أهدي هذا المقال إلى ابن أخي، الفنان الممثل، أسامة كشكار (مسلسل
شْوِرِّبْ ومسلسل الحَرْقَة).
ملاحظة: من حسن الصدف أن جريدة لوموند ديبلوماتيك الشهرية الناطقة
بالفرنسية، جريديتي المفضّلة، استبقتْ الجدل الدائر حاليًّا في تونس حول الفنان
لطفي العبدلّي وحرية التعبير على خشبة المسرح.
الموضوع:
منذ القرن 19م والفنانون يتساءلون بِـحيرة وجودية هل
سيستطيعون العيش من مردودِ نشاطهم الفني فقط، ويتساءلون أيضًا عن دورهم في
المجتمع. والمجتمع بدوره يتساءل عن دور الفنان: طفيلي مُلهَمٌ ؟ مُضيفٌ
للروحانيات؟ هل للفنان خصوصية تمكّنه من أن يكون مفيدًا وصالحًا للاستعمال ؟
نلاحظ اليوم تكالب السياسيين، الدساترة واليساريين والقوميين وحتى
الإسلاميين، نهضة وسلفيين، على توظيف الفنانين لأغراض حزبية خاصة في حملاتهم
الانتخابية.
غرّد رئيس فرنسا الحالي، ايمانويل ماكرون، مغازِلاً الفنانين:
"لن يُبتكَرَ المستقبلُ إلا بفضل سلطانِ خيالِكم". أصبح الفن ضروريًّا
في السياسة وأصبح الفنانون مطلوبين لخدمة السياسيين.
أصبحوا مطلوبين أيضًا في المجال التربوي ومجال التضامن الاجتماعي
وحتى مجال الرعاية الصحية، ومُنحت لهم مكانة بين المهن المفيدة بل حتى بين المهن
الضرورية.
هذه الضرورة الاجتماعية للفنانين، مسألة تستطيع أن تتقبّل أجوبة
شديدة الاختلاف، أجوبة لم تُطرَح في السابق، لا من قِبل الفنانين أنفسهم ولا من
قِبل مموّليهم ولا من قِبل الجمهور عمومًا. مسألةٌ لم تُطرَح في واقعنا العربي، لا
من قِبل الفنانين أنفسهم ولا من قِبل الجمهور الفاقد للتذوّق الجمالي أصلاَ.
قبل الإسلام كان الشعراء عندنا يوظِّفون إبداعَهم للتغني بنَسب
القبيلة وشرفها وانتصاراتها على القبائل العربية المجاورة والمنافسة على الماء والكلأ،
وبعد أصبحوا يسترزقون من مدحِ الأمراء والسلاطين.
في عالم رأسمالي متوحش جشع أناني، عالم يفضّل المفيد والمربِح، في
عالم يعاني لماذا يصلح البحث المجاني عن جمالية المعاني ؟
ومن هنا تنبثق المواقف وتتطور التصورات حول الفنانين: الفنان
الملعون، الفنان الانتهازي، الفنان المتطفل، الفنان المتقوقع في برجه العاجي والذي
لا ينكر انعدام صلوحيته أي الفنان المحكوم عليه بالوحدة والانعزال، الفنان السكران
بمبدأ الفن من أجل الفن لا غير
لكن يبدو أن موقف الفنان الانعزالي الأرستقراطي الإرادي هو موقف
مشترك، موقف يَرفض فيه الفنان الانسياق وراء نزوات الجمهور والجمهور بدوره يرفضه،
موقف نتج عن الوضع السياسي والاجتماعي القائم ثم وقع التنظيرُ له، موقف مبتكَر من
قِبل الطرفَين (الجمهور مرآة الفنان والفنان مرآة الجمهور)، موقف ديالكتيكي
مأساوي، موقف يؤبد تصورًا سيئًا عن الفنان، الفنان الملهَم المتطفل على جمهور لا
يطيقه.
في أمريكا الثلاثينيات، عصر الماكّارتيزم أو "الخوف الأحمر":
الصفقة الجديدة (le New
Deal): صُنِّفَ فيها الفنانون كعمال من ذوي الكفاءات الخاصة
الذين يجب أن يتلقوا أجرًا. صفقةٌ انتُدِبَ فيها 13.000 ممثل، و7.000 كاتب، و2500
موسيقي (...) انتُدبوا من أجل القيام بمهمة لفائدة الصالح العام بعيدًا عن الجرعة
الإضافية من الروحانيات والفن من أجل الفن. انتُدبوا لتثقيف الشعب وتنشيط مجموعات
هواة وإيصال المسرح إلى مناطق دون مسرح وتسجيل التراث الموسيقي لِسُود الجنوب
الأمريكي أو تسجيل قصص معاناة العبيد من أفواه أبناء العبيد أنفسهم وتجميل الأحياء
بلوحات فنية جدارية
2500 fresques.
كل هذا من أجل إرساء ثقافة وطنية والنتيجة كانت رائعة حقا: 25 مليون
أمريكي اكتشفوا المسرح لأول مرة. لكن المؤسسة الأمريكية المكلفة آنذاك برصد
الأنشطة العدائية للأمة لم تر في كل هذا النجاح إلا انتشارًا وانتصارًا للفكر
الشيوعي.
في الاتحاد السوفياتي في الثلاثينيات، عصر الستالينية أو عصر
الواقعية الاشتراكية:
الفنان مطالبٌ بالالتصاق بالواقع ونقله كما هو ومطالَبٌ أيضًا
بالمساهمة في التغيير الإيديولوجي وتربية العمال على الحس الاشتراكي، أي مطالَبٌ
أن يكون الفنان مفيدًا على شرط أن يؤقلم فنه ويلائمه مع متطلبات المشروع الثوري.
في التجربتين، الأمريكية والسوفياتية، كان الهدف هو
استلاب الفنان (aliénation de
l’artiste) وتوظيفه لخدمة أغراض سياسية، أغراض لا علاقة لها بالفن
والخلق والإبداع غير المقيد بالمنفعة الآجلة.
وتبقى الإشكالية معلقة لكنها مطروحة: كيف نتجنب التناقض التالي:
نعترف للفنان بضرورته وأهميته في المجتمع دون أن نطلب منه، فردًا أو جماعةً، أن
يساهمَ في بناء مجد بلاده ويثقف شعبه ويشارك في بناء الإرادة الجماعية، ودون أن
نحدّ من خياله وتطلعاته، ودون المساس بأعز ما يملك، خصوصيته وحميميته.
المتنفّذون الجدد
(les nouveaux commanditaires, 1991)
يتصورون أنهم وجدوا الحل، وجدوه في "فن الديمقراطية"
وغايته الاستجابة لطلبات المواطنين واعتماد سياسة ثقافية، سياسة يصممها وينفذها
الفنانون بمشاركة المواطنين والمواطنات دون انتظار مشاريع الدولة. سياسة تدعو
الفنان لتبنّي مواضيع الإيديولوجيا السائدة في المجتمع والمقدّسة من قِبل
"المواطَنة"
(des thèmes élus par l’idéologie dominante, sanctifiés
par la « citoyenneté » et l’horizontalité)
سياسة أفقية تقطع مع سياسة الدولة العَمودية. علاقة أفقية مباشرة من
الحريف إلى مقدم الخدمة، يصبح فيها الفنان عبارة عن مجمّل (enjoliveur)
يلبّي الطلب المحلي.
خاتمة: قد يتشكّلُ في الأفقِ جوابٌ مع تأمّلات الفيلسوف أرنست بلوش (Ernst Bloch): "ويبقى
في العالم جزءٌ من الحُلم لم يُستثمَر بَعْدُ، بُعْدٌ من التاريخ لم يُكتشَف
بَعْدُ، رُكْنٌ من الطبيعة لم يُغتصَب بَعْد".
الإحساسُ والوعيُ بما ينقصنا وإذكاءُ الرغبة فيه، يبدو لي
أن هنا، وليس هنالك، تكمنُ رَوْعَةُ المُفِيدِ - للجميعْ.
Source : Le Monde diplomatique, août 2020.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire