المصدر:
كتاب "مخاضات الحداثة التنويرية. القطيعة
الإبستمولوجية في الفكر والحياة."، هاشم صالح، دار الطليعة للطباعة والنشر،
بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 2008، 391 صفحة.
نص هاشم صالح:
صفحة 268 : "طيلة
سنوات عديدة كنت أعتقد أن الحل يكمن في الإبستمولوجيا (علم العلوم أو علم فلسفة
العلوم). وككل باحث عربي غادر بلاده إلى أوروبا وجامعاتها كنت مسحورا قبل كل شيء
بالحداثة والعلم والتكنلوجيا. وكنت مسحورا بتلك النظرية التي أتاحت نشأة هذه
الأشياء في أوروبا، وأتاحت لأوروبا أن تتفوق على جميع الأمم الأخرى منذ القرن
السادس عشر وحتى اليوم. ففلسفة العلوم أو فلسفة المعرفة هي التي تدرس شروط إمكانية
وجود المعرفة الصحيحة وتمييزها عن المعرفة الخاطئة وهي التي تبلور معايير التقدم
وطرائق الاكتشاف والبحث العلمي (إضافة المؤلّف محمد كشكار: وأنا أقول تدرس شروط
إمكانية وجود المعرفة "العلمية" وتمييزها عن المعرفة "غير
العلمية" ولا أقول "الخاطئة" لأن خطأها لا يظهر إلا للعالِم بينما
هي -حتى ولو كانت خاطئة فعلا- هي معرفة عملية وحياتية على الأقل بالنسبة لحاملها
ومستعملها). ولكن بعد فترة طويلة من التخبط والتيه رحت أكتشف -و يا لدهشتي الكبرى
!- أكتشف أن الحل يكمن أولا في التيولوجيا لا في الإبستمولوجيا ! إنه يكمن في علم
الكلام، في علم الله، في علم اللاهوت قبل أن يكمن في علم الطبيعة أو الفيزياء أو
الرياضيات. وفهمت عندئذ أن تحرير السماء سوف يسبق حتما تحرير الأرض. وعرفت ألا
جدوى من تحرير الأرض قبل تحرير السماء. هذه السماء الضاغطة كالسقف فوق رؤوسنا، هذه
السماء التي تراكمت فيها الغيوم السوداء وادلهمّت على مر القرون السكولائية.
لا يفهمنَّ أحدٌ من ذلك
أني أدعو إلى الإلحاد، فهذا حل سهل لم يخطر لي على بال. ذلك أني لا أعتقد بإمكانية
قيام مشروع نهضوي كبير إلا على الإيمان : أقصد الإيمان الذي يزحزح الجبال، الإيمان
المنبعث من تحت الأنقاض أو من تحت الرماد. فالتحرير اللاهوتي الذي ندعو إليه سوف
يقدم لنا شحنة هائلة من الانبعاث والتجدد والخلاص. كنا قد ذكرنا أن القرار
اللاهوتي الحاسم الذي اتخذه مارتن لوثر 1517م لم يخلّص المسيحية فقط من الأوشاب
التي علقت بها عبر التاريخ وينتشلها من الوهدة التي سقطت فيها، وإنما سرعان ما
تُرجم على أرض الواقع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، فشمل التحرير كل جوانب الحياة.
وكان أن عادت الثقة إلى روح أوروبا والمسيحية من جديد، وكانت انطلاقتها الكبرى
وتحررها من عُقَدِها التاريخية المُزمنة.
اسمحوا لي أن أقول في
الختام بأن المقدس عندنا قد استنفذ طاقته، وفُرِّغَ من معناه. لقد فُرِّغَ من
تنزيهه وتعاليه الذي كان القرآن العظيم قد دشنه لأول مرة في اللغة العربية قبل
خمسة عشر قرنا من الزمن. لقد تحول إلى شكليات طقوسية وقوالب قسرية جفّ فيها نبض
الإيمان. هذا اللهب الأوّلي، هذه الشرارة المقدسة التي أشعلها محمد بن عبد الله في
روابي مكة والحجاز، ماذا بقي منها الآن ؟ كيف تحولت وتشوّهت على أيدي الحركات
الحالية حتى أصبحت غريبة عن مقاصدها الأولية ؟ كيف طُمِرت طزاجتها الغضة تحت ركام
العصور والخلافات المذهبية ؟ كيف استُهلِكت من كثرة الاستخدام بحق وبدون حق ؟ كيف
هرمت وشاخت وأصبحت عالة على التاريخ، هي التي كانت تشحن التاريخ وتدفع بالعرب نحو
الفتوحات والأمجاد ؟ كيف خارت القوى، وانحطت العزائم ؟ كيف أصبحت الآيات القرآنية
تُسحب في هذا الشأن أو ذاك، لتأييد هذا الزعيم أو ذاك بحسب الحالة والحاجة ؟ كيف
دخلنا في معركة الفتاوى الحامية التي تُقذف ضد البعض كالرجم بالصواريخ ؟
يقولون: عاد الدين وعاد الإسلام، وإنهم لواهمون.
فما عاد ليس إلا أيديولوجيات سياسية مغلّفة بغلافات تيولوجية. ذلك أن ما يحصل تحت
أعيننا اليوم ليس عودة إلى الإسلام ولا انبعاثا أو تجديدا لروح الإسلام، وإنما
عَلمنة كاسحة تتم تحت غطاء المعجم اللاهوتي القديم. ولا أحد يرافق هذه العَلمنة
الجارية فعلا على أرض الواقع بخطاب نظري عربي إسلامي حديث. لا أحد يشرح لنا ما
يجري، ولماذا يجري ما يجري بهذه الطريقة لا بتلك. ذلك أن الأفق مسدود والخطاب
الأيديولوجي الأعمى يغطي الساحة فلا يترك أي مساحة للفكر الحر والمستنير. ومن
المعروف أن المجتمع عندما يُكبت طويلا ينفجر، وعادة ما يلجأ إلى لغة آبائه وأجداده
للتعبير عن نفاذ صبره وضيق عيشه. وهذا ليس تزمتا خاصا بالإسلام والمسلمين كما يزعم
الغربيون، وإنما هو تعبير عن الاحتجاج السياسي والاجتماعي المشروع في ظل إخفاق
التنمية وغياب الحد الأدنى من الديمقراطية والتعددية الفكرية والسياسية. افتحوا
المجتمع قليلا، دعوه يتنفس شيئا ما، عندئذ يعبّر عن نفسه بغير لغة الانفجارات
والتفجيرات.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire