ما دامت الوزارة عاجزة عن تعريب العلوم في الثانوي بعد عشرين عاما من تعريبها في الإعدادي فلماذا لا تتراجع في قرارها وتُفرنس مؤقتا العلوم في الإعدادي (ولو درّستها مؤقتًا بالأنـﭬليزية في جميع مراحل التعليم لكان أفضل) حتى تستعد جديا وتستعيد تعريب العلوم في التعليم التونسي بجميع مراحله مثل بعض البلدان العربية لكي لا يضيع جيل كامل من التلامذة بسبب التردد السياسي لوزارة التربية التونسية في تعميم التعريب على جميع مراحل التعليم. أنا مبدئيًّا لست ضد تعريب تدريس العلوم في تونس لكنني ضد الارتجالية وعدم الاستعداد.
مثال حي:
عنوان الدرس الرابع في برنامج السنة أولى ثانوي في مادة علوم الحياة والأرض: تحسين الإنتاج النباتي.
إشكالية الدرس: ما هي الوسائل التقليدية والعصرية لتحسين الإنتاج النباتي ؟
سير الدرس: في أول الحصة، طلبتُ من تلامذتي أخذ ورقة بيضاء وكتابة أسماء هذه الوسائل بالفرنسية أو بالعربية دون شرح أو تفصيل وقلت لهم: إن لم تجدوا الكلمات باللغة الفرنسية فعليكم الاستعانة بالمعجم "الفرنسي-عربي" الملحق بكتابكم المدرسي. انتظرت عشر دقائق ومررت بين الصفوف أقرأ ما كتبوا. وجدوا وسيلتين فقط، "الماء والأملاح المعدنية" وهذان المفهومان يمثلان عنوانَيْ الدرس الأول والثاني. حاولت إثارتهم وتحفيزهم ذهنيا بقولي: أنا متأكد مائة بالمائة أنكم كلكم ودون استثناء تعرفون الجواب كاملا وجيدا. لم تُجْدِ طريقتي نفعا إلا عند بعض المتفوقين وعددهم لا يتجاوز الاثنان في كل قسم.
بعد انتظار دام خمس دقائق، تدخلت معاتبا ومشجّعا: سأبيّن لكم بالدليل القاطع أنكم تعرفون الجواب وتحملون معلومات لكن لم تستطيعوا توظيفها في المكان المناسب والوقت المناسب.
مَن منكم لا يعرف أن حرث الأرض يحسّن الإنتاج النباتي ؟ وكانت إجابتهم الجماعية بنعم. توالت أسئلتي: مَن منكم لا يعرف أن اختيار البذور واستعمال البيوت المكيفة وتخصيب التربة بالأسمدة العضوية والري قطرة قطرة والقضاء على الأعشاب الطفيلية والحشرات الضارة يحسّن أيضا الإنتاج النباتي ؟ توالت إجابتهم الجماعية بنعم. استنتجت من أجوبتهم أنهم يحملون معارف كافية حول إشكالية الدرس لكن يُعيقهم توظيفها بلغة علمية فرنسية سليمة. قلت لهم أن هذه المعلومات تُعتبر ثقافة علمية عامة يمتلكها حتى رجل الشارع الأمي لكن لا يستطيع أن يعبر عنها كتابة أو مشافهة بلغة علمية فرنسية سليمة وهنا يكمن الفرق بينه وبينكم، أنتم علماء المستقبل وبُناة نهضتنا إن كُتِب لنا يوما أن نستفيق من سباتنا الموروث والمكتسب وننهض من تخلفنا الذاتي والمدبّر في نفس الوقت من قِبل عدونا الخارجي الغربي والإسرائيلي وعملائهم المحليين في الداخل.
أرجع وأقول أن التلميذ ضحية ومسؤول في كل حالات فشله التعليمي. التلميذ هو ضحية مدرسة سلوكية لـ"واتسون" و"سكينر"، نطبقها في تونس منذ الاستقلال إلى اليوم، جانفي 2017. تعتمد هذه المدرسة على الإثارة والجواب مثل ما يفعل عالم النفس السلوكي مع فأر التجارب. طريقة بيداغوجية تلقينية تعتمد الحفظ واستحضار المعلومات يوم الامتحان دون تفكير. وقد عبّر عنها التلامذة في مظاهراتهم عندما رفعوا شعار "بضاعتكم رُدّت إليكم". صدق التلاميذ، نعم هي بالفعل بضاعتنا نحن الأساتذة. بضاعتنا، لأن التلامذة لم يشاركوا في صنعها أثناء عملية التعلم وبقوا في أحسن الحالات يتفرّجون على أستاذ يعمل بمفرده في القسم، يسأل ويجيب نفسه، يكتب بالطباشير ويفسّخ ما كتبه فوق سبورة تقليدية عمرها مائة سنة، يحضّر المجهر ويدعو التلامذة للمشاهدة دون مشاركة، يجرّب ثم يعرض النتائج على تلامذة مبهورين باستعراض عضلات أستاذهم "القدير والكفء". كيف تطلب إذن من تلميذ ترعرع في مدرسة تقتل المواهب بهذه الطريقة أن يوظف معلوماته لحل مشكل علمي يعترضه لأول مرة مهما كان بسيطا. التلميذ مسؤول عن فشله الدراسي أيضا لأنه لم يبذل مجهودا إضافيا وقد تفطن جل الأولياء القادرين ماديا إلى نقطة الضعف هذه في المدرسة العمومية وضحّوا من أجل تكوين أبنائهم في الدروس الخصوصية وأصبح الولي ينفق ما يقارب المائتي دينار شهريا (ما يساوي نصف مرتب شهري أدنى لعامل في تونس) بين دروس الرياضيات والفيزياء وعلوم الحياة والأرض والأنڤليزية والفرنسية وغيرها. ماذا يفعل الفقراء في هذه الحالة ؟ ونحن معشر الأساتذة من الفقراء باستثناء شبه زملائنا الأساتذة، مقاولي الدروس الخصوصية مع العلم أنني لا أدين هؤلاء الأخيرين لو طبقوا القانون المنظم للدروس الخصوصية، 12 تلميذًا من تلامذة أقسام لا يدرّسونها، موزعين على 3 مجموعات منفصلة في قاعة تدريس محترمة وليس 20 في "ﭬاراج". ماذا يفعل هؤلاء الفقراء المسحوقين طبقيا والعاجزين ماديا وهم يرون أبناءهم يضيعون أمام أعينهم ولا يقدرون ماديا على إنقاذهم من براثن مدرسة عمومية لا تقوم بواجبها في تأهيل النشء لبناء معرفته بنفسه حسب المدرسة البنائية لـ"بياجي" و"فيڤوتسكي"، مدرسة غير مطبقة في تونس حتى الآن رغم اعتمادها شعارا سياسيا من قِبل وزارة التربية التونسية، شعار تجْني من ورائه سياسيًّا الكثير ولا تخسر من أجل تحقيقه مليما واحدا.
حِفظ المعلومات مهم، لكن توظيفها أهم وليس من قبيل الصدفة أننا وبعد نصف قرن من الاستقلال لم نصنع علماء ولم ننتج عِلما تجريبيا أو رياضيا أو إنسانيا ما عدى الأدمغة الوطنية المهاجرة التي بنت علمها في بيئة مغايرة حيث تتوفر الحرية والكرامة وظروف العمل المُثلى لإنتاج المعرفة مثل ما فعل أحمد زويل وفاروق الباز ومحمد الأوسط العياري وغيرهم كثيرون.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire