samedi 7 janvier 2023

مفهوم "ختم النبوّة" بديلا عن مفهوم "موت الإله" أو بناء الحداثة في السياق الإسلامي. بقلم مصدق الجليدي، دكتور في علوم التربية (أكتوير 2008)

 

توطئة حول سؤال الحداثة في السياق الإسلامي:

كثيرا ما يثار السؤال حول تأخر العرب والمسلمين التاريخي في "دخول الحداثة". وهذا سؤال في الحقيقة سيّء الطرح، لأنه يسلّم ضمنيا بوجود فضاء منجز للحداثة، وما على العرب والمسلمين إلا شحذ الهمة لدخوله، ضاربا صفحا عن مسار كامل للتاريخ الثقافي والحضاري الإسلامي. هذا الفضاء الحداثي المقصود هو الفضاء الأوروبي والغربي بوجه عام. على العرب الدخول إليه كما يقومون بزيارة لمدينة أوروبية، أو يختارون الإقامة فيها. بينما المشكل هو أن الإقامة في الحداثة لا تتأتى إلا لمن بنى حداثته بنفسه، لأن الحداثة الأصيلة ليست غزوا من الخارج، بل فتحا وبناء من الداخل، حيث تعتمد كما نبه إلى ذلك آلان توران في "نقده للحداثة"، على ركيزتين هما الفرد (أي بناء مفهوم الإنسان الحر) والعقلانية، وهما يحيلان ضرورة إلى معنى البنائية التي لا تكون في الآخِرِ إلا ذاتية. وهذا يعني أن الحداثة ليست مجرد نتاج يوفره الآخر لنا كما يوفر لنا أي مادّة استهلاكية، بل هي بالأساس تمشٍّ واعٍ ونشط من أجل التحرر من الاستلاب الميتافيزيقي والثقافي اللاعقلاني، مقدمةً ضروريةً لسيادة العالم الطبيعي من قِبل العقل العلمي المتجدد، ومن أجل التحرر من الاستلاب السياسي والاقتصادي شرطا ضروريا لسيادة الدولة من قِبل إرادة الأفراد التفويضية المؤقتة، تتجدّد وفق قواعد اللعبة الديمقراطية.

فيصبح السؤال الأكثر أهمية هو: لماذا لم يفلح المسلمون في إنجاز حداثتهم بعدُ وكيف يتسنى لهم القيام بذلك ؟

صحيح أن الحداثة يمكن أن يُنظر إليها كظاهرة إنسانية كونية، لأن العقل قيمة كونية وكذلك الفرد، ولكن هل توجد صيغة واحدة من المعقولية ؟ وهل يظل الأفراد هم أنفسهم مهما كان المناخ الثقافي والروحي الذي يعيشون فيه ؟ من الصعب الجزم بهذين الأمرين. والأهم من ذلك هو أن الفلسفة الحديثة  نفسها، من ديكارت إلى هيـﭬل، لا يمكن إخراجها بصفة جذرية من الأفق الروحي الذي نجمت عنه، والمقصود هو سياقها المِلّي المسيحي، وهو ما عمد نيتشه إلى إبرازه بكل حدّة  ولذلك، فإن الحداثة إذا لم تُفهم كإيديولوجيا للهيمنة، كما حذّر من ذلك هابرماس في قوله الفلسفي في الحداثة أو هربارت ماركوز في إيروس والحضارة أو حتى دوركهايمر في خسوف العقل، وإنما كإرادة للمعرفة النسبية المعتدلة (اللارَيبية) وكإرادة للتغيير الحضاري، فإنها يمكن أن تُصاغ بعدّة أشكال لا تصطدم مع نزوع الإنسان نحو طلب السعادة، زيادة على طلبه للفهم والرفاهية المادية. فالتقدم الذي يخلق أنواعا جديدة من الاغتراب ليس إلاّ دورة جديدة محكمة لإعادة إنتاج العبودية. ولذلك لا يمكن الفصل في التقدم بين الرفاهية والوفرة المادية، تحقيقا لمطالب الجسد، من جهة، والحرية والسعادة، تحقيقا لمطالب الروح، من جهة أخرى.


         لكل هذا نقترح في هذه الورقة مفهوما إجرائيا متميزا لبناء الحداثة في العالم الإسلامي الذي يشعر بالحاجة إلى التحديث وإلى البعث الديني في نفس الوقت. هذا المفهوم هو مفهوم "ختم النبوة". غير أننا ننبه من الآن إلى اختلافه عن المفهوم الكلاسيكي للختم الذي يشير إلى الاكتمال ضمن منطق تأبيد الوصاية على عقل الإنسان. وسنشرح لاحقا كيف أن هذا الختم يعبّر عكس ذلك تماما عن معنى ارتفاع الوصاية عن عقل الإنسان.


         إن ما عُرِفَ في الفلسفة الغربية بـ"موت الإله" (نيتشه) يقابله في الفلسفة الإسلامية "ختم النبوّة" (محمد إقبال). في الغرب يتعلق الأمر بختم الألوهة وبالقتل المضاعف للأب (قتل الأب الفرويدي ثانية -قبل مجيء فرويد نفسه- بعد أن تحول إلى إله في نظر أبنائه) ولا بختم النبوة، لأن الإله لديهم مفهوم له تاريخ (روجيس دبراي)، أي ليس مفارقا. وهذا أمر مفهوم وقد اضطر إليه الفكر الغربي لأنه قد أحلّ الله الأب في شخص المسيح الابن، فعيسى عليه السلام ليس نبيا بالنسبة لهم، بل هو ابن الله وهو الله وقد حلّ فيه بالكامل. لا يقدر الفكر المسيحي الإيجابي أو المضاد (النقدي) على ختم النبوة والإبقاء على الله حيا لا يموت، ولذلك لا فكاك له من ورطة الوصاية المتواصلة على العقل وعلى الضمير الإنساني، إلا بقتل الله، فادّعى الأسلاف صلب المسيح وبقاءه في الإله حيا، أي رفع الحلول وتعويضه باتحاد روح المسيح بروح الله. أما الأخلاف فقد ادّعوا موت الإله نفسه (نيتشه) أي قتل الأب الذي لم يحب إلا ابنه الذي جعله ذاته، وفي النهاية الذي لا يحب إلا ذاته. قتلوه حتى يتسنى لهم تبادل الحب في ما بينهم كبشر، والذي يبدأ بمحبة الفرد لذاته وثقته فيها.


        إلههم مات (قتلوه مرتين ابنا وأبا، ماديا ورمزيا، وفق الرواية المسيحية أو المناهضة للمسيحية) لأنه وُلِدَ ميتا (عقيدة التثليث والحلول والخطيئة الأصلية المزمنة و«الوعي الرديء»: نيتشه) أما إله الحنيفية المحدثة، الإله الكوني، رب العالمين، الذي نجت توحيديته القرآنية من التحريفَين التوراتي والإنجيلي لنصه المتقدم بالذّات والمتأخر بالزمان، فهو حي قيوم لا يموت، ولم يمنع الحب البشري بل حثّ على التناكح والتناسل (في الحديث النبوي «تناكحوا تناسلوا، فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة») وأظهر الود والرحمة لكل عباده ولكل مخلوقاته.


        ولذلك لم يؤدِّ تطور الثقافة والفكر في الحضارة الإسلامية إلى ظهور فكرة موت الإله لأنها فكرة لا معنى لها في هذا السياق، طالما أن الإنسانية لم تختزل في شخص واحد خلاصي كشخص المسيح، ولذلك قدّم القرآن الكريم واقعة موت الرسول المحتملة كظاهرة طبيعية لا تمس في شيء جوهر الرسالة، لأنها لم ترتبط أنطولوجيا (أي ارتباطا وجوديا لازما) بشخص محمد صلى الله عليه وسلم وإنما ارتبطت بمفهوم الإنسان المستخلف في الأرض والمكرّم في البر والبحر والمفضّل على كثير ممن خلق الله تفضيلا. « وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين » (آل عمران/ 144). فالمشروع الاستخلافي متواصل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وما الأنبياء والرسل إلا مُعلمين ومدربين للبشر على الاستقلال بالذات والترقّي في مدارج الحضارة.


         الفلسفة الغربية إذن فلسفة للموت بدرجتَيه: الموت في ذاته وموت الموت، أي موت المعنى، لأن الموت الأول تم التفكير فيه لإضفاء معنى على الحياة، أما الموت الثاني (المضاعف) فهو سلب للحياة من كل معانيها: عَوْدٌ أبدي لحياة ميتة سلفا، أي محكوم عليها بالموت الفوري. وما تساوي حياة إنسان فاقدة لكل معنى سوى معنى القضاء على المعنى ذاته ؟! قد تكون هذه الأفكار جيدة لمقاومة تعصب الفقهاء، ولكن لا نظنها صالحة لمن يروم منذ البداية المقاصد البعيدة ويسعى في النهاية إلى السعادة المديدة.


         ولقد اقترنت الفلسفة الغربية بمعنى الموت في مراحلها الثلاث: الإغريقية («أن نتفلسف هو أن نتدرب على الموت»: أفلاطون) والمسيحية (شبهة صلب المسيح) ومضادة المسيحية (النيتشوية التي أعلنت موت الإله). فلسفة تخاف الموت فحاولت قتله، ولكنها لم تفلح إلا في تأجيله (ارتفاع نسبي لمعدل الأمل في الحياة) أو تعجيله ("الموت الرحيم")، وظل الخوف من الموت يسكن أعماقها. بينما روح الثقافة الإسلامية تتجه نحو معانقة معنى الحياة والزينة والأكل من الطيبات: « يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله والرسول إذا دعاكم لما يحييكم » (الأنفال/ 24) وليس "إلى ما يميتكم". و«خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين » (الأعراف/ 31). أي اقتران العبادة التي تضمن تلبية حاجات الروح بمظاهر البهجة وإشباع حاجات الجسد. وقوله "إنه لا يحب" من دون ذكر اسم الله صراحة، يفيد معنى القاعدة الصحيحة موضوعيا وليس دينيا فحسب. فالضمير الغائب يحيل إلى معنى الحكم الموضوعي الكوني، وما الله المستتر ( الباطن) إلا ضمانة خلقية وطبيعية لهذا الحكم الموضوعي كما جعل ديكارت الله ضمانة ابستمولوجية للحكم الموضوعي للعقل فلا معنى لموت إله هو خالق للفطرة ومانح للإنسان الحرية والقدرة اللامحدودة على الإبداع.


I- معنى ختم النبوّة

تحتوي عبارة "ختم النبوة" على مفهومين: أحدهما قد تشكّل والآخر يطلب التشكّل، وهما على التوالي: "النبوة" و"ختمها". من الإشكاليات التي يطرحها هذا المفهوم:

-    ماذا تعني النبوة ؟

- ما الفرق بين النبوة والرسالة ؟

- ما هو دور الأنبياء في الارتقاء بالوعي البشري ؟

-    لماذا خُتمت النبوة ؟

-    ما هي استتباعات هذا الختم ؟


1-    النبوة والرسالة

جاء في "كبرى اليقينيات الكونية" للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي أن كلمة النبوة «مأخوذة من النبإ بمعنى الخبر، ومعناها وصول خبر من الله بطريق الوحي إلى من اختاره من عباده لتلقي ذلك.

فالكلمة إذن تفسير بين النبي والخالق جل جلاله، وهي الوحي والإنباء. أما الرسالة فتعني تكليف الله أحد عباده بإبلاغ الآخرين بشرع أو حكم معين. فهي إذن تفسير للعلاقة بين النبي وسائر الناس، وهي علاقة البعث والإرسال » (ص.82).

بحسب هذين التعريفَين ، نتبين فرقا أوّلَ أساسيا بين النبوة والرسالة، وهو أن الرسول مكلف بتبليغ شرع بينما النبي غير مطالب بذلك، فما هي وظيفة النبي إذن ؟


         عن أبي ذر الغفاري قال قلت كم وفّى الله عدّة الأنبياء ؟ قال: "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، الرسل من ذلك ثلاث مائة وخمسة عشر جماّ غفيرا". انفرد به أحمد في باقي مسند الأنصار
بطبيعة الحال لا نجد كل هذا العدد من الأنبياء والرسل في القرآن الكريم، فهو لا يتضمن إلا بضعا وعشرين نبيا ورسولا. وقد أوضح لنا ذلك بقوله: "ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك" (غافر/ 78) ولكنه يؤكّد في نفس الوقت: "إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا، وإن من أمة إلاّ خلا فيها نذير" (فاطر/24)، ويطمئن الله عباده بقوله: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا" (الإسراء/15). فهذا كله يدل على العدد الكبير للأنبياء والرسل.


         وبالعودة إلى المقارنة بين النبوة والرسالة، نلاحظ في الحديث السابق أن عدد الأنبياء يفوق عدد الرسل زهاء أربعمائة مرة. فما السرّ في ذلك ؟

إن هذا الفرق العددي الكبير يعطينا فكرة أولية عن دور الأنبياء مقارنة بدور الرسل. فمن المؤكد أن الرسل تأتي بعد قدوم عدد كبير من الأنبياء. وهذا يدل على الوظيفة التمهيدية التي يضطلعون بها. كما أنه بعد قدوم رسول بشرع ما من ربه يعقبه عدد من الأنبياء لتذكير الناس به، عندما يحيدون عنه، ولمواصلة جهد تركيزه في أقوامهم، إذ أن الناس قد جُبِلوا على مقاومة كل جديد وعلى التلكّؤ في متابعة أعمال المصلحين. :"ثم أرسلنا رسلنا تترا، كلما جاءت أمة رسولها كذّبوه، فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث، فبعدا لقوم لا يؤمنون" (المؤمنون/44). وهاهو الوحي يستنكر عليهم نزوعهم إلى التقليد والجمود بالتعريض بقولهم :"إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون" (الزخرف/22).

للأنبياء إذن وظيفتان أساسيتان: التمهيد للرسالات القادمة والتذكير بالرسالات السابقة.

يمكن أن نجمع هاتين الوظيفتين في وظيفة أساسية واحدة وهي مساعدة البشر على الارتقاء بوعيهم. النبوة إذن توعية وتربية للجنس البشري، وعي علوم وحكمة وموعظة وتبصرة ونصح. ولذلك فإن من يخالف النبي لا يعاقب بمنطق الجزاء الديني، لأن الناصح لا يعاقب المنصوح له إن هو خالفه، ولأن المنصوح له ما زال في مرحلة التعلم ولم يع بعدُ عواقب عمله السيئ. بل إن عقابه يكون من جنس عمله المخالف، لأن النبي ينصحه وفق ما تقتضيه الضرورات الطبيعية والاجتماعية. فمن خالف الضرورة الطبيعية سيكون عمله غير موفق وسيخيب سعيه ويجني خسارا. كأن يأمره النبي بالطهارة في البدن والثياب والمأكل والمشرب فيصاب بشتى الأمراض عند عصيان أمره، من دون حاجة إلى عقاب آخر. أما من يخالف الرسول فيعاقب دينيا، لأن الرسول يأتي بشرع قد مُهِّد له بجهود توعوية كبيرة من قِبل الأنبياء السابقين، ولأن مخالفة الشرائع والقوانين لا يظهر ضررها على ذات المخالف بصفة عاجلة وفورية، كما هو الحال لسارق أموال الناس مثلا، فإنه ينتفع بسرقته في العاجل، ولكنه يسهم في خلق مناخ من انعدام الأمن على الأرزاق يعود بالضرر عليه وعلى ذريته وعلى كل المجتمع في الآجل، ولذا وجب الضرب على يد السارق منذ الوهلة الأولى حتى لا يستفحل خطره ويعظم داؤه.


        ونظرا لبساطة تفكير الإنسان في مراحل طفولته العقلية فإن الشرائع التي كلف بها في هذه المرحلة شرائع في غاية البساطة، كدعوته إلى مجرد الاستغفار في رسالة نوح أبي الأنبياء: "فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا" (نوح/10). وكلما تدرج بهم الأنبياء إلى مراحل أرقى من الوعي، كلما زاد تعقيد الشرائع شيئا فشيئا. وهذا أمر نلحظه حتى في الرسالة الخاتمة، فإن الفرائض لم تفرض دفعة واحدة، بل على التدرّج. ذاك أن الرسول يقوم بالتمهيد لشرائعه التي سيبلغها عن ربه أولا ثم يشرع في تلقي الأمر بتنزيلها في الواقع تاليا. فالرسول يجمع بين وظيفتي النبوة والرسالة معا. ولذا فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا. قال الله تعالى على لسان نوح: "أبلّغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون" (الأعراف/ 62). فبنصحه لقومه هو نبي، وبتبليغه رسالات ربه هو رسول. وكانت الشرائع في البداية مجرد شعائر دينية ومبادئ أخلاقية، ثم شملت  تدريجيا مجالات الاقتصاد (كأحكام الإرث والبيوع والقروض) والاجتماع (كأحكام الزواج والطلاق والإنفاق) والعلاقات الدولية (أحكام السلم والحرب والمعاهدات والمواثيق)... إلخ.


2- في معنى الختم

أ-معنى الختم لغة

الخَتْمُ لغة هو السَّدُّ على الإناء، والغَلْقُ على الكتاب، بِطين ونحوه، مع وضع علامة مرسومة في خاتَم؛ ليمنع ذلك من فتح المختوم. فإذا فُتِح علم صاحبه أنه فتِح، لفسادٍ يظهر في أثر النقش. وقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتَمًا لذلك. وقد كانت العرب تختم على قوارير الخمر؛ ليصلحها انحباس الهواء عنها، وتسلم من الأقذار في مدة تعتيقها. والخَتْمُ: أَفواه خَلايا النَّحْل. والخَتْمُ أَن تَجمع النحلُ من الشَّمَع شيئًا رقيقًا، أَرقَّ من شَمَع القُرْص، فَتَطْلِيَه به. والخاتَم، بفتح التاء، الطين الموضوع على المكان المختوم. وأطلق على القالَبِ المنقوش فيه علامة، أو كتاب.

ب- معنى الختم اصطلاحا

لقد قُرئ لفظ الخاتم بوجهَين:

 الأول: بفتح التاء وعليه قراءة عاصم، ويكون بمعنى الطابع الذي تختم به الرسائل والمواثيق، فكان النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) بالنسبة إلى باب النبوة كالطابع ، ختم به باب النبوة ، وأوصد وأغلق فلا يفتح أبدا.

 الثاني: بكسر التاء وعليه يكون اسم فاعل، أي الذي يختم باب النبوة.

ج- الختم في القرآن وفي السنة

قال الله تعالى: "مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً" (الأحزاب:40).

وفي الحديث: "مثَلي ومثلُ الأنبياء من قبلي كمَثَل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلاّ وضعت هذه اللبنة قال فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين" (صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب خاتم النبيين).


II- ختم النبوة في الفكر الإسلامي

1-    الطرح الكلاسيكي لختم النبوة

يقول أبو الأعلى المودودي أحد أبرز رموز الحركة السلفية المعاصرة: "لا يرسل نبي بعد نبي إلا لأحد الأسباب الثلاثة الآتية:

1.    أن يكون تعليم النبي المتقدم قد انمحى وظهرت الحاجة إلى عرضه على الناس مرّة أخرى.

2.    أو يكون تعليم النبي المتقدم غير كامل، فهو بحاجة إلى إتمامه.

3.     أو يكون تعليم النبي المتقدم منحصرا في أمة خاصة، وتكون أمة أخرى أو سائر الأمم بحاجة إلى نبي مرسل مثله. وقد انعدم كلّ سبب من هذه الأسباب الثلاثة اليوم. (من كتاب "مبادئ الإسلام").


2-    طرح الشيخ أبو الحسن الندوي (عالم هندي وُلد عام 1332هـ/ 1913)

كتب أبو الحسن الندوي في بيان أهمية ختم النبوّة بأن في هذا الختم تكريما للإنسانية باعتبارها "بلغت الرشد"، وأنها انتهت إلى الدين الكامل الذي يضع الأسس والأصول، ويترك التفصيلات للعقل البشري، الذي يولد ويستنبط في ضوء تلك الأصول ما تحتاج إليه المجتمعات في تطورها المستمر، وهي تغلق الباب على المتنبئين الكذابين، وتمنع فوضى الدعاوى الكاذبة المفترية على الله تعالى. وقد أكد الشيخ ذلك في فصل من كتابه "النبوة والأنبياء" عن محمد خاتم النبيين، ثم ألف كتابًا عن "النبي الخاتم".

وهذا الطرح شبيه بطرح محمد إقبال ، ولعل الشيخ الندوي قد أخذه عنه، لأنه وُلد بعده بأربعين سنة وهو من أبناء بلده الهند. ولكن إقبال يمتاز عن الندوي بنظراته الفلسفية وبتأملاته الصوفية العميقة.


3- طرح منكِري الختم

أ‌-       البابية والبهائية والقاديانية: وهي ديانات تدّعي كونها سماوية من بعد نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وتؤوّل ختم النبوة تأويلا غريبا للتوفيق بينه وبين استئنافها، وهي على كل حال تنكر عمليا مسألة الختم، وإلا لما استقام لها منطقيا ظهورها ذاته.


ب- الشيعة

يرى الشيعة أن الإمام ينزل عليه الوحي ويكلمه الله ويناجيه بلا حجاب, وقد أعطي خصالا لم يسبقه إليها أحد،  ثم توارث هذه الأوصاف من خلفه بعده إلى خاتم الأئمة
 فقد أورد الكليني عن جعفر الصادق أنه قال: "إني لأعلم ما في السموات وما في الأرض, وأعلم ما في الجنة وما في النار, وأعلم ما كان وما يكون".


ج- الصوفية: وبِمثل ذلك قالت الصوفية. يقول محيي الدين بن عربي كبير المتصوفة "من يكن الحق سمعه وبصره فكيف يخفى عليه شيء". ويقول عن مصدر إشراقاته الصوفية: "عن قلبي عن ربي قال...". ويزعم ابن عربي أن ما انقطع هو نبوة التشريع ورسالته، أما النبوة العامة فلا ( كتابه المسائل لإيضاح المسائل). ولا ندري من أين أتى بهذا المعنى والحال أن الحديث المشهور ينصّ على أن العلماء هم من يرثون الأنبياء، أي بِعلمهم، ولا الأولياء، بتكشفاتهم.


3-    الطرح الجديد لختم النبوة (محمد إقبال)

إن ختم النبوّة لم يصبح مفهوما فلسفيا إيجابيا إلا مع الفيلسوف الهندي محمد إقبال (1873-1983) المعاصر لفيلسوف "التطور الخلاق"، الفرنسي هنري برغسون. وقبل ذلك كان ختم النبوة يشير فقط إلى ظاهرة توقف الوحي عند قوله تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" (المائدة/ 3).


لنبدأ تقديمنا للمفهوم الجديد لختم النبوة بالتذكير بطبيعة الوحي كما يراها إقبال. يرى إقبال أن ظاهرة الوحي ظاهرة طبيعية كونية، إذ هي لا تخصّ فقط الجنس البشري، بل إنّها تمتدّ إلى أبعد من ذلك لتشمل كلّ مكوّنات الوجود. إنّه يعبّر بذلك عن المرور إلى أنطولوجيا جديدة ظلّت مجهولة إلى حدود تلك اللّحظة من قِبل الفكر الإسلامي، الّذي دأب وبِتأثّر بِنوع من الرّؤية الأفلاطونيّة للعالم، على قِصر ظاهرة الوحي التي يعتبرها ظاهرة كسموـ ميتافيزيقية، على مختلف أنواع العقول المفارقة.

    هذه الرّؤية المفقرة جدّا للحقيقة الطّبيعيّة الشاملة للوحي، تمّ تجاوزها على يد إقبال، بفضل تطبيقه للمنهج الاستقرائي الّذي أكّد لنا هذا الفيلسوف عثوره على أسسه وتطبيقاته الأولى في القرآن 11. يقول إقبال: "إنّ الطريقة الّتي استعمل بها القرآن لفظ "الوحي" تبيّن أنّه يعتبر الوحي صفة عامّة من صفات الوجود، وإن كانت حقيقته وطبيعته تختلفان باختلاف مراحل التّدرّج والتّطوّر في الوجود. فالنّبات الّذي يزكو طليقا في الفضاء، والحيوان الذي ينشئ له تطوّره عضوا جديدا ليمّكنه من التّكيّف مع بيئة جديدة، والإنسان المستلهم للنّور من أعماق الوجود، كلّ أولئك أحوال للوحي تختلف في طبيعتها وفقا لحاجات نوعه الذي ينتمي إليه. وفي طفولة البشرية تتطوّر القوّة الرّوحانية إلى ما أسمّيه الوعي النّبوي، الّذي هو وسيلة للاقتصاد في التفكير الفردي والاختيار الشّخصي، وذلك لتزويد النّاس بأحكام وأساليب للعمل أعِدّت من قَبل".


وهكذا فإن إقبال يتصوّر الوحي سيرورةً تمتدّ على كامل التاريخ البشري، منذ طفولته الأولى إلى لحظة انفتاح أفق نضجه. وهو يعتبر ختم النبوّة علامة مميّزة للتبشير المبكر بإمكانية استقلال الجنس البشري عن كلّ أنواع الوصاية الخارجيّة عن العقل الإنساني.

     
قبل أن نشرع في بسط وتحليل أفكار محمّد إقبال بخصوص المسألة المطروحة، نذكّر بأنّ الفيلسوف وعالم اللاّهوت الألماني "لسنچ" كان قد طوّر من قَبل تصوّرا مشابها لوظيفة العقل البشري. فقد قسّم تاريخ هذا العقل إلى ثلاث مراحل متعاقبة: الطفولة العقلية والمراهقة العقلية وأخيرا النضج العقلي. لقد بلور "لسنچ" فلسفته في التّاريخ على قاعدة فلسفة تربوية، مستوحاة نوعا ما من "تأمّلات في التربية" قام بها مواطنه الفيلسوف إمانويل كانط، ومن "نداءات إلى الأمة الألمانية" وجّهها "فخته" إلى الشّعب الألماني، في مناخ ثقافي عام يولي أهمية كبرى للتّربية. ومن المحتمل أن أكون أنا بنفسي متأثّرا في دراسة هذه المسألة بميولاتي وبتكويني التربوي، باعتباري مختصّا في علوم التربية.


بحسب المقاربة التربوية، فإنّ "الوحي بالنسبة للجنس البشري قاطبة كالتربية بالنسبة للفرد الواحد". لقد أكّد "لسّنچ" بوجه حقّ، أنّ "فكرة اعتبار الوحي تربية للجنس البشري فكرة مثمرة جدّا في العلم اللاّهوتي وأنّها تحلّ كثيرا من المشكلات [العويصة] دفعة واحدة".

لنسلّط إذن بعض الأضواء على مسيرة العقل البشري النّشوئيّة، كما قدّمها "لسّنچ"، مع إضافة بعض العناصر المثرية، من جانبنا.


1- في مرحلة أولى، وهي مرحلة تتوافق مع عصر التوراة واليهوديّة، "اختار [اللّه] شعبا واحدا، وهو أكثر الشّعوب قحة وشراسة، كي يبدأ مع عمله من الأساس
في تلك الفترة، ما زال الجنس البشري (الممثل عندئذ ببني إسرائيل) في طور الحدوس الأوّليّة الحسّيّة، كما أنّ تصوّراته للعالم لا تزال ساذجة جدّا. وعلى سبيل المثال، فإنّ البراهين والجزاءات الّتي كان الإسرائيليوّن يطلبونها من أنبيائهم كانت دائما من طبيعة حسّيّة ومباشرة. لم يكن بالإمكان حينئذ إذن رؤية الأمور على نحو أكثر تساميا أو التفكير بطريقة تجريديّة". 


إنّ النبي موسى نفسه لم يكن قادرا، كما يبدو، على تجاوز الحدّ الأقصى المتاح ضمن إبستيميةّ زمانه. يذكر لنا القرآن مثال موسى الّذي طلب من اللّه أن يمكّنه من رؤيته، كما تذكر التوراة ذلك ، فيؤكّد له اللّه استحالة ذلك: في القرآن : "قال ربّي أرني انظر إليك. قال لن تراني، ولكن انظر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني. فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكّا وخر ّموسى صعقا". وفي التوراة (العهد القديم): "فقال أرني مجدك [...] وقال لا تقدر أن ترى وجهي. لأنّ الإنسان لا يراني ويعيش". وهكذا نرى كيف أنّ موسى لم يكن قادرا، شأنه في ذلك شأن بقيّة أفراد شعبه، على تجاوز مرحلة التفكير ما قبل-المجرّد". وحريّ بنا أن ننبّه هنا أنّنا لم نشهد حالة كهذه لا مع المسيح ولا مع الرّسول محمّد عليهما السّلام، لأنّهما ببساطة قد مرّا إلى مستوى أرقى من الوعي الوجودي ومن التّسامي الرّوحي.


إنّ الفيلسوف اليهودي العقلاني موسى ابن ميمون (1135-1204) كان لا يوافق على فكرة أن يكون الرّسل قادرين على الفعل خارج حدود الممكن البشري التّاريخي.


ومن الناحية التربوّية الأخلاقية، خاطب اللّه بني إسرائيل من موقع الأمر الحاسم، تماما كما نتوجّه إلى طفل ما زال في مرحلة الواقعية الأخلاقية، فنتوعّده بالعقاب البدني في حال ارتكابه لشقاوات: الاحترام اللاّمشروط للقاعدة الأخلاقية من دون البحث عن الأسباب العميقة التي تلزم باتّباعها. غير أنّنا نجدهم (بني إسرائيل) يحاولون أحيانا خرق القاعدة الأخلاقية بكلّ سذاجة (مثال اعتداؤهم في السّبت).


2- وفي مرحلة ثانية، وهي المرحلة الّتي تتوافق هذه المرّة مع حقبة الأناجيل والمسيحيّة، اختار اللّه المسيح ليقترح كتابا جديدا لـ"هذا الطّفل [الذي أصبح ذهنه] مدقّقا، منقّبا، باحثا عن الدّقيقات […] ولوعا بالأسرار […] يحتقر كلّ شيء سطحيّ وضحل". ومعنى هذا أنّ "هذا الجزء من الجنس البشري الذي توفـّر لديه تعوّد كاف على استخدام العقل، وأصبحت بواعث السّلوك الخلقي لديه أكثر نبلا وأكثر كرامة من بواعث الآلام والجزاءات الدّنيويّة، الّتي كانت حتّى الآن هي العنصر الموجّه للسّلوك "أصبح ناضجا للمرحلة الثّانية الكبرى من التربية.". في هذه المرحلة، أصبح بالإمكان الكفّ عن الخضوع للقاعدة الأخلاقية لمجرّد الخوف من العقاب في هذه الحياة الدّنيا وأتيح للإنسان التوجّه نحو الخير ومساعدة الآخرين من منطلق الحبّ في اللّه والأمل في حياة أخرويّة خالدة. ذلك لأنّ "المسيح هو أوّل من بشّر بخلود النّفس [في السّعادة لمن كان لديهم "الصّفاء الدّاخلي للقلب"] بطريقة عمليّة تدعو إلى الثّقة".


وباختصار، إنّ المسيحيّة هي دين المحبّة، الذي يدعو إلى عبادة اللّه وحده: إله المحبّة ! في إنجيل "متّى"، عندما سأل المسيحَ أحدُ الفرّسيّين، "وهو ناموسيّ ليجرّبه قائلا: يا معلّم أيّة وصيّة هي العظمى في النّاموس ؟" قال له يسوع: "تحبّ الربّ إلهك من كلّ قلبك ومن كلّ نفسك ومن كلّ فكرك. هذه هي الوصيّة الأولى. والثّانية مثلها: تحبّ قريبك كنفسك". وعوض أن يتوعّد العاصي بعقوبات إلهية ماديّة مباشرة (كما كان الحال مع شريعة موسى) أو في الآخرة، يكتفي بتحذيره ببساطة، متوجّها إلى ضميره الخلقي، بأنّه سيكون، في حال عدم توبته، "الأصغر من بين كلّ عمّار ملكوت السّماوات".


3- أخيرا، نصل مع "لسّنچ" إلى إبراز خصائص المرحلة الثّالثة، والّتي هي مرحلة النّضج والعقل

"الإنجيل الخالد الجديد"، حيث "يفعل الإنسان الخير لأنّه خير ولا لأجل الجزاءات التعسفية [...]، بل من أجل الجزاءات الحقيقية المنبثقة من طبيعة الخير نفسها". هذا الإنجيل الخالد الجديد ليس شيئا آخر غير فلسفة الأنوار، التي أفضت إلى ولادة الإنسان كذات عارفة مستقلّة.


إنّ أفكار "لسّنچ" بحاجة، في اعتقادنا، كي تقزّح أكثر، وأن تناقش وتنقد من بعض الوجوه بشدّة حتّى. لقد أكّد "لسّنچ" في أربع من تصريحاته في "تربية الجنس البشري" أنّ: "أسفار العهد الجديد ... قد كوّنت وما زالت تكوّن ثاني الكتب الأوّليّة وأفضلها للجنس البشري"، وأنّه "على مدى ألف وسبعمائة سنة شغلت هذه الكتب الذّهن الإنساني أكثر من أيّة كتب أخرى، وأنارته أكثر ممّا أنارته الكتب الأخرى".


إنّ "لسّنچ" يقول هذا، فيما يؤكد ألكسندر كويري، مؤرّخ العلوم المشهور، أنّه خلال العصر الوسيط، "لم يعد الشّرق -خارج بيزنطة- يونانيّا وإنما عربيا. كما أن العرب هم الذين كانوا معلمي ومربّي الغرب اللاّتيني".

وللمرء أن يتساءل: إلى ماذا يعود ذلك التفوّق العربي في تلك الفترة (العصر الوسيط) ؟

إننا نفترض أن ذلك يعود أساسا، بعيدا عن كل تأثير من تعصب ايديولوجي أو عقدي، إلى روح البحث العلمي الجديدة التي استلهمها من القرآن العلماءُ المتواجدون في فضاء التّأثير الثّقافي الإسلامي والمدفوعين بإرادة الفهم والتحكّم في ظواهر الطّبيعة. ألم يحثّ القرآن كل الناس إلى النظر"ماذا في السّماوات والأرض" وألم يدعهم إلى أن يـ"سيروا في الأرض" ليـ"نظروا كيف بدأ الخلق"، متجاوزا بذلك موقف الفلسفة اليونانية القديمة، التي كانت تكتفي عموما بالتفسيرات الميتافيزيقية، وفي أحسن الحالات بالتفسيرات الحسية، للظواهر الطبيعية.


    وبصفة أكثر منهجية، نعتبر أن المرحلة الثالثة من الوعي البشري لم تتأخّر كل هذه القرون السبعة عشر، التي ذكرها "لسّنچ"، حتّى تبدأ. بل إنّنا مقتنعون بأنّه عندما ظهرت فلسفة الأنوار للوجود فإنّ تمشّي نضج الجنس البشري قد مضى عليه عندئذ وقت طويل منذ أن شهد انطلاقته الأولى.


    وهذا يعني أننا نتصور نضج العقل البشري كسيرورة تتطلّب نفسا طويلا، وأنّ فلسفات الأنوار ما هي إلاّ ثاني أكبر مآل لها، باعتبار أنّ الأوّل هو ذاك الذي تمثّل في تلك القفزة الإبستيمولوجيّة والعلمية التي حقّقها العقل العلمي العربي في القرن الرّابع هجري (العاشر ميلادي).


    هذه القفزة أنجزت بفضل قطيعة إبستيمولوجية دشّنها ذلك العقل مع الفكر والمنهج اليونانيين المستندين إلى محض تأمّلات واستنتاجات مجردة، تهم حتى المجال الطبيعي نفسه، وبفضل توجّه العلماء العرب إلى المنهج الاستقرائي التجريبي. ونحن متفقون هنا تماما مع إقبال، عندما يوعز هذا التحوّل في الفكر العربي إلى التأثير القرآني: هذه الدّعوة الموجّهة من القرآن إلى الفكر للنظر في العالم المحسوس (الطبيعي والإنساني) وهذه الأمثلة المضروبة بكثرة والمتّصلة بذلك العالم، مع فهم العلماء المسلمين للنظرة القرآنية بخصوص الطبيعة المتغيرة للكون وامتداده اللاّنهائي، كل هذا قاد هؤلاء إلى نقد  ودحض الفكر اليوناني (باستثناء المنطق وما صحّ لديهم من رياضيات نقية من شوائب التصورات الميتافيزيقية الخرافية). ولكنهم لم يتوصلوا إلى تحقيق ذلك إلاّ عندما تبيّن لهم أنّ روح القرآن تتعارض بعمق مع النظرات الفلسفية المشدودة إلى التجريدات التخيّليّة العقيمة، كما هو الحال بالنسبة لقسم كبير من الفكر الفلسفي اليوناني القديم، الذي انبهروا وشغفوا به في البداية. ومن المعلوم جدّا الآن أنّ الأنوار والثورة العلمية الغربية لم تكن لتقع لو لم تقطع هي كذلك مع الفكر المدرسي (السكولاستيكي).

 
           هذا التغير الجذري في الفكر العلمي والفلسفي في الفضاء المعرفي الإسلامي، والذي تجسّد لدى علماء من أمثال ابن الهيثم والخوارزمي والبيروني والكرخي الخيامي وابن الشّاطر والطّوسي وابن سهل وابن قرّة وكمال الدين الفارسي والقوهي وابن النفيس وابن تيمية وابن خلدون، هذا التغير ليس، في نظرنا، إلاّ تعبيرا ثقافيّا عن أحد أكبر الأحداث التاريخية والثقافية والذي هو حدث ختم النبوّة، المعلن منذ قدوم الإسلام بكتابه المنير: القرآن: "ما كان محمّد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول اللّه وخاتم النبيين، وكان اللّه بكلّ شيء عليما".


        كيف يمكن إذن اعتبار ختم النبوّة عاملا حاسما في ميلاد العقل المستقل البرهاني والاستقرائي ؟

لقد رأينا مع "لسّنچ" كيف أن البشرية قد مرت بمرحلة أولى يمكن نعتها بكونها ما قبل-استدلالية أو حدسية، و أن الكتاب المقدّس الموافق لهذه المرحلة هو التوراة ورأينا كيف أنها بلغت بعد ذلك مرحلة ثانية تتسم خاصة باستيقاظ الأحاسيس والمشاعر النّبيلة: الشفقة والرحمة وحب الجار… إلخ. وذلك بفضل رسالة المسيح. هذه المرحلة يمكن وصفها بشبه الاستدلالية أو قبل-الإجرائية.


    فهل يُعقل إذن، بعد الانتهاء من هاتين الديانتين، أن يتم المرور مباشرة إلى مرحلة الأنوار والتغاضي عن (أو تجاهل) واحدة من بين الديانات السماوية الكبرى ممثلة بالإسلام بكتابه المقدّس القرآن ؟!! أليس من الأنصف التفكير في مرحلة وسيطة بين مراهقة الجنس البشري ونضجه ؟


    إن من يستحق أن يتبوّأ مكانة كهذه هو الإسلام بالتأكيد ! يقول إقبال عن موقع نبيّ الإسلام بأنه قائم: "بين العالم القديم والعالم الحديث. فهو من العالم القديم باعتبار مصدر رسالته، وهو من العالم الحديث باعتبار الرّوح التي انطوت عليها". وهذه الروح هي روح تحريرية للعقل من كلّ وصاية خارجيّة عنه، وذلك وكما أحسن بيانه إقبال، أنّ: "
مولد الإسلام هو مولد العقل الاستدلالي" و"أن النبوّة لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوّة نفسها، وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدا إلى الأبد على مِقود يُقاد منه، وأن الإنسان، لكي يحصّل كمال معرفته لنفسه ينبغي أن يترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو. وأن إبطال الإسلام للرهبنة ووراثة الملك، ومناشدة القرآن للعقل والتجربة على الدّوام، وإصراره على أن النظر في الكون والوقوف على أخبار الأوّلين من مصادر المعرفة الإنسانية، كلّ ذلك صور مختلفة لفكرة ختم النبوّة".


    فإذا كانت هذه الرسالة السماوية الأخيرة قد سعت إلى تحرير الفرد واستقلاله عن سلطة ووصاية الدين وكل الأشكال الأخرى من السلطة غير النابعة من العقل أو من القناعة الحدسية الروحية الشخصية ( بالمعنى البرغسوني  لكلمة حدس)، بِوضع حدّ لكلّ تدخّل نبوي جديد، فإلى أيّ منابع أخرى للوعي والفهم والعلم قد شدّت انتباه الإنسان النبيه إذن ؟


    إن إقبال يذكر ثلاث مصادر نوّه بها القرآن: الرياضة الروحية (تقوى الله) واستقراء القوانين الطبيعية (آيات اللّه) وأخيرا استقراء القوانين التاريخية (أيّام اللّه)، من خلال الملاحظات المنهجية:

·        بخصوص المصدر الأوّل، يعتبر إقبال الرياضة الروحية نشاطا طبيعيّا بالكامل، مهما بدت خارقة وغير مألوفة، وأنها قابلة للنقد والتمحيص العقلاني (لاتقاء الدجّالين والمشعوذين). وهي رياضة عليها أن تصبح فردية بكل عمق وأصالة لأن الرسول قد آمن لنا، فعلينا الآن الإيمان لأنفسنا: "يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم" (التوبة/ 61).

·        أما المصدر الثاني، فقد سبق أن تكلّمنا عنه، ولكننا سنضيف هنا فقط شهادة لـ"بريفولت" في كتابه" بناء الإنسانية" Briffault in Making of Humanity، بخصوص التّأثير العربي في العلماء الأوروبيين، في مستوى تبني المنهج الاستقرائي التجريبي: ما هي العلامة البارزة في تاريخ العلوم التجريبية في أوروبا ؟ لا شكّ أنه روجر بيكون. ومن أين استقى روجر بيكون ما حصله في العلوم ؟ من الجامعات الأندلسية في الأندلس...[فهو] قد درس اللّغة العربية والعلوم العربية في مدرسة أكسفورد على خلفاء معلميه العرب في الأندلس. وليس لروجر بيكون ولا لسميه، الذي جاء بعده، الحق في أن ينسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي. فلم يكن روجر بيكون إلاّ رسولا من رسل العلم والمنهج الإسلاميَّين إلى أوروبا المسيحية، وهو لم يملّ قطّ من التصريح بأن تعلم معاصريه للّغة العربية وعلوم العرب هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقّة.

·        أمّا بخصوص المصدر الأخير للمعرفة الموصَى بها من قِبل القرآن، والمتمثلة في استقراء المدونة التاريخية والثقافية للشعوب والأمم والقبائل، والتي ما ينفك هذا الكتاب الكريم يضرب عنها الأمثال للعبرة ويحث على مواصلة البحث فيها، فإنه بإمكاننا إثارة مثال العلاّمة العربي المشهور ابن خلدون، الذي استطاع أن يستفيد من تصنيفات القرآن، لبناء فلسفته في التاّريخ وقيام الدّول وانهيارها: نظرية العصبية والدّولة.

·        باختصار، يمكننا أن نعمّق أكثر الأفكار التي تقدمنا بها ها هنا، بخصوص الدور الجديد الذي تحمّله الوحي في مرحلته النّهائية، والذي هو دور آخر مرافقة للعقل البشري في سفره الطويل نحو الاستقلال والاعتماد على الذّات، بِمدّه بوسائل وتمّشيات البناء الذاتي للمعارف، كما يمكننا أن نحلل بأكثر تفصيل الاستتباعات الابستيمولوجية للوعي بالغايات البعيدة لفلسفة ختم النبوّة وأن نعطي عنها أمثلة أكثر، إلاّ أن المجال لا يتسع لأكثر من هذا للأسف.

 

قبل أن ننهي هذا العنصر نودّ أن نبدي أربع ملاحظات هامة يبدو أن إقبال لم ينتبه إليها أو لم يولها ما تستحق من توضيح:

1-    إن ختم النبوة سيرورة معرفية تاريخية لا تنقطع فهي ضرب من البنائية المفتوحة وليست مجرد حدث تاريخي حصل لحظة انقطاع الوحي، ولذا علينا أن نمعن باستمرار في مزيد تكريس هذا الختم، أي مزيد استبدال التقليد بالفهم وإرادة التجديد والفعل في العالم والتاريخ.


2-    الختم لا يخص المسلمين فقط بل هو ظاهرة معرفية كونية، وقد استفاد منها المسيحيون واليهود عبر المثاقفة وعبر الحروب الصليبية، بما نقلوا عن المسلمين من علوم ومناهج ظهرت في المناخ العام لختم النبوة.


3-    ملاحظة نبديها على التصور الخطي لتطور التاريخ كما قدمه "لسنج" وكما توحي به فلسفة إقبال: إن تاريخ الوعي ليس هو نفسه لدى كل الأمم ولا حتى لدى أفراد نفس الجماعة، وبالتالي فإن ختم النبوة بما هو ظاهرة نفس-معرفية ثقافية لا يتم ولا يتحقق إلا لدى الأفراد الذين يعون به. وبالتالي يمكن أن تجد أناسا ينتمون إلى نفس الجماعة وهم يقفون على نقاط متباعدة من خط سيرورة ختم النبوة. فبالتأكيد أن العلماء والفلاسفة والمفكرون هم الآن في الشرق وفي الغرب الأكثر تمثلا وتمثيلا لهذه السيرورة المعرفية.
4-     لا بدّ أخيرا من التصريح بفكرة على غاية كبرى من الأهمية. وهي إنّ التاريخ لا يتغير فقط بالأفكار. بل بِجدل الأفكار مع الواقع. وإن الواقع التاريخي للمسلمين، وأساسا نمط الإنتاج وعلاقات الإنتاج، لم تكن تسمح بالظهور المادي الملموس للفرد. فالفرد كان مغمورا في جملة العلاقات الاجتماعية الأبوية التقليدية التي هي انعكاس لنمط الإنتاج الزراعي التقليدي. لأجل هذا لم نشهد تحولا تلقائيا للشرط الثقافي لاستقلال الفرد -المتمثل في ظاهرة ختم النبوة- إلى واقع تاريخي حداثي ملموس في السياق الإسلامي. زد على ذلك أن الصياغة الثقافية ذاتها لمفهوم ختم النبوة لم تبلغ في السابق من العمق والنضج ما يرشحها حتى لمجرد تأمين الشرط المعرفي لبناء الحداثة في هذا السياق.


 خاتمة
إن أهم ما حاولنا القيام به في هذه الورقة هو تنسيب مفهوم الحداثة وإظهار تاريخيته في السياق الغربي، وهذا التنسيب هو الذي يمثل الشرط النظري لتذليل عقبة بناء هذا المفهوم في السياق الإسلامي. فحضارتنا ليست حضارة صَلب الأنبياء ولكنها مع ذلك حضارة لم تخل من العنف ضدّ المعارضين للإيدولوجيا الرسمية للدولة. فهي لا تحتاج إلى الإجهاز النهائي على مسيحها -الذي لاذ بروح الإله- (قتل الأب بعد قتل الابن) حتى تُبني حداثتها، ولكنها تحتاج إلى تصفية مع تاريخ طويل من الجهل والخرافة واستبداد الطواغيت، وتحتاج إلى الوعي بأن كل ضروب الوصاية على العقل قد رُفعت بفضل تطوّع الوحي الأخير بختم النبوّة.

إن الختم في عبارة"ختم النبوة" ليس مجرد إشارة إلى ذلك الحدث التاريخي المتمثل في توقف نزول الوحي من الله إلى البشر إنه يعبر عن معنى عظيم أو أعمق من ذلك بكثير. ختم النبوة حدث معرفي يمثل خطاّ حاسما فاصلا بين الحقبتين الأكبر في تاريخ العقل البشري: الحقبة التي كان فيها الإنسان واقعا تحت الوصاية المطلقة للمتعالي وللمعرفة النازلة  إلى عقله من خارج والحقبة التي ارتفعت فيها مثل هذه الوصاية وأصبح بإمكان الإنسان فيها أن يعتمد على مصادره الخاصة به في معرفة الوجود: عقله والطبيعة التي يتفاعل معها بكيانه المادّي والروحي إلى جانب خبراته وتجاربه التاريخية المعقلنة ما-بعديا. والغاية القصوى للإسلام لا تقع قطعا في دائرة النبوة وإنما في دائرة "ختم النبوة". ولهذا قال إقبال قولته العميقة التي أشرنا إليها آنفا: « إن النبوة لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها ». ولذلك يجب الكف عن اختزال الإسلام في معنى النبوة فقط، ففي ذلك هدر عظيم للمعنى البعيد الذي ينطوي عليه الإسلام.


إذا ما تم الوعي بهذا الأمر نكون قد تغلبنا على أحد أكبر العوائق الثقافية من أمام تحديث العقل الإسلامي وأصبح بإمكاننا عندئذ أن نسود الطبيعة ونملكها لأنها مسخّرة لنا وأن ننظم علاقاتنا بطريقة عقلانية أفقية ولا تسلطية، بدون أن نضحي بنعمة الإيمان (نبني علمانية مؤمنة)، لأن الإيمان التوحيدي بكل بساطة لا يقف حائلا أمام مثل هذه الغايات، بل كان على مدى قرون طويلة شريكا ورفيقا للعقل في الارتقاء بوعي البشر عبر الدور الذي لعبه الأنبياء في بناء صرح الحضارة الإنسانية زمن طفولتها العقلية، ولم ينفك عن مؤازرة العقل في المسائل التي لازالت تؤرقه وتستعصي عليه. ساعد الإيمان التوحيدي البشر على التخلص من عبادة الأوهام ودرّبهم على التمثّل المجرد والحميمي في الآن نفسه لمنظومة العالم والوجود، ولكنه ما زال بمقدوره مساعدتهم على تلمس طريق الحرية خارج قوالب الحتمية والبحث عن سبل السعادة في ما وراء مجرد تحصيل اللذائذ العابرة.

ختم النبوة مفهوم من وضع محمد إقبال، وقد أخذناه عنه وحاولنا تطويره، أما موت الإله فهو، كما معروف، لنيتشه. وهنالك من يعتقد بتأثر إقبال بنيتشه في نظرية الإنسان الكامل أو مقالة العَود الأبدي، غير أن إقبال ينفي ذلك بشدة، وله الحق في ذلك، فالفرق بين عدمية نيتشه وتطورية إقبال الروحانية فرق واضح جدا. وكتاب "ما وراء الطبيعة في إيران" (رسالة دكتورا إقبال في الفلسفة) لا وجود فيه لاسم نيتشه قط. أما كتابه "تجديد التفكير الديني في الإسلام"، ففيه ذكر له، على نحو إيجابي، لاشتمال مقولته عن العَود الأبدي على فكرة الخلود، وهو في نظرنا مجرد توافق شكلي، لأن معنى الخلود يختلف من أحدهما إلى الآخر.

 

 

 


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire