لماذا نركِّز في تعليمنا على تنمية الذكاء الذهني فقط (رياضيات، آداب،
هندسة، تاريخ، إلخ.) ونُهمل أنواع الذكاء الأخرى المرتبطة بباقي أعضاء الجسم
(الحِرف اليدوية، الرسم، الرقص، الموسيقى، الفلاحة، التمريض، المسرح، الطبخ،
التعلم من اللعب بكل حرية مع الأقران، إلخ.) وكأن ”الجسم لا يعدو أن يكون إلا مجرد
وسيلة نقلٍ للمخ“.
في قرية جمنة تحديدا وقبل المدرسة، علمتني بيئة الخمسينيات ما يلي:
-
تعلّمتُ نطق اللغة العربية الفصحى عن طريق
حفظ جزء "عَمَّ" من القرآن الكريم في الكُتّاب الوحيد بالقرية.
-
تعلّمتُ مهارات متعددة عن طريق اللعب مع
الأقران. ودون رقيب كهل، كنا نصنع لعبنا بأنفسنا. كنا نُمسرِح عاداتنا في عاشوراء
(جمل عَشورا). كنا نسهر ليلا وننصت لأمهاتنا تروين حكايات التراث الخيالية، كنا
نصدّقها وكانت تستهوينا. كنا ننوّع وسائل لهونا حسب الفصول (خُوطَة، غُمِّيضَة،
بِيسْ، مَشَّاية عند نزول المطر، دِرْڤِيلة، كَرُّوسة، بالُّون ابرِيزُونييه،
إلخ.).
واجب إعادة إحياء دَور
الكُتّاب في تعلم الفصحى في التعليم ما قبل المدرسي
كبرنا قليلا (أربع سنوات), أخذونا للكتّاب (في
جمنة نسمّيها الخلوة) لتعلم القرآن الكريم في الجامع الكبير. كان الفناء مظلما في
النهار وكان "المعلم-المِدّب" جالسا وعصاه تتنقل فوق رؤوسنا برأفة
وحنان. نردّد وراءه لساعات ما ينشد من كلام حلو وموزون. نحفظه عن ظهر قلب دون شرح
أو تفسير ونستوعب حسن نطقه وبلاغته ونطرب لموسيقاه. بعد خمسين سنة، عرفتُ أن هذا
النوع من التلقين يُسمى: "حمّام لغوي" (Bain de langue)، هذا الحمّام يطهّرك روحيا من الداخل ويغمرك
بالمفاهيم ويكسبك في مرحلة الاستيعاب زادا لغويا ثمينا ونطقا سليما تستثمره في
مرحلة الفهم في شرح وتفسير أي أثر مكتوب, قرآنا كان أو نثرا أو شعرا.
نظرية مونتيسوري
في تربية الأطفال قبل الست سنوات تتلخص في الشعار التالي على لسان الطفل: "ساعِدني على التعلم بنفسي" (“Aide-moi à faire seul”). ونحن أطفال جمنة الخمسينيات لم ننتظر اكتشاف
النظريات التربوية الحديثة وطبقنا منذ أجيال -بطريقة عفوية مكتسبة وموروثة ثقافيا
في آن- شعارا قد يكون أفضل تربويا من شعار مونتيسوري وهو التالي: "اتركني أتعلم
بنفسي". بمفردنا ودون رقيب كهل مختص
أو غير مختص، كنا نصنع لُعبنا بأيدينا ونتعلم منها ومن المحيط والأقران. عندما أقول "طبقنا شعارا قد يكون تربويا أفضل"، أنا أعي ما أقول، قلت
"تربويا أفضل" ولم أقل "علميا أفضل" ولهذا انقرضت تقريبا
طريقتنا التربوية التقليدية من جمنة وعوضتها رَوضات أطفال "حداثية".
كادت تجربتنا أن تكون علمية صِرفة لو صاحبتها عينُ رقيبٍ عالِمٍ ميداني (La recherche-action)، عينٌ مسندة بعقل، عقلٌ يلاحظ ويسجّل ويدوّن ويطوّر طريقتنا في التعلم
الذاتي ويستنتج ويقارن وينشر فربما قد نكون سبقنا علماء الغرب من أمثال مونتيسوري
وفيڤوتسكي وبياجي واكتشفنا "نظرية التعلم البنائي الاجتماعي" قبلهم
جميعا (le socio-constructivisme).
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire