نَصُّ مواطن العالَم:
كان ممكنًا ألا أبوحَ
بما يشغلني مع أن الكتمانَ ليس من شِيمي والتواصلَ عنديَ مرهمٌ والإفشاءَ دواءٌ.
لذا أشهِدكم يا أحبائي وحبيباتي -جنّبكم الخالق ما بلاني- أشهِدكم أنا العبدَ
الضعيفَ، رقيقُ الفؤادِ رقيقُ الإشارة في كل هَمسةٍ ولَمسةٍ، أنني غير موقنٍ، غير
واثقٍ، غير متفائلٍ بأن الفرجَ آتٍ وغير مُسَلِّمٍ بأن الفقرَ قدرٌ من السماء. وأن
النضالَ أصوبُ طريقٍ للخلاصِ أو مَن خافَ سَلِمَ، أن العدلَ بشريٌّ، وأن الظلمَ من
طبيعة الإنسانِ ومكتوبٌ في جيناتِه.
في البدايةِ كان المستبدّونَ،
وعلى أكتافِ العبيدِ بَنَوْا الأهرامات وفي النهايةِ وبسواعدَ المضطهدينَ شقّوا
القنال، وبين العهدِ الأولِ والثاني نزلتِ الرسالات. الأسى على ما راحَ لا يُرجع
ما راحَ والبكاءُ على الأطلالِ لن يُحييَ أم كلثوم. وأن العبقريةَ ليست موهبةً
والغباءَ ليس وراثيًّا، والكمالَ والجمالَ لله والنقصَ والقبحَ للبشرِ، والعلمَ
ليس موضوعيًّا ولا محايدًا، لكن اليومَ خيرٌ من أمسٍ، ولولاه ما كان لي وأنا في
هذا العمر، لا ابتسامةَ على شفتايَ أرسمُها مجاملة ولا تفاحةً بأسناني الصفراءَ
أقضمُها. وأن الحيادَ والموضوعيةَ والصدقَ والإخلاصَ خصالٌ بشريةٌ ؟ كذا التضامنَ
والتآزرَ والتزاورَ والتطوّعَ والرفقَ والتقوى والكرمَ والأمانةَ وانعدام الغدر.
الكذبُ حقٌّ، والبؤسُ حقٌّ، والنفاقُ حقٌّ، واللؤمُ والمحسوبيةُ والرشوةُ، حقٌّ
أيّدَه وأبّدَه البشرْ ليشقَى بذنبه، لا بذنب غيره، البشرْ.
أشهِدكم أن الإنسانَ
أقربُ إلى الحيوانِ منه إلى الإنسانِ، وأنه وعِفةُ النفسِ مَرَجُ البحرين لا
يلتقيانْ بينهما برزخٌ لا يبغيانْ، أشهِدكم أن الله حضرَ طيلة الحِقَبِ النبوية ثم
غابَ في النفوس قبلَ وبعدَ، وغابَ الحقُّ معه والعدلُ والرحمةُ وكل صفاتِه التسعة
والتسعين، في مكةَ لم نعثرْ عليه منذ زمانْ، ولا في القدسِ وجدناهُ ولا في
الفاتيكانْ.
أشهِدكم أن الطبيعةَ
ليست وحدَها الخلاّقةُ والولاّدةُ، والأملُ في الإنسان عبادةْ، والرجاء فيه وحده
آية من آيات الله لا نقصانَ فيها ولا زيادةْ، ومن حسن حظ البشريةِ أن العدوانيةَ
والدونيةَ والتمييزَ والعنصريةَ ليست وراثيةً. كذا الأنانيةَ والجشعَ والربحيةَ والثقافةَ
والأميةَ والإيثارَ وحب النفس الأمّارة بالسوء. بلاءٌ أصَبْنا به أنفسَنا وما
ابتلانا به الواحد الأحد الله الصمد، فكأن الابتلاءَ من جِبِلتنا وهو في الواقع
ليسَ كذلك.
صحيحٌ أن جيناتَنا
الثلاثينَ ألفٍ ما زالت تبرمجُ لإنسانِ الغابةِ ولم تسمعْ بعدُ بأن المُبرمَجَ
أصبحَ يُبرمِجُ وأن المخلوقَ الصغيرَ أصبح يَخلقُ الطائرات والكبائرَ. جيناتُنا لم تسمعْ بعدُ بأن الفراعنةَ تفرعنوا وأن
البابِلِيّينَ علّقوا الحدائقَ وأن أثينا أنجبت رَقِيقًا مَهَّدَ للفلسفة ولولاه
ما وُلِد سقراط ولا أفلاطون وما نَظَمَ هوميروس ملحمةَ الألياذة بخمسة عشر ألف بيت
وما غزا طارق إبيرييا ولا كَتَبَ ابن خلدون المقدمةَ.
وصحيحٌ أيضًا ومن حسن
حظنا أن خلايا مخنا تمرّدَتْ على هذا البرنامج ولم تخضعْ له إلا عند التكوين (La genèse du cerveau) ثم شيئًا فشيئًا شَقتْ عصا
الطاعةِ وتفاعلتْ مع جاراتِها والمحيطِ والناسِ فنجحتْ في نَسْجِ مليون مليار
علاقةٍ عصبيةٍ أو وصلةٍ عصبيةٍ، هي جميعُها مُولّدُ ذكائِنا ومنها انبثقتْ
شخصيتُنا وبها تميزنا
وبها بين ملايين البشر تفرّدنا (L`épigenèse
cérébrale).
ولولا تمرّدِها على برمجية "الآدِآن" لَكُنّا اليومَ نتكاثر كالقِرَدَةِ
ونقفزُ في فرحٍ ومرحٍ من غصنٍ إلى غصنٍ
L’ADN : C`est un logiciel performant et
sophistiqué mais il est très ancien.
وقالت ليَ نفسي
لمّا سألتُ: أيا نفسُ أتقنعين بالعيشِ عيشِ الحُفَرْ ؟
دنت منّي, رمقتني بنظرات، "نظرات مَن دنا وتدلَّى فكانت مني قاب قوسين أو
أدنَى.. إنها تعلم السرَّ وما يخفى"، ثم قالت لي: أباركُ فيك صعودَ الجبالِ
واقتحامَ الصعابِ
وركوبَ الخطرْ !
بنيتُ لها فوق
الربوةِ عُشًّا، في عليائِها تشمُّ هواءً نظيفًا ومنه تَرصُدُ حركات البشرْ،
أوصيتُها ألا تقترب منهم وقلت لها أن البشر خطرْ، وهل في الطبيعة كائنٌ أشَرّْ.
زياراتُ الأقاربِ تباعدتْ بل كادتْ تندثرْ، فلا مؤنس لي غير الذكرى أجترُّها
وأنتظرُ الأمرّْ، الموتُ. أما الأصدقاءُ فلم أعدْ أراهُمُ إلا في أحلامِ القيلولةِ
وعند السَّحَرْ، يا لخُدعةِ العقلِ وسُخريةِ
القَدَرْ
! "عُدتُ وحيدًا بدونِ وِحدةٍ"، عُدتُ وأصحابِي، السجائرُ والحاسوبُ
والكتابُ والقَمَرْ.
خاتمة: بيدَيَّ اقتلعتُ جذوري وانطلقتُ، ظننتُ أنني
منها تحرّرتُ وبلهفةٍ عدوتُ، في الكلم ستين تعبتُ ففتحتْ لي ذراعَيها وفي حضنها
ارتميتُ !
ملاحظة للأمانة الأدبية: القالِبُ (Le moule) لِصاحبِه الروائي المصري جمال
الغيطاني (كتاب التجليات، السفر الثاني، 1985) والحشوُ حَشوِي بما يَحمِلُ اللّفظُ
الأخيرُ من معنى مزدَوَجٍ.
حمام الشط، الأربعاء 20 فيفري 2019.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire