نص
فراس السواح
صفحة
106: تعريف "دين القوم"
هو
مرحلة العبادة التي لا تطمح إلى هداية عبادات الثقافات الأخرى إلى صراطها الذي
يتكون من عبادات متآلفة لا تتناحر ولا يعدو بعضها على بعض. ولعل أوضح مثال عن
"دين القوم" قائم إلى يومنا هذا، ويصر على عدم التحول إلى دين شمولي، هو
الديانة الهندوسية، التي بقيت محصورة ضمن القارة الهندية منذ أقدم العصور،
بطوائفها المتعددة وعباداتها المتنوعة، التي لم تطمح واحدة منها إلى ابتلاع البقية
والتحول إلى دين شمولي، لا نستثني من ذلك البوذية، التي طغت في فترة ما ثم انحسرت
راجعة إلى وضعها السابق في الهند كعبادة بين بقية العبادات، واكتفت بممارسة نشاطها
الشمولي في أقطار مشرقية أخرى (كالصين مثلا). هذا الوضع الخاص للهندوسية،
هو الذي جعل أهلها فخورين بخلو دينهم من التعصب والأفكار الدوغمائية، وخلو تاريخهم
من حركات الاضطهاد الديني.
وقد
وصف البيروني (أبو الريحان المتوفي عام 440 هجرية) في كتابه "تحقيق ما
للهند" تسامح الطوائف الهندية تجاه بعضها، فقال بأنهم على قلة تنازعهم في
شؤون المذهب، فإن نزاعهم لا يتعدى الجدال الكلامي إلى الإضرار بالنفس، كما وصف
عزوف الطوائف عن التبشير، والمبالغة في ذلك إلى حد عدم قبول من ليس منهم، إذا رغب
فيهم أو صبا إلى دينهم. وهناك موقف مشهور للمهاتما غاندي في هذه المسألة، عندما
جاءه مسيحي هندي يطلب التحول إلى الهندوسية فقال له: "اذهب وكن مسيحيا صالحا".
ويعني بذلك طبعا أن كل الطرق إلى الله صالحة شريطة تَوفر صدق النية وقوة الإيمان والعزيمة،
أما ما نراه اليوم من نزاعات دينية في الهند فيرجع إلى اصطدام الطوائف الهندوسية
بالأديان الشمولية، التي تجاهر ببطلان العقائد الهندوسية، وتسعى بشكل دائب إلى
اكتساب مزيد من الهندوس إلى صفوفها، أو إلى تعصب أديان غريبة عن الهندوسية مثل
ديانة السيخ، وهي ديانة مستحدثة ابتدرها المعلم "ناناك" أواخر القرن
الخامس عشر الميلادي، بتأثير الأديان الشمولية التي غزت الهند، واتخذت طابعا
عسكريا في عهد خلفاء المعلم الأول.
صفحة
90: تعريف "الدين الشمولي":
وقد
بقي "دين القوم" بمثابة رابطة عامة تجمع أهل الثقافة الواحدة، دون أن
تكون له الأولوية على العبادات المحلية، إلى أن شهد تاريخ الدين ظاهرة جديدة كل
الجدة هي ظاهرة الديانات الشمولية. والدين الشمولي هو في منشئه عبادة كغيرها من
العبادات، ولكن هذه العبادة الجديدة لا تقنع بوضعها المحدود ضمن الصورة العامة لـ"دين
القوم " وإنما تأخذ بفرض نفسها على بقية العبادات في حركة دائبة وطموحة هدفها
إحلال نفسها دينا للقوم، والاستيلاء على الحياة الدينية للثقافة التي تنتمي إليها،
بل وإلى تعميم تجربتها الروحية على الثقافات الأخرى، متجاوزة في ذلك كل الحواجز
السياسية والإقليمية والجغرافية من أي نوع. وتتسم العبادة التي تسير في الطريق إلى
رتبة الديانة الشمولية بما يلي:
1.
تحمل هذه العبادة طابع التجربة
التي تطمح إلى الشمول، بامتلاك الحقيقة المطلقة والنهائية من دون بقية العبادات
الداني منها والنائي.
2.
ترفض هذه العبادة، سواء في حياة
مؤسسها أم بعده، التعايش مع بقية العبادات، لأن من يمتلك الحقيقة، وحده، لا يساوم
عليها. و قد يتخذ هذا الرفض شكل الحرب المعلنة، خصوصا إذا أفلحت العبادة في
استمالة حاكم أو ملك أو كيان سياسي يتبناها ويحارب خصومها.
3.
تقوم بالتبشير الدائم الذي
يعتمد وجودها وانتشارها عليه. وهذا التبشير هو ظاهرة دينية جديدة لم تعرفها
البشرية قبل ظهور الأديان الشمولية.
وهكذا
فإن العبادة التي توطد العزم على التحول إلى ديانة شمولية، تجد نفسها مجبرة على
السير في أحد طريقين، فإما استيعاب بقية العبادات وفرض نفسها دينا للقوم أولا،
وللأقوام الأخرى ثانيا، وإما الانقراض والزوال. وهذا الانقراض، إما أن يأتي سريعا،
وذلك بضربة قوية ومفاجئة، من قِبل العبادات الأخرى التي اضطرت للدخول في معركة
مصير وبقاء لم تخترها، أو أن يأتي بعد فترة من الزمن، عندما تفقد الديانة الشمولية
زخمها التبشيري، ولا تفلح في اكتساب كيان سياسي مقتدر يعمل على حمايتها (مثل انقراض
الديانة المانوية لمؤسسها ماني الذي أعطى لنفسه لقب "خاتم الأنبياء"،
ولد ماني عام 216 م، في أسرة إيرانية قرب مدينة "طيسفون" في منطقة بابل
ببلاد الرافدين).
لقد
بقيت البوذية، مثلا، طائفة من الطوائف الهندوسية، حتى أحلها الإمبراطور
"أشوكا" (273-232 ق.م) ديانة لجميع البلاد. وعندما تراجعت في الهند قيض
لها كيان سياسي آخر في الصين عمل على نشرها، وإكمال العمل التبشيري المبكر الذي مارسته
هناك منذ وفاة البوذا. كما وجدت المسيحية كيانها السياسي في بيزنطة، التي حولها
الإمبراطور قسطنطين (270-337 م) إلى الدين الجديد. أما الإسلام، فقد تطابق منذ
بداياته الأولى مع كيان سياسي هو دولة الرسول في يثرب ودولة الخلفاء من بعده.
المصدر:
دين
الإنسان بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني، فراس السواح، دار علاء الدين
للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1994 دمشق، 400 صفحة.
إمضائي
يطلب الداعية السياسي أو الفكري
من قرائه أن يصدقوه و يثقوا في خطابه أما أنا -اقتداء بالمنهج العلمي- أرجو من
قرائي الشك في كل ما أطرح من إشكاليات وأنتظر منهم النقد المفيد.
لا أقصد فرض رأيي عليكم
بالأمثلة والبراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى
وعلى كل مقال سيء نرد بمقال
جيد، لا بالعنف اللفظي أو المادي.
التاريخ: حمام الشط في 17 أوت 2011.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire