"المعاصَرة
خلقٌ وإبداعٌ ولا تتم إلا بالالتحام الوثيق بمسيرة المجتمع ودور المثقف هنا يتمثل
في إنارة السبيل بعد فَهْمِ الواقع وبعد رفع القناع عن ملابساته" د. عبد
الوهاب بوحديبة
هل تصحّ مقولة
د. عبد الوهاب بوحديبة في المثقف التونسي أيام ثورة 14 جانفي 2011 ؟
لقد لاحظتُ في
الشارع وكتبتُ في الفيسبوك أيام الثورة، قبلها وبعدها، أن جل مثقفينا، بجميع
أطيافهم السياسية، لم يفهموا ما وقع قبل 14 جانفي ولا بعده ولا أستثني نفسي بل
أضعها في خانة غير الفاهمين، لم يرفعوا القناع عن ملابسات ما وقع ولم ينيروا
السبيل لعامة الناس ومتواضعي الثقافة. كنتُ أعتقد أن المثقفين الناشطين سياسيًّا،
ليبراليين وقوميين ويساريين وإسلاميين، الذين ناضلوا منذ الستينات ضد بورقيبة وضد
بن علي وقادوا المظاهرات وشاركوا في الاعتصامات والإضرابات، هم الذين أطاحوا
بالطاغية بن علي بمعية المعطلين والمهمشين وأجبروه على الهروب إلى دولة الرجعية
والعمالة والخيانة. كنتُ أظن أنهم أوسع
منا ثقافة وأعمق منا تحليلا، نحن القاعدة المثقفة غير الناشطة سياسيًّا. لكن ما
راعني وأدهشني هو ما شاهدته يوم 13 جانفي، بضع ساعات قبل هروب المخلوع، في الحصة
التلفزية الذي نشطها رمز الإعلام الفاسد والبائد، المنشط سامي الفهري، شاهدتُ
المختار الطريفي، المتعاطف مع حزب العمال "الشيوعي"، ورئيس الرابطة
التونسية لحقوق الإنسان، رأيته يستبشر خيرا بخطاب الرئيس، ورأيتُ ويا ليتني ما
رأيتُ، رأيتُ الناشطة الحقوقية المشهورة والعضوة في منظمة النساء الديمقراطيات،
بشرى بن حميدة، تؤكد على المباشر ثقتها الكبيرة في بن علي رغم أن خطابَه الأخير
كان هزيلاً ومكشوفًا، إلا لمن لا يريد أن
يرى، ومن لا يريد أن يرى لن يرى حتى ولو منحناه ألف مخ وألفي عين !
لو لم يكن هؤلاء المتحزبين قصيرِي النظر لما
تهافتوا على تكوين أحزاب ذات فكر منبت عن واقعنا، يخاطبون الشعب التونسي العربي
المسلم بهوية إيديولوجية مزيفة ماضوية متخلفة عن عصرنا أو حداثية مستوردة من عصر
ما بعد الحداثة رغم اعترافهم العلني والصريح بأن هوية الشعب التونسي هي هوية عربية
إسلامية. عصرنا هذا يمتاز بالتكامل بين العقل وبين ما لا يدركه العقل، أو ما يسمى
ما وراء الطبيعة (أو اللاوعي أو الدين أو الأسطورة أو الخرافة أو السريالية).
العقل وما لا يدركه العقل، مفهومان غير متصارعين، فعصر الصراع بينهما قد ذهب وولّى
إلى غير رجعة، وأصبح العقل وما وراءه يتكاملان في إنتاج التوازن البشري الضروري
للحياة الطبيعية الغريزية والمكتسبة، السعيدة والكريمة نسبيا.
لو لم يكن هؤلاء منبتّين عن واقعهم لما تاهوا
وضيّعوا وقتهم ووقتنا في تحليل وتفسير المشاغل الاجتماعية الثانوية تونسيا (مثل
حرية المعتقد، المساواة في الإرث، الحرية المطلقة للفنان في ممارسة فنه دون رقابة
ولا مصادرة ولا وصاية، هل يحق ويحلّ للمنقّبة الدخول إلى قاعة الدرس أو قاعة
الامتحان ؟)،
وتجاهلوا القضايا الأساسية تونسيا (مثل تعويض عائلات شهداء الثورة معنويا وماديا،
معالجة جرحى الثورة مجانا بتونس والخارج
في أحسن المصحات مهما كان الثمن فدمهم أغلى من كنوز الفراعنة، محاسبة
القناصة والقتلة، قضية البطالة المتفشية في الشباب، المجانية الفعلية في التعليم
والصحة، محاربة الفساد ومحاكمة رموزه، تسبيق التنمية الجهوية في المناطق
الداخلية).
تهافتت هذه النخب على اقتسام كعكة مسمومة
أعدّتها مطابخ الإدارة الأمريكية، وهي نفسها التي احتكرت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة
والمكتوبة منذ 14 جانفي إلى اليوم. لم نَرَ يومًا منبرا تلفزيا واحدا يناقش سياسة
التعليم المتخلفة، أو سياسة الصحة وفشل "الكنام" (الصندوق الوطني
للتأمين الصحي)، أو الديمقراطية داخل الاتحاد العام التونسي للشغل، أو قضية
المناولة والمتاجرة بعرق العمال، أو احتكار التجار الوسطاء للمنتوجات الغذائية
وترفيعهم للأسعار مثلما يريدون وقت ما يشاؤون.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire