تاريخ أول نشر
على النت: حمام الشط في 27 نوفمبير
2008.
في هذا المقال، أنطلق من
محاضرة ألقاها أحمد شبشوب, الأستاذ والباحث التونسي القدير في علوم التربية, أثناء
المؤتمر الوطني الرابع لتعلّمية العلوم (أو فلسفة تعليم العلوم كما أود أن أسميها).
نُظِّم المؤتمر بكلية
العلوم في مدينة صفاقس التونسية سنة 1998 وعنوانه "’التربية العلمية للتلاميذ: أيّ عوائق يجب تجاوزها؟"
والذي يقول فيها: "في الواقع نحن ننتمي إلى ثقافة ما زالت شديدة التأثّر بما
هو سحريّ و / أو ما هو وراء الطبيعة مع
العلم أن التعليم المكثف للعلوم العصرية مازال حديث العهد في تونس: في سنة 1875
بدأت مدرسة "الصادقية" تنشره لدى النخبة، والمفروض أن الإصلاح التربوي
لسنة 1958 قام بتعميمه على كامل التونسيين، لكن علينا أن ننتظر قانون جويلية1991
ليصبح
التعليم إجباريا حتى سن السادسة عشرة، ثم قانون التوجيه سنة 2002، ورغم تعليمه
الطويل مازال التونسي المتوسط يعتمد في حياته اليومية على طريقة تفكير, في إدراك
العالم وتفسيره, تتداخل فيها النتائج المادية والأسباب غير المادية وهذا مخالف للتفكير
العلمي".
نبدأ بتعريف التفكير
العلمي الذي يعتمد منهجية
تتألف من المراحل التالية:
-
الملاحظة: تنبع الملاحظة من نظريات مسبقة عند
العالِم وهي لا تحدث صدفة كما يعتقد الكثيرون في أسطورة حادثة التفاحة عند "نيوتن".
عين العالِم, عين واعية ومدركة وليست كعيون غير العلماء والعامة.
-
الإشكاليات: تمثل مداخل البحوث العلمية وتأتي
بعد الملاحظات الصادرة من العلماء بعد تفكير وليس صدفة.
-
الفرضيات : تطرح قبل البحث وهي استشراف لنتائجه
لكن تبقي رهينة التجارب, تؤكدها أو تنفيها.
-
التجارب:
يقوم بها العالِم أو الباحث أو التقني ويتحرى فيها الدقة والأمانة العلمية.
-
النتائج:
يجمعها العالِم أو الباحث أو التقني ويتحرى فيها الدقة والأمانة العلمية.
-
تحليل النتائج وتفسيرها: هي أهم مرحلة لأنها
الأصعب ولا يقوم بها إلا العالِم أو الباحث الملم بالنظريات العلمية السابقة.
-
الاستنتاجات: هي خلاصات البحوث العلمية الذي ينشرها
العالِم أو الباحث في المجلات العلمية المختصة أو يلقيها في المؤتمرات العلمية
الجامعية لتوضيح رؤيته الجديدة للآخرين.
يبدو لي أنه لا يوجد فصل
ميكانيكي بين هذه المراحل لا في الزمن ولا في الترتيب، بينما يوجد بينها تداخل
وتدافع وتفاعل وأخذ ورد وتغيّر في الترتيب.
بعد هذه المقدمة, نحاول
مقارنة منهجين سائدين في العالم: التفكير العلمي والتفكير الديني:
- ينبني التفكير العلمي على
الأرض فهو أرضي وعلى الإنسان وهو إنساني صرف يحرّكه الشك (الشك طريق إلى مزيد
من الشك وليس طريقا إلى اليقين)، ويحركه أيضا الخطأ والصواب والتطور والاختلاف
في وجهات النظر وهو يحمل تاريخا وفلسفة وإيديولوجيا. يستطيع الإنسان أن يجدد ويضيف
فيه بلا حدود ويعيد بناء أسسه ويفنّد نظرياته القاصرة أو غير العلمية.
-
أما التفكير الديني فهو آت من "السماء"، فهو سماوي وإلهي وغيبي، وهو
صواب لا يحتمل الخطأ، ويقين يقود حتما إلى مزيد من اليقين، وهو ثابت في نصه متحول
في تفسيره. يستطيع الفرد أن يجتهد داخل دائرة صدقه دون أن يمس ثوابته.
-
يتصف التفكير العلمي بالشفافية والتحدي فهو يعرض نفسه متطوعا للنقض على صفحات
المجلات المختصة وفي المؤتمرات العلمية لكل من استطاع إلى ذلك سبيلا, لا يحمل جنسا
ولا جنسية ولا هوية ولا وطنية ولا عصبية ولا لون ولا عرق ولا دين. يراجع نفسه بلا
خجل ويتخلى في أكثر الأحيان على الأفكار السابقة التي كان يمجدها في يوم ما إذا
أثبتت التجربة خطأها.
-
يتعالى التفكير الديني على التفكير العلمي بنسبه غير البشري (الله مصدره وليس الإنسان)، ويقينه المطلق وعدم
التزامه بالزمان والمكان (صالح لكل زمان ومكان)، وعصبيته للمؤمنين به وتكفيره
للمكذبين به من غير المؤمنين، وإقصائه للمخالفين له حتى لو كانوا متدينين (الكفر
ليس الإلحاد، المسلم كافر بالمسيحية واليهودية ولا يؤمن إلا بالإسلام دينا غير
محرّف على الأرض أما المسيحي فهو كافر بالإسلام. الملحد لا يؤمن بكل الأديان
السماوية ولا يؤمن بوجود إله أصلا).
-
يتواضع التفكير العلمي بإنسانيته وماديته ونسبيته وتحديد مكانه وزمانه وشكه
المتجدد والمتواصل.
-
يقبل بالتفكير العلمي كل العالَم، ويؤمن بالتفكير الديني بعض العالَم. يعرض الأول نفسه
على الدحض والتعديل ويطالب الثاني بالتسليم والتقديس دون جدل.
خطان
متوازيان ولو حدث أن تواجدا في شخص واحد فهو ثنائي التفكير، ولا ضرر في ذلك عند
عظماء العلماء المتدينين مثل الفيلسوف المسلم الكاتب والطبيب "ابن سينا"
(980-1037) والمعلم الثاني بعد أرسطو الفيلسوف المسلم "الفارابي" (872 -
950) والراهب المسيحي عالم النباتات والأب المؤسس لعلم الوراثة، القس
"مندال" (1822-1884).
أما
الضرر الجسيم - حسب رأيي - فيكمن في الخلط بينهما، وهذا وارد في عقول بعض المتدينين حين يستشهدون بالعلم لتقوية إيمانهم
ولو عكسوا لأصابوا، وكأن العلم في أذهانهم أعظم شأنا من الإيمان، أما بعض
العلمانيين الملحدين (بفتح
العين وليس بكسرها لأن المفهوم مشتق من كلمة العالَم وليس من كلمة العلم كما يعتقد
الكثيرون) فيؤمنون بالإنسان ويثقون في قدرته على صنع مصيره بنفسه، لذلك يتنافسون
في محاربة المقدس ويكذبون الدين بالعلم وهذه تجارة خاسرة لأن الإيمان إحساس ذاتي
لا يخضع للتجارب العلمية أو العلوم الإنسانية.
خلاصة
القول حسب اجتهادي المتواضع: للعلم منهج, مَن مشي فيه واحترم قواعده, حقق المعجزات،
وللدين باب من دخل فيه وصدّق معجزاته وجد فيه راحة باله.
هذان
النمطان من التفكير يستطيعان التعايش إذا احترم كل واحد منهما الآخر، لأن غاياتهما
السامية تتمثل في تحقيق القيم الإنسانية النبيلة على الأرض, من عدالة وتضامن وصدق
وإخلاص وسلم, ومقاومة القيم الهدامة
السائدة منذ ظهور الإنسان على الأرض
من ظلم وجشع وكذب وخيانة وحرب.
العلم
"عمومي مشترك" والإيمان "ذاتي بحت", أنت حر في إيمانك تمارسه
كيفما يشاء ربك وتشاء أنت في علاقة عمودية، ولن تأتي فيه بجديد مهما علا شأنك. أما
العلم فتمارسه كيفما يشاء اتفاق العلماء وتشاء أنت في علاقة أفقية، لذلك تستطيع أن
تبدع في مجالك وتثبت صحة فرضياتك فتجازَى على قدر إبداعاتك أو تكذّب فرضياتك فيستفيد
الآخرون من فشلك كما استفادوا من نجاحك.
الرسالات
الدينية موجهة للبشرية جمعاء فهي ليست حكرا على المتدينين والعالَم الإنساني المادي
المحسوس مِلك للعلمانيين ولغيرهم. من المفروض أن يكون العَلماني "متدينا
محتملا" بالنسبة للمتدين المعتدل والمتسامح، ويكون المتدين "عَلمانيا
محتملا" بالنسبة للعلماني المتفتح والمتفائل.
العلم
والدين - لكل محرابه - فرجاءً من الاثنين أن لا يهدم الواحد منهما محراب الآخر، وإذا
رُمتَ المقام في أحدهما أو في كِليهما فالدين رحب، يسكنه المؤمنون فقط وهم كثر,
والعلم أرحب يدخله المؤمنون وغير المؤمنين وهم أكثر. من الأفضل أن لا نسجن أنفسنا
في خانة الخيارات الخاطئة مثل: أنت مؤمن بنظرية التطور لداروين، إذن أنت ملحد، أو
العكس أنت مؤمن بالله إذا أنت لا تعترف
بهذه النظرية. مِن الممكن أن يكون الإنسان مؤمنا بالله ويعترف بنظرية التطور أو
ملحدا ولا يعترف بها. يكوّن التفكير الديني والتفكير العلمي عالَمَين مختلفين
ومنفصلين ومستقلين، فلا تطابق بينهما ولا تناقض، والمواجهة بينهما معركة خاسرة للاثنين.
قد يلتقيان في علم الأخلاقيات (L’éthique).
الإمضاء:
"أنا أكتب - لا
لإقناعكم بالبراهين أو الوقائع - بل بكل تواضع لأعرض عليكم وجهة نظر أخرى و"على
كل مقال سيّئ نردّ بمقال جيّد لا بالعنف اللفظي أو المادي أو الرمزي".
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire