لننظر قليلا في أحوال أمتنا
العربية الإسلامية. نقل دون تعليق مواطن العالم د. محمد كشكار
تاريخ أول نشر على مدونتي و صفحتيَّ الفيسبوكيتين: حمام
الشط في 9 ماي 2012.
كتاب "خطاب الهوية. سيرة
فكرية" لعلي حرب، الطبعة الأولى 1996، دار الكنوز الأدبية، بيروت لبنان، 176
صفحة.
نص علي حرب:
صفحة 90:
و كان قد نظر في أحوال أمته، فوجد
خللا أساسيا و اضطرابا دائما في أمور السياسة، و هي التي ترعى مصالح العباد و تسيّر
شؤون البلاد. و قد ظهر له ذلك بوضوح منذ البداية. فمنذ انتهاء زمن النبوة و ابتداء
عهد الخلافة، و الرئاسة عند أهل الإسلام لا تستقر على حال و لا يستقيم لها أمر.
فقد كانت على الدوام مجالا للتنازع و الاقتتال، و هدفا لِحَوك الدسائس و
المؤامرات. و لم يكن بمقدور رئيس منذ حادثة السقيفة حتى الانقلاب الحديث، أن يحوز
على الشرعية التامة أو أن يحيا حياة سوية. فهو إما أن يكون قابضا على الأمر، أو
يكون في السجن أو المنفي أو القبر، إن لم يكن متخفيا يدبر المكائد للإطاحة
بالسلطان القائم. و أظهر دليل على ما اعتوَر الحياة السياسية في ملته من الاضطراب،
أن ثلاثة من خلفاء النبئ ماتوا قتلا. و قد بلغ السوء في بعض الأزمنة حدا كان حكم
الخليفة لا يدوم فيه أكثر من يوم واحد. و هو يعرف أن كُتب التاريخ تضج بذكر
الأخبار التي تصف ألوان الفساد السياسي و فنونه التي بلغت حد الفحشاء. نعم إنه
يدرك أن أمته لا تنفرد بين الأمم بهذه المساوئ و المثالب. و لكن ذلك كان يحمله على
التشكيك فيما يدعيه أهل ملته من الفضل لأنفسهم، و في زعمهم احتكار الحق وحدهم من
بين سائر عباد الله. و كان كلما أمعن النظر في تاريخ قومه، دعاه ذلك إلى التساؤل
عما إذا كان قومه قد عاشوا حياتهم على نحو أصلح من غيرهم. بل ذهبت به الخواطر إلى
التساؤل عما إذا كانت حياتهم بعد الدعوة، باستثناء عهد النبوة و زمن المعجزة، و هو
زمن خاطف نادر الوقوع في حياة الشعوب، أفضل و أصلح من حياتهم قبلها، من حيث
الرئاسة و السياسة، أو من حيث الوئام و السلام، أو من حيث الخُلق و المروءة.
و مما قوى شكوكه و دعم رأيه،
أنه في اليوم الذي كان يناقش فيه مسألة العري (السفور و التحجب) مع زوجه و نفر من
أهل بلده، سمع أن وزيرا في حكومة أولئك القوم الغرباء، قد غُرّم لتأخره عن الوصول
إلى مجلس الوزراء في الموعد المحدد. و قد أدهشه السبب الذي يُعاقب من أجله مسؤول
كبير في بلاد يُتّهم أهلها بالشرك و الخلاعة و الفجور. بينما الأمر في بلده على
النقيض من ذلك. ففي بلده لا يكف أولي الأمر و الوعاظ عن الدعوة إلى الاحتشام
بإخفاء المفاتن و ستر العورات. و لكن لا يُحاسب مسؤول في بلده على كبائر الأمور
فكيف يُحاسب على صغائرها.
و تفكر فيما وجده عند الغير
من الصلاح في بعض وجوه الحياة و ما وجده عند أهله من الفساد في بعض الوجوه. فعلم
أن الأمر ليس صلاحا كله و لا فسادا كله. و اعتقد أن التقوى قد تخفي فجورا و
الإيمان جحودا، و التوحيد شركا، و الطاعة معصية..
و شرع يضرب الأمثلة و يورد
الشواهد لتأييد ما ذهب إليه. و قد نظر أول ما نظر في الصيام الذي هو ركن من أركان
الدين و طاعة من أهم الطاعات. فكان يلاحظ من جهة أولى أن الناس يستعدون لاستقبال
شهر الهدى، فيبتهجون لقدومه و يصبرون على صومه و يُراعون آدابه. غير أنه كان يلاحظ
من جهة ثانية أن أسعار البقول ترتفع أضعافا مضاعفة مع حلول الشهر المبارك. و السبب
في ذلك إما جشع التجار و إما ازدياد الاستهلاك لإقبال الناس على الشراء. مع أن شهر
رمضان هو شهر التوبة و المحاسبة. ففيه ينبغي أن يتقي التجار ربهم بالامتناع عن رفع
الأسعار. و فيه ينبغي أن يزهد المرء بعض الشيء بالإعراض عن المباهج. غير أن الأمر
لا يجري على هذا النحو. فالتاجر يصوم و لكنه لا يخرج عن قاعدة العرض و الطلب، فلا
يتورع عن رفع الأسعار. و الصائم يمسك عن الطعام و لكنه يقبل على الأكل عند الإفطار
أكثر مما يفعل في الأيام العادية، و ينفق في هذا الشهر على مأكله أكثر مما ينفق في
الأشهر الأخرى. و كم كان يتساءل أمام نفسه و أمام الناس أيضا، كلما نظر في ممارسات
الناس لصيامهم، كيف أن قوانين السوق تعلو على أحكام الشرع، و كيف أن
حاجات الجسد تطغى على متطلبات الروح. و هو لم يرد بذلك تجريد الناس من كل
إيمان. فهو يدرك أن الإنسان مفطور على الإيمان و العبادة و التقديس. و ما من أحد
يعرى من نزوعه إلى التدين، أي إلى الطاعة و الامتثال. و قد يكون بعض الناس في
صيامهم يصدرون عن إيمان صادق و عن طاعة حقة، و لكنه كان يرى أن الصيام كما يمارسه
الكافة، أقرب إلى ممارسة الطقس إن لم يكن رياضة و مجاهدة. و هو طقس جميل يجري
بطريقة احتفالية و تتولد عنه أجواء حميمية. و لعل الجماعات الإنسانية مفطورة أيضا
على ممارسة الطقوس و على الاحتفال. فالطقس يشعر الفرد بانتمائه و بهويته الجمعية.
و قد يطرد من قلبه الإحساس بالغربة و الوحشة. هكذا كان يرى أن العبادات لا تصدر في
أغلب الحالات عن تقى عميق، و لا تؤدي للزهد بالذات أو إلى مساواة فعلية بين الناس
أو إلى وئام حقيقي بين أفراد الجماعة، كما يُفترض فيها أن تفعل. لم تكن تفعل فعلها
العميق في تربية الإنسان و تهذيبه أو في ردعه و زجره، بقدر ما كانت عبارة عن طقوس
و شعائر تعبر عن هوية الجماعة و تسهم في تكفيرها عن سيئاتها. و لكل أمة طقوسها و
عباداتها. و بالفعل فإن ممارسة العبادات في ملته لم تقف حائلا دون أن يعيش أهل هذه
الملة حياتهم الواقعية كسائر خلق الله بخيرها و شرها، و حسنها و قبحها، و حلالها و
حرامها، و صلاحها و فسادها، و سويتها و انحرافها.
و كان يمعن النظر في سلوك
الناس فينكشف له أن الإنسان كائن متعدد الأبعاد كثير الوجوه. يُبرز وجها و يخفي
آخر، فيتقي و يفجر، و يطيع و يعصي، و يحب و يكره، و يسالم و يعادي..فقد لاحظ أن
الناس في بلده يحاسبون على أشياء و يهملون أشياء، يتذكرون أمورا و ينسون أخرى، و
يكفون عن الهوى من وجه ليستعيدوه من وجه آخر. فهم يمتنعون عن الطعام ليقبلوا عليه
بقوة و شدة. و يحاسبون مَن لا يصوم و لكنهم يتغاضون عن احتكار السلع و الفحش في
رفع الأسعار. و يحاسبون على خلع الملابس و لا يحاسبون على استثمار مياه البحر أو
هدر الموارد. بينما الأمر على العكس في بلاد أخرى حيث لا يُحاسب الفرد على طريقة
الملبس أو على ممارسة الفرائض، و لكنه يحاسب على رفع صوت الراديو أكثر من اللازم،
و يحاسب على التلاعب بالأسعار، بل يحاسب على التأخر عن أداء واجبه مهما علا شأنه و
أيا كانت مرتبته. و كان بمقدوره أن يورد من الأمثلة التي تؤيد رأيه في كل مجال من
مجالات الحياة و في كل دوائر الاجتماع.
الإمضاء
كل ما يُقال لك نصف الحقيقة، فابحث عن
النصف الآخر بنفسك.
على كل سلوك غير حضاري نرد بسلوك حضاري، و
على كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي أو المادي.
أكتب و أنقل و أنشر للمتعة الفكرية و
للمتعة الفكرية فقط، لا أكثر و لا أقل، و لكن يسرّني جدا أن تحصل متعة القراءة
أيضا لدى قرّائي الكرام و السلام.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire