رأي في الجمهور، رأي غير
سياسي و غير متماه و غير منافق و غير مهادن: إذ الجمهور هو هو على الدوام، قوة غفل و مادة
للانقياد. و جمع، لا وعي له و لا يملك زمام أمره. فأكثرهم لا يعقلون و لا يفقهون.
نقل دون تعليق مواطن العالَم د. محمد كشكار
تاريخ أول نشر على النت: حمام
الشط في 6 ماي 2012.
كتاب "خطاب الهوية. سيرة
فكرية" لعلي حرب، الطبعة الأولى 1996، دار الكنوز الأدبية، بيروت لبنان، 176
صفحة.
نص علي حرب:
صفحة 26:
فالجمهور أو العامة لا يدركون
الأمور بالعقل و البرهان بل يدركونها بالمناسبة و التمثيل، أي بما يناسبها من
الأمثلة المحسوسة و الشواهد الملموسة. و هم لا قدرة لهم على تأويل الحقائق، بل يقفون
عند الظاهر و لا يتعدونه إلى الباطن. و هم لا يتفقهون في المسائل و لا يتدبرون الأفعال، بل
يقلدون في آرائهم العلماء و يطيعون في أفعالهم الرؤساء و ينفذون الأوامر دون نظر
أو تدبير. و مما زاد في اقتناعه برأي الحكماء في صفات الجمهور، أنه كان ينظر إلى
العوام من الناس و هم الجمهور الغالب و السواد الأعظم، فيراهم يؤلهون رؤساءهم و
يجلون علماءهم و يخلعون عليهم ألقاب الآلهة، فيمجدونهم و يعظمونهم و ينزهونهم عن
الضد و الند و الشريك، و يعتقدون بعصمتهم عن الخطأ و يتماهون معهم و يتعصبون لهم و
يغضبون لغضبهم. بل كان يرى أحيانا أن الناس يغضبون لرؤسائهم الأموات منهم و
الأحياء، أكثر مما يغضبون لله الواحد المتعالي. بل كان يرى أن الإساءة إلى الرؤساء
قد تجر الخلق إلى فتنة لا تحمد عقباها. و تفكر في هذا الأمر و أمعن فيه فتقررت
عنده جملة حقائق:
لقد تقرر عنده أولا أن
الجمهور ليس عقلا و لا رأي له. فلا تنفع معه الحجة و لا يقنعه الدليل. بل الأنفع و
الأعدل بحقه التسليم و التقليد و الانقياد. و قد وجد أن هذه الصفة لا تختص بجمهور
دون آخر، و إنما تشترك فيها الجماهير عامة عند كل أمة و ملة و في كل عصر و حال. و
تبين له إذ ذاك خطل الآراء التي تتحدث عن تحرر "الجماهير" و
"وعي" الطبقات. إذ الجمهور هو هو على الدوام، قوة غفل و مادة للانقياد.
و جمع، لا وعي له و لا يملك زمام أمره. فأكثرهم لا يعقلون و لا يفقهون. و لذلك
سرعان ما تبدل الجماهير و العامة مواقفها و تنقلب على أوضاعها، فتنتقل من النقيض
إلى النقيض.
على أنه رأى أن تلك الصفة هي
صفة الجمهور بما هو جماعة إنسانية و كينونة جماعية، لا صفة الفرد الواحد و الكائن
العاقل. إذ لم يخامره شك في أن الفرد الواحد من الناس يدرك و يعقل، فيميز بين الحق
و القبح، و الخير و الشر، و النفع و الضرر. غير أنه وجد أن الجمهور، بما هو جماعة،
محتاج دوما إلى رئيس مدبر عاقل يسوسه و يرعاه. و لهذا، كانت الجموع دوما آلة
السلطان و موضوع السيطرة و أداة قيام الدول و نهوض الدعوات. و حتى و لو وجدت
مجموعة من العلماء فإنها تحتاج، بما هي كينونة اجتماعية، إلى رئيس عاقل يدبرها و
يدير شؤونها.
و تقرر عنده ثانيا أن الجماعة
الإنسانية تأتمر بالغيب و تنزع إلى المتعالي و تهاب المقدس. و هي يستبد بها الوهم
و يحركها الخيال و تعشق الرموز. و تبين له أيضا أن الجماعات بقدر ما تأتمر بالغيب
و تحيا على نحو رمزي، فهي تميل إلى تجسيد الغائب في الهُنا و الآن و في الزمان و
المكان، إذ لا بد من أن تشهد الغائب في الملموس و اليومي و المعاش. و هي بذلك
النقيض من الفرد الواحد العاقل. إذ الفرد العاقل ينطلق مما هو محسوس و عيني إلى
المجرد و المعقول، و إلى الكلّي و الغيبي.
...و اتضح له كذلك أن طلب
البرهنة في كل أمر من الأمور الاعتقادية قد تكون له مساوئه و مضاره بالنسبة إلى
حياة الجماعة. ذلك أنه إذا كانت الجماعة لا تحيا حياتها من خلال العقل وحده، و إذا
كان وجودها بما هو كينونة اجتماعية ينطوي على قدر من التوهم، فإن استخدام العقل قد
يفكك عرى الجماعات الإنسانية، و ذلك بقدر ما يميل العقل الباحث بالإنسان إلى تعرية
الأوهام التي تغلف حياة البشر و هتك الأسرار التي تكتنف المقدسات و فك الرموز التي
منها تُنسج المعتقدات و الأساطير. فالعقد الاجتماعي بين البشر محتاج إلى معتقد. و
المعتقد يضرب بجذوره في اللامعقول و ينهل من الطاقة الرمزية التي يختزنها الإنسان،
طاقة على الإيحاء و التخيل، و قدرته على إنتاج المعنى و خلق الدلالات.
فصح عنده ما ذكره ابن رشد في
"تهافته"، و ما مفاده أن لا شريعة تقوم على العقل وحده، و أن الشرائع
التي تتجاوز المعقول إلى الغيبي و الإلهي أحثُّ للبشر على الالتئام و الطاعة و
الانقياد. و رجع إلى أقوال الشيخ الأكبر ابن عربي في نصوصه و حيث يؤكد أن الوهم
سلطان أعظم في النشأة الإنسانية، و أن الشريعة نزهت بالعقل في التشبيه و شبهت
بالوهم في التنزيه، فأثبتها و خلص منها إلى أن الإنسان يعقل بقدر ما يتوهم، و أنه
لا ينفك عقل عن وهم و لا يخلو وهم من عقل.
الإمضاء
على كل سلوك غير حضاري نرد بسلوك حضاري، و
على كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي أو المادي.
أكتب و أنقل و أنشر للمتعة الفكرية و
للمتعة الفكرية فقط، لا أكثر و لا أقل، و لكن يسرّني جدا أن تحصل متعة القراءة
أيضا لدى قرّائي الكرام و السلام.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire