثاني تربص (دائما الأستاذ
الجديد يقول في نفسه : هذه مهنة وقتية وسوف أكمل تعليمي وأنتقل إلى التدريس في العالي
وفي أكثر الحالات يبقى في الثانوي طوال عمره أستاذا كما دخل أو أقَل، بحكم العمر
والمرض) فرفضتٌ قبوله في قسمي لعدم توفر درس أقدمه في حضوره بعد أن أتممتُ
البرنامج. عاقبتني الوزارة على عدم قبول المتفقد في قسمي واستغنت عن خدماتي
نهائيا. من حسن حظي توصلتُ إلى استرجاع عملي في نفس السنة عن طريق النقابة مع نقلة
عقاب من جربة إلى غار الدماء.
سنة
1978، زارتني متفقدة فرنسية في غار الدماء وأنا أعيد التربص بعد الرفت في
جربة، قالت لي أثناء النقاش: لقد ارتكبت خطأ علميا. أقنعتُها أنني لم أفعل فاقتنعت
ورسّمتني بعدد 16على 20.
سنة
1988، زارني متفقد في غار الدماء و خفّض لي العدد من 16 إلى 10 ورجع بعد
شهر وأوصل العدد إلى 9 عقابا لي عن تجربة طريفة ومقنعة قمتُ بها وهي ليست موجودة
في البرنامج الرسمي وعلى معلومة علمية صحيحة علمتها لتلامذتي ومن سوء طالعي ونحسي
كان المتفقد يجهلها في ذلك الوقت ولم يقتنع بعلمي كما اقتنعت المتفقدة الفرنسية
وشكرتني. ليس العيب في جهل المعلومة في حد ذاتها، وهذا وارد لدى أعلم الأساتذة،
ولكن كل العيب يبرز عندما يعتبر المتفقد المعلومة الصحيحة خطأ لأنه يجهلها والأغرب
أن يسجلها في تقريره مع العلم أن هذا المتفقد بالذات كان يفوقني حينها علما وتجربة
وهو من أكفأ المتفقدين وأنزههم وأعلمهم وهو متحصل على شهادة الدراسات المعمقة في
علم الوراثة على ما أذكر (AEA).
سنة
1994، زارني متفقد في برج السدرية، طرق الباب قبل الدخول وطلب مني الإذن
بالدخول، فتحتُ له الباب ورحبتُ به ترحيبا كبيرا وقلتُ له: أول مرة في حياتي
يحترمني متفقد! زادني أربع نقاط ونصف فأصبح عددي البيداغوجي 13.5.
سنة 2000 وبعد عشر سنوات من مروري
بغار الدماء، لحقني صدفة إلى ولاية بن عروس متفقد غار الدماء المذكور أعلاه فوجدني
أستاذا مكونا مع زميله الذي عوضه. جاءني في حصة تكوين وطلب مني بكل لطف وروح
رياضية أن أنسى المشكلة التي وقعت بيننا في غار الدماء، فاستجبت لطلبه فورا من فرط
أدبه و سلوكه الحضاري. تشاء الأيام كما يشاء كشكار، زارني هذا الأخير في برج
السدرية وأنصفني أيما إنصاف بعد ما ظلمني في غار الدماء أيما ظلم وأسند لي عددا
بيداغوجيا محترما (20\17), عدد ما زلت أفتخر به حتى الآن.
كيف يكون التقييم علميا وموضوعيا و
المتفقد يزور المدرس بمعدل مرة كل خمس سنوات ويقيمه خلال ساعة واحدة بعد أن يُفقده
توازنه النفسي بطلته البهية وتكبره وتجهمه (أتحفظ ولن أعمم تجربتي الشخصية على كل
المتفقدين). ينهار المدرس منذ البداية وهو لا يرى في عينَي زائره إلا الترصد
لأخطائه وتدوينها بحضور المدير أحيانا.
سأروي لكم سبع طُرف واقعية حول التفقد في تونس:
الطرفة الأولى: جاء متفقد لزيارة الأستاذ عمار،
أستاذ علوم الحياة والأرض، فلم يجده لأنه متغيب لسبب نجهله فتفقد مختار أستاذ
العلوم الجديد والمتواجد بنفس المعهد. تم كل شيء بخير ونجح الدرس ورجع المتفقد إلى
قواعده سالما. بقي مختار أسابيع ينتظر التقرير والفرحة تغمره مسبقا. جاء التقرير
مذيّلا بعدد 14 على 20 لكنه باسم عمار الغائب وليس باسم مختار الحاضر يوم التفقد.
شكى مختار مرارا وتكرارا ورغم ذلك لم يتغير التقرير وبقي إلى يوم الناس هذا باسم
عمار، هنيئا لعمار بعدد مختار: منتهى الفوضي (وكما يقال شاشية هذا على رأس هذا).
الطرفة الثانية: حدث أن زارني في توزر متفقد في إطار الترقية المهنية. كان
الدرس عاديا حتى وصلنا إلى تجربة هضم النشا داخل الأنبوب وتحويله إلى سكر العنب أو
الجليكوز تحت تأثير اللعاب. فشلت التجربة لعدة أسباب كيميائية لا ذنب لي في فشلها.
امتعض سيدنا وقام وغادر القاعة مسرعا وأمرني بالالتحاق به فورا. دون تعليق.
الطرفة الثالثة: حدثت لي الحادثة الطريفة التالية في يوم تكوين أنجزتُه في
مركز التكوين ببنعروس لفائدة متفقدي الابتدائي: كنتُ اشرح لهم أسباب الحركات
التنفسية عند الإنسان وقلتُ: يأتي التلميذ إلى الإعدادي وهو يعتقد جازما أن الهواء
يدخل إلى الرئتين وينفخهما فيرتفع الصدر. هذا جواب غير علمي والجواب الصّحيح هو
الآتي: تتقلّص عضلات الصدر وعضلة الحجاب الحاجز فتتبعها الرئتان الملتصقتان بهما
فيزيد حجم القفص الصدري مما يخلق فراغا في الداخل، فراغٌ يجذب الهواء من الخارج عن
طريق الفم والأنف. دخول الهواء إذن هو نتيجة وليس سببا في حركات التنفّس. يتشبث
التلميذ صاحب التصورات غير العلمية ويدافع عن نفسه بقوله أن المعلّم في الابتدائي
لم يدرّسه المعلومة الصّحيحة وهذا مخالف للواقع لأن بعض التلامذة يحتفظون بهذا
التصوّر غير العلمي رغم تصحيحه من قبل المعلم أو الأستاذ ويعيدون استعمال هذا
التصور في الثانوي و في العالي رغم بطلانه. رويتُ للمتفقدين المشاركين ما وقع لي
عندما كنتُ أشرح هذا الموضوع (حركات التنفس عند الإنسان) في معهد برج السدرية بعد
نقلتي من إعدادية حمام الشط: نهض تلميذ مدافعا عن تصوراته غير العلمية و قال لي:
أستاذ الإعدادي هو الذي علمنا خطأ. من سوء حظ هذا التلميذ أنني ما زلت أذكره من
بين تلامذتي في الإعدادية و أنا نفسي الذي درسه حركات التنفس بطريقة صحيحة طبعا.
ضحكتُ وقلت في قرار نفسي، يظلم أستاذ الثانوي المعلم و يظلم الأستاذ الجامعي أستاذ
الثانوي بتحميل كل طرف الطرف الآخر وزر تصورات التلاميذ غير العلمية التي لا تريد
أن تزول بسهولة من أذهانهم! النكتة هي التالية: في آخر الحصة التكوينية جاءني متفقد
قديم و قال لي: قل ما تريد يا أستاذ فلن أقتنع بشرحك رغم احترامي لشخصك ولن أغير
تصوري غير العلمي حول حركات التنفس وأنا على قاب قوسين من التقاعد المبكر وسأواصل
الاعتقاد بأن الهواء يدخل وينفخ الرئتين فيرتفع القفص الصدري. أجبته بالجملة
المفيدة والمحببة عندي: أنا أتيتُ هنا، لا لإقناعكم بالبراهين أو الوقائع، بل بكل
تواضع لأعرض عليكم وجهة نظر أخرى.
الطرفة الرابعة: روتْ لي مرة أستاذة متربصة في علوم
الحياة والأرض ما يلي: كنت أخاف المتفقد والمدير، تصوّر يا زميلي العزيز، لقد هجم
علىّ الاثنان في وقت واحد وعندما فتحا الباب دون استئذان طبعا، من هول ما رأيت
تراجعتُ إلى الوراء حتى انكسر كعب حذائي العالي الأيسر ومن كثرة الرهبة والخوف
بقيت أدرس وأنا محافظة على توازني طيلة ساعتين وكلما رأيتهما يتهامسان و يبتسمان،
أقول في قرارة نفسي ضاع مرتبي وقد يضيع معه خطيبي الطامع في مرتبي.
الطرفة الخامسة: كنا في مؤتمر علمي حول تعلمية علوم الحياة والأرض في سوسة
وكنت أترأس الجلسة وكلما صعدتُ إلى منصة الرئاسة كنت أستغل الفرصة الفرصة لنقد المتفقدين
المتسلطين. لكن قبل كل هجوم أعتذر من زملائي المتفقدين و زميلاتي المتفقدات (Les inspecteurs didacticiens et les
inspectrices didacticiennes) الحاضرين
والحاضرات، كل باسمه أو اسمها، وأستثنيهم أو أستثنيهن من النقد إلا متفقدة واحدة
لم أسمّها ضمن المستثنيات وهي صديقة لي ورفيقة مرحلة ثالثة، كانت صديقتي صغيرة
السن والجسم ورقيقة الملامح وخفيفة اللباس يستر سفورها خمار العلم والصدق والعمل.
جاءتني بعد الجلسة ولامتني بلطف وابتسامة على عدم ذكر اسمها في كل اعتذار أوجهه
لزملائها المتفقدين وقالت: أوَ لست متفقدة؟ قلت: بلى، لكنك جميلة وترقصين جيدا
وأنا لم أشاهد في حياتي متفقدا يرقص! فأنت في مخيلتي لا تنطبق عليك مواصفات المتفقد
ولو أصبحتُ وزيرا لفصلتك عن العمل كي لا تمسّي من هيبة المتفقدين ووقارِهم.
الطرفة السادسة: ذهبتُ يوما إلى ساحة محمد علي فالتقيتُ صدفة بمجموعة من
المعلمين النقابيين وبما أنني لا أومن بالشعار الزائف والمحنّط القائل أن
"لكل مقام مقال" بل أرى أن كل مقال يصلح في كل مقام على شرط أن يكون
علميا يستفيد منه الناس. ولا أعتقد أيضا في بعض مقولات اليسار حتى ولو كنت منهم.
لا أستوعب ولا أفهم تعاملهم الدائم مع التناقضات المجتمعية أو المادية باعتماد
المقاربة التحليلية (Approche analytique) وإهمال أو
تجاهل المقاربة الشاملة (Approche systémique) .
يرتبون هذه التناقضات عادة ترتيبا ميكانيكيا حسب الأولوية، من تناقض رئيسي إلى
تناقض ثانوي. أنا أعتقد جازما أن كل التناقضات تتمتع بنفس القدر من الأهمية ولا
ولن أرتبها ميكانيكيا، لا حسب الزمن ولا حسب الوزن والأهمية بل أتعاطى معها حسب
تفاعلها الجدلي فيما بينها فقد تتطور التناقضات الثانوية إلى رئيسية في زمن آخر
وفي وضعية أخرى وقد تبدو الرئيسية ثانوية من وجهة نظر فكرية معاكسة. أثناء التفاعل
الجدلي أظل أنتظر النتيجة غير المعروفة مسبقا التي ستنبثق من هذا التفاعل المادي
الجدلي بعقلية الباحث العلمي لا بعقلية الباحث الحامل لإيديولوجية معينة أو الباحث
الحامل لفكرة مسبقة والذي يهدف إلى تبريرها وإثبات صحتها حتى ولو استوجب الأمر
صُنع نتائج بحثه بنفسه قبل إجراء تجربته بهدف توظيفها خدمة لإيديولوجيته الساكنة
منذ زمان في باطنه. بعد هذا الهذيان النظري أمرّ لنقل أحداث القصة الواقعية
التالية التي سمعتها اليوم بعد ما طرحتُ وجهة نظري حول نظام التفقد البيداغوجي
التونسي على مسامع المجموعة المذكورة آنفا. تدور أحداث هذه القصة في أواخر
الثمانينات في ولاية من ولايات الشمال الغربي، بطلة القصة معلمة تبلغ من العمر
إحدى وعشرين سنة في ذلك التاريخ (بعد أن استأذنتها في نشر ما روت وأخذت موافقتها
شفويا، وخوفا من التتبعات العدلية بتهمة الثلب، طلبت مني عدم ذكر اسمها ولا أسماء
من ظلموها ولا أماكن عملهم)، لم يمر على تعيينها سوى ثلاث سنوات، مرسمة بعدد 9 على
20، ناشطة نقابية قاعدية. عقابا لها على نشاطها النقابي، حسب ظنها، جاءها ليتفقدها
المدير الجهوي المساعد، المسؤول عن التعليم الابتدائي بالجهة. امسكوا أنفاسكم
واربطوا أحزمتكم لأن ما سأرويه عن لسانها قد يفقدكم توازنكم التربوي. زارها متفقد
من نوع لا أعرفه، زارها وتفقدها وبعث لها تقريرا بيداغوجيا (ما زال في حوزتها حتى
الآن). صحيح أن هذا المسؤول الإداري كان يشتغل متفقدا بيداغوجيا قبل أن يتحول إلى
موظف إداري كبير لكن، هل يسمح له القانون بتغيير جبته وصفته كما يشاء ومتى يشاء
وهو المؤتمن والساهر على تطبيق القانون في الجهة؟ هل يحق له انتحال صفة المتفقد
االبيداغوجي وهذا الأخير متواجد بدائرة التفقد المعنية بشحمه ولحمه؟ أنا أعتبر أن
هذا التصرف الصادر عن المدير الجهوي المساعد إقرارا ضمنيا من مسؤول كبير بأن التفقد
البيداغوجي سيف يسل فيشهر عند اللزوم لردع المدرسين الناشطين نقابيا وقمعهم! نسي
هذا المسؤول الكبير أو تناسى أن الهدف الأساسي والنبيل المرجو من التفقد
البيداغوجي هو إرشاد وتوجيه المدرس بيداغوجيا وتربويا حتى يؤدي رسالته التربوية
المقدسة على أحسن ما يرام! أثناء النقاش بعد انتهاء الحصة وبحضور مدير المدرسة،
طلب المدير الجهوي المساعد من المعلمة أن تقوم وتتمشى أمامه ذهابا وإيابا حتى
يقيّم هندامها ولباسها! بعد أسبوع جاء التقرير البيداغوجي لهذا المدير الجهوي
المساعد محبطا لآمال وطموحات معلمة شابة ابتعدت عن أهلها في العاصمة لأداء رسالة
نبيلة كادت أن تساوي رسالة الأنبياء، جاء وفيه توصية مرفقة بتخفيض للعدد من 9 إلى
4 على 20 مع الملاحظة التالية: "الرجاء إعادة التكوين الجذري لهذه
المعلمة". أتساءل أنا هنا وبكل براءة: من أحوج منهما إلى إعادة تكوين جذري،
المعلمة أم المدير الجهوي المساعد؟ ردّت المعلمة الشجاعة على هذه الإهانة بتقرير
مضاد. بعد هذه الحادثة، زارتها لجنة من ثلاثة متفقدين من العاصمة و أنصفتها بعدد
11 على 20. هذا الإنصاف لم يرضِ سيدنا ومولانا المدير الجهوي المساعد فأصرّ وألحّ
على مواصلة إذلال المعلمة وإحباطها وطلب إحالتها على مجلس التأديب متهما إياها
بالمس من هيبة الدولة في تقريرها المضاد وكان له ذلك بسلطة "كن فيكون".
أتساءل وللمرة الثانية وبكل براءة أيضا: مَن مِن الطرفين في النزاع مسّ بهيبة
الدولة؟ قرّر مجلس التأديب الموقر والمستقل نقل المعلمة نقلة وجوبية مع تغيير محل
الإقامة ونُفذت العقوبة في شهر ماي من نفس السنة الدراسية فانتقلت مناضلتنا
للتدريس بمدرسة ريفية نائية بولاية من ولايات الوسط. دون تعليق. لا تنزعجوا على
مصير بطلتنا وزميلتنا المناضلة فهي الآن معلمة تطبيق في العاصمة. أما بطلنا السلبي
فلا أشك أن زملاءه قد يكونون كرموه بمناسبة إحالته على التقاعد وقد يكونوا قالوا
عنه: خَدَمَ السياسة التربوية للدولة التونسية على أحسن وجه. ولا أشك، لو ما زال
حيا يرزق أنه ينعم بتقاعد سعيد في كنف ضميره المرتاح و لو توفي فرحمة الله عليه
وأسكنه الله فراديس الجنان وعفا الله عما سلف.
توضيح قد لا يفسد للنقد قضية:
كعادتي دائما وبكل صدق ولطف وتواضع
أحوّل كل مقهى أجلس فيه إلى مقهى ثقافي ولا تعنيني التوجهات الفكرية أو الانتماءات
السياسية أو الرتب الإدارية لجلسائي وأطرح همومي الفكرية والتربوية بكل شفافية قصد
تعريضها للنقد بهدف تهذيبها أو تصحيحها أو تطويرها قبل النشر على النت وبعده.
طرحتُ موضوع الطرفة الواقعية رقم 6 فعلق علىّ صديقان حميمان مسؤولان، أحدهما مدير
معهد و الآخر مدير في وزارة التربية بالقول التالي: من صلوحيات وزير التربية أن
يكلّف المدير الجهوي المساعد المذكور أعلاه بمهمة التفقد البيداغوجي للمعلمة
المعنية لأسباب نجهلها خاصة وأن هذا المسؤول الإداري كان يشغل وظيفة متفقد
بيداغوجي قبل أن يلتحق بسلك الإداريين. لا يمكن حسب اجتهادهما أن يسلك هذا المدير
الجهوي المساعد سلوكا قد يحاسب عليه إداريا وقضائيا خاصة وأنه ترك وراءه دليلا
ماديا على تفقده يتمثل في التقرير البيداغوجي الذي أرسله إلى المعلمة عن طريق
التسلسل الإداري.
الطرفة السابعة: وهي شهادة ذاتية على العصر: كنت وأنا أستاذ شاب في غار
الدماء، كلما علِمتُ بقدوم المتفقد إلى معهدنا ينتابني إسهال فظيع وأذهب عَدْوًا
إلى بيت الراحة واليوم (1994) شُفيت من هذا الخوف والحمد لله.
للمتفقدين نقابتهم و للأساتذة نقابتهم
والاثنتان منضويتان تحت لواء الاتحاد العام التونسي للشغل فلماذا لا ينسّقان لحل
المشاكل العالقة والطارئة نقابيا بين الشريكين في العملية التربوية؟
أنهِي مقالي بطرح السؤال التالي على
زملائي المدرسين، إن سمحت الوزارة بذلك: ما هي تصوراتكم حول نظام التفقد وممارسات
المتفقد؟ وكباحث علم لن أستنتج شيئا قبل إجراء البحث وأترك نكهة اكتشاف النتيجة
لزملائي المتفقدين الأعزاء حتى يتعرفوا على صورتهم الحقيقية في مرآة المدرسين
وأتمنى أن تكون صافية وجميلة ويستفيدوا منها في أداء وظيفتهم النبيلة على أحسن
وجه. لا تظنوا أنني أكره التفقد والمتفقدين، بل بالعكس، ما تمنيتُ يوما في حياتي
أكثر من أمنية ممارسة هذا الدور الابستمولوجي النقدي لما له من إشعاع على أكبر عدد
من المدرسين والتلامذة. يكفي المتفقد شرفا علميا أنه يحاول جر المدرس إلى
"إدراك عملية الإدراك" في البناء الذاتي للمعرفة لديه ولدى تلامذته.
لم أشارك في مناظرة التفقد لأني في
بداية حياتي المهنية لم أكن مجازا و في الـ41 من عمري تحصلتُ على الإجازة وتوجهتُ
مباشرة للبحث العلمي وإعداد دكتورا في تعلمية البيولوجيا بين جامعة تونس وجامعة
كلود برنار بفرنسا، مسيرة علمية أخذتْ من عمري ووقتي سبع سنوات عِجاف ماديا لكنها
حُبلى فكريا.
أعتذر لكل المتفقدين المحترمين، وككل
مهنة، تضم هيئة المتفقدين الغث والسمين. أؤكد لكم يا سادتي المتفقدين أنني أنطلق
من غيرتي على التعليم التونسي المهدد من الداخل والخارج ومن وعي تربوي خالٍ من
الخلفيات السياسية والإيديولوجية وليست لي حسابات قديمة أصفيها لأن نظام التفقد
أنصفني في الآخر بإسناد العدد 17 على 20 وأنا راضٍ كل الرضا. أحبكم وأعشق مهنتكم
وأغبطكم عليها وللمرة الألف أعتذر إن جرحتُ شعوركم أو خدشتُ كبرياءكم دون قصد مني.
ألف تحية والسلام عليكم جميعا بغثكم وسمينكم.
ملاحظة: لم أتحدث عن التفقد في التعليم الابتدائي لأنني أجهل نظامه. لكن
رغم عدم إلمامي بتفصيلاته سأدلي بدلوي في عمقه: سبق لي وإن اقترحتُ في بعض مقالاتي
السابقة إحداث خطة معلم مجال مثل معلم مختص في الرياضيات وآخر في اللغة العربية
وآخر في الإيقاظ وآخر في الفرنسية وآخر في الأنقليزية وآخر في التربية كما أرجو
بالمثل إحداث خطة متفقد مجال في الابتدائي.
ملاحظة مضافة إلى المقال حول التفقد بتاريخ 9/10/10:
بعد مسيرة مهنية طيلة ستة وثلاين
عاما، ولأول مرة في تاريخي المهني، عرض علينا اليوم متفقدنا المحترم -في أول
اجتماع بيداغوجي- مقياس التفقد وقرأ جميع بنوده وشرحها بالتفصيل. وأعلمنا اليوم
أنه لا يوجد تفقد في دولة كندا ولا تُسند لأساتذة فرنسا أعدادا بعد التفقد.
أتساءل ببراءة الباحث: لو كان التفقد البيداغوجي ضروريا، لماذا ألغِي جزئيا
في كندا وكليا في فنلندا وغيرها من الدول المتقدمة وفي كل جامعات العالم؟
محور 4
حول تقييم
التلميذ
"من المؤكد أنه ليس سليما أن يكون نفس المدرّس هو
الذي يعلّم التلميذ وهو الذي يقيّم نفس التلميذ"
(أندري جيوردان، نشر بولان، 1998، هامشة صفحة 216)
« Il n`est sans doute pas sain que ce soit la même
personne qui facilite le travail de l`élève et celle qui note »
(André Giordan, Ed Belin, 1998, n. b. p. 216)
قاهر وزارة التربية الفرنسية: أستاذ ثانوي يسند دوما لكل
تلامذته 20 على 20
الزمان: العشرية الأولى من القرن
21
المكان: معهد ثانوي عمومي بباريس
البطل: أستاذ ثانوي مختص في تدريس
التاريخ
Pascal Diard
Lycée Suger
à Saint Denis
Site:
http://lesempecheursdenseignerenrang.over-blog.org/article-pascal-diard-1ere-partie-stage-sud-education-creteil-liberalisme-et-management-a-l-ecole-102524050.html
الخبر كما وصلني بالسماع و ليس
بالمعاينة
أستاذ
أقام وزارة التربية الفرنسية منذ سنوات و لم يقعدها حتى الآن لأنه قرر فجأة أن
يسند لكل تلامذته دوما 20 على 20 في كل الامتحانات الرسمية وغير الرسمية داخل
المعهد الذي يدرّس فيه بباريس. حجته في ذلك أن الأعداد الجزائية المسندة إلى
التلامذة هي بالأساس أعداد تقييميه اعتباطية و قد تصدم التلميذ أو تؤلمه أو تحبطه
أو تخيفه أو تفزعه، لذلك رأى بطل قصتنا و ارتأى أن واجبه يحتم عليه عدم إرباك
أحبته التلاميذ.
تجدر
الإشارة إلى أن هذا الأستاذ المتنطع والثائر على قوانين وزارة التربية الفرنسية
يرى أن لا وصاية على الأستاذ في المسائل البيداغوجية ومن بين هذه الأخيرة حرية
إسناد الأعداد كما يشاء هو لا كما يشاء وزير التربية. حتى ولو لم أجرؤ طوال حياتي
المهنية على فعل ما فعل لكنني تمنيت في داخلي أن أفعل ما فعل، فأنا متعاطف مبدئيا
مع زميلي الفرنسي وأؤيد تبريره المنطقي دفاعا عن سيادة وحرية الأستاذ داخل قسمه
واقتناعا مني باعتباطية الأعداد (تظهر هذا الاعتباطية أساسا في أن مَن يسند
الأعداد ويقيّم التلاميذ لم يدرس أكاديميا و لو شهرا واحدا "علم
التقييم" فمدرّسنا إذن مثَلُه كمَثَلِ "تاجر يقدّر وزن سلعة دون
ميزان"، أتوجد اعتباطية أكثر من هذه الاعتباطية؟
حاولت
الوزارة ثنيه عن صنيعه هذا فلم تفلح في ردعه، لا بالجزرة ولا بالعصا. قاموا بتفقده
قصد إرهابه 8 مرات خلال 11 عاما تدريس. عرضت عليه الوزارة الاستقالة من التدريس والقيام
بعمل إداري فرفض. "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن"، أرادت الوزارة
إسكاته وإخماد صوته فذاع على العكس صيته في كامل التراب الفرنسي وتأسست من أجل
حمايته ومساندته لجنة قومية وتكوّن حول هذه الأخيرة حزام نقابي يضم الآلاف من
المتعاطفين الفرنسيين و غير الفرنسيين
وحصل لي الشرف أن أكون واحدا منهم و لو بالإيمان بقضيته فقط و قد بلّغته فعلا
تحياتي عن طريق ابن أختي، زميله في نفس المعهد. عن ابن أختي قال: أن زميله تنازل
أخيرا قليلا لصالح الوزارة وأصبح يسند لتلامذته أعدادا أقل من 20 لكن تفوق 17 على
20.
مع
العلم أن بطل قصتنا الواقعية هذه، هو أستاذ تاريخ كفء وقدير ومن تجلياته أنه عندما
يدرّس تاريخ حركة المقاومة الفرنسية في الحرب العالمية الثانية، يستدعي إلى القسم
بطلا من أبطالها الناجين ومن إنجازاته أيضا أنه يؤطر ويحث تلامذة الباكلوريا على
البحث العلمي وبواسطة علاقاته الثقافية والصحفية والجمعياتية يسهّل لهم نشر
إنتاجهم الفكري في مجلات مختصة ويساعدهم على إخراج أقراص رقمية مضغوطة تروي التاريخ
بأسلوب بيداغوجي وبطريقة تعلّمية إلى تلامذة المعهد وتلامذة المعاهد الأخرى.
هل يستفيد التلميذ من كثرة
الامتحانات المفروضة عليه في المدرسة التونسية ؟
على سبيل الذكر لا الحصر، سوف
أعرض عليكم أيها المنشغلون بالشأن التربوي الأعزاء ثلاث عشرة نقطة مقتضبة تُشكك في
جدوى الفروض التأليفية والامتحانات الوطنية (الباكلوريا والسيزيام والنوفيام
والنموذجي):
1. المقوِّم أو المقيِّمُ التونسي عموما (l`évaluateur: معلم
أو أستاذ ثانوي أو أستاذ جامعي أو متفقد) لم يتلقَّ أي نوع من التكوين الأكاديمي
(يعني متحصل على شهادة جامعية وليس شهادة مشاركة في تربص) في علم التقييم (science de l`évaluation) لذلك أشبِّهه بتاجر يبيع سلعة دون ميزان. هو لا يتقن طرح الأسئلة
ولا يقدّر الوقت الكافي لإجراء الامتحان ولا يحسن إعداد مقياس موضوعي لإسناد
الأعداد (barème ).
توجد في العالم أربعة نماذج
لنظام التفقد البيداغوجي: نموذج التفقد الكلاسيكي (مطبّق في البلدان الفرنكوفونية
ومنها تونس)، نموذج التفقد المركزي (مطبّق في البلدان الأنڤلوسكسونية ومنها
بريطانيا)، نموذج التفقد الذي يعتمد طريقة الدعم عن قرب (مطبّق في الشيلي)،
النموذج الخالي من التفقد البيداغوجي والمراقبة الإدارية (مطبّق في البلدان
الأسكندنافية ومنها فنلندا). ومن سوء حظنا في تونس اختار خبراؤنا الأشاوس أسوء
نظام فيهم.
2. هل يُعقل أن يقيّمَ المقيِّمُ
عملَه ويصلِح فروضَ تلاميذه مكتوبة عليها أسماؤهم؟ من الأفضل أن يأتي المقيِّمُ من
خارج المدرسة ويصلح أوراقا مخفية الأسماء حتى نضمن أكبر قدر من الموضوعية ونقلّل
قدر المستطاع من الاعتباطية في تحديد العدد (تجربة علمية وقعت في فرنسا: نفس الفرض
نال تنقيطا مختلفا بعد ما أصلحه عدة أساتذة وقد وصل الفارق في المواد العلمية إلى
خمس نقاط) ونتجنب التأثير السلبي لحسن النية والعاطفة الأبوية أو الأمومية عند
المدرس أو المدرِّسة واستغلال المحاباة والقرابة والمحسوبية والرشوة المقنعة
بالدروس الخصوصية (étude) عند إسناد النقاط
لتلامذة المقيِّمِ نفسه وكأنه يسندها حسب
هواه:
Albert Jacquard a dit: “il
ne faut pas catégoriser l`intelligence des apprenants”.
3. كان تلميذ الإعدادي والثانوي وأظنه ما زال يخسر سنويا ستة أسابيع
من ساعات التكوين ليخصصها للتقييم: كل ثلاثي تخصص الوزارة أسبوعا مغلقا لإجراء
الامتحان وأسبوعا ثانيا لإصلاح الامتحانات في القسم، الأول يضيع في تكرير ما حفظه
التلميذ دون تفكير كالببغاء أما الثاني فلا يحضره إلا النجباء منهم وهم قلة بالرغم
من أن إصلاح الامتحان يفيد ويكوّن التلميذ
أكثر من إجراء الامتحان نفسه.
4. وبعد هذا المجهود البشري الكبير والتبذير في
المال العام وفي الوقت المقتطع من التكوين لصالح التقييم: ألا تصطدم الوزارة برفض
قبول باكلوريتها التونسية في الجامعات الأجنبية والجامعات الخاصة التونسية (جميعها
تجري تقييما داخليا خاصا لقبول طلبتها من بين المترشحين الحاصلين كلهم على
الباكلوريا)؟ ألا تنزعج من رفض معادلة شهادئدها من قبل جل الجامعات الغربية؟ ألا
يخجلها ترتيبها في المسابقات العلمية العالمية؟ ألا يدعوها هذا التقييم العلمي
الخارجي إلى مراجعة نظامها التقييمي؟
5. يتعامل المقيِّمُ (l`évaluateur: معلم،
أستاذ) عندنا مع التلميذ كما
يتعامل عالم النفس السلوكي مع فأر المخبر: إثارة فَجواب. لا يعلّم الأستاذُ التلميذَ
صياغة السؤال بل يلقنه فقط حفظ الجواب ويبدو لي أن تعلمَ صياغة السؤال من قِبل
التلميذ قد يفيده أكثر من ترديد جواب الأستاذ.
6. يطوّر ويقيّمَ المقيِّمُ
عندنا نوعا واحدا من الذكاء لدى التلميذ (الذكاء الفكري intellectuel) ويهمل الأنواع الأخرى
كالذكاء العملي والفني وغيره.
7. يبدو لي أن الامتحانات ليست ضرورية أو ملازِمة
للتكوين والدليل: بعض الميكانيكيين وبعض البَنَّائين المهرة وبعض النساء التونسيات
الطباخات الماهرات في الأفراح وبعض الرياضيين (les pratiques sociales de référence sans savoir savant) وبعض الفلاسفة والأدباء العظام والرسّامين والممثلين
والموسيقيين والنحّاتين لم
يدخلوا مدرسة ولا جامعة ولم يجتازوا في حياتهم أي امتحان.
8. عديد الدول المتقدمة تخلت أو قللت من إجراء
الامتحانات ونحن على العكس نطالب -عن جهل بالنظريات التعلمية الحديثة- بإرجاع
امتحانات السيزيام والنوفيام وتشديد في الباكلوريا (حذف الــ25 في المائة) بعد ما كنا في السبعينات نطالب بحذفها لأنها تكرس سياسة
الانتقاء وتمنع دمقرطة التعليم وتعرقل التحاق أكثر أبناء الفقراء بالجامعة.
9. في امتحان الفيزياء والرياضيات وعلم الوراثة،
نمتحن ونحاسب التلميذ على مدى قدرته على توظيف المعلومات لحل مسألة لم تُطرَح عليه
من قبل وليس على حفظها. فلماذا إذن لا نسمح له بإدخال ورقة تحوي كل القواعد التي
قد يحتاجها لحل المسألة العلمية (fausse copie légalisée par l`évaluateur en place)؟ وفي امتحان الإنشاء، نمتحن
ونحاسب التلميذ على مدى قدرته على توظيف الاستشهادات الشعرية والنثرية لتأليف نص
أدبي لم يُطرَح عليه من قبل وليس على حفظها. فلماذا إذن لا نسمح له بإدخال ورقة
تحوي كل الاستشهادات التي قد يحتاجها لتأثيث وإثراء موضوعه؟ الهدف من التعليم ليس
اصطياد الخطأ بل الاستفادة منه وأشهر العلماء تعلموا من أخطائهم وأخطاء مَن سبقوهم
في العلم.
10.
بيداغوجيا المشروع العلمي
تكوّن التلميذ وتدرّبه مبكّرا على البحث العلمي وتجنّب الأستاذ امتحانه ومراقبته
طوال السنة الدراسية وفي آخر العام يقدم التلميذ
عرضه أمام لجنة وكأنه مرشح لنيل شهادة الماجستير أو الدكتورا.
11.
في فنلندا، التي تُعَدُّ
من أنجح النظم التربوية في العالم: يأتي التلميذ إلى الامتحان، يدخل قاعة
الامتحان، يقرأ الأسئلة، وإذا لم يكن جاهزا لإجراء الامتحان لأي سبب كان، يستأذن
من المراقب ويغادر فيُعيَّنُ له موعدٌ لاحقٌ لاجتياز امتحانه في ظروف أفضل دون
سؤاله عن السبب.
12.
يبدو لي أن التقييم
التكويني (l`évaluation
formative) هو أفضل تكوين ويستطيع الأستاذ هنا أن يقوم بدور المكوّن
و المقيّم في آن (le formateur- évaluateur) لأن هذا التقييم ليس تقييما
إشهاديا (الامتحانات الوطنية و الفروض évaluation certificative). التقييم التكويني يُوظف فيه التقييم من أجل التكوين الأساسي وليس التكوين
الظرفي الانتهازي لتحضير التلميذ للتقييم وكأنه حصان يُهيأ للسباق. ليس من أهداف
التعليم أن يتفوق تلميذٌ على تلميذٍ ويأتي قبله في المعدل أو الترتيب بل الهدف أن
نهيئ للجميع فرص التكوين الجيد ولكلٍّ حسب مكتسباته وموروثاته.
خلاصة القول
في
تونس حرِصت الدولة والأولياء على التقييم الإشهادي للتلامذة فأهملنا التكوين دون
قصد وفقدت شهاداتنا الثانوية والجامعية الكثير من قيمتها العلمية في بورصة العلم
والكثير من قيمتها التشغيلية في سوق الشغل في الداخل والخارج. وكل إصلاح تربوي لا يخدم
التلامذة الذين يتعرضون إلى صعوبات في التكوين لأسباب تعلّمية أو مادية أو
اجتماعية ليس إصلاحاً جذرياً!
محور 5
حول إصلاح المنظومة التربوية
التونسية
الإصلاح التربوي: بأي
واقع بيروقراطي ثقيل ستطبِّق وزارةُ التربية "الحَوكَمة الرشيدة" داخلها
؟
تعريف المفهوم:
مفهوم "الحوكمة الرشيدة" (La bonne gouvernance) هو مفهوم أنڤلو-ساكسوني حديث من أصل إغريقي ولا يمت
لحكم الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم- بِأي صِلَة.
Selon la Banque Mondiale, la bonne
gouvernance est la manière par laquelle le pouvoir est exercé dans la gestion
des ressources économiques et sociales d'un pays au service du développement.
الواقع البيروقراطي الثقيل
- تَضُمُّ الإدارات
المركزية لوزارة التربية الموجودة بالعاصمة قرابة 1600 موظف عمومي، منهم حوالَي 50
متفقدا بيداغوجيًّا عامًّا مرسّمًا لا شغل لهم سوى قبض مرتباتهم العالية نهاية كل
شهر مع الإشارة إلى أن وزارة التربية السويدية فيها وزير وكاتبة واحدة فقط على
مساحة 300 م2.
- تَضُمُّ المندوبيات الجهوية لوزارة التربية الموجودة بالولايات الـ24 قرابة
2400 موظف عمومي مرسم بمعدل مائة موظف لكل مندوبية.
- تُشغِّلُ الوزارة في كل الجمهورية ما يقارب 624 مفقدا بيداغوجيًّا في
التعليم الإعدادي والثانوي بمعدل 2 لكل مادة من مجموع 13 مادة تدريس في 24 مندوبية
جهوية، أضِفْ إليهم نفس العدد أو أكثر في التعليم الابتدائي. لن تتعطل الدروس
دقيقة واحدة ولن يتضرر تلميذٌ واحدٌ لو غابوا كلهم في يوم واحد مع العلم أن أنجح
نظام تعليم في العالم، النظام الفنلندي خالٍ تماما من المفقدين البيداغوجيين ولذلك
-حسب رأيي- فاز وتفوّقَ.
- تُشغِّلُ الوزارة في كل الجمهورية ما يقارب 240 مرشدًا للتوجيه (يعادل رتبة
ومرتب متفقد) بمعدل 10 لكل مندوبية جهوية، جل عملهم يقوم به مئات الأساتذة
المكلفون بالتوجيه.
الحصيلة: 50 متفقد بيداغوجيّ عامّ + 1248 متفقد بيداغوجيّ + 240 مرشد للتوجيه
= 1538 مرتب مرتفع نسبيا مقابل شغل موسمي محدود.
لو طبقنا في تونس نموذج تفقد "المراقبة عن بعد و الدعم و العلاج عن
قرب" الذي يُطبَّق في الشيلي وبعض مقاطعات سويسرا: تختار وزارتُنا 1538 مدرسة
تونسية تعاني من صعوبات بيداغوجية. تعيّن الوزارة في كل مدرسة ضعيفة متفقدا
بيداغوجيًّا واحدا أو مرشدًا للتوجيه. يسكن فيها ويرافق المدرّسين طيلة السنة
ويشرّكهم في تحمّل المسؤولية التربوية ويحثهم على الاجتهاد لإيجاد حلول لمشاكلهم
تكون من صنعهم. وفي نهاية السنة الدراسية تجمعهم الوزارة وتجنّدهم للإشراف على
اجتياز الامتحانات الوطنية وعلى التوجيه الجامعي بعد الباكلوريا. وهكذا حسب رأيي
المتواضع تكون "الحوكمة الرشيدة" أو لا تكون.
مصدر الأرقام: متفقد إداري-مالي عام بوزارة التربية لا يرغب في ذكر اسمه.
ماذا تعني "المقاربة بالمنهاج" التي يَعِدُنا بها إصلاحُنا التربوي ؟
المصدر:
محاضرة قدمتها متفقدة أنڤليزية، المشاكسة الرائعة نجوى السوداني، التي لم تعجب إلا
واحدٌ فقط من بين حوالي خمسين مشاركًا، وهو عبدكم الفقير.
إليكم ملخص
المحاضرة:
-
"المنهاج للنظام التربوي، كالدستور للبلاد"
Un curriculum est à un système éducatif ce qu`une
constitution à un pays.
- هي مقاربة
تشمل كل المقاربات التربوية، البيداغوجية منها والديداكتيكية والإبستمولوجية
والفلسفية والسوسيولوجية والبسيكولوجية والعاطفية والبنائية
Une approche qui jongle avec toutes les autres
approches.
- هي مقاربة
تعتبر "التلميذ الذي يتعرض إلى صعوبات تعلمية" محورًا لكل إصلاح تربوي
ولكل العملية التربوية برمتها، لكنها لا تهمل الفاعلين التربويين الذين يحومون
حوله ومن أجله وعلى سبيل الذكر لا الحصر، نذكّر بأهمهم: المربون والأولياء
والإداريون والمتفقدون والقيمون والمشغِّلون.
- هي مقاربة تصمّم وتكتب وتراجع وتعدِّل البرامج
Programme d`une discipline # curriculum.
- هي مقاربة تُصمّم الكتب المدرسية وتُكتب وتُراجع
وتُعدِّل وتَنشر.
- هي مقاربة تنظم التكوين المستمر للمربين أجمعين
(معلمون وأساتذة ومتفقدون وقيمون وإداريون).
- هي مقاربة تحدد السياسة التقييمية لمكتسبات
التلميذ ومراجعتها وتعديلها وملاءمتها مع ميولات التلميذ وتوجّهاته.
- هي مقاربة تصيغ منهاجًا جديدًا (المدة
التقريبية: عام) وتحدد مرحلته التحسيسية والتواصلية (المدة التقريبية: عام) ومرحلته
التجريبية (المدة التقريبية: عام) بهدف إنجاح تبنّيه عن طواعية وسعيًا لكسب
التعاطف معه من قِبل التلميذ والمربي والولي والمشغِّلين، والإداريين، وعمال
التربية والمنظمات العالَمية الحكومية
وغير الحكومية، إلخ.
- هي مقاربة تعمل على الرقيِّ بالمتخرّج التونسي
(نهاية الأساسي أو نهاية الثانوي أو نهاية العالي) وضمّه عن حب ورغبة إلى عالَم
أرحب، عالم القيم الكونية، ومساعدته على الخروج من عالَمه المنغلق الضيق، عالَم
الهويات المنفصلة والقاتلة
Les identités meurtrières: arabe, musulman, sunnite,
chiite, kharidjite, bahaïste, catholique, protestant, orthodoxe, copte, juif,
communiste, trotskiste, stalinien, léniniste, conservateur, progressiste,
libéral, laïque, capitaliste, socialiste, nationaliste, salafiste, djihadiste,
révolutionnaire, réactionnaire, moderniste, etc. À mon avis, il vaut mieux
jongler avec toutes ces identités pour s`évader une fois pour toute de leurs
paradigmes-prisons.
مقارنة طريفة بين المقاربة بالمناهج (Réforme du curriculum) ونظرية المافَوقَ وراثي (L`épigénèse)؟
نظامنا التربوي
التونسي يعتمد حتى اليوم المقاربة بالبرامج وليس المقاربة بالمناهج. تتمثل
المقاربة المستعملة حاليا في تصميم برنامج دقيق لكل مادة (Discipline) وكل مستوى تعليمي (Niveau scolaire)
والسير
على نهجه دون انحراف وكأنه الصراط المستقيم ودون الأخذ بعين الاعتبار المحيط
التربوي الذي يشمل المستوى الذهني المحتمل للتلميذ (Développement mental
potentiel ou la ZPD de Vygotsky-La Zone Proximale de Développement) وحالته الاجتماعية والمادية، كما يشمل أيضا المدرّس والتجهيزات
والخدمات المتوفرة داخل المؤسسة التربوية ومكانها الجغرافي.
أما بعد الإصلاح
الموعود فالحوار التربوي يتطلع إلى العمل بالمقاربة بالمناهج. تتلخص هذه الأخيرة
في تصميم برنامج متحركٍ، مَرِنٍ، أي يأخذ بعين الاعتبار كل مكونات المحيط التربوي.
برنامج قابلٍ للتغيير والتعديل والتأقلم مع المتغيرات التي قد تعترض تطبيقه. وقد
تصل مرونة هذه المقاربة الجديدة إلى أقصاها في تربية الأطفال ذوي الاحتياجات
الخاصة (Les
handicapés moteurs ou mentaux)
وتخصص
برنامجا انفراديا خاصا لكل طفل على حِده.
أسوق لكم مثالا أولا
يبيّن مدى انعدام المرونة في المقاربة بالبرامج من خلال إجراء مقارنة بين مقاربة ببيداغوجيا
الأهداف (PPO: Pédagogie Par Objectifs) ونظرية الكل وراثي (Le tout
génétique)، سيئتي السمعة، الأولى سيئة
تربويا والثانية علميا: تقوم هذه البيداغوجيا المتروكة (PPO) على رسم أهداف الدرس قبل إنجازه. بيداغوجيا لا
تأخذ بعين الاعتبار جميع مكونات المحيط التربوي. وعلى أساس هذه المقاربة الأخيرة (PPO)، يتعامل المدرس التونسي الحالي مع التلميذ كما يتعامل عالم النفس
السلوكي مع فأر التجارب: يرسم المدرّس مسبقا للتلميذ مُدْخَلاتِ الدرس
ومُخْرَجَاتِه، وينظر إليه وكأنه إناء فارغ يملؤه بما يريد أو صفحة بيضاء يخط فيها
ما يشاء، ويعتبره شيئا سلبيا
(Objet) عوض
أن يعتبره ذاتا حرة مستقلة
(Sujet)، ويركّز على تحقيق
الأهداف المسبقة التي رسمها هو لدرسه، ولا يعير اهتماما للأهداف الأخرى التي قد تتحقق
في الدرس خارج إرادته القاصرة والخالية من الخيال (Manque d`imagination).
كذلك تبدو لي أيضا
نظرية الكل وراثي التي تعتبر الـADN برنامجا متكلسا ينفي إمكانية انبثاق
صفات ذهنية كالذكاء نتيجة تفاعل الوراثي (L`inné) مع المكتسب (L`acquis) كما ينفي البرنامج في المقاربة بالبرامج أي
جديد (L`intelligence
potentielle) قد
ينبثق (L`émergence) نتيجة
تفاعل المبرمَج مع الطارئ (Le contingent)
.
أسوق لكم مثالا ثانيا
يبيّن مدى المرونة الكامنة في المقاربة بالمناهج وفي نظرية مافَوقَ الوراثي: على
عكس نظرية الكل وراثي تعتبر نظرية مافَوقَ الوراثي برنامج الـADN برنامجا
قابلا للتفاعل مع المكتسب، تفاعلٌ قد تنبثق منه صفاتٌ ذهنية غير منتظرة كالذكاء
المحتمل كما قد ينبثق من العمل بالمقاربة بالمناهج تلميذٌ جديدٌ واعدٌ يتقن مهارات
القرن الوحد والعشرين (المبادرة، النقد، التواصل، إلخ).
إصلاحُ التعليم لا يمكن أن يأتي من رجال
التعليم وحدهم وقطعا لن يأتي من المتفقدين
حضرتُ اليوم "الندوة الوطنية لدراسة مُخْرَجات الحوار الوطني حول إصلاح
المنظومة التربوية".
المكان: المركز الوطني للغات بالبُحيرة 2.
الزمان: 16-17-18 نوفمبر 2015.
المنَظِّمون: وزارة التربية والاتحاد العام التونسي للشغل والمعهد العربي
لحقوق الإنسان.
الحضور: 270 مشارك (معلمون وأساتذة ومتفقدو ابتدائي وثانوي ومرشدو توجيه
ومسؤولون كبار من الوزارة وباعثو مؤسسات تربوية خاصة وبعض الأساتذة الجامعيين)،
وُزِّعوا على اثنتي عشر لجنة. وزير التربية ناجي جلول افتتح الندوة وحضر الحصة
الصباحية وتناول وجبة الغداء معنا.
إصلاح التعليم لا يمكن أن يأتي من رجال التعليم المباشرين وحدهم ولن يأتي
قطعًا من المتفقدين المباشرين وذلك لسبب منطقي: جلهم محافظون (Des conservateurs) أو ممتثلون للمقاربات البيداغوجية السائدة (Des conformistes). جلهم أعداء التجديد. هم غير مغرَمين ولا يؤمنون
برسالة التعليم وغير مستعدين لبذل أي مجهود إضافي في القسم ولا خارجه وهم قوم لا
يقرؤون المراجع العلمية ولا المجلات العلمية المختصة. هم غير متكونين في علوم
التربية ولم يدرسوا في الجامعة البيداغوجيا ولا التعلمية (Didactique ou
épistémologie de l`enseignement)
ولا الإبستمولوجيا ولا علم نفس الطفل ولا علم التقييم (L`évaluation) ولا علوم التواصل ولا الإعلامية (L`informatique est un
outil d`apprentissage normalement utilisé dans toutes les disciplines). يَغارون من التلميذ ولا يعترفون بمركزيته كـمحور
للعملية التربوية، يستكبرون ويتوهمون أنهم هم محور العالم. وليعلم مَن لا يعلَم
بعدُ أن أعظم المنظِّرِين في مجال التربية ليسوا رجالَ تعليم بداية من الفيلسوف
روسّو (Émile ou De l'éducation)
إلى الطبيبة مونتيسوري (Aide-moi à faire seul)
وعالِمَيْ النفس فيڤوتسكي (Le socioconstructivisme et la ZPD) وبياجي (Le constructivisme).
نرجع إلى ما حدث في الندوة: يبدو لي أنه من سوء حظي أنني درستُ سبع سنوات علما
يُسمَّى "إبستمولوجيا تعليم البيولوجيا". لماذا؟ لأن الإبستمولوجيا
تشتغل على نقد المعرفة، إذن أنا لا أملك إلا النقد ولا شيء غير النقد والنقد كما
لاحظتُ من خلال الممارسة لا يتقبله ولا يتحمله إلا الراسخون في العلم وهم قلة
النخبة أما أكثرية المباشرين من المدرسين والمتفقدين والإداريين فهم سجناء إطار
تفكير قديم متكلس. أكثر المدرسين يخلِطون ولا يميِّزون بين موضوع النقد وشخص
الناقد ويترجمون خَلْطَهم عنفا لفظيا ضد شخصي كناقد وهذا ما حدث اليوم: أثناء نقاش
البرامج المدرسية في لجنة المقاربات التربوية التي ترأستُها صحبة زميل، تدخلتُ
وقلتُ أن جل الأساتذة يسرعون لإنهاء البرنامج ولو على حساب قدرة الاستيعاب والفهم
عند التلميذ خوفا من سلطة المتفقد المزدوجة البيداغوجية والزجرية. ردّت عليّ
مقرِّرة الجلسة وهي متفقدة عربية وقالت: أنتَ عندك عقدة مع المتفقد
و"ابْلاسْتَكْ" في برنامج علاء الشابي "عندي ما انْقُلِّكْ".
رددتُ عليها بأدب يليقُ بجنسها اللطيفِ وقلتُ: وأنتِ عندك عقدة مع النقد. انتظرت
كامل الحصة المسائية علها تندم على إساءتها لي وتعتذر. لم تعتذر. في الغدِ ترأستُ
الجلسة الصباحية. دخلت المعنية متأخرة. جلستْ. عندها توجهتُ إلى الحضور (16)
وطلبتُ نقطة نظام وقرأتُ ما كتبته البارحة: أحرصُ على أن لا يمرّ ما حدث معي
بالأمس بصمتٍ. باحترام أتوجه إليكم جميعا وأعلِن أنني تعرضت أمس إلى عنفٍ لفظي
قاسٍ ورهيبٍ في هذه القاعة من قِبل مشاركة حاضرة معنا وذنبي أنني نقدتُ أداء بعض
المتفقدين دون المساس بأشخاصهم فبادلتني النقدَ عنفًا لفضيًّا وقالت لي حرفيا: أنت
عندك عقدة مع المتفقد و"ابْلاسْتَكْ" في برنامج علاء الشابي "عندي
ما انْقُلِّكْ". انتظرتُ اعتذارًا لم يأتِ. أقول لها بكل لطف: عندما تدعونِي
سيدتي رسميا إلى هذا البرنامج سوف أرد عليك كالآتي: أنتِ متخلفة علميا وقليلة
تربية أخلاقيا. والآن كرامتي تمنعني من أن أواصل الجلوس معها ولو ثانية والسلام.
هبَّ كل الحضور ضِدي. غادرتُ القاعة فورًا ثائرًا غاضبًا مشمئِزًا مزمجِرًا لكنني
راضٍ عن نفسي. هَمَمْتُ بمغادرة المنتدى نهائيا. اعترضني مدير الندوة في الباب
الخارجي الرئيسي. أعلمته بما حدث. هدّأ من رَوعي واقترح عليّ تغيير اللجنة فقبلتُ.
خلاصة القول
الظاهر أن "بُرجي بالنبزِ". رددتُ على الإساءة بمثلها أو أكثر منها
قليلا ولستُ نادمًا على ما فعلتُ (قرآن: "لا يحب الله الجَهْرَ بالسوء إلا
مَن ظُلِمَ") وأختم بالقول: يا ناس "ياهوه" "راهُو"
العلم لا يجامِل أما ناقل العلم فهو مطالَبٌ بالديبلوماسية والمجاملة واللياقة
والأدب حتى يُبلِّغ وجهة نظره العلمية بكل لطف وهذا ما دأبت على فعله يوميا إلى
درجة أن بعض أصدقائي نعتوا هذا التمشِّي بالنفاق. هو تماهٍ وليس نفاقا (Faire avec pour aller
contre les conceptions non scientifiques)
ولن أتراجع عن منهجيتي، كلّفني ذلك ما كلّفني ولو بقيتُ وحيدا سجينًا في عالمي
الافتراضي المسمَّى فايسبوك.
حضرتُ ندوة وطنية تحت عنوان "الحوار حول إصلاح
المنظومة التربوية: من المخرجات إلى الأجرأة"
الزمان: 21 و22 و23 و24 أفريل 2016.
المكان:
نزل هدى بالحمامات.
المنَظِّمون: وزارة التربية والاتحاد العام
التونسي للشغل والمعهد العربي لحقوق الإنسان.
الممول الرسمي لكل الندوات على مدى عامين:
جمعية فريدريش إبارت الألمانية "الخيرية".
الحضور: مِن 200 إلى 300 مشارك (أولياء وقيمون
عامون ومعلمون وأساتذة ومتفقدو ابتدائي وثانوي ومستشارو توجيه وقلة من الأساتذة
الجامعيين ومسؤولون كبار من الوزارة. الغائب الحاضر للأسف الشديد هو التلميذ، محور
العملية التربوية، ولكم أن تتصوروا كيف سيستقيم إصلاحٌ لم يُستشر فيه التلميذ-المحورُ).
وُزِّع المشاركون على ثلاث ورشات بداية من مساء اليوم الثاني. اختتم الندوة ناجي
جلول وحسين العباسي وعند دخولهما معا لقاعة الاجتماعات، الأول لم يصافحه أي مشارك
إلا أنا لأسأله عن كتابي الذي أرسلته له مجلدا مذهّبا، قال لي لم أقرأه بعدُ، أما
الثاني فصافح هو بنفسه كل المشاركين نعم كل المشاركين فردا فردا، أول مرة ألاحظ هذا
الحرص المصطنع.
1. تدخلي
الأول في الحصة الصباحية الجماعية بعد محاضرة المتفقد النقابي المحترف نور الدين
الشمنڤي
Vous avez parlé des
doués et surdoués, permettez-moi de vous demander comment vous les avez
reconnus et désignés ? Qui sont-ils ? À mon avis, il n`y a pas
d`élève plus intelligent qu`un autre mais il y a un élève intelligent dans un
domaine et un autre aussi intelligent que le premier mais dans un autre
domaine. D`habitude, on mesure l`intelligence à l`aide du QI (quotient
intellectuel), cette méthode de mesure est dépassée car elle mesure seulement
l`intelligence instantanée et néglige l`intelligence potentielle. Cette
dernière pourrait émerger d`un instant à l`autre si on change le cadre
d`enseignement (prof, matériel, environnement, motivation, etc.).
Malheureusement pour l`élève, on ne peut pas prédire cette forme d`intelligence
et les profs en général ne favorisent pas son émergence. Le célèbre généticien et
philosophe Albert Jacquard a dit : « On ne peut pas catégoriser l`intelligence
». On sait aussi qu`il n`existe pas de gène d`intelligence donc l`intelligence
n`est pas héréditaire et encore notre cher Jacquard a dit : « L`intelligence
est 100% acquise et 100% héréditaire », c`est à dire il existe une
interaction permanente entre les gènes et l`environnement (l`apprentissage),
entre l`inné et l`acquis, d`où émerge une forme d`intelligence non déterminée à
l`avance.
Il me parait qu`il
n`y a pas d`élèves moins intelligents mais il y a des profs qui ne comprennent
pas pourquoi ce soi-disant moins intelligent n`est pas aussi intelligent que
ses camarades considérés plus intelligents. Je disais souvent à mes élèves : si
le fameux savant intelligent Einstein avait vécu au Sahara avec des nomades, il
serait devenu dans les meilleurs des cas un excellent berger aussi intelligent
qu`un savant mais dans son domaine particulier.
Malheureusement, dans
notre école tunisienne, on ne cultive qu`une seule forme d`intelligence, c`est
l`intelligence intellectuelle et on néglige ou on ignore l`existence d`autres types
d`intelligence (manuelle ou artistique par exemple). On se contente de faire la
monoculture de l`intelligence.
Le prof tunisien,
comme tout ou chacun, possède deux yeux seulement et la réforme scolaire a
besoin d`un troisième œil, l`œil de l`épistémologue, le seul personnage absent
dans ce débat et dans les débats précédents.
Si l`intelligence est héréditaire, Einstein aurait donné un autre Einstein. Le
pays de la Corée du Sud était dans les années cinquante classée troisième,
avant la Tunisie, parmi les pays les
plus pauvres du monde ; et voilà en deux décennies, le miracle humain est
réalisé, elle est devenue un pays industrialisé. L`intelligence se construit,
elle n`est ni innée ni donnée, ça s`apprend après de durs labeurs et si nous,
on n`a pas beaucoup de scientifiques intelligents c`est parce que on n`a pas
réussi à les faire. Les intelligents ne sont pas des champignons qui poussent à
la première pluie.
Je
termine par un petit mot sur les soi-disant doués des lycées pilotes tunisiens
: on leur a fourni un enseignement meilleur que celui qu`on a fourni à nos
enfants, on les a choyés et privilégiés, et voilà quant ils terminaient leurs
études, ils nous quittaient, migraient et préféreraient l`argent et
délaissaient leur nation. Pour moi, un tunisien soit-disant «moins doué» qui reste en Tunisie et
travaille dans le secteur public qui l`a aidé à s`auto-construire, vaut mille
fois mieux qu`un soit-disant «doué», installé à l`étranger au service de
capitalistes avides de profits.
تدخلي الثاني
في ندوة "الحوار حول إصلاح المنظومة
التربوية: من المخرجات إلى الأجرأة" (الحمامات في 21-24 أفريل 2016)
أبدأ بالتعبير عن احنجاجي على الشعار المعلق في قاعة الندوة والذي يقول: "غاية الإصلاح التربوي إعداد مواطنين متجذرين في هويتهم
العربية الإسلامية منفتحين على القيم الكونية". يبدو لي
أننا لا يجب أن نكون كذلك لأن داخل كل أصيل يوجد بالضرورة دخيل وكل دخيل سيصبح مع
مرور الزمن حتما أصيل وقرآننا يعطينا أكبر دليل وما تضمينه كلمات أعجمية مثل
"استبرق" و"جَدُّ" ربهم إلا جزء قليل، ولسنا منغلقين كما قد
يتبادر في أذهان الكثير ولو أردناه انغلاقا تاما لهلكنا وما بلغنا غايتنا.
أليست هويتنا العربية
الإسلامية منفتحة بحكم طبيعتها ونشأتها وتاريخها ؟ لا بل إن مفهوم
الحداثة ليس مفهومًا وافدًا
في حضارتنا بل على العكس هو مفهوم متجذر فينا منذ العصر العباسي كما أكد
ذلك الشاعر العظيم أدونيس. ألمْ تُبنَى الحضارة العربية
الإسلامية في دمشق وبغداد وطشقند وقرطبة بسواعد وعقول مسلمين ومسيحيين ويهود من
العرب والأكراد والأمازيغ والفرس والأتراك والهنود، تُوحِّدهم اللغة العربية نُطقا
وتدوينَا رغم تعدد أعراقهم ودياناتهم ولهذا السبب الألسني بالذات وليس لغيره
سُمِّيت حضارتنا الحضارة العربية مع أن حظ العرب عرقيا كان فيها قليلاَ.
نحن نشأنا
منفتحين وإلا عمّن ورثنا بقايا
الانفتاح نحن سكان قرية جمنة الستينيات ؟ كبرنا فأصابنا الوهن فأغلقنا الباب على
أنفسنا من الداخل أو أحكموا الغلق علينا كما يُحكم الغلق عادة على البهائم.
النتيجة واحدة: ما نحن فيه وعليه من تخلف ! الحل أو البديل ليس بيدي، البديل ليس
للبيع ولا للمبادلة، والبديل لا يُهدى لأنه ببساطة ليس شيئا جاهزا مخفيًّا في جيب
أحد مهما أوتِيَ من فقهٍ أو عِلمٍ أو سلطةٍ.
يبدو لي أن
خيرُ فتحٍ تم هو الفتحُ دون سيف أي انتشار الإسلام ثقافيا عن طريق التجار في أكبر
البلدان الإسلامية قديمًا، أندونيسيا، أو انتشاره حديثًا بنسبة أقل عدديا في
أوروبا والأمريكيتين دون جهادٍ أو إكراهٍ. أليس هذا بدليلٍ على الانفتاح ؟ ثاني
دليل حسب الطالبي هو تواجد 40% من مسلمي العالم اليوم في بلدان علمانية غير إسلامية، مواطنون
يعيشون في سلام، يعملون ويشاركون في صُنع المعرفة وإنتاج العلوم وبناء الحضارة
الإنسانية. ثالث دليل يتجسم في تجذر الفكر اليساري في جميع الدول العربية، فبعد ما
كنا نعدّه دخيلاَ أصبح اليوم أصيلاَ وها هو يصادق على دستور 2014
"الضامن" و"الحامي" لهويتنا العربية الإسلامية التي لا خلاف
حولها اليوم بين اليسار واليمين ولا بين أقلية وأغلبية ولا بين عروبة وأمازيغية
ولا بين إسلام ومسيحية أو إلحاد أو يهودية أو بهائية أو شيعة أو سُنّة.
تدخلي الثالث في
ندوة "الحوار حول إصلاح المنظومة التربوية: من المخرجات إلى الأجرأة"
(الحمامات في 21-24 أفريل 2016)
سمعتكم دوما تأكدون على تملك اللغة العربية
وتتغاضون على الواقع الذي يصرخ ويقول أن
لغة تدريس العلوم الأولى في الثانوي والعالي في تونس هي اللغة الفرنسية
وليست للأسف الشديد اللغة العربية الأم. يبدو لي أنه يجب أن نتفق أولا على تحديد لغتنا
العلمية الأولى (الفرنسية أم العربية ؟) ثم نركز على حث أولادنا على تملكها حتى
يتمكنوا من تملك العلوم الحديثة. وإذا اخترنا اللغة العربية كأداة لتدريس العلوم
في تونس فعلينا أن نوفر لها أسباب النجاح ونَقِيها الفشل المنتظر وذلك بترجمة
المراجع العلمية الحديثة التي يحتاجها طالب الطب أو الهندسة مع العلم أن العلوم
اليوم تتطور بسرعة مذهلة لا يقدر على ملاحقتها إلا العداؤون. وهل نحن منهم ؟ وإصدار مجلات علمية مختصة
ذات قيمة عالية (Des revues spécialisées cotées) ناطقة بالعربية، ننشر فيها ما ننتجه من علمٍ وهو اليوم شحيح
وقليل وننقل فورا ما ينتجه الغرب وهو كثير وغزير.
أضيف ملاحظة حول حال
اللغة الفرنسية في المواد العلمية اليوم في الثانوي، هي أيضا لا تحظى باهتمام من
قِبل أساتذة العلوم في معاهدنا الذين هم مطالبون بإتقانها وتوظيفها جيدا في القسم
لأن مسؤولية تعليمها للتلميذ ليست منوطة فقط بأستاذ الفرنسية بل هي مسؤولية مشتركة
يتحملها كل أساتذة العلوم الذي يدرسون بالفرنسية (الرياضيات، علوم الحياة والأرض،
الفيزياء، التكنولوجيا، الإعلامية). للأسف نرى البعض من هؤلاء يستعملون اللهجة
العربية الدارجة في مخابرهم المغلقة بدعوى أن التلميذ ضعيف في الفرنسية. كيف
سيتحسن هذا التلميذ الضعيف وأنت تغشه من حيث أنك تظن أنك تنفعه ؟ تغشه مرتين،
الأولى عندما تتخلى عن واجبك الذي يحتم عليك قانونيا استعمال الفرنسية في القسم
وبصنيعك هذا تساهم في تدهور المستوى الألسني لدى التلميذ، والثانية عندما تمد
التلميذ ورقة امتحان في ثلاث أو أربع صفحات مكتوبة بلغة فولتير وتطالبه بحل
مسائلها اعتمادا على النص وأنت لم تدربه على فك رموز هذه اللغة الأجنبية.
لقد عانت الشقيقة
الجزائر (درّستُ فيها ثمان سنوات 80-88) من هذه الازدواجية وانعدام الوضوح في
الرؤيا عند تحديد لغة تدريس العلوم. رَفَعَ المسئولون السياسيون الجزائريون شعار
التعريب ولم يهيئوا له أسباب النجاح، وبتعريبهم المتسرّع لتدريس العلوم جهّلوا
أولاد الشعب وهم (المسئولون السياسيون) أرسلوا أولادهم للدراسة في الخارج بلغة
يحاربونها في الداخل. طالِبُ الطب الجزائري القادم من شعبة علمية معربة تماما في
الثانوي يجد صعوبة كبيرة في دراسة الطب بالفرنسية بالجامعة. يقع نفس الشيء عندنا
عندما ينتقل تلميذ الإعدادي (يدرس البيولوجيا بالعربية) إلى الأولى ثانوي (يدرس
البيولوجيا بالفرنسية). كان زملائي الجزائريين، أساتذة العلوم بالعربية في
الإعدادي، خريجي التعريب الأوائل، يجدون صعوبة لغوية كبيرة في تصفح مجلة علمية
فرنسية مثل (La Recherche ou Sciences &
Vie).
تدخلي الرابع في
ندوة "الحوار حول إصلاح المنظومة التربوية: من المخرجات إلى الأجرأة"
(الحمامات في 21-24 أفريل 2016)
حول تكوين ملف لمتابعة
النموّ الذهني للتلميذ: مَن سيمسك بهذا الملف المهم لو قُدِّر له الظهور؟ لقد سبق
وكونّا عديد الملفات حول التلميذ، كلها تأديبية أو جزائية أو إشهادية ؟ حان الوقت أن نكوّن لفائدته ملفا
علميا يقدم له خدمات بعد ما أبدعنا في رصد هفواته وتعقب أخطائه وتسليط أقسى
العقوبات عليه.
يبدو لي أن مدرّسه المباشر هو أكفأ شخص مؤهل للقيام بهذه المهمة التي قد
يستفيد منها المدرّس قبل التلميذ. الطبيبة الإيطالية ماريا مونتيسوري، رائدة
البيداغوجيا والديداكتيك والنموّ الذهني للطفل قبل بياجي وفيڤوتسكي، قالت منذ سنة
1900: "المدرّس باحث ميداني أو لا يكون". وللأسف الشديد فإن البحث
الميداني (La Recherche-Action) مجالٌ أهملناه أو غيّبناه في مؤسساتنا التربوية في
الأساسي والثانوي واكتفينا بالبحوث الجامعية (La Recherche Fondamentale: master, doctorat et
post-doctorat)
التي غالبا ما تكون نُسخًا باهتة لبحوث غربية سبقتها ولذلك بقيت مركونة في رفوف
مكتبات الجامعات التونسية ولم ولن ترى النور ما دامت لا تدرس واقعنا.
تتمثل مهمة الماسك بملف النموّ الذهني للتلميذ في متابعة نتائج التلميذ ورصد
عثراته التعلمية وتسجيل أخطائه المعرفية وتصوراته العلمية وغير العلمية وكشف العوائق
التي قد تعرقِل نموّه الذهني (عوائق إبستمولوجية أو عضوية أو اجتماعية أو نفسية أو
ذوقية ومزاجية أو ميولاته الفنية والفلسفية، إلخ).
إضافة
أعلمتني ابنتي عبير المقيمة بكندا أن مِثل هذا الملف موجود بكندا ويضم التطوع
للقيام بأعمال مجانية خيرية يُطالَبُ بها تلميذ الثانوي وتُثري ملفه الدراسي (عَشرة
ساعاتٍ في العام الأول في المعهد، تُضاف لها كل عام عَشرةٌ أخَرْ، ولا يتسلم
الناجح في الباكلوريا شهادته إذا لم ينجز ساعاته كاملة)، مثلا: يقوم التلامذة
الكنديون المسلمون وغير المسلمين بخدمة الكنديين المسلمين في أعيادهم الدينية
ويمنح منظمو هذه الحفلات العامة شهادة مشاركة للتلميذ المتطوع، شهادة شرفية يستظهر
بها في معهده وتُحفظُ في ملفه المدرسي للعِبرة والتاريخ، أي شعبِ هذا ؟ ما أبعدنا
عنه لكننا قادرون على مثل ما فعل. تنقصنا الإرادة السياسية فقط، أي ينقصنا كل شيء !
تدخلي الخامس في
ندوة "الحوار حول إصلاح المنظومة التربوية: من المخرجات إلى الأجرأة"
(الحمامات في 21-24 أفريل 2016)
نقد مفهوم التقييم: يبدو أن التقييم ليس ضروريا للتكوين:
- يتعلم
الطفل الكثير عن أمه دون تقييم ولا برامج، ، وكذلك الصانع (L`apprenti) عن
"المْعَلَّمْ"، و وكذلك أيضًا تعلمَ قديما كل الفلاسفة والأدباء. في جل
الأحيان يكون التقييم محبِطا ومرعِبا للتلميذ (La mauvaie note est traumatisante
pour l`élève déjà en difficulté).
- هل يحق
للمدرس أن يقيّم تلامذته الذين تربطه بهم عاطفة وعِشرة وهل هو مؤهل في علم التقييم
؟
- أقترح
سَحْبَ عملية التقييم الجزائي والإشهادي (Evaluation sommative et certificative) برمتها من المدرس ونوكِلها إلى عين خارجية أي إلى مؤسسة مستقلة
عن المدرسين مثلما هو معمول به في الامتحانات الوطنية ولا نترك للمدرس إلا عملية
التقييم التكويني فقط (Evaluation formative).
- يبدو لي أن
الأنظمة التربوية الناجحة ذاهبة في اتجاه التقليل من التقييم الجزائي والإشهادي
لأن إسناد الأعداد (La notification) في حد ذاته
يُعتبر اعتباطيا ويخضع لميولات المدرس ومزاجه.
- حول عقوبة عملية الغش في الامتحان: ما زلنا نطبق حلولا تأديبية ونتجاهل أن للغش
حلول علمية مثل بيداغوجيا المشروع (Pédagogie de projet).
- هل درّبنا
تلامذتنا على إجراء فرض أبيض بقصد تأهيلهم للفرض التأليفي وهل دربناهم أيضا على
صياغة أسئلة في الامتحانات ولماذا لا يُسمح للتلامذة استعمال بعض الوثائق أثناء
بعض الامتحانات (Documents
autorisés).
- في فنلندا،
عندما يُعبّر تلميذٌ مّا عن رغبته في عدم إجراء الامتحان بعد تسلم ورقة الأسئلة،
لا يُسأل عن السبب ويُعيّن له تاريخ جديد لامتحانه.
- لماذا لم
نُشرّك التلميذ في مشروع الإصلاح التربوي هذا ولماذا لم نَدْعُه اليوم للمشاركة في
ورشتنا هذه. في بعض الجامعات الألمانية يختار الطلبة أستاذهم الجديد من بين عدة
مرشحين لكرسي شاغر في الجامعة.
- غالبا ما نُوجّه إلى الشعَب الجامعية العلمية تُهمة تخريج مُنفِّذِي العمليات
الإرهابية وننسى أن أغلب قياداتهم المنظِّرَة هم من خريجي الشعَب الجامعية
الإنسانية.
- أقترح
التقليل من الفوارق بين ضوارب المواد (Les coefficients) لكن أرجو أن
تحتفظ الرياضيات واللغات بضارب أرفع من المواد الأخرى (Car les mathématiques constituent un
outil utilisé par toutes les autres sciences et les langues constituent le
véhicule des savoirs scientifiques et non scientifiques).
- أطالب بحذف
عملية التفقد البيداغوجي نهائيا أي لا يحق للمتفقد التطفل على المدرس في قسمه. في
العالم أجمع لا يخضع الأستاذ الجامعي للتفقد البيداغوجي. فهل المعلم وأستاذ
الثانوي ليسا أهلاً للثقة مثل زميلهم في العالي ؟
- أطالب
بتعيين مدرس مرافق لكل تلميذ متعثر حتى يلتحق بالركب في دراسته عوض معاقبته
بالرسوب.
- On dit que toute réforme qui ne
favorise pas les élèves en difficulté n`est pas une réforme, mais une
consolidation en faveur des déjà favorisés.
- أثناء استراحة القهوة بلغني استياء بعض المشاركين في الورشة من طريقة نقدي
الانفعالية. عندما استأنفنا، طلبتُ الكلمة وقلتُ: أعتذر عن الطريقة وأتمسك بالنقد
لأن النقدَ عندي هدام أو لا يكون. أنا أعي أنني حر في أفكاري، لكنني وفي نفس الوقت
أعي أنني لستُ حرا في طريقة تبليغها للمشاركين في الورشة.
تدخلي السادس والأخير في ندوة "الحوار حول إصلاح
المنظومة التربوية: من المخرجات إلى الأجرأة" (الحمامات في 21-24 أفريل 2016)
- المدرسة هي المكان الوحيد الذي يُخطئ فيه التلميذ
ولا يُعاقَب حتى يتعلم من أخطائه ويقلل منها في حياته العملية بعد التخرج. لا
يُعاقَب لكن ينضبط للنظام الداخلي للمدرسة:
« Le
manque d`autorité envers les enfants est une forme de maltraitance »
Philippe Perrenoud
- أؤيد الرأي القائل بضرورة حضور
ممثل عن التلاميذ (تلميذا منتخبا كان أو وليا منتخبا أيضا) في كل المجالس التربوية
القديمة أو المُزمعِ إحداثها قريبا في المعهد مثل مجلس التربية أو التأديب والمجلس
البيداغوجي ومجلس المؤسسة ومجلس التوجيه.
- يجب مراجة
عقوبة الغش في الامتحان لأنها قاسية جدا (المحاولة الأولى، من 4 أيام إلى 15 يوم
وفي المحاولة الثانية قد تصل إلى الرفت النهائي من الإعدادية أو المعهد) ولأن
التلميذ لا يتحمل مسؤولية الغش وحده. الغش مسؤولية
مشتركة، يتحملها الوزير ومصمم البرامج والأستاذ، فلماذا نعاقب أضعف حلقة من بين الحلقات
المسؤولة عن الغش ؟
- أنهِي
بقانوني الخاص الذي سبق وأن نصحتُ به عديد الزملاء ولا أتذكر أحدا منهم لم يعمل
بنصيحتي، قانون قاسٍ على الزملاء، رحيمٍ بالتلاميذ الضحايا الأبرياء: كل مدرس يبدأ
بتعنيف تلميذ لفظيا أو ماديا، يسقط حقه أوتوماتيكيا في تتبع هذا التلميذ ولا يحق
لهذا المدرس أن يطالب بمثول هذا التلميذ أمام مجلس التربية أو التأديب مهما كان
نوع رد فعل التلميذ المعتدَى عليه حتى ولو كان عنفا لفظيا أو ماديا والإشكال لا
يُحلُّ إلا وديا مع التلميذ ووليه والإدارة.
هل أصدق أو لا أصدّق ممثل وزارة
التربية في الحوار الوطني حول إصلاح المنظومة التربوية (2016) ؟
إنها لَمسؤولية تئن لحملها الجبال لو
صدّقتُ ما يقوله عنها ممثلو الوزارة: مسؤولية المشاركة في اللجان الفنية القيادية
لإعداد برنامج مفصل يهدف إلى إصلاح المنظومة التربوية.
شاركت البارحة بمعهد اللغات في البحيرة
2 في أول جلسة للجنة البرامج والتقييم.
أسوق لكم أول ملاحظة أوحت لي بعدم جدية
الوزارة في مشروعها الإصلاحي: جمّعوا ثلاث لجان في قاعة صغيرة (une salle de classe). فهل يُعقل أن يشتغل في فضاء ضيق قرابة العشرين فردا موزعين على
ثلاثة فِرَقٍ، كل فريق يخطط لمستقبل مجتمع بأكمله ؟
في اللجنة التي انضممت إليها، تعطلت
لغة الحوار منذ البداية بين ممثل الاتحاد وممثل الوزارة. عبر الأول عن شكوكه وهو
محق في ما طرحه وقال: "أطلب من ممثل الوزارة أن يوضح لنا موقفه كتابيا مما
بلغنا من أخبار تنسف الحوار من أساسه. سمعنا أن الوزارة كلفت لجنة خارج إطار
الحوار بإعداد كتابين مدرسيين للسنتين الأولى والثانية ابتدائي، حصل هذا دون
استشارتنا ونحن طرف في الحوار الثلاثي (الوزارة والاتحاد والمعهد العربي لحقوق
الإنسان)، أي بمعنى آخر شرعت الوزارة في عملية الإصلاح بمفردها". وأصرّ
المتحدث وهو مصيبٌ على مساءلة عادل حداد ممثل الوزير في الملتقى. استثدعِي عادل فحضر
بعد ساعة تقريبا، انتقلنا إلى قاعة فارغة. قال عادل مبررا ومدافعا عن الوزارة
فرسّخ الشك في ذهني عوض إزالته: "1. الحوار بطيء والأموال التي تُرصد للإصلاح
قد تنفق أو ترجع للخزينة. 2. قدّرنا الكلفة الجملية للإصلاح التربوي بأربعة آلاف
مليون دينار وبوّبنا بدقة مجالات صرفها. حققنا تقدما نسبيا فرُصِد لنا حتى الآن
ألفين وخمس مائة مليون دينار وما زلنا نبحث على تجميع التمويل المتبقي. 3. الاتحاد
الأوروبي المانح لن ينتظر قرارات الحوار ونحن الآن بصدد التفاوض معه على قرض أو
منحة قدرها تسعون ألف دينار ولن نحصل عليها لو لم نقدم كشفا مفصلا عن سبل صرفها.
4. أما إعداد الكتابين فهي لا تعدو أن تكون إلا تجربة ولكم أنتم (الحوار) الكلمة
الفصل في إعداد البرامج والكتب المدرسية" 5. لكن... لكن أعدكم أننا لن نخالف
مخرجات الحوار التي اتفقنا عليها (صحيح أنك لن تخرج عن الخطوط الكبرى لكن الاختلاف
يكمن في التفاصيل يا سيدي وأنتم -حسب قولك هذا- قد سبق لكم وأن انتهيتم من إعداد
التفاصيل للحصول على موافقة المانحين أجانب وتونسيين)". أبلعها أو لا أبلعها ؟
آخذها أو لا آخذها ؟ مضلتي... أسمع أقوالك يا سيد عادل... أصدّقك... أرى أفعال
الوزارة... أحتار في تحديد موقف نهائي منها ؟
قال ممثل الوزارة داخل لجنتنا شارحا
المهام المنوطة بعهدتنا مستقبلا: "1. أنتم لجنة قيادة وتسيير (أعترف أنني
شخصيا لا أرغب، لا في قيادة ولا في تسيير، ولست مؤهلا ولا قادرا على القيام
بكليهما أو أحدهما، ولا أتحمل إلا مسؤولية أخطائي وأرفض أن أنجح بفضل السطو على
مجهودات غيري). 2. أنتم الذين ستختارون وتزكون كفاءات متطوعة لمساعدتكم على القيام
بأعمالكم (أنا لا أضمن إلا نفسي و"شُوفْ" ؟). 3. ربما تتطلب مهامكم
المنتظرة الاجتماع اليومي في البحيرة 2 (أنا تطوعت بجهدي ولست مستعدا للتطوع بقوتِ
عيالي ولا أقدر على دفع نفقات التنقل اليومي إلى مكان لا يصله النقل العمومي،
والتاكسي من شارع بورڤيبة بستة دنانير ذهابًا). 3. عندما تحتاجون إلى دراسات أو
استطلاعات أو بيانات، اطلبوها من المتطوعين الذين ستعيّنوهم (أنا متطوع فكيف أتجرأ
وأطلب من غيري أن يتطوع ؟ ولماذا يتطوع ؟ لإعداد دراسة ! وأنتم الوزارة تدفعون
آلاف الدنانير أجرة للاختصاصيين الذين تكلفونهم عادة بإعداد أي شغل مهما كان مهمّا
أو سخيفا)". هذه المهام يا سيدي لم تقدر عليها وزارتكم المجهزة بجيش من
البيروقراطيين الذين يقبضون ولا ينتجون، فكيف أقدر عليها أنا غير المؤهل، لا
للقيادة ولا للتسيير؟ ولو كنتم جادين وليس على ذقني تضحكون وأنا في سن الرابعة
والستين، فعليكم باختيار لجنة متكونة من مختصين في البرمجة والتقييم وعلى القيادة
والتسيير مدربين ولعملهم هذا متفرغين وادفعوا لهم مقابلا محترما، أما أنا فدوري
يتمثل في معارضة القياديين ونقد المسيرين ولست في عطاياكم من الطامعين !
ملاحظة: ترددت في نشر ما دار في الجلسة المضيقة لكنني تذكرت أنني
لا أمثل نفسي في الحوار ومن حق النقابيين والناس أجمعين أن يطلعوا على كل صغيرة
وكبيرة والحوار الذي دار بيننا لا يجب أن يُحجَبَ على أحد.
درِّبوا المدرسين (معلمين وأساتذة)
وجازوهم على البحث العلمي الميداني ولسوف تَرَوُنَّ أنهم قادرون على المساهمة
الفعالة في إصلاح التعليم بمعية المختصين في علوم التربية
-
ما هو البحث العلمي الميداني (La Recherche-Action)
؟
WIKIPÉDIA : En
1986, lors d'un colloque à l'Institut national de recherche
pédagogique (INRP, Paris), les
chercheurs sont partis de la définition suivante : il « s'agit de
recherches dans lesquelles il y a une action délibérée de transformation de la
réalité ; recherches ayant un double objectif : transformer la réalité
et produire des connaissances concernant ces transformations ».
-
ما هو البحث العلمي الأساسي (La Recherche fondamentale)
؟
هو البحث الذي يقوم به المُجازون في اختصاصاتهم العلمية (Une licence universitaire) تحت إشراف الجامعات ويُتوّجُ بشهادتَيْ الماجستير (Master Fondamental) والدكتورا (Doctorat).
-
ما هو البحث العلمي المهني (La Recherche
appliquée) ؟
هو البحث الذي يقوم به المُجازون تحت إشراف الجامعات ويُتوّجُ بشهادة
الماجستير المهني (Master Professionnel) التي لا تُفضي عادةً إلى دكتورا.
نرجع الآن إلى البحث
العلمي الميداني:
هو البحث الذي يقوم به أصحاب المهن الذهنية واليدوية من كل المستويات العلمية
في أماكن عملهم (مدرسة، معهد، معمل، ضيعة، إلخ.) ولا يُتوّجُ بشهادة جامعية، لا
ماجستير ولا دكتورا.
البحث العلمي الميداني
في المدارس والإعداديات والمعاهد:
يقوم به أي مدرّس يرغب في تحسين أدائه تحت إشراف مؤطّرٍ من اختياره والأفضل
أن يكون عالِما بالمنهجية (La Méthoddologie)، أستاذ جامعي مثلاً أو أستاذ
أو معلم دَرَسَ أكاديميًّا المنهجية. لا يمكن أن تُوكَل هذه المهمة للمتفقد لما
يمارسه على المدرّس من سلطة ، سَمِّها ما شئت إلا علمية.
التحفيز على البحث
العلمي الميداني في المدارس والإعداديات والمعاهد:
على الوزارة اعتباره مقياسًا للترقيات المهنية وتحسين الشهرية (ولا مقياس غيره حتى ولو كانت شهائد البحث العلمي الجامعي الأساسي
كالماجستير والدكتورا) عِوَضَ الاعتباطية
السائدة اليوم. وعليها بعثُ مجلة علمية شهرية أين تُنشرُ جميع البحوث الميدانية.
ولتشجيع البحث الميداني فعلى الوزارة تنظيم ملتقيات علمية أين يعرِض المدرّسون
بحوثهم وعليها أيضا دعوتهم لإلقاء محاضرات في الجامعات واستضافتهم في الإعلام
وتسفيرهم مجانا للخارج للمشاركة في ملتقيات أو تربصات عالمية.
ماذا يربح المدرّس
الباحث؟
-
يرتقي مهنيّا عن جدارة ولا مزية عرْبي (الإدارة أو المتفقد).
-
يكسِب ثقة في نفسه وتزداد ثقة التلامذة والأولياء والإدارة فيه.
-
يجدّد طُرُقَه البيداغوجية بنفسه ويكيّفها مع مستوى تلامذته، فِعْلٌ علمي
وتربوي لا يقدر عليه إلا هو.
-
يصبِح منتجًا للمعرفة (Un
enseignant-chercheur producteur de savoir et non seulement transmetteur de savoir) فيتساوى مع العلماء والمنظّرين.
-
يتحرّر من سلطة محتكِري العلم وسماسرته ومقاولي
المحاضرات من أصحاب الشهائد العلمية العليا، وبعلمه هو ومعرفته
المكتسبة ميدانيًّا يصبِح مستقلا قادرا على المبادرة ولا ينتظر إذنًا أو وصاية من
أحدٍ.
تمويل مشروع البحث
العلمي الميداني في المدارس والإعداديات والمعاهد:
أقترِحُ إلغاء مؤسسة التفقد البيداغوجي في تونس وتحويل ميزانيتها الكبرى
والعاملين فيها (السادة المتفقدون بجميع أصنافهم) وتوظيفهم كمنسقين لهذا المشروع
الواعد بإذن الله.
وليعلم الجميع والحاضر
يبلّغ الغائب: في فنلندا لا توجد مؤسسة تفقد بيداغوجي ولم يمنعها هذا أو بفضل هذا
تتمتع بأفضل نظام تربوي في العالَم.
الخلاصة:
المدرّس باحثٌ ميدانيٌّ أو لا يكون !
"لا تعطني سمكة، علمني كيف أصطاد"
أول مرة في حياتي المهنية كأستاذ
أستفيد من محاضرة قدمها متفقد في ندوة "الحوار حول
إصلاح المنظومة التربوية: من المخرجات إلى الأجرأة" (الحمامات في 21-24 أفريل
2016) !
هو السيد هشام الشابي، متفقد ابتدائي، قدمها بمشاركة السيد الطاهر الدرڤاع
(CNIPER,
Centre National d`Innovation Pédagogique et de Recherche en Education).
ملخص
حسب اليونسكو (UNESCO, l'Organisation des Nations Unies pour l'Education, la Science
et la Culture)،
ما هي مهارات القرن 21 التي ستُبنَى على أساسها المرجعية الوطنية للتعليم في
الإصلاح التربوي الموعود ؟ قد يصل عددها إلى 16 والمحاضران لخصاها في الستة
كفايات التالية:
1. الإبداع والمبادرة والتجديد.
2. التفكير النقدي وحل المشكلات واتخاذ القرار.
3. التواصل والعمل التشاركي داخل فريق.
4. توظيف تكنولوجيا المعلومات والتواصل في التعليم
والتعلم.
5. الوعي الثقافي والمواطني.
6. تطوير الذات عبر التعلم الذاتي والتعلم مدى
الحياة وتصوّر مشروع والتحلِّي بالمرونة.
تعليق
أطرح الإشكالية التالية: هل تتوفر هذه المهارات لدى المربين التونسيين
(أساتذة ومعلمين) حتى يعلِّموها لتلامذتنا ؟ والله أشك !
بيان استقالتي من لِجانِ الحوار
الوطني حول إصلاح المنظومة التربوية المجتمعة بالبحيرة 2 (نشرتها في
الفيسبوك يوم 29 جوان 2016 قبل مقاطعة الاتحاد لهذه اللجان بنصف عام تقريبًا)
صدر أخيرًا بيانًا باسم قسم الوظيفة
العمومية في الاتحاد العام التونسي للشغل يدعو ممثلي الاتحاد إلى مقاطعة لجان
الحوار الوطني الثلاثي لإصلاح المنظومة التربوية (الاتحاد والوزارة والمعهد العربي
لحقوق الإنسان).
فوّضني الاتحاد للعمل داخل لجنة
البرامج والتقييم، وأراحني الاتحاد من المشاركة في حوار غير واضح المعالِم أو
مسرحية سيئة الإخراج.
أحترم قرار الاتحاد وسأنفذه.
وحفاظًا على استقلاليتي الفكرية سوف أنأى بنفسي مستقبلاً
عن التجاذبات السياسية بين وزارة التربية والاتحاد. لم آتِ لهذا.
أي مدرسة أعددنا في تونس للأجيال
القادمة سنة 2050 ؟ ترجمة المؤلف
قال
أستاذي وصديقي، عالِم البيداغوجيا والديداكتيك الفرنسي (فلسفة أو إبستمولوجيا
التعليم) ، الأستاذ أندري جيوردان في كتابه "تعلّمّ" 1998، صفحة 247:
"في القرن الثامن عشر، كانت موسوعة واحدة تكفي للتوثيق لجميع معارف العصر.
أما اليوم فعلوم المخ وحدها تنتج كل عام ما يعادل كمية من المنشورات العلمية بسُمك
خمسين متر".
بعض
الخبراء يقدّرون أن المعارف البيولوجية تتضاعف كل خَمس أو ست سنوات والمعارف
التكنولوجيية كل سبع أو ثمان سنوات. أما في الروبوتيك أو تقنية المعلومات فصلوحية
بعض المعطيات لا تصمد أكثر من ثلاث سنين، وكل ثمانية عشر شهر يُولد جيل جديد من الشرائح الألكترونية. ما هي المعارف التي ستبقى "صالحة" في 2020
أو 2040 ؟ وما هي المعارف الجديدة التي
ستنبثق من رحم القديمة ؟
القراءة
والكتابة والحساب، صحيح أنها كفايات أساسية، لكنها أصبحت غير كافية للتأقلم مع
متطلبات الألفية الثالثة (2050). ألفية تتناقص فيها أهمية الأخبار المكتوبة
(الجرائد) وتطغى فيها الصورة (التلفزة والأنترنات)، فبأي زاد معرفي سيحل تلميذ
المستقبل شفرة تواترات الصور (L` enchaînement d`images
dans les journaux télévisés et les documentaires) والنصوص الرقمية (Hypertextes)
ويحدد مصدرها ونجاعتها ووجاهتها. عليه إذن أن يتعلم كيف يتعلم: "لا تعطني سمكة
بل علمني كيف أصطاد". شيء يحتاج إلى بعض التفكير وإلا فَقَدَ المَثَل الصيني
معناه. على الأفراد تحضير أنفسهم لإدارة المنَظَّم (L`organisé) وغير المؤكد (L`incertain) وغير المنتَظر (L`inattendu). تغيرت الأولويات ولم
يعد مطلوبا من المدرسة أن تكتفي بتعليم محتوى المواد بل عليها إتاحة الفرصة والوقت
للتلميذ للإلمام بجميع معارف عصره واكتشاف ما خفي منها
("أن الغباوة في اعتقاد الفرد فهم الأشياء، لا بكشف ما حجب منها، بل بتصديق
ما كشف منها") وما ليس واضحًا أو
مألوفا وتدريبه على طريقة استقصاء تجعله قادرًا على مجابهة التحديات الحالية
والمحتملة.
يبدو أن تطويرَ ملكة التعلم
عند التلميذ تُعدّ أهم من حشو دماغه بمعلومات قد تفقد قيمتها بسرعة جنونية. يصبح من الأكيد إذن وقبل كل شيء أن نكوّن
عقولاً قابلة للتساؤل حول العالَم وحول نفسها ونربي مواطنين قادرين على مناقشة
الرهانات الاجتماعية المعاصرة. فلنرجّح إذن تملّك منهجية في التفكير ونمنحها مكانة
هامة في التعليم. على التلميذ أن يضع موضع التنفيذ البحوث الوثائقية والتجريبية
والشمولية (Systémiques) أو ممارسة النمذجة (La modélisation) والمحاججة (L`argumentation) والمحاكاة (La simulation). لم يعد المطلوب فقط تعلّم حل
المسائل بل أصبح المُلِحُّ أكثر هو التوصّل إلى بسط المسائل بوضوح داخل وضعية
تعلمية. ولم تعد الأولوية تتمثل في البحث عن المعلومات (Les connaissances) بل أصبحت
الأولوية في فرزها وترتيبها ومناقشة وثاقة صلتها بالموضوع...
إن إعطاءَنا
الأهمية لتملّكِ تمشيات في التفكير وتطوير شخصية التلميذ
لا يجب أن يحجب عنا أهمية المعلومات. لكن وفي هذا الإطار بالذات فإن التغييرَ في علاقتنا بالمعارف (Les savoirs)
يفرض نفسه هنا أيضا، وما زال للمعلومات سببٌ للوجود، ودونها لا نستطيع تطوير
سلوكيات (Des comportements) أو معالجة منهجيات (Des méthodes). على شرط أن تكون معلومات قابلة
للتلف البيولوجي (« biodégradables ») حتى لا تُحنِّط الفكر في لحظة
يحتاج فيها إلى مرونة قصوى. لكن ومن ناحية أخرى يجب استغلال بعض المفاهيم
"الكبرى" كعناصر منظِّمة أو ضابِطة للفكر. هذه المبادئ الأساسية يجب أن
تُختار من أجل إيجاد رابط بين أخبار العالم ومن أجل تمكين الفرد من التموقع وتجديد
ترسانته التخيلية (الزمن، الفضاء، المادة، الأخبار، التنظيم، الضبط، الذاكرة،
التطوّر، إلخ).
وفي
نفس الوقت يصبح من الضروري نقد المعارف التي نتناولها. والأهم من المعارف نفسها هو
التفكير في الرابط بين المعرفة والثقافة والمجتمع أو بين المعارف والقِيم (Les connaissances ne changent
pas automatiquement les valeurs). على التلميذ أن يتفطن لإمكانية
تواجد عدة حلول لمشكل واحد، وكل حل منهم يُفهم في سياقه أو قد لا يوجد حل بالمرة
أو قد تكون الحلول أسوأ من المشاكل نفسها ويصبح السؤال أهم من الجواب... أو يحيلنا
الحل على إطار جامد متكلس، والسؤال على استقلالية التفكير لدى الفرد. وفي هذا
الاتجاه تصبح المعرفة تساؤل وجيه في محله أو ربط وإبداع وبلورة لوجهة نظر. تصبح المعرفة
أداة في خدمة مشروع: مشروع فرد يحضنه مجتمع".
محور 6
حول التعليم في تونس الخمسينيات والستينيات
هل بيئتنا ومدرستنا تنمّيان
ذكاءَنا ؟
لماذا نركِّز في تعليمنا على تنمية
الذكاء المرتبط بالمخ فقط (رياضيات، آداب، هندسة، تاريخ، إلخ) ونُهمل أنواع الذكاء
الأخرى المرتبطة بباقي أعضاء الجسم (الحِرف اليدوية، الرسم، الرقص، الموسيقى،
الفلاحة، التمريض، المسرح، الطبخ، التعلم من اللعب بكل حرية مع الأقران، إلخ) وكأن
”الجسم لا يعدو أن يكون سوى وسيلة نقل للمخ“ ؟
بيئة "جمنة" الريفية في
الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، علمتني ما يلي:
-
التدرب على النُطق السليم لللغة العربية الفصحى عن طريق تحفيظ
جزء "عمّ" من القرآن الكريم في الكُتّاب الوحيد بالقرية.
-
التعلّم عن طريق الانغماس الكامل في اللعب مع الأقران
دون مراقبة الكهول وتوجيهاتهم. كنا نصنع لعبنا بأنفسنا. كنا نُمسرِح عاداتنا في
عيد عاشوراء ونجسّم في الليل وفي كل حيٍّ جملا بأرجل آدمية. كنا نسهر ليلا على
الحكايات الخيالية من التراث وكانت كلها تستهوينا وكنا نصدقها ببراءة الأطفال. كنا
ننوّع وسائل لَهوِنا حسب الفصول (خُوطَة، غُمِّيضَة، بِيسْ، مَشَّاية عند نزول
المطر، دِرْڤِيلة، كَرُّوسة، بالُّون ابرِيزُونييه، نحَلْ، إلخ).
-
تعلّم فلاحة الأرض في الصّغر. وأنا تلميذ في سن 14،
مارستُ القلب والسقي والزرع وتسلق النخيل للتلقيح أو قطع العراجين أو جني التمر "بِسْرًا
أو رُطْبًا" .
-
تعلّم تربية الماعز من تشييع وحلبٍ وعَلفٍ.
-
تعلّم الرقص دون خجل على نغمات الحضرة العيساوية.
-
تعلّم صيد العصافير والجرابيع بواسطة أفخاخٍ من صنع
أناملنا الصغيرة (أعترف أنني لم أكن بارعا في هذا المجال المعادي لحرية الحيوانات
البرية).
-
تعلّم الاعتماد على النفس والسفر بعيدا للدراسة دون
مرافقة الأولياء.
-
تعلّم تحمّل مشاقّ العمل اليدوي 12 ساعة "مرمّة" (مناول بناء) في
اليوم تحت لهيب شمس الجنوب وكنت حينها تلميذًا في سن الرابعة عشرة.
-
تعلّم التكفل بمصاريف عائلتي أثناء عطلتي المدرسية وأنا
في سن الرابعة عشرة عوض اللجوء إلى الراحة واللهو مثل أترابي.
ماذا تعلم البيئة الحضرية لأطفالنا
في مدينة القرن الواحد والعشرين وفي مدينة حمام الشط تحديدا ؟
-
الذهاب يوميا إلى الروضة أو المدرسة أو إلى حصص المراجعة
الخاصة (Etude) حيث يُستهان بالذكاء التجريبي والجسماني وتُقمع المبادرة الفردية
ويُركّز فقط على الذكاء الذهني وكأن لا وجود لذكاء غيره: لا أعمال يدوية ولا رقص
ولا نحت ولا رسم ولا مسرح ولا موسيقى ولا طبخ ولا خياطة، باختصار لا وجود حياة
طبيعية حرة في الروضة ولا في المدرسة.
-
لا تسلية في الدار سوى تسلية المخ بالألعاب الافتراضية
أما الجسم فلا عمل له سوى نقل سيده المخ من البيت إلى المدرسة أو في بعض الأحيان إلى
مدينة ألعاب جامدة رغم حركتها الأوتوماتيكية المبرمجة سلفا لكل الأطفال رغم اختلاف
مستوياتهم وميولاتهم.
جمنة الخمسينيات تعطي درسا في تطبيق التربية
الحديثة في مرحلة ما قبل المدرسة
حسب مقاربته
"البنائية" (Le constructivisme) في اكتساب المعرفة لدى الطفل, يقول "بياجي"، عالم بسيكولوجيا
النمو الذهني عند الطفل (Épistémologue génétique de l’enfant)،
يبدو أن الطفل يتملك المعرفة عندما يتفاعل مع محيطه المادي. ويقول "فيـﭬوتسكي" عالم
البيداغوجيا الروسي, حسب مقاربته "البنائية الاجتماعية" ( Le
socioconstructivisme
)، يبدو أن عامل التفاعل مع المحيط المادي غير كافٍ لاكتساب المعرفة ويضيف عاملا
ثانيا يتمثل في التفاعل البشري مع الآخرين أندادا وبالغين. أما الطبيبة الإيطالية
ماريا مونتيسوري فتقول: "يجب تهيئة وسط خاص يُوضع فيه الطفل مع السماح له
بالتفاعل مع محيطه التربوي المجهّز بأدوات
التعلم المونيتسورية وتحريره من وصاية المربي حتى يتمكن من التعلم الذاتي (rôle de l’enseignant : observer et non juger)".
سكان قرية "جمنة
الخمسينيات" لم يقرأوا بيداغوجيا "مونتيسوري" ("ساعدني على أن
أتعلم وأكتشف بنفسي") ولا بنائية "بياجي" ("اتركني أعرف
وأكتشف بنفسي") ولا سوسيوبنائية "فيڤوتسكي" ("اعطني معرفة
أعلى قليلا من مستوايَ حتى أرتقي وأكتشف بنفسي") ولا يعرفون شيئا عن نظريات
علوم التربية الحديثة لكنهم طبقوا ما جاء فيها أحسن تطبيق دون الادعاء الواعي
بتملك النظرية البيداغوجية العلمية: كنا، أبناء الحي الواحد، أطفالا ذكورا صغارا
لم نتجاوز سنّ السادسة، نغادر بيوتنا صباحا دون مرافق كهل. نتجمع بكل حرية في مكان
فسيح غير بعيد عن أهالينا. بستان فيه نخل وظل دون زرع. نبقى فيه بالساعات, نلعب
ونلهو كما يحلو لنا دون رقيب كهل. نتشاجر بعض الأحيان لكن سرعان ما نتصالح لكي
يستمر اللعب. نصنع لُعَبَنَا بأنفسنا من علبِ سمك "السردين" و علبِ معجون
الطماطم, نصنع سيارات وشاحنات مصغرة تنقل الرمل وتفرغه آليا. نتقمص أدوارا متنوعة
بالتداول, البائع والشاري, السارق والحرس, الأب والابن, الفائز والخاسر, الغالب
والمغلوب. لباسنا خفيف وأقدامنا حافية تدوس على أرضٍ حنون في مناخٍ حارٍّ. لمجتنا
تنزل دون سابق إعلام من السماء تَمْرًا أخضر أو أصفر أو ذهبيا حسب فصول العام أو
"نرمي من كان عن الأحقاد مرتفعا فتساقط علينا رطبا جنيا" (النخلة) وعندما
نجوع, نعود إلى ديارنا فنجد أما حنونا في انتظارنا لا تلومنا ولا تنهرنا بل تقدم
لنا ما جنت وطحنت وطبخت بيديها طعاما طبيعيا لذيذا دون استعمال وسائل الطبخ
الاصطناعية العصرية, وجبة بيولوجية صحية خالية من الأغذية المصنعة المغشوشة و باهظة
الثمن. وفي المساء, نُعيد الكرّة مع تغيير "وضعيات التعلم" التي نختارها
بأنفسنا مثل صيد الطيور أو الجري وراء إطار حديدي لعجلة دراجة أو القفز داخل
مربعات أو الاحتفاء بسحابة أمطرت في غير موضعها. بعد خمسين عاما من هذا التاريخ
(عام 2000) وأنا أدرس دكتورا علوم التربية في جامعة كلود برنار بفرنسا، عرفتُ أن
هذه الطريقة، في اكتساب المعرفة والمهارات والكفاءات، تُسمى "البنائية
الاجتماعية". كبرنا قليلا (أربع سنوات), أخذونا للكتّاب (في جمنة نسمذيها الخلوة)
لتعلم القرآن الكريم في الجامع الكبير. كان الفناء مظلما في النهار وكان المعلم-المؤدب
جالسا وعصاه تتنقل فوق رؤوسنا برأفة وحنان. نردّد وراءه لساعات ما ينشد من كلام
حلو وموزون. نحفظه عن ظهر قلب دون شرح أو تفسير ونستوعب حسن نطقه وبلاغته ونطرب
لموسيقاه. بعد خمسين سنة، عرفتُ أن هذا النوع من التلقين يُسمى: "حمّاما
لغويا" (Bain
de langue)، هذا الحمّام يطهّرك روحيا
من الداخل ويغمرك بالمفاهيم ويكسبك في مرحلة الاستيعاب زادا لغويا ثمينا ونطقا
سليما تستثمره في مرحلة الفهم في شرح وتفسير أي أثر مكتوب, قرآنا كان أو نثرا أو
شعرا.
هبّت علينا في التسعينيات
ريح التحضر والتمدن المشوّه فانبطحنا لها دون مقاومة وفتحنا دكاكين، تبيع تربية
مشوهة للملائكة، تربية ليست علمية وليست تقليدية، وسميناها رياضا للأطفال وسجنا
فيها فلذات أكبادنا، سجنّاهم داخل فضاء ضيق وحرمناهم متعة حرية اللعب والتعلم
مجانا في مساحات شاسعة. هل صادفتَ في حياتك مَن يغش أو يتاجر بالملائكة ؟ فهل مَن
يغتصب حقوق الأطفال، طيور الجنة، يدخل الجنة يا تُرى؟ تخلى الأولياء عن دورهم
التربوي وأوكلوه لـمربين غير مختصين في التربية, أوكلوه لمنشطين انقطع أغلبهم مبكرا
عن مواصلة تعليمهم العالي, كلهم يتقاضون أجورا زهيدة, فهم إذن ناقمون على أنفسهم
وعلى ظروف عملهم, منشطون يصبّون جام نقمتهم على أبرياء في بداية الطفولة والصبا. لا
يعلّمونهم شيئا ولا يتركونهم يتعلمون بأنفسهم أو بمعية أترابهم. يفرضون على الصغار
نوعا من الانضباط المحبِط للإبداع ليتجنبوا حركيتهم التلقائية. قتلوا فيهم الخلق
والخيال وزرعوا في قلوبهم الخوف والجبن والامتثال للأوامر حتى ولو كانت نابعة من
ظالم. يعلّمونهم لغة ركيكة فلا يستوعبها الأطفال في صغرهم ولا تنفعهم في كبرهم.
يجهّزون روضاتهم بالرديء والرخيص والمضرّ صحيا من اللعب والأدوات المدرسية
ويطعمونهم وجبة غير متوازنة مطهية على نار الربح الحرام. يدرّسونهم البرنامج
الدراسي الرسمي للسنة الأولى أساسي وهم يظنون أنهم أحسنوا فعلا وقد صح فيهم قول
"يفعل المربي غير المختص بتلامذته ما يفعل العدو بعدوه". في حمام الشط،
أردتُ مرة مكرها (كانت زوجتي حينها تعمل 14 ساعة في اليوم، تقضيها بين المهنة
وشؤون البيت) ترسيم ابني في روضة, سألتُ المروضة (ما أوحش هذه الصفة التي توحي
بترويض الوحوش في السرك): هل تلقنون قرآنا ؟ هل تتركون الأولاد يلعبون بحرية ؟
أجابتني بالنفي بكل فخر واعتزاز وكأنها تتبرأ من تراثها وثقافتها ودينها. أبشّركم
أنه من حسن حظنا ومن محاسن التخلف الاقتصادي في تونس أن الروضات لم تنجح ولم
تتكاثر حتى الآن وهي الآن (عام 2016) لا تستوعب إلا القليل من أبنائنا، تقريبًا 10%.
خلاصة القول
أنا لا أدعو لرفض
العلم الحديث بل أدعو إلى إحياء عاداتنا الجيدة وإعادة صقلها من جديد وغربلة
تراثنا علّنا نجد فيه ما يتلاءم مع العصر. لم يأتِ عِلم الغرب من فراغ أو لم ينزل
من السماء ولم يكتشفوه صدفة بل صنعوه بعقولهم وتجاربهم حسب حاجتهم ووفق ثقافتهم
وتراثهم ودينهم فأصابوا وأخطؤوا ولم يتوقفوا عن التجديد والإبداع. وصل
"بياجي" إلى نظرياته في "البنائية" عبر دراسة نمو أبنائه
البيولوجيين وتوصّل "فيـﭬوتسكي" إلى "البنائية الاجتماعية"
بعد تجارب عديدة في المدرسة السوفياتية، أما الطبيبة ماريا مونتيسوري فقد أسست
نظريتها البيداغوجية النشيطة بعد دراسات ميدانية أجرتها في فضاءات الأطفال
المعاقين ذهنيا.
وفي الختام، أدعو
أبناء وطني لا سيما المتنورين منهم، أدعوهم للعودة إلى منابع ثقافتنا ونفض التراب
عن تراثنا وتقاليدنا حتى نحيِّنها ونطورها ونستنبط منها نظريات في التربية السليمة
تتناسب مع واقعنا الاقتصادي ومبادئنا وتتلاءم مع مناخنا الاجتماعي والطبيعي ولا
تتناقض مع ديننا وثقافتنا.
ملاحظة هامّة: ما قلته أنا حول مسقط رأسي جمنة يستطيع أن يقول مثله أي مواطن
تونسي من سكّان الأرياف التونسية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire