وزارة التربية والتعليم التونسية أنزلتْ سنة 2010 منشورا يَحُثُّ
المدرسين ابتدائي وإعدادي وثانوي على التكوّن في مجال الإعلامية (استعمال الحاسوب
والبرمجيات والسبورة التفاعلية لأغراض التدريس في القسم ـ .Les T.I.C.E). اكتفى المدرسون النقابيون بالاحتجاج على الوزارة واقتصرت
معارضتهم على فرض التكوين في العطل المدرسية وطالبوا بأجرٍ مناسبٍ للمدرّسِ المكوِّنِ.
سبق لي أن عملتُ مكوّنا لأساتذة علوم الحياة والأرض لمدة عامين. يستغرق
إعداد حصة التكوين نصف شهر تقريبا. أعرضها وأناقشها مع الزملاء خلال أربع ساعات.
أتقاضى على كل ساعة تقريبا دينارين ونصف (ما يقابل دولارين تقريبا في 2010). هل أجرُ عشرة دنانير يساوي جهد نصف شهر من البحث
والتنقيب؟ عندما تستدعي الوزارة محاضرا جامعيا لتكوين أساتذة الثانوي أو معلمي
الابتدائي تغدق عليه في الحصة الواحدة من 100 إلى 200 دينار. أنا أحترم العلم
والعلماء والأساتذة الجامعيين والناس أجمعين لكنني في الوقت نفسه أطالب بمساواة المكوِّنين
في الأجر خاصة أن الكثير من المكوِّنين من أساتذة الثانوي حاصلين على شهائد مرحلة
ثالثة مثل الماجستير والدكتورا.
أرجع الآن إلى موضوعي الأصلي الذي من أجله كتبتُ ونشرتُ هذا المقال والذي يتمثل في تذكير الزملاء والوزارة أن التكوين في الإعلامية
مهم و لكن الأهم منه هو التكوين في العلوم الضرورية لأداء وظيفة المدرس على أحسن
وجه وهي العلوم التالية: التعلّمية (La Didactique) وعلم التقييم (L'Évaluation) وعلم نفس الطفل (La psychologie de l'enfant) والإبستومولوجيا ( L'Épistémologie) وربيبتها "إدراك عملية
الإدراك" (La Métacognition). الإعلامية (Les nouvelles technologie informatiques) لا تمثل عِلمًا بل تمثل فقط أداة
تكنولوجية، أداةٌ عاجزةٌ بذاتها وحدها ولا يمكن الاستفادة منها في التعليم دون
استعمال العلوم المنسية في التكوين. تحرص الوزارة على التكوين في الإعلامية فقط
وتهمل العلوم الأخرى فمثلها إذن كمَثل "من يهدي نظارات
طبية لضرير".
أذكّر زملائي
أولا والوزارة ثانيا بأهمية العلوم المذكورة أعلاه لعل الذكرى تنفع المدرّسِين:
1. عِلمُ التعلّمية (La Didactique)، عِلمٌ يهتم بالمعرفة وعلاقتها
بالتلميذ والمدرس والبيداغوجيا تهتم بطرق التدريس. يركّز هذا العلم خاصة على كيفية
تعلم المتلقي ويعلّمه كيف يتعلّم بِنفسه. عدم إلمام المدرسين بهذا العلم قد يفسر
مقولة العالم الابستومولوجي الفرنسي باشلار "المدرسون لا يفهمون أن تلامذتهم
لا يفهمون".
2. عِلمُ التقييم (L'Évaluation)، علمٌ قائم الذات ويُدرّس في الجامعات. تسمح آليات
هذا العلم بتقييم مكتسبات التلميذ قبل وأثناء وبعد الدرس. تساعد نتائجه على تحسين
مردود المعلم والمتعلم. مَثَلُ المدرّس الذي لم يدرُس أكاديميا التقييم كمَثَلِ
"تاجر يزن سلعة دون ميزان".
3. عِلمُ نفس الطفل (La psychologie de l'enfant)، عِلمٌ يفتح عيونَ المدرسين على عالَم الطفولة
والمراهقة ويكشف لهم "ما خفي من جبل الجليد النفسي عند التلميذ" فتتوضّح
لديهم الرؤيا ويظهر لهم أن "اللامعقول في تصرفات التلميذ هو في صلب المعقول
النفسي", فيعذرون حينئذ ويفهمون أسباب وعمق بعض السلوكيات التلمَذية العنيفة
أو الخارجة عن المألوف ويكفّون عن التعامل مع التلميذ كما يتعامل عالِم النفس
السلوكي مع فأر التجارب، يحدد له مدخل المتاهة ومَخرَجَها.
4.
الإبستومولوجيا (L'Épistémologie) هي "مبحث
نقدي في مبادئ العلوم وفي أصولها المنطقية" وتهدف إلى الكشف عن الآليات
والمفاهيم التي تعتمدها الثقافة في إنتاج المعرفة ونقدها. هي "معرفة المعرفة
أو نظرية المعرفة العلمية". يحتاج لهذا العلم كل من يدرّس العلوم معلما كان
أو أستاذا. عندما يعرف المدرس أن العِلم
لم يولَد كاملا بل تكوّن على مراحل وبعد أخطاء جسيمة ارتكبها العلماء العظام,
حينئذ يعذر ويتسامح ويفهم أخطاء التلميذ ولا يحمّله ما لم يقدر عليه كبار العلماء،
أي الفهم المباشر والسريع للمسائل المعقدة في الرياضيات والفيزياء وعلوم الحياة
والأرض.
5. أمّا "إدراك عملية الإدراك" (La Métacognition) فيتمثل "في التفكير في
آليات التفكير وفي معرفة أننا نعرف وفي اختيار الطريقة الأنسب لحل المشاكل" وكما
قال بيار ڤريكو: "لو أن الإنسان الذي يقول - لا أعرف -, عرف لماذا يقول - لا
-, لكان قادرا على تحديد - نعم - المستقبلية" أو كما يقول المَثل الصيني
المشهور "لا تعطني سمكة بل علمني كيف أصطاد" والسمكة في التعليم هي المعلومة وتَعَلُّمِ
الصيد هو "إدراك عملية الإدراك". أثناء "إدراك عملية الإدراك"
ينشط التلميذ ذهنيا وليس تطبيقيا وقد ثبت أن هذا النوع من النشاط الذهني البحت
يسمح بالوعي والشعور بالإجراءات والطرق والسيرورات الذهنية الموظفة لحل المشاكل ويرسِّخ
اكتسابها (wikipédia).
خلاصة القول: جل الأساتذة لم يدرسوا هذه العلوم في الجامعة وأنا شخصيًّا
لم أكتشفتها إلا في المرحلة الثالثة في سن 48 عام وبعد 24 عام تدريس، والأستاذ في
مجال البيداغوجيا أقل حظا من زميله المعلم وحتى المدرّس الذي عَلِمَ وتعلم لا
يستطيع أن يطبّق النظريات الجديدة في نظام تعليمي يَعتبر الارتقاء الآلي ديمقراطية
والتقشف في استعمال الطباشير حكمة. مدرسةٌ ابتدائية دون ميزانية وميزانية المعهد يُصرف
جلها في تسخين مكاتب الإداريين وطباعة الامتحانات والمناشير. السبورة التفاعلية (Le tableau interactif) ليست عصا سحرية سوف تُخرِجُ
تعليمَنا من المحلية إلى العالمية ولن تغير بين عشية وضحاها وضعا متخلفا وتسيُّبا
عاما وتجهيزات مهترئة وأجورا زهيدة وبيروقراطية متكلسة وقرارات فوقية وإملاءات
خارجية وخرّيجين عاطلين عن العمل لمدة سنوات. أقترحُ تجربة بسيطة توظف التكنولوجيا
الحديثة في التعليم: منذ ثمان سنوات وبضربة حظ, جهّز لي وزير التربية التونسي السابق
منصر رويسي (المقال السابق) مخبرا بعشر حواسيب لتدريس علوم الحياة والأرض في معهد
برج السدرية ومنذ تاريخ مغادرة الوزير
للوزارة في 2001 نسوني وتركوني أتخبط وحدي دون برمجيات ودون صيانة ودون تجديد الحواسيب
حتى هرمت ولم تعد صالحة للاستعمال. في فرنسا، لا تُدرَّس الإعلامية كمادة مستقلة
بل تُستعمل كأداة تدريس في كل المواد منذ عام 2000.
إمضائي
"لا
أحد مُجبر على التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرّر أن يفعل، في أي ظرف كان، فعليه
إذن أن يتكلم بلسانه (المجتمع)، أن ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه" عبد الله
العروي
يطلب الداعية السياسي أو الفكري من قرائه أن يصدقوه
ويثقوا في خطابه أما أنا - واقتداءً بالمنهج العلمي - أرجو من قرائي الشك في كل ما
أطرح من إشكاليات وأنتظر منهم النقدَ المفيدَ.
لا أقصد فرض رأيي عليكم بالأمثلة والبراهين بل أدعوكم
بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى، وعلى كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا
بالعنف اللفظي.
تاريخ أول نشر على الفيسبوك: حمام
الشط في 19 مارس 2010.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire