lundi 16 novembre 2020

شخصيلت أوروبية نهضوية ؟ تأليف هاشم صالح، نقل مواطن العالم

 


نص هاشم صالح

1.     بيترارك المتمزق بين الإيمان المسيحي و الفلسفة اليونانية (1304م - 1374م):

صفحة 87: منذ حكماء الإغريق وآباء الكنيسة وحتى عصره، لم يشهد التاريخ مفكرا أكثر عمقا منه في النفاذ إلى أغوار النفس البشرية. لقد كانت معرفته عميقة بالإنسان، بنواقصه وعظمته، بفضائله ورذائله. وكان حريصا جدا على الدفاع عن كرامة الإنسان وحقيقته، كما كان معبّرا ناجحا عن القلق الأبدي الذي يسكن جوانح الإنسان إذا ما ابتعد عن الله، أو إذا ما اختفى الله من أفقه فهو نهضوي وقروسطي في آن معا...وهكذا يبدو بيترارك أول رائد للنزعة الإنسانية المؤمنة والمسيحية التي انتقلت فيما بعد إلى شمال أوروبا وتجسدت في شخصيات كبرى من أمثال الهولندي إيراسموس والإنجليزي توماس مور... يتلخص موقفه في التأكيد على ما يلي: ينبغي أن يكون الإنسان ومشاكله الموضوع الأساسي للفكر والفلسفة. وهنا تتجلى نزعته الإنسانية الحقيقية (هيومانيزم)... وهذا مؤشر لا يخطئ على نهاية العصور الوسطى وولادة العصور الحديثة. فالإنسان هو غاية كل شيء، هو غاية الغايات في عصر النهضة. هذا في حين أنه كان شيئا عابرا وتافها في منظور العصور الوسطى. كان التركيز يتم فقط على الله مع إهمال الإنسان وعدم الثقة بإمكانياته... وفي مكان آخر يلح على أن معرفة الله هي الهدف الأساسي للفلسفة: "إن معرفة الله (وليس الآلهة) هي الفلسفة الصحيحة، هي أعلى فلسفة". وهكذا يربط بين معرفة الله ومعرفة الإنسان ويكذّب تلك المقولة الشائعة بأن عصر النهضة قد نسي الله وركز على الإنسان فقط. وأخيرا يمكن القول بأن بيترارك كان شاعرا كبيرا وكاتبا و فيلسوفا. ويمكن تلخيص شخصيته بالمعادلة التالية: "فلسفة أفلاطونية + عقيدة مسيحية + بلاغة شيشرونية (ولد شيشرون سنة 106 ق. م.، كاتب روماني وخطيب روما المميز)"… بهذا المعنى فهو أول كاتب نهضوي حديث.

 

2.     لورنزو قالا، أحد النهضويين والإنسيين في القرن الخامس عشر (1407 م - 1457 م):

صفحة 95، الفضيحة الأولى: فقد تجرأ مثلا على الكشف عن زيف الوثيقة الكنسية الشهيرة المدعوة "هبة قسطنطين"... ماذا تقول هذه الوثيقة بالضبط؟ إنها تزعم أن الإمبراطور قسطنطين وهب البابا سيلفستر حق امتلاك روما وإيطاليا، وعموما حق امتلاك السلطة الزمنية، وليس فقط السلطة الروحية. وعلى الرغم من هذا العمل مضاد للمبدأ الإنجيلي القائل "ما لقيصر لقيصر، وما لله لله": كما أنه مضاد لكلمة المسيح الشهيرة "مملكتي ليست من هذا العالم": إلا أن بابوات روما كانوا يستمتعون بهذه السلطة الدنيوية ويحرصون عليها اشد الحرص. وقد وصل بهم الأمر إلى حد خلع الملوك والأباطرة وإخضاعهم لهم، وممارسة السلطة السياسية بكل جبروت واقتدار. وهكذا خرجوا على مبادئ الإنجيل وانتهكوها بعد أن أغرتهم السلطة الدنيوية بكل متعها وأطايبها.

 

هامش 1 على نفس الصفحة: وهذا ما ينقض الأطروحة الاستشراقية الشهيرة التي تعيب على الإسلام خلطه بين الروحي والزمني في حين أن المسيحية فصلت بينهما منذ البداية كما يزعمون! ثم شاعت هذه الأطروحة في أوساط بعض المثقفين العرب وتبنوها من دون أي مراجعة أو تفحص حتى أسقطتها تحليلات محمد أركون مؤخرا. فالواقع أن المسيحية مارست السلطة السياسية طيلة عدة قرون مثلما حصل عندنا في الجهة الإسلامية. وكل الثروات الحديثة التي جرت في الغرب كانت تهدف إلى التحرر من رجال الدين، وإعادتهم إلى كنائسهم لكي يهتموا بالشؤون الروحية فقط، ويتركوا السياسة للسياسيين. فتلويث الدين بالسياسة يضر السياسة والدين في آن معا. ولكن الكهنوت المسيحي لم يتخلّ عن السلطة بعد أن ذاق طعمها إلا بعد معارك طاحنة وجهد جهيد.

وأما الفضيحة الثانية التي أثارها هذا العالم المختص بالدراسات اللغوية وتحقيق النصوص كمعظم النهضويين، فقد اندلعت عندما نشر كتابه: المتع و الملذات. فقد أثبت أنه يحق للمسيحي أن ينال نصيبه من متع هذا العالم وملذاته بانتظار ملذات العالم الآخر من دون أن يتخلى عن إيمانه (إضافة مواطن العالم: وهذا الحق مكفول شرعا منذ ظهور الإسلام لكل المسلمين بما فيهم علماء الدين أو رجاله)... كل متعة هي خير يقول أنطوان (أحد الأشخاص الثلاثة في الكتاب والذي يدافع عن المذهب الأبيقوري المنغمس في الملذات ويهاجم الموقف الرواقي المحجم عنها). ثم يدافع صراحة عن المتع الحسية أو الجنسية (إضافة مواطن العالم: وهذا حلال محلّل أيضا في الإسلام لكل المسلمين بما فيهم علماء الدين ورجاله، انظر كتاب "الجنسانية في الإسلام" للمفكر التونسي عبد الوهاب بوحديبة)... فالحياة السماوية لا تستبعد متع الجسد على عكس ما نتوهم. بل إن متع الجسد في الجنة أعظم منها على الأرض (إضافة مواطن العالم: وهذا مكفول أيضا في جنة الإسلام وموعود لكل المسلمين بما فيهم علماء الدين ورجاله). ولكن المتع الروحية تظل أعظم من كل شيء. ففرحة الروح تبلغ هناك ذروتها وكمالها (إضافة مواطن العالم: والمسلمون أيضا بما فيهم علماء الدين ورجاله يفضلون أيضا المتع الروحية عن المتع الجسدية) وعندئذ تبتدئ الحياة الحقيقية: حياة الأبد والخلود (إضافة مواطن العالم: و هذا ما يؤمن به المسلمون أيضا بما فيهم علماء الدين ورجاله). هكذا نجد أن "لورنز قالا" يظل مؤمنا على طريقة القرون الوسطى، ولكن الفرق الوحيد بينه وبين أناس هذه القرون هو أنه لا ينكر المتع الجسدية ولا يحرمها. وبالتالي فهو قروسطي ونهضوي في آن معا.

تعليق مواطن العالم

بناء على فلسفة لورنزو قالا في القرن الخامس عشر في كتابه "المتع والملذات"، نستطيع القول أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، مؤسسي الإسلام والدولة المدنية الإسلامية، قد قاموا بهذا النوع من النهضة منذ القرن السابع ميلادي لذلك ينطبق عليهم نعت النهضويين أكثر مما ينطبق على بعض السلفيين التونسيين اليوم الذين لم يستنبطوا شيئا ولم يطوروا شيئا بل يريدون تحريم الاجتهاد والتطور والاستنباط والخلق والإبداع في جميع المجالات، الدينية منها والدنيوية والفنية والفلسفية والاجتماعية وحتى في بعض الحقول العلمية المحرمة كاستنساخ الأعضاء لزرعها أو الإنجاب بمساعدة طبية، ولم يأخذوا عن الرسول وأصحابه إلا عاداتهم في الأكل والشرب واللباس وتركوا الأهم الذي يتمثل في عبقريتهم الفذة ومنهجهم الثوري وعقليتهم التحديثية والتجديدية والتنويرية والنهضوية بالنسبة لعصرهم في القرن السابع ميلادي.

 

3.     إيراسموس زعيم النهضة الأوروبية (1469 م -1532 م):

صفحة 99: يمكن اعتبار إيراسموس الشخصية التي جسدت مُثُل عصر النهضة والنزعة الإنسانية في أرقى تجلياتها. ولكن لا يفهمنّ أحد من هذا الكلام أنه كان مضادا للدين. على العكس، لقد كان مؤمنا مستنيرا راسخ الإيمان... كان أبوه كاهنا، ولذا فلم يستطع أن يعترف به، وإنما ظل ولدا غير شرعي. وكانت عادة منتشرة في ذلك الزمان أن يتخذ الرهبان عشيقات وأحيانا يحملن منهم من دون أن يعترفوا بالطفل لأنه ولد خارج الزواج الشرعي... أفكاره الجريئة والتجديدية كانت تصدم جمهور الرهبان واللاهوتيين، ما عدا المستنيرين منهم أو الإنسيين الذين اطلعوا على فلسفة اليونان وآدابها ومزجوا بينها وبين الدين (إضافة مواطن العالم: وهذا ما فعله قبلهم بالضبط ابن رشد، 1126م - 1198م، مُلهِم النهضة الأوروبية في القرن الثاني والثالث عشر)... وكان يلقب هؤلاء الرهبان بـ"البرابرة" الذين يخلطون بين التقى والورع من جهة، وبين الجهل من جهة أخرى. فبقدر ما تكون جاهلا ولا تطرح أي سؤال تكون تقيا ! وكان يزعجه كثيرا رفضهم للثقافة اليونانية والآداب الجميلة (إضافة مواطن العالم: كما يزعجني أنا أيضا رفض بعض علماء الدين الإسلامي، وبعض المتدينين المسلمين، للثقافة الغربية بغثها وسمينها ويزعجني أكثر عداوة هؤلاء الصارخة عن جهل للفنون الجميلة بمسرحها وسينمائها ونحتها ورسمها ورقصها وغنائها، ويؤلمني جدا ويحز في نفسي رفض بعضهم للعلوم الغربية الحديثة مثل الأنتروبولوجيا والأركيولوجيا ونظرية التطور والإبستومولوجيا وعلم الألسنية وعلم النفس والاكتشافات العلمية التجريبية في مجال الاستنساخ والإنجاب بمساعدة طبية وبنك الحيوانات المنوية وزرع البويضات للنساء العاقرات وحرية التعبير المطلقة من كل قيد وشرط إلا ما تمنعه أخلاقيات المهنة وضمير المبدع وحرية النشر في وسائل الاتصال الحديثة مثل الفضائيات الحرة والأنترنات، مدونات و فيسبوك وتويتر)... إيراسموس قام شخصيا بتحقيق الإنجيل من جديد، ونشر نسخة عنه مختلفة كثيرا عن النسخة الرسمية التي تعتمدها الكنيسة (إضافة مواطن العالم: وهذا ما أكده القرآن الكريم قبله بثمانية قرون عندما قال أن إنجيل المسيحيين المستعمل آنذاك محرّف)... وهكذا أدخل المنهجية النقدية إلى ساحة العلوم الدينية لأول مرة. وسوف يكون لذلك أثر تحريري كبير في المستقبل... في الواقع إن الإنسانيين - النهضويين كانوا أكثر تدينا مما نظن على الرغم من إعجابهم بالحضارة اليونانية وفلسفتها... إيراسموس يقول بما معناه: "إن الدين يسر لا عسر"، و لكن المؤسسات البشرية الصغيرة هي التي أضافت كل تلك القيود والإكراهات التي تضغط علينا وتثقل كاهلنا (إضافة مواطن العالم: وهذا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم منذ ثمانية قرون قبل إيراسموس: "إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا ويسّروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدُّلْجَة - والدلجة تعني السير من أول الليل أو سير الليل كله" ولكن بعض علماء الشريعة عسّروا علينا ديننا الإسلامي، فالرسول الكريم فرض علينا فقط: الصلاة والصيام والزكاة والحج والصدقة وصلة الرحم.).

4.     جيوردانو برونو شهيد الأصولية المسيحية (1548 م - 1600 م):

ألقَى محاضرة عنيفة ضد جماعة أرسطو في السوربون (المقصود أرسطو القرون الوسطى، أرسطو السكولائي الاجتراري الذي خلعت عليه قدسية اللاهوت المسيحي). ومن المعلوم أنه كان اعتنق آنذاك مذهب كوبرنيكوس الفلكي في تصور العالم، وهو مضاد تماما لمذهب أرسطو وبطليموس الذي تتبناه الكنيسة. وقد أثارت هذه المحاضرة العصماء ردود فعل هائجة من قبل أساتذة السوربون، فهيجوا عليه العامة وحصلت أعمال شغب في الشوارع، فاضطر إلى مغادرة فرنسا نهائيا عام 1587... سلّمه غدرا أحد النبلاء الإيطاليين واسمه جيوفاني موشينغو إلى محاكم التفتيش. وابتدأت عندئذ مأساة جيوردانو برونو التي استمرت ثماني سنوات ولم تنته إلا بحرقه حيا عام 1600 م بالضبط. ويقال بأنهم قطعوا لسانه قبل أن يحرقوه، وذلك لأنه تفوه بكلام فيه تجديف وزندقة بحسب قرار محاكم التفتيش.

 

المصدر: مدخل إلى التنوير الأوروبي"، هاشم صالح، دار الطليعة للطباعة والنشر ورابطة العقلانيين العرب، الطبعة الأولى 2005، الطبعت الثانية 2007، بيروت - لبنان، 264 صفحة.

 

إمضائي

"لا أحد مُجبر على التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرّر أن يفعل، في أي ظرف كان، فعليه إذن أن يتكلم بلسان المجتمع، أن ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه" (عبد الله العروي) من أجل تغيير تصورات أفراده غير العلمية إلى تصورات علمية وعلى كل سلوك غير حضاري نرد بسلوك حضاري وعلى كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي أو المادي.

 

تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 9 مارس  2012.

 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire